سورة الفجر

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة الفجر
سورة الفجر: هذا الاسم المعروف عند العلماء وهو عبارة عن أول آية من هذه السورة {وَالْفَجْرِ}.
مكية : لأن أسلوبها وافتتاحيتها ومضمونها هو مضمون السور المكيَّة.
محور السورة : تهديد الكافرين، وذكر أعمالهم التي يستحقون بها التهديد و عقوبة الكافرين الدنيوية والأخروية وأسباب تلك العقوبة.
مناسبتها: لسورة الغاشية: جاءت تهديدًا للكافرين لما قال الله -عز وجل: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، ثم قال بعدها {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية 23-25].
لما وعد هذا الوعد أقسم عليه في سورة الفجر فقال: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}.
افتتحت السورة بقول الله -عز وجل: {وَالْفَجْرِ}، وهذه افتتاحية بقسم،والافتتاحية بقسم تدل على أن الأمر عظيم يستحق الإقسام وإذا تأكد أو تكرر القسم فذلك يدل على مزيد العناية به فالشيء الذي يُقسم عليه بشيء واحد ليس كالشيء الذي يُقسم عليه بشيئين وثلاثة وأربعة.
ولذلك تجد من السور ما وصل فيه القسم إلى أحد عشر قسمًا كما في سورة الشمس، قال: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس 1-7 ]، أحد عشر قسمًا.
ما هو الجواب؟
{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
هنا قال: {وَالْفَجْرِ}. واحد.
{وَلَيَالٍ عَشْرٍ}. اثنان.
{وَالشَّفْعِ}. ثلاثة.
{وَالْوَتْرِ}. هذا أربعة.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}. خمسة.
أقسم الله بخمسة أقسام على حقيقة محدَّدة .
قال: {وَالْفَجْرِ}. المُقسَم به قيل: الفجر المعروف الذي هو أول النهار.
وقيل هذا قسمٌ بالصلاة التي فيه.
ولا إشكال في هذا لأن الفجر هو وقت ويصلح أن يكون القسم بأعظم ما في هذا الوقت وهو الصلاة.
وقيل: إن الفجر عبارة عن النهار كله. وهذا خلاف الظاهر، فإن الظاهر أنه قسمٌ بهذا الوقت المحدد وهو الفجر.
والذي قالوا: إنه عبارة عن النهار كله، حملهم على ذلك أن الله ذكر ما يُقابله وهو الليل.
فقال: المقصود بالفجر هو النهار، لأنه قال بعده: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}.
إذن الصحيح أن الفجر هو الصبح، وهذا الوقت وقت عظيم.
أقسم الله بهذا الوقت لصلته بأمرين:
الأول: البعث فإن الفجر انبعاث للنهار من رحم الليل، وهذا القسم يُراد منه إثبات البعث، فالله الذي يُخرج الصبح من رحم الليل هو الذي يُخرجكم أنتم بعدما دفنتم وتبعثرتم وذهبتم وفنيتم من هذه الأرض كما يخرج الصبح من الليل.
والثاني: أن الفجر وقتٌ للعمل الذي تُدرَك به الجنة حريٌّ بكم أيها الناس أن تستثمروا هذا الوقت في عمل يقربكم إلى الله، ولذلك قال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} قسم يعقله العاقل وينتبه له ويأخذ أهبته ولا يذهب عليه الزمان سُدى، ويذهب عليه عمره من غير طاعة ومن غير خير يُقدمه لنفسه .
خلافًا لأولئك الذين كانت لهم ديارٌ ضخمة، وكانت لهم أعمال هائلة، لكنها ليست في ميزان الأعمال الصالحة، أهرامات، وجابوا الصخر بالواد، ونحتوا الجبال، ولهم بلاد عظيمة فخمة، ولهم أجساد قويَّة، لكن كل ذلك لم يُستثمر في طاعة الله.
كان ينبغي لهم يستثمروها خصوصًا في هذه الأوقات الفاضلة، في الفجر .. في الليالي العشر، في الشفع، في الوتر،
أريد بهذا القسم تحقيق غايتين:
قال: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ليست أيَّ ليالٍ عشر.
ولذلك ذهب المفسرون إلى أن الليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا هو الصحيح من أقوالهم، وهي أفضل أيام العام بلا شك.
وإن كان العلماء اختلفوا هل ليالي عشر ذي الحجة أو أيام عشر ذي الحجة وأيام العشر الأخيرة من رمضان؛ أيهما أفضل؟
فالصحيح الذي لا شك فيه أن عشر ذي الحجة هي أفضل أيام العام.
وهل الليل في عشر ذي الحجة أفضل من الليل في العشر الأخيرة من رمضان؟
خلاف بين العلماء، منهم مَن يقول: العشر الأخيرة من رمضان لياليها أفضل، وذلك لأن فيها ليلة القدر.
ويمكن أن يُقال: أن ليلة القدر أفضل، لكن العشر -عشر ذي الحجة- أفضل بكل حال.
لكن من حيث الليالي: ليلة القدر، ليس ليالي العشر الأخيرة رمضان أفضل، إنما فضيلتها لأن الناس يبحثون فيها ويتحرَّون ليلة القدر.
أما عشر ذي الحجة فهي فاضلة بكل حال، كل يوم منها فاضل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصلح فيها أحب إلى الله من عشر ذي الحجة)، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء).
قال: { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}.
هذا قسَمان:
الأول: بالشفع.
والثاني بالوتر.
وقد اختلف العلماء، هل المراد بهما العموم أنهما بكل شفع وبكل وتر؟ أو مراد بهما شيء خاص؟
فمن العلماء مَن يقول: أن المراد بهما شيء خاص متصل بالليالي العشر، فالشفع يوم النحر
ومنه مَن قال: إن الشفع هم الخلق، والوتر هو الله -سبحانه وتعالى.
ومن العلماء مَن يرى أن الشفع قسمٌ بكل شف، والوتر قسمٌ بكل وتر.
وهذا العموم مناسب للفظ، وما ذكره السلف من تحديد شيءٍ معين يُطلق عليه شفع، أو يُراد بالشفع ويُراد بالوتر يُعتبر من باب المثال، فيكون تفسيرًا بالمثال والعلم عند الله.
ولذلك نقول: الشفع قسم بكل شفع، والوتر قسم بكل وتر، ومنه الله -سبحانه وتعالى- فإن الله وتر يحب الوتر.
ويٌقال: وَتر، ويقال: وِتر. هما لغتان عند العرب، ولا فرق بينهما إلا في النطق.
قال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}، أي والليل إذا ذهب وسار، أقسم الله به في حال جريانه وسيره.
هنا المُقسَم عليه غير مذكور، وهذه طريقة معروفة عند العرب، أن يذكروا القسم ويُخفوا المُقسَم عليه، لأنهم أشاروا إليه في القسم، أو لأن مضمون الكلام الذي يأتي يدل عليه.
وهذا يُستعمل في أساليب معروفة عند العرب لتدليل أحيانًا على الهيبة أو على التفخيم والتعظيم.
جواب القسم : لتبعثن ولتجازن بأعمالكم .
قال الله -عز وجل: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}، أي: هل في هذا الذي أقسمتُ به قسمٌ معتبر لذي حجر؟ أي لذي عقل، فالحجر بمعنى العقل.
ويسمى العقل عقلًا لأنه يعقل صاحبه عما لا يليق.
ويسمى حجرًا لأنه يحجره عما لا ينبغي.
كما أنه يسمى نهية {لأُوْلِي النّهَىَ} [طه: 128]، لأنه ينهاه عما لا ينبغي أيضًا.
فالعقل ميزته أنه يعقل الإنسان ويحدُّه عن التصرفات التي لا تليق به.
قال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}، أي عبرة معتبر لعاقل يعقل؟ نعم، هذا القسم فيه عبرة لو كان مَن يسمع هذا الكتاب من ذوي العقول.
ثم قال الله -عز وجل: {أَلَمْ تَرَ}، هذا استفهام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكل مَن يقرأ كتاب الله.
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، والرؤية هنا رؤية علمية .
قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}، كيف فعل الله -عز وجل- بعاد، واختيرت عاد لأنها كانت في جزيرة العرب، فالله يُحدِّث الناس بشيء يعلمونه ويعرفونه، خصوصًا أن بقايا
تلك الأمة لازالت مشاهَدة عند العرب، وهي قبيلة عاد التي كان موطنها الأحقاف، يُقال إنه جنوب الجزيرة العربية في منطقة الربع اخالي، ومنطقة عمان وما حولها.
قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ}، هنا {رَبُّكَ} ربك يا محمد الذي ربَّاك، وأنعم عليك، ومن نعمته عليك أنه ذكَّرك بما فعله بعاد ووعظك به، ومن نعمته عليك أنه أنقذك من فعلهم فلم تفعل مثل فعلهم.
قال: {بِعَادٍ}، وهي عاد القبيلة العربية المعروفة التي كانت في الزمان الأول، وقد بُعثَ إليهم نبيَّ الله هود -عليه الصلاة والسلام- فكذبوه فعاقبهم الله -عز وجل- بريح صرصرٍ عاتية، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة 7، 8].
قال: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، إرم قيل إن إرم اسم للمدينة التي كانوا يسكنون بها، وهذا غير صحيح، بل الصحيح: أن إرم اسم لجدٍّ لهم.
فعاد يظهر أنها كانت عدد من القبائل، ولذلك وُصفت في سورة النجم: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى} [النجم: 50]، وهنا قال: {بِعَادٍ *
إِرَمَ}، فهذا يسمى بدل، "إرم" بدل من "عاد"، لأن عاد مجرورة بالكسرة، وإرم أيضًا مجرورة لكن بالفتحة.لأنها ممنوعة من الصرف، والممنوع من الصرف يُجر بالفتحة نيابة عن الكسرة.
{إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ}، هل معنى "ذات العماد" أي ذات البناء الذي يقوم على العماد لأنهم كانوا يسكنون الخيام .
وقيل: {ذَاتِ الْعِمَادِ}، أي ذات الخلق الطويل الذي كأنه أعمدة. كما قال الله عنهم: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69].
لو كان يريد البلاد لقال: "التي لم يُبنى مثلها في البلاد" فلما أراد الجساد قال: {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}، فكان قوم عاد مميزين بطول أجسادهم، {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [الأعراف: 69].
وقالوا عن أنفسهم: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
قال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ}، قوله {وَثَمُودَ} معطوفة على قوله {بِعَادٍ}، ألم تر كيف فعل ربك بعادٍ وثمود؟
قال"وثمودَ"، ولم يقل: "وثمودٍ"
لأن"ثمود" ممنوعة من الصرف، معطوفة على مجرور فهي مجرورة مثله، لكنها مجرورة بالفتحة.
قال: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} "جابوا" أي قطعوا
الظاهر -والله أعلم- الأول، لأنهم كانوا يسكنون الصحراء، وكانت لهم بيوت لها أعمدة طويلة جدًا، ولأن خلقهم ذُكر في الآية التي بعدها فقال: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}.
وقد اختلف العلماء هل قوله {لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} أي مثل بلادهم أو {مِثْلُهَا} مثل أجسادهم
والظاهر أنها مثل أجسادهم، لأن الأجساد فيها خلق والبلاد فيها بناء.
{جَابُوا الصَّخْرَ}، أي قطعوا الصخر بالواد.هو الوادي المعروف، وادي القرى الذي يقع شمال المدينة في منطقة العلا وتيماء ونحوها.
ولا زالت آثار قطعهم للوادي موجودة إلى اليوم، وذلك أنك تجدالجبل مقطوع نصفًا ومرسوم عليه رسوم، وموضوع فيه باب ومدخل إلى قصر موجود إلى اليوم شاهدة على تلك الحضارة الضخمة الهائلة التي كان فيها هؤلاء القوم، لكن لم تنفعتهم تلك الحضارة ولم تغن عنهم من عذاب الله شيئًا ولم تكن شفيعة لهم في أن تُرد عنهم عقوبة الله .
قال: { وَفِرْعَوْنَ}، أي: ألم تر كيف فعل ربك بعاد وفرعون، فـ "فرعون" معطوفة على "عاد".
و"فرعون" مجرورة أيضًا، لأنها معطوفة على مجرور مثله، لكنها مجرورة بالفتحة لأنها ممنوعة من الصرف.
ذِي الْأَوْتَادِ:قال بعض المفسرين: أي ذي الجنود الكثيرة، وقد كان له جنود كثيرون.
وقيل: "ذي الأوتاد" لأنه كان يضع أوتادًا يُعلِّق بها المعذَّبين من يُعذِّبهم من قوم موسى -عليه الصلاة والسلام- وممن آمن من قومه.
وقيل: {ذِي الْأَوْتَادِ}، أي ذي الملاعب، لأنهم كانوا يضعون أوتادًا وحبالًا يلعبون بها.
وهذا من باب المثال فلا يضر الاختلاف فيه
قال الله -عز وجل: {الَّذِينَ}، من هم {الَّذِينَ}، هل هم فرعون أو ثمود أوعاد؟
لماذا لم يقل: "وفرعون ذي الأوتاد الذي طغى في البلاد"، {الَّذِينَ} مَن هم؟ كلهم، من عاد إلى ثمود إلى فرعون.
{الَّذِينَ}، أي هؤلاء جميعًا.
طَغَوْا فِي الْبِلَادِ: طغوا: طغى مأخوذة من ارتفع وازداد وتعدَّى في العدوان وفي الجريمة، فهم طغوا في البلاد أي زادوا فيها عتوًّا وكفرًا وقتلًا، وأذًى لعباد الله المؤمنين .
قال: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ}، هذا يدل على أن كثرة الفساد تنتج عن الطغيان فمتى طغى الكافر أو المرء أو الرجل أو الحاكم كثُر الفساد كنتيجة حتميَّة لطغيانه.
ثم قال: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ}
ولذلك قال: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ}، أي شيئًا من العذاب، فهذا الذي نزل بعاد وبثمود وبفرعون من العذاب الأليم الموجع في الدنيا هو سوط، يعني شيء يسير من العذاب الذي يستحقونه، وهو قليل مع أنه كان مستأصلًا، تلك الريح العاتية التي قلعت قوم عاد ونسفتهم وضربت بهم في الأرض هذه سوط عذاب.
ذلك البحر العظيم الذي وقف لموسى حتى مرَّ هو وقومه بسلام على أرضٍ يبس، ثم دخل فرعون، فلما تقدم هو وقومه انطبق عليهم في لحظة، في ثانية، في طرفة عين، فبادت أمة بأكملها، لم يُرَ منهم ديَّارٌ ولا نافخ
نار، هذا سوط عذاب. كيف لو أرانا الله ما هو أعظم من ذلك السوط لكان شيئًا عظيمًا لا يُقادر قدره، ولذلك قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}، أي أن الله راصد لهؤلاء يحسب عليهم أعمالهم ولا يفوته شيء من أحوال أولئك العباد المقطع الأول من هذه السورة، وهو تهديد للكفار الذي جاء فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: انتظروا هذا المصير إن استمررتم على الطغيان، وأكثرتم بالفساد؛ فإن الله لكم بالمرصاد، وسينزل بكم سوط عذاب، وقد جاء الكفار شيءٌ من ذلك، ففي بدر قتل أشرافهم وكبراؤهم، وقبل ذلك دعا عليهم -عليه الصلاة والسلام-، أو بعد ذلك دعا عليهم بسبع يوسف، فأصابهم من الجوع والجَهدِ شيء كانوا يرون فيه الدخان من شدة الجَهد، حتى استنجدوا برسول الله يقولون: أهلك وعشيرتك، يعني أنقذهم مما هم فيه، فرفع الله عنهم ذلك.
قال الله -عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ} الإنسان تأتي في القرآن بمعنى الإنسان عامة، وبمعنى الإنسان الكافر، وهذا كثير في السور المكيَّة، والسياق هنا يحدد أو يدل على أن المراد يالإنسان هو الكافر قطعًا.
لأن المؤمن لا يقول هذا الكلام، ولأن المؤمن أن يُخاطب بقوله {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}.
فالإنسان هنا: الكافر.
{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ}، أي امتحنه ربه.
{فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} أي أعطاه وأغدق عليه من النعم.
{فَيَقُولُ} مخطئًا في قوله، مسيئًا للظن بربه {رَبِّي أَكْرَمَنِ}، يظن أن كرمة الدنيا دلالة على رضى الله، وهذا أكبر خطأ وفساد في الاعتقاد، إذا ظننت أن الله يُعطيك لأنه راضٍ عنك، وإذا ظننت أن الله يحرمك لأنه ساخطٌ عليك، من عطاء الدنيا طبعًا، هذا غير صحيح.
لو كان كذلك؛ لكان أنبياء الله الذين كان حظهم قليلًا في الدنيا ممن سخط الله عليه، وحاشاهم من ذلك.
ولكان الكفار الطغاة الباغون في الأرض هم أقرب الناس إلى الرب -سبحانه وتعالى- هذا لا يمكن أن يكون، فالدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة حتى تكون ميزانًا لرضاه وسخطه.
إن رضى الله وسخطه لا يُقاس بعطاءات الدنيا ولذلك إذا حرمك الله فأفقرك أو ابتلاك بالمرض، أو بأي شيء من البلاء لا تظن أن هذا البلاء نزل بك لأن الله يُبغضك أو لأنك بعيد عن الله،هذا ليس مقياسًا صحيحًا، هذا مقياس جاهليّ، وقد يقع بعض المسلمين في مثل هذا البلاء، وهو يظن أن الله إذا أغدق عليه في الرزق فإنها دلالة على رضى الله عنه. هذا ليس صحيح، هذا من اعتقادات الجاهلين.
ولذلك قال: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}، ومعنى {أَكْرَمَنِ}: أكرمني، لكن حُذِف ما بعد نون الوقاية، وهي لغة مشهورة عند العرب .
قال: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ}، وهذا يدل على أن البلاء يُطلق ويُراد به السراء، ويُطلق ويُراد به الضراء، البلاء والامتحان.
قال: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} معنى "قدر عليه رزقه" ضيَّق عليه رزقه، كما قال الله -عز وجل- في سورة الأنبياء: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87]، أي ظن ألن نضيِّق عليه.
وقد رُوي أن معاوية أشكلت عليه، فظن أن {أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، ظن أنها من القدرة، ولم ينتبه إلى أنه من القدر بمعنى التضييق.
فلما جاءه ابن عباس، قال: يا ابن عم رسول الله، إن قرأت قول الله{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ}، فعجبتُ كيف يظن نبيٌّ من أنبياء الله أن الله لا يقدر عليه؟
قال: يا أمير المؤمنين، ليست من القدرة، ولكنها من القدر، وهو التضييق.
فقال له: أنقذتني يشكره على بيان المعنى.
قال: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ}، أي ضيق عليه رزقه، فيقول هذا الإنسان الكافر: {رَبِّي أَهَانَنِ}، فهو يستدل على كرم الله أو إهانته أو رضاه أو غضبه وسخطه على عبده بما يُعطى من الدنيا، وهذا اعتقاد جاهلي غير صحيح.
قال: {كَلَّا} ردع وزجر عن هذا الاعتقاد الخاطئ.
ثم قال: {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}هنا يُبيِّن قولًا واعتقادًا خاطئًا تنتج عنه أفعالًا خاطئة لأن الذي يظن أن الدنيا هي المقياس سيعظمها، ومن تعظيمه لها أنه يجمعها بكل حال، فهو لا يبالي كيف
وقعت بيده، لو رأى المال بيد اليتيم أخذه أخذًا شديدًا وأكل مال اليتيم على فقره ولم يبالِ به، لأنه يهمُّه ما يدخل في جيبه.
قال: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ}، أنتم لا تحترمون اليتيم ولا تكرمونه بالمال، بل لو وجدتم مالًا أخذتموه لأنكم ترون أن المقياس للعز وأن الأمر كله على هذه الدنيا وهذه اللُّعَاعَة، مَن يُحصِّل منها أكثر هو صاحب الحظ الأوفر. هذه الدنيا بلاء يبتلي الله بها العباد.
قال: { وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} لا يحضُّ بعضكم بعضًا على إطعام المسكين لا على طعامه ولا على إطعامه.
لأن إطعام المسكين في ظاهره ذهابٌ للمال، فهم يقولون: لا هذا المسكين إنما صار مسكينًا بقدر الله، فليبقَ مسكينًا كما هو نحفظ أموالنا ولندع هذا المسكين .أما المؤمن فيعلم أن الله ما جعل في العباد أغنياء ومساكين إلا ليبتلي بعضهم ببعض.
ولذلك المؤمن تجده إما يُطعم المساكين، وإما يحض على طعام المسكين .
وأيضًا من الأفعال التي تنتج عن ذلك الاعتقاد الخاطئ وهو تعظيم الدنيا ورؤية أنها هي المكسب الأساس في هذه الحياة، قال: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ}، التراث هو الميراث، يعني ما يُخلِّفه الميت لمن بعده.
{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} أي أكلًا تلمُّون به مالكم ومال غيركم إليكم، لا تبالون كيف جاءكم ولا ممن أخذتموه، هل قال: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}، أي حبًّا شديدًا، حتى إنكم تؤثرونه على كل شيء، فلا تعطون لشدة حبكم للمال.
قال الله -عز وجل: {كَلَّا}، ليس الأمر كما تفعلون، تبًّا لكم وردعًا وزجرًا على ما تفعلون من أكلكم لأموال اليتامى، وعدم حضِّكم على إطعام المساكين، وحبكم للمال حبًّا جمًّا، وأكلكم للميراث أكلًا لمًّا؛ كلا، ثم ذكرهم بالآخرة، هذه أيام معدودة تعيشونها في الدنيا لكن الأيام التي ستبقونها وتخلَّون فيها هي الآخرة، فماذا أعددتم لها؟
فيذكرهم فيقول: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}، أي دكًّا شديدًا.
{وَجَاءَ رَبُّكَ}، أي في ذلك الموطن العظيم يأتي الله لفصل القضاء، وهذا الذي يحدث في الشفاعة العظمى عندما يضيق البعاد من طول يوم الفصل، فيسألون الأنبياء، يذهبون إلى آدم، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، وكل واحد يقول: لستُ لها حتى يصل الأمر إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فيذهب فيسجد عند العرش سجدة ويحمد الله بمحامد، ثم يُقال: ارفع رأسك، وسل تعطَ، واشفع تشفَّع، إلى آخره. فيأتي الله لفصل القضاء.
هنا يجيء ربك والملك صفًّا صفًّا، وهذا يدلُّنا على الملائكة خلق متحضِّر، خلق منظَّم، هم يأتون على هيئة صفوف منتظمة مرتَّبة.
وهذا المجيئ لله -عز وجل- مجيئ حقيقي كما يليق بجلال الله وعظمته، وما دام أن الله أخبر بذلك عن نفسه فهو كما أخبر، ولا يجوز لنا أن نتأوَّله إلا إذا جاء نصٌّ يدل على ذلك التأويل، ولا نص.
فنحن نحمله على معناه المعروف من لغة العرب، فنقول: يجيئ مجيئًا يليق بجلاله وعظمته، ولا نحرِّف، ولا نؤوِّل، ولا نكيِّف، ولا نمثِّل؛ بل نقول: آمنَّا به، كلٌّ من عند ربنا.
{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} أي الملائكة.
{صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، أي في ذلك اليوم من هوله يؤتى بجهنم يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، يا الله! ما أعظم ذلك المخلوق! لأنها تستعد لخلق كثير ستلتهمه، أليس من كل ألف من بني آدم تسعمئة وتسعة وتسعين سيكون مثواهم النار .
قال: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها).
{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ}، في تلك اللحظة التي يؤتى فيها بجهنم يتذكر الإنسان، تلك اللحظة لحظة الذكرى المهولة، لكن لا تنفع الذكرى لأنه قد ذهب كل شيء.
{يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}، قد بعدت عنه الذكرى ليس هذا محلًّا للتذكر.
{يَقُولُ} في تلك اللحظة {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}، يتمنَّى أن لو قدَّم لتلك الحياة، تلك الحياة الحقيقيَّة، أما الحياة التي قبلها فكانت سرابًا خادعًا، ومتاعًا زائلًا، لم تكن حياةً، لأنها كانت ظلًا زائل، متاع ما أسرع ما ذهب ثم انتهى!
قال: {فَيَوْمَئِذٍ}، أي في ذلك اليوم.
{لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}، أي لا يُعذب أحد كعذاب الله.
{وَلَا يُوثَقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}، أي لا يوثَق أحد كوثاق الكافر، فيوثق وثاقًا شديدًا، ويُعذَّب عذابًا أليمًا .
ولمَا ذكَّر بهذا المصير المهول وذكَّر بهذا العذاب الشديد لأولئك الذين بدرت منهم تلك الأفعال وحصلت منهم تلك الاعتقادات والأقوال؛ فتح باب الرجاء، وبيَّن أن هناك سعداء يطمئنون بالإيمان بالله -عز وجل-
ويعلمون أن لهم آخرة سيُبعثون بها، ولذلك قال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}لأن تلك النفس في ذلك اليوم تكون مرعوبة أشد الرعب، هناك يُقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}، اطمأنَّت بالإيمان وبذكر الله -عز وجل.
{ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} عن الله مَرْضِيَّةً :قد رضي الله عنكِ.
أنتِ ترضين عن جزاء الله والله يرضى عنكِ ويُرضيكِ
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي ادخلي في جملة عباديَ الذين اختصصتهم واصطفيتهم.
{وَادْخُلِي جَنَّتِي}، وادخلي الجنة التي أعددتها لعبادي الصالحين، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.







يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

آلداعي

عضو مميز
إنضم
24 نوفمبر 2011
المشاركات
3,316
النقاط
38
الإقامة
||خير بقاع الأرض||
الموقع الالكتروني
www.qoranona.net
احفظ من كتاب الله
احب القراءة برواية
ツ ورش ツ
القارئ المفضل
كل من تلى كتاب الله بتدبر وخشوع
الجنس
||داعي إلى الله||
احسن الله اليكم وجزاكم الله خيرا شيختي
 
أعلى