سورة الانشقاق

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة الانشقاق إحدى السورة التي تضمنها جزء عم وهي سورة مكيّة بلا إشكال لأن موضوعاتها وأسلوبها هو أسلوب السور المكيّة.
وقد ورد في فضلها الحديث حينما قال النبي -صلى الله عليه وآله سلم-: «مَن سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، و﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ».
تتحدث السورة عن يوم القيامة، وما فيه من الأحداث والأهوال، وما فيه من العظات التي تحمل الناس على أخذ الأُهْبَة والاستعداد لذلك اليوم.
افتُتحت هذه السورة بقوله: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، بدأ بالسماء لأنَّها آية كبرى يراها كل احد في أي مكان من الكرة الأرضية وهي آية يُبصرها جميع الخلق فهي أضخم الآيات التي يرونها بأعينهم ولذلك يبيِّن الله أن هذه السماء على عِظَمها وكِبَر جرمها إلا أنها ستتشقق وسيحدث لها تغيُّر.
ففي يوم القيامة يتغيَّر كل شيء ولذلك يعبِّر بعض المعاصرين عن ذلك التغير الذي سيحدث يوم القيامة بأن يقول: هو الانقلاب الكوني كل شيء يَنقلب على ضد ما كان عليه، إذا كانتِ النجومُ في السماء فإنها ستَهبط، وإذا كانت مُنيرة فإنها ستنطفئ، وهذه الشمس إذا كانت مستديرة فإنها ستُلف، وإذا كانت مضيئة فإنه ستنطفئ وتُلقى في النار، وهذه الجبال التي هي أصل في الرسوِّ والثبات والرسوخَ ستتفتت وتكون كثيبًا مهيلًا، ثم يجعلها الله كالعهن المنفوش، ثم تُسيَّر ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88].
افتتح بالسماء لأن السماء آية عظيمة بل هي أعظم الآيات التي نَراها بأبصارنا فيقول: هذه السماء التي ترونها ما لها من فطور،وما فيها من شُقوق إذا جاء ذلك اليوم كان من أبرز معالمه أنها تتشقق.
وتمر بمراحلَ، فهي أولًا: تنفطر، وهو الانفطار أولُ الانشقاق، ثم تنشق، ثم تُفتَّح، كما قال الله في سورة عم: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا [النبأ: 19]، في قراءة ﴿وَفُتِّحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا.
قال: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿1وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ
معنى ﴿وَأَذِنَتْ﴾{استمعت لربها وانقادت}.
وكلمة "أَذِنَ" تأتي في اللغة العربية بمعنى الاستماع، ومنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍّ حَسَنِ الصوت يَقرأ القرآن يترنم به»، يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبيٍّ حسنِ الصوت يقرأ القرآن يترنم به.
﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا، استمعت له مع ضخامتها وعظمها وكِبَر جرمها، فإنها تستمع لله، وتطيع وتذعن لله.
﴿وَحُقَّتْ﴾ أي حق لها أن تسمع وتطيع. وهذا فيه فيه الذم لأولئك الذين يسمعون كلام الله ولا يستجيبون ولا يطيعون.
فإذا كانت هذه السماء على ضخامتها وعظمها تستمع لربها وتطيعه، ولا يليق بها شيء غير ذلك، فما بالكم أنتم تستكبرون؟! ولكن هذا طبع الإنسان ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6]، أي جحود كفور، ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس: 17]، وقال: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72]، هذه من طبيعة الإنسان التي يجب أن يتغلب عليها بانقياده لأمر الله، واستماعه لوحي الله، واستجابته لأمر الله.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، هذه الآية المقابلة بعد أن ذكر السماء جاء إلى الأرض التي نعيش عليها .
آية عظيمة ضخمة نمشي على متنها ونبني على ظهرها ونسير على طرقها هذه الأرض التي تبدو في الصورة وتبدو أيضًا للناظر من بعيد أنها ليست ممدودة وإنما هي كُرَيَّة.
أجمع العلماء سلفًا وخلفًا على أن الأرض كروية لكنها يوم القيامة لا تبقى كروية، وإنما تمدُّ مدَّ الأديم -أي مدَّ الجلد- فتبقى مستوية حتى تستوعب جميع الخلائق ممن خُلِقوا على ظهرها من الإنس والجن والحيوانات لأن الحيوانات يوم القيامة أيضًا تُحشَر ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5].
قال: ﴿وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴿3وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾ تخلت عنه وتركته تخلت الأرض عما في جوفها من ثروات هائلة جدًا وعن أبناء آدم الذي إذا ماتوا دُفنوا في الأرض عن الكنوز و الخيراتكل ذلك يوم القيام تلقيه الأرض وتؤديه فهي أمينة مطيعة في ذلك اليوم يمر الناس بها ويتأسفون يقولون: على هذا -الذي لا نلتفت إليه اليوم- كنا نختلف ونتقاتل ويبغي بعضنا على بعض ويأكل القويُّ منا الضعيفَ تبًّا لهذا الذي ألقته الأرض ونحن اليوم نتعفف عنه ولا نلقي له بالًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا﴾؛ أي استمعت لربها ﴿وَحُقَّتْ﴾، يعني وحُقَّ لها أن تستمع.
الكلام الان عن أهوال يوم القيامة ليدخل منه إلى شيء آخر من أحوالها التي يجب علينا أن نستعدَّ لها.
قال الله -عز وجل- مبينًا ماذا يكون للإنسان قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ النداء هنا لجنس الإنسان المؤمن والكافر، بدليل قوله بعدها: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴿8وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿9وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11وَيصْلَى سَعِيرًا ﴿12إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا.
يقول الله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ خطاب لبني الإنسان جميعًا.
﴿إِنَّكَ كَادِحٌ الكدح بمعنى: بَذل الجهد والسعي والعمل المجهِد .
وهذا يدلنا على أن جميع بني الإنسان سيكدحون في الدنيا، الأغنياء والفقراء، الأمراء والضعفاء، الكبار والصغار، الذكور والإناث؛ لا بد أن تأخذ حظك من الكدح.
هنا يقول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا، وأبهمه هنا ولم يبيِّنه لاختلاف الكدح فمن الكدح كدحٌ صالح ومن الكدح كدحٌ فاسد من الكدح كدحٌ طيب ومن الكدح كدحٌ خبيث.
﴿فَمُلَاقِيهِتعود إلى قوله: ﴿كَدْحًا أو تعود إلى قوله: ﴿رَبِّكَ؟ لأن الضمير هنا يصلح أن يعود إلى هذا، ويصلح أن يعود إلى هذا،
بعض أهل العلم يقول: يرجع إلى الكدح لأنه أقرب ما يكون .وهو أن قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾؛ أي فملاقٍ كدحك.
والقول آخر: ﴿فَمُلَاقِيهِ فملاقٍ ربَّك.
وهنا قاعدة: "أنه إذا صلح أن يعود الضمير إلى هذين فلا مانع"، ونحن نقول: كادحٌ إلى ربِك كدحًا فملاقٍ ربَّك بكدحك.
فأنت لا بد ملاقيه ستلاقي عملك. عند ربك ولذلك ما تعمل من خير إلا وستلقاه، وما تعمل من شر إلا وستلقاه، وستلقاه عند ربك الذي سألك عن القليل والكثير، وعن الصالح والسيئ، وعن الطيب والخبيث، والذي لا يغادر من عملك شيئًا.
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، الآن جاء يفصل الكدح، فمنه كدح طيب وبدأ بهم، ومنهم كدح خبيث وثنَّى بهم.
قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، هذا إشعار بأنهم عملوا عملًا صالحًا لأنهم يؤتون كتابهم يوم القيامة بأيمانهم وهذا موقف من أصعب المواقف وأعظمها وأشدها هولًا يوم القيامة؛ لأن الإنسان لا يَدري، هو ينتظر هل يُعطى كتابه باليمين؟ أو يُعطى كتابه بشماله من وراء ظهره؟
قال الله -عز وجل-: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7فَسَوْفَ، سوف هذه للتنفيس.
﴿يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، ﴿يُحَاسَبُ﴾ هنا ليس بمعنى يُناقش على الحساب، وإنما بمعنى يُعرض عليه عمله لأن من نوقش الحساب عُذِّب.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَن نُوقش الحسابَ؛ عُذِّب»، يعني من فُتّش معه ودُقّق عليه سيُعذّب لأنه يُراد إقامة الحجة عليه.
قالت أمنا عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أليس الله -عز وجل- يقول: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿7فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟"، يعني أثبت أنه يُحاسب. قال: «ليس ذلك الحساب، وإنما هو العرض»، يعني المؤمن يُعرَض، يُقرَّر بذنوبه. ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ ألم تفعل كذا؟ فيقول: بلى يا رب، بلى يا رب، بلى يا رب، حتى إذا قرَّره بذنوبه وظن أنه قد هلك قال له الله -سبحانه وتعالى: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، اسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعاملنا بلطفه وفضله وعفوه وكرمه، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه.
﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، إذن الحساب اليسير بنصِّ السنة النبوية هو العرض وليس مناقشة الحساب.
﴿وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، يرجع إلى أهله في الجنة مسرورًا بما لقي من فضل الله وعفوه ورحمته وإيتائه كتابَه بيمينه وفي سورة الحاقة قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴿20فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ [الحاقة: 19-21]، يرفع الكتاب فرحًا مسرورًا بهذه النتيجة التي حصل عليها بعد ستين أو سبعين سنة عاشها في الدنيا، وهو يسعى لتحصيل ذلك الكتاب أو يكون بيمينه، جعلني الله وإياكم ووالدينا والمسلمين منهم.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَينقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا في الدنيا كان خائفًا، كان دائمًا يبكي من خشية الله،كان يخاف أن يُرد عليه عمله أن يُؤاخذ بذنوبه ألا يُتقبل منه الصالح من أعماله إلى آخره مما يحصل للمؤمن، ويموت والخوف يخلع قلبه لكنه يبدَّل هذا الخوف يوم القيامة أمنًا وفرحًا وسرورًا فهو في يوم القيامة يبقى مسرورًا ويُبعث على ذلك السرور.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، في هذه السورة قال: ﴿وَرَاءَ ظَهْرِهِ، في سورة الحاقة قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة: 25]، فهل هما صنفان أو صنف واحد؟
من العلماء من يقول: إنهما صنفان، صنف يأخذ كتابه بشماله، وصنف يأخذ كتابه من وراء ظهره.
والذي يظهر -والله أعلم- من التصنيف في السورتين أنهما شيء واحد فهذا الصنف المذكور في سورة الانشقاق هو الصنف المذكور في سورة الحاقة.
هل بين الوصفين في أخذ الكتاب تعارض؟ الذي يظهر أنه لا تعارض لأنه يمكن اجتماع الوصفين فهو يأخذ كتبه بشماله من وراء ظهره وهذا فيه من التقبيح له، والتشهير به في موقف القيامة عندما يأخذ كتابه، وكتابه وراء ظهره.
الأول يقول: ﴿هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ، بيمينه.
والثاني: لا يجرؤ على شيء من ذلك، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴿25وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴿26يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ ﴿27مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ ﴿28هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 25 - 29].
يُقال عند ذلك :﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ﴿31ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 30-32] ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ﴿33وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة 33، 34]
قال الله -عز وجل-: ﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي في ذلك اليوم سيدعو على نفسه بالهلاك والويل والثبور، واثبوراه، واخساراه، واهلاكاه، واويلاه.
لكن لن ينفعك أن تقول هذا الكلام في هذا اليوم ألم يأتكَ نذير من الله؟ ألم يُنزل الله عليكَ كتابًا؟ ألم يرسل الله لك رسول رسولًا؟ ألم يجعل الله لك عقلًا وعينين ولسانًا وشفتين، ويهديك النجدين، ويُريك الحق، ويُريك الباطل، ويفرق بينهما بالفطرة، وبالعقل، وبالرسالة، وبالدعوة، وغير ذلك مما يقيمه الله عليك من الحجج؟ فما الذي صرفك؟ ما لك حجة تحتج بها على الله فإن الله -سبحانه وتعالى- قد أغلق عليك أبواب الحجج؛ لأنه قد أعذر إليك.
﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾؛ أي هلاكًا.
﴿وَيصْلَى سَعِيرًا، كما قال: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴿30ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة: 30، 31]، "يَصلَى" و"يُصلَّى" قراءتان.
يصلى سعيرًا هو بنفسه، ويُصلَّى على وَجه المبالغة ﴿سَعِيرًا﴾؛ أي يُدخل النار فيُصلَى ويُشوَى بحرها.
﴿سَعِيرًا تتسعر به وتحرقه وتتلهَّب على جسده.
قال: ﴿إِنَّهُ﴾؛ أي هذا الذي يأخذ كتابه بشماله، وراء ظهره.
﴿إِنَّهُ كَانَ﴾؛ أي في الدنيا ﴿فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، منتشٍ، فرحان، لا يبالي، يشرب الخمر، ويعاقر الزنى، ويفعل الموبقات، وكل ما بيده حلال له، ليس هناك حدود، حرية مطلقة، افعل ما شئتَ فأنت الإله، وأنت كل شيء في هذا الكون.
﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، هؤلاء الكفار مبتهجون في حياتهم يتلذذون بها وهم مسرورون بما هم فيه من النعمة ومن الخير. لكنها سعادة مؤقتة قليلة من بعدها حسرة وندامة طويلة.
قال: ﴿كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، ولكن هذا السرور سينقلب ويتغيّر.
﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَالظن هنا بمعنى اليقين قال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ﴿19إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 19، 20]، الظن في القرآن يأتي بمعنى الاعتقاد الجازم وبمعنى اليقين، ويأتي أيضًا بمعنى غلبة الأمر على الإنسان، أنه شيء غالب، كما في قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ [الحجرات: 12]، ﴿إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية: 32]. أي نعم.
قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ، {ألا يرجع}.
قال: إنه ظن أن لن يرجع إلى الدنيا، إذا مات انتهى، ولذلك هؤلاء الكفار هذا موجود في عقيدتهم، وهذا الذي جعلهم يبذلون كل ما في وسعهم لتمتيع أنفسهم في الدنيا .
قال الله -عز وجل-: ﴿بَلَى، يعني سيحور ويرجع، ولا بد له من ذلك، ولا يليق بحكمة الله إلا ذلك، كيف يخلقنا ويخالف بيننا، فمنَّا المؤمن والكافر، ومنَّا البرُّ والفاجر، ومنَّا الظالم والمظلوم، ومنَّا الصالح والطالح، وفي النهاية نموت ميتة واحدة ولا فرق بيننا بل لا بد من البعث ولا بد من الجزاء، ولا يسوِّي الله -عز وجل- بين هؤلاء وهؤلاء.
قال: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ الذي خلقه ورباه، ﴿كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾؛ أي يراه ويسمع ويعلم عنه، ولا يخفى عليه من أمر عبد خافية، مطلع عليه، قد دوَّن كل شيء عليه.
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].
بعد هذا المقطع جاء إلى مقطع آخر، فقال -جلَّ من قائل: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، هذا قسَم.
﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ هذا القسم الثاني.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ هذا قسم ثالث.
ثلاثة أقسام، أين جواب القسم؟
﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ.
قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ، هذا الأسلوب في القرآن يدل على على القسم .
{بعض المفسرين قالوا بأنها مزيدة ولكن الراجح أنها أسلوب من أساليب العرب في القسم، وليست مزيدة}.
إذن: "لا" هنا مؤكدة للقسم، وتأتي "لا" في الكلام لتأكيده كقوله -عز وجل-: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12].
أصل الكلام: ما منعك أن تسجد، فقوله: ﴿أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ "لا" مزيدة هنا للتأكيد.
ولذلك يُقال: زائدة في اللفظ، زائدة للمعنى، جاءت لزيادة المعنى وتوكيده والعناية به.
ومثله في سورة الحديد ﴿لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ [الحديد: 29]
أصلها: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله، وأن الفضل بيد الله جميعًا.
ومما يدل على أنها أسلوب قسم وهو صريح في كتاب الله -عز وجل- في سورة الواقعة عندما قال الله -عز وجل-: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴿75وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 75، 76]، فهو يقول: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِيعني أقسم، بدليل أنه قال: ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ﴿76إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.
قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ{الشفق: الحمرة في الأفق بعد الغروب}.
جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما ذكر وقت المغرب قال: «ما لم يغِب الشفق»، فدلَّ ذلك على أن وقت العشاء هو وقت مغيب الشفق.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ الذي هو أول الليل.
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ﴿16وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ الليل هو هذا الظلام الذي يأتي بعد ذهاب النهار.
﴿وَمَا وَسَقَ يعني وما جمع{ما كان قد بان في النهار فإن الليل يضمه ويجمعه في جنباته بحيث لا تظهر بالليل}.
﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ القمر أيضًا أقسم الله به لأنه آية من الآيات العظيمة ولهذا أن القسم لا يكون إلا بشيء ظاهر معروف ليحصل به الفائدة
قال: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
اتسق: اجتمع وتكامل نوره أو استدار وأبدر واكتمل نوره وذلك في الليالي الوسطى من الشهر ليلة ثلاثة عشر وليلة أربعة عشر وليلة خمسة عشر.
فالله يقسم بهذه الأمور الثلاثة، على ماذا؟
قال: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ، هذا قسم عجيب جدًّا في القرآن، يُقسم الله به على حالٍ أو على شيء يمرُّ بالإنسان، وهو أن الإنسان كائن غير مستقر، ولا يمكن أن يلبث على حالة واحدة.
نحن بنو الإنسان نتغيَّر، ليس في السنوات، ولكن حتى في اللحظات، ما نبقى على حالة واحدة، ليل ونهار، طفولة ثم شباب ثم كهولة ثم هرم، حياة ثم موت، حتى في حال ما كنا أجنة في بطون أمهاتنا أيضًا، نبدأ نطفة ثم مضغة ثم علقة ثم نكبر حتى نخرج، وهكذا عندما نخرج لا نعرف شيئًا، ثم نبدأ نتحرك، ثم نبدأ نفهم، ثم نبدأ نعلم، ثم نحبو، إلى آخره.
الكون مراحل .. الإنسان كله ذو مراحل.
أنتم -أيها العباد- لن تمكثوا على حال، فاستعدوا للحال التي أنتم مقبلون عليها، وإياكم أن تعاندوا، فلا تقبلوا لأنكم تقولون: نحن نتصرف ونفعل ما نشاء، لا، أنتم يفعل الله بكم ما يشاء، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29].
هذا على قراءة ﴿لَتَرْكَبُنَّ أنتم أيها الناس.
فيه قراءة أخرى: ﴿لَتَرْكَبَنَّطَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾، واختلف المفسرون، هل هي "لتركبن يا محمد" أو "لتركبن أيها السماء" أي لتركبن السماء طبقًا عن طبق؟
الذين قالوا إنها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا أيضًا:
- لتركبن طبقًا عن طبق: أي لتركبن يا محمد حالًا بعد حال، فأنت كنت ضعيفًا، ودعوتك كانت سرية ثم انتقلت إلى الجهرية، ثم انتقلت إلى المواجهة، ثم الهجرة، ثم الجهاد وقتال مَن يقاتلك، ثم قتال مَن لا يُقاتلك ولكنه يكفر بك، إلى أو صلت إلى قول الله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة: 5].
وأنت كنت في أول أمرك شابًّا قويًّا جَلدًا، ثم انتقلت من حال إلى حال حتى ضعف جسمك وهرمت -عليه الصلاة والسلام-، ثم جاءك الموت الذي جاء مَن قبلك، ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ [الزمر: 30].
"لتركبن يا محمد طبقًا عن طبق" أي حالًا بعد حال.
- أو "لتركبن يا محمد طبقًا عن طبق"، قالوا هذا فيها إشارة إلى موضوع المعراج، أي تصعد إلى السماء فتنتقل من طبقة إلى طبقة في معارج السماء حتى تصل إلى الحد الذي أمر الله -سبحانه وتعالى- أن تصل إليه.
قال الله -عز وجل-: ﴿لَتَرْكَبُنَّ، أو ﴿لَتَرْكَبَنَّ.
- ﴿لَتَرْكَبُنَّ أنتم أيها الناس.
- ﴿لَتَرْكَبَنَّ إما أن:
- تعود إلى رسول الله.
- أو إلى السماء.
إذا عادت إلى رسول الله:
- إما أن يكون معناها معنى جميع الناس، يعني تنتقل من حال إلى حال.
- وإما أن يكون معناها إشارة إلى المعراج الذي حصل للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثم قال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بعدما أقسم بأنه سيتغير أحوالهم، إذن ما الذي يجعلهم وهم يرون أنفسهم تتحول من حالٍ إلى حال، ويرون أن الله يفعل بهم ما يشاء؛ إما الذي يدعوهم إلى أن يتصلبوا ويأبوا أن ينقادوا لأمر الله وهم يرون الله -سبحانه وتعالى- يفعل بهم ما يشاء، ولذلك قال: ﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿20وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ.
﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، ما الذي يجعلهم لا يؤمنون، والله هو المتصرف فيهم وهو الآمر والناهي وبيده كل شيء.
﴿وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ، إذا تُليَ عليهم القرآن، وهذا يدلنا على أنه من أعظم وسائل الإنذار وتبليغ الدعوة هو قراءة القرآن.
خضوعًا لله ولعظمته، وإذعانًا لهذا الكلام المهيب العظيم البليغ.
قال الله -جل وعلا-: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، "بل" هنا نسميها "بل" للإضراب إبطالي، إبطال لهؤلاء الذي لا يسجدون ولا يؤمنون.
﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، يعني ما يحملهم على عدم الإيمان إلا مجرد التكذيب فقط، ولذلك سيأتينا في سورة البروج ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [البروج: 19]، كأنهم داخل التكذيب.
قال: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ، الله أعلم بما يضمرون وما في نفوسهم، وأن الذي يحملهم على عدم الإيمان ليس هو عدم ظهور الحق أو آيات الحق ليس قوية ولا مبينة للحق، بل لشهوات في أنفسهم، كبر، حسد، غفلة، متابعة للآباء استجابة لطلبات الناس والأصدقاء، ونحو ذلك.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾؛ أي بلغهم بأنهم سيعذبون عذابًا أليمًا.
والبشارة تُقال في الأمر السَّار، وإن كانت في أصل اللغة: الخبـر؛ لأن أثر الخبر يظهر على البشرة، فغلب استعماله على ما يسر، لأن البشرة ماذا؟ يظهر فيها السرور، وهنا تكون من باب التهكم.
﴿فَبَشِّرْهُم﴾؛ أي بلغهم بلاغًا يدلُّ على أنهم سيكونون في النار، من باب التهكم بهم؛ لأن البشارة غلب استعمالها على الخبر السَّار.
قال: ﴿فَبَشِّرْهُم بعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿24إِلَّا مَن تحقق فيه وصفان:
الأول: الإيمان.
والثاني: العلم الصالح.
قال الله -عز وجل-: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، هؤلاء الذين آمنوا صدَّقوا، وخالفوا هؤلاء الذين كفروا وكذبوا، وأيضًا عملوا عملًا صالحًا يوافق إيمانهم، ويصدِّق إيمانهم.
﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ﴾، ونكَّر "الأجر".
﴿لَهُمْ أَجْرٌ، "لهم" هذه للتمليك، مِلك لهم يملكونه ويتصرفون فيه كيف يشاء، وهذا من سعادة هؤلاء المؤمنين، يعني ليس عارية،قال: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ، نكَّر الأجر.
أولًا ليدل على عظمه؛ لأن التنكير يكون للتهويل والتعظيم.
وأيضًا ليدل على كثرته، فهو كثير لا حدود له، بل إنهم يزدادون في كل يوم خيرًا، وفي كل جمعة، وهو يوم الزيادة تتغير عليهم كل الأشياء، تغيير إلى الأفضل، إذا ذهبوا إلى يوم الجمعة ورجعوا قال أهلهم: «والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا، فيقولون هم لأهلهم: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا».
قال: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، ممنون بمعنى مقطوع.
وقيل: ممنون: منقوص.

يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

سميرة أم يوسف

عضو مميز
إنضم
27 ديسمبر 2013
المشاركات
50
النقاط
6
الإقامة
المغرب
احفظ من كتاب الله
ماتيسر من القران
احب القراءة برواية
ورش عن نافع
القارئ المفضل
ياسين الجزائري والحصري
الجنس
أخت
بارك الله فيكم شيختنا الفاضلة ام حذيفة ونفع بك وجزاك عنا خيرا
 

ام عبد المولى

مراقب عام
إنضم
26 سبتمبر 2012
المشاركات
2,741
النقاط
38
الإقامة
المغرب
احفظ من كتاب الله
الجزء الخامس
احب القراءة برواية
ورش
القارئ المفضل
الشيخ الحصري
الجنس
اخت
)بارك الله على مجهودك الرائع شيختنا الحبيبة
وجزاكي الله الفردوس الاعلى يااااااااااارب
وصدقة جارية لك يارب يارب يارب امين
 
أعلى