سورة العلق ،القدر ، البينة

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة العلق
هذه السورة الكريمة تتميز بميزة عن سائر سور القرآن :{أول ما نزل من القرآن}.
إن فيها خمس آيات من أولها هي أول ما نزل من القرآن وهذا هو الصحيح بلا إشكال وما ورد مما يدل على أن غيرها قد حظي بالأولية، فإنما المراد به أولية مقيدة، كالأولية التي ذكرها جابر بن عبد الله في سورة المدثر فإنما المقصود بها أول سورة نزلت بعد فتور الوحي.
قال: «فجاءني الملك الذي جاءني في غار حراء»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
هذه السورة الكريمة تسمى سورة العلق، وتسمى سورة اقرأ، واقرأ بسم ربك، هذه أسماء لهذه السورة الكريمة.
وهي سورة مكية بلا إشكال لأنها أول سورة أنزلت، أو لأنها السورة التي فيها آيات هي أول ما أنزل من القرآن ولا شك أن أول ما أنزل من القرآن هو بمكة وليس بالمدينة.
وعدد آياتها تسع عشرة آية.
أما محور هذه السورة فهو عن أساس هذه الدعوة، وهي كرامة الله -عز وجل- للإنسان بالوحي الذي أنزله عليه، وأنه لا يصده عن هذا الوحي إلا الطغيان، لأنه بيِّن وظاهر وجلي، وكل مَن يقرأ ويتلو سيدرك أن هذا هو الحق ولا إشكال فيه.
ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، هذا كتاب جاء بالعلم، جاء بالبينات والهدى.
ثم قال: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، يعني ما يصده عن الإيمان إلا طغيانه، وما يجعله يطغى إلا استغناؤه، فإذا استغنى بما عنده من المقدرة أو المال، أو ما يراه من العلم الذي أوتيه واستعلى به، ردَّ الحق ولم يقبله.
فالله -عز وجل- يُبين لنا السبب الأكبر في إعراض أكثر الخلق عن قبول الحق، وهو الطغيان الذي سببه الاستغناء، أن يشعر الإنسان بأنه مستغنٍ، ليس بحاجة إلى شيء .
مناسبة السورة: فنلاحظ أن الله -عز وجل- في سورة التين بيَّن تكريم الإنسان، ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين: 4]، هذا تكريمه في بدنه، وأن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة التي أنعم بها عليه عندما حسَّن خلقه، فإما أن يكون مؤمنًا، وإما أن يكون كافرًا، وأكثر الناس يكونون كافرين، كما قال: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [التين 4، 5]، وهؤلاء قليل ما هم.
وفي هذه السورة يأتي مرة أخرى إلى قضية التكريم، فالله -عز وجل- كرمنا بأعظم كرامة، في سورة التين كرامة الخِلقَة، وفي هذه السورة كرامة الوحي، أنزل علينا هذا الوحي الذي يُتلى، وأمرنا بالقراءة وبالعلم، فكرامة الإنسان به.
ثم بيَّن صنفًا من الناس يُعرض ويستكبر، بل ويصد عن دين الله، ويؤذي الدعاة إلى الله -عز وجل.
وما هو المخرج مع هؤلاء؟
﴿كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.
يقول الله -عز وجل: ﴿اقْرأْ﴾، هذه أول كلمة نزلت من القرآن أمر بالقراءة، وهذا يدلنا على أن الإنسان لا يزال بخير ما دام يقرأ، لكن ﴿اقْرأْ﴾ أي شيء؟
﴿اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، أي مستعينًا باسم ربك الذي خلق.
﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، أي تقول: بسم الله.
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، خلق كل شيء، ومنه خلق الإنسان.
ولذلك قال بعد أن أطلق خصَّص فقال: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾.
خلق الإنسان من قطعة دمٍ جامدة، لأن الإنسان يبدأ نطفة، هذه النطفة تتخلق فتصبح بعد أن كانت نطفة علقة، وسميت علقة لأنها تعلق في جدار الرحم، وهي -سبحان الله- في هذا الطور تشبه العلقة التي هي دويدة صغيرة أو حشرة صغيرة تعيش في الماء، حتى إن أحد كبار علماء الطب في هذا العصر أو علماء الأجنة تعجب من هذا الاسم لهذه المرحلة، وقال على أي شيء؟ قالوا: إنه على هذه الدويدة التي تعيش في الماء.
فنظر إليها وقال: ما شيءٌ من مخلوقات الله يشبه الجنين في هذه المرحلة مثلها وهي مرحلة العلقة.
قال: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ﴾، كرر الأمر تأكيدًا واهتمامًا بشأن القراءة، فمن قرأ عَلِم، من قرأ اهتدى، من قرأ ما ينفع وخصوصًا ما أنزل عليه من وحي ربه لا شك أنه سيصل إلى الحق.
قال: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾، وهذا من كرم الله، كرم الله على عبده أن علمه القراءة، من كرم الله على عبده أن أنزل عليه هذا الوحي.
قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾، أيضًا هذا لونٌ من ألوان كرم الرب -سبحانه وتعالى- أن أعطانا علم القلم.
علم القلم هو : العلم بالكتابة، فنحن ندوِّن المعلومات، وندوِّن الوحي، ونحفظ التواريخ، ونحفظ الحقوق بهذا القلم، فلولا أن الله خلق هذا القلم، لأصبح الناس كالبهائم، لا ينبني تاريخ البشرية بعضه على بعض، فنحن الآن نقرأ في كتب المتقدمين ونستفيد منها معلومات، أو نبني عليها مكتشفات ومخترعات وأمور كثيرة جدًا.
وأيضًا توثيق الحقوق، لولا أن الله خلق لنا هذا القلم ما توثَّقت الحقوق، فاعتدى بعض الناس على بعض ولا هذه الأرض يملكها فلان، وهذا البستان يملكه فلان، وهذا الكتاب لفلان وليس لفلان، الذي يوثق ذلك هو القلم .
ولذلك هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله على محمد -صلى الله عليه وسلم- وُثِّق بطريقتين:
- طريقة القراءة والتلاوة والتلقي.
- وطريقة الكتابة.
ولا تقبل إحدى الطريقتين إلا بالأخرى فهما شاهدا عدلٍ على هذا الكتاب، ولذلك كان الصحابة لا يقبلون مكتوبًا إلا وأن يكون معه شيء مقروء، ولا يقبلون مقروءًا إلا معه شيء مكتوب، وبهذا جمعوا المصحف بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقد جمعهم الله في هذه الآيات، قال: ﴿اقْرأْ﴾، ثم قال: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، أي علم الإنسان علومًا لم يكن له بها علم.
فهذا العلم الذي يحصل عليه الناس ما هو إلا من الله، وليس بجهد الإنسان وحده، إنما جهد الإنسان سبب للوصول إلى العلم الذي يكون من الله -سبحانه وتعالى.
ولذلك كثير من الاكتشافات تأتي قريب من الصدفة، هو توفيق إلهي، يهدي الله العباد إليه،
ثم قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، ﴿كَلاَّ﴾ هنا يمكن أن تكون بمعنى الردع والزجر، والأرجح ي أنها بمعنى حقًا، لأن ﴿كَلاَّ﴾ تأتي في القرآن بمعنى حقًا، وتأتي في القرآن بمعنى الردع والرَّد والزَّجر، فإن جاء قبلها كلام يرد فهي بمعنى الرد، وإن لم يأت قبلها كلام يُرد فهي بمعنى حقًّا.
﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ معناه: حقًّا إن الإنسان ليطغى.
وقوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ هل المراد به عموم الناس؟ أو المراد به الإنسان الكافر؟ لا شك أن الكافر هنا مقصود، لكن هل العموم مقصود؟
عموم الآيات يدل على أن المقصود بها هو الإنسان الكافر الذي يطغى فلا يعبد الله، بل يتجاوز الحد فيعتدي على عباد الله ويؤذيهم وينهاهم عن الصلاة، ويصدهم عن دين الله.
قال الله: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾، كيف يطغى؟
الطغيان هو: تجاوز الحد، ﴿إِنَّا لَمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الجَارِيَةِ﴾ [الحاقة: 11]، الطغيان هو تجاوز الحد.
فمعنى قوله ﴿لَيَطْغَى﴾، يعني يتجاوز حدَّه، فهو لا يكتفي -والعياذ بالله- بأن ينظر في الأدلة التي تأتيه من الأنبياء، بل يتجاوز الحد إلى ردها، ثم يتجاوز حده أكثر وأكثر إلى أن يدعو الناس إلى ضدها، وأن يكذب بها، وأن يسعى في صد الناس عن دين الله -عز وجل.
﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، أي بأن رآه استغنى، بسبب أن رأى نفسه قد استغنى.
نلاحظ هنا دقة التسبيب القرآني، يعني سبب الطغيان هو أن الإنسان يرى نفسه قد استغنى، لا حاجة له بأحد، لا بالله، ولا بأحد، فهذا يورثه الطغيان، وإذا أورث الطغيان ردَّ البرهان، وتعدى على الدليل، لو جاءته أكبر حجة من الله ما قبلها ما دامت تخالف هواه وشهوته.
ولذلك قال: ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، أي بسبب استغنائه طغى.
لكنه قال: "أن اغتنى"، لا ما يمكن هذا، فكم من إنسان يكون غنيًّا، ولكنه في النهاية لا يطغى، قد يكون غني بماله وقد يكون غني بجاهه، قد يكون غني بهما وبغيرهما، وقد يكون غني بعلمه، لكن لا يطغى. لأنه لم يستغنِ عن الله، لم يستغنِ عن قبول الحق، لم يستغنِ عن الرجوع إلى العلماء، لم يستغنِ عن النظر في البراهين والأدلة.
قال: ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾، ولذلك الكافر من أين يؤتى؟ إذا رأى أن هذا المال ماله، وأن هذا الجاه والمنزلة التي حصلها، والصحة التي هو فيها هي ملكه ومنه وبسبب من جهد، هنا يبدأ الطغيان.
قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ هذا تحذير من الله -عز وجل- لعباده جميعًا، يعني إن إلى الله المرجع والمصير.
فالرجعى: هي الرجوع، فأنتم أيها العباد راجعون إلى الله، وإذا كنتم راجعين إلى الله، فلابد أن تتأهبوا للقاء الله، وتعلموا أنه لا يغنيكم شيء عن الله، لا يغنيك شيء في طريقك إلى الله إلا ما أوحاه الله إلى عباده وما كلفهم به، فتذكروا.
وأعظم مصيبة يُصاب بها الإنسان في حياته وتصيبه في مقتل هو نسيانه للآخرة، فإذا نسي الآخرة طغى، وإذا نسي الآخرة ظلم، وإذا نسي الآخرة لم يستعد بشيء من الأعمال الصالحة، وصار همه أن يشبع لذاته وشهواته ولا يفكر في شيء آخر.
قال: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.
ثم ذكر نموذجًا لهؤلاء الطغاة الذين يرى الواحد منهم نفسه مستغنيا عن الله، وقد نسوا الرجعى أو كذبوا بالرجعى، قال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾، أرأيت هذا الشخص الذي ينهى عبدًا إذا صلى؟!
أرأيت: أعلمت، أو أرأيت: أرأيته حقًّا. تصلح هنا أن تكون بصرية وأن تكون أيضًا علميَّة.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى﴾ أرأيت هذا الشخص الذي ينهى .
﴿عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، ينهاه عن ماذا؟ ينهاه عن الصلاة، رجل يصلي لله فينهاه عن الصلاة.
وهذه الآيات نزلت -كما يقول المفسرون- في أبي جهل، عندما كان يرى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسجد عند الكعبة فكان ينهاه عن السجود، حتى إنه جاء إليه مرة فأراد أن يضع قدمه على عنق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما أقبل نكص نكوصًا شديدًا، فقال له الناس: مالك يا أبا الحكم؟
فقال: والله لقد رأيت شيئًا مهولًا -أو كما قال.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، ألا تعجب منه؟! كيف ينهى عبدًا إذا صلى؟! مالك وماله؟ إذا كنت أنت لا ترغب في الصلاة ولا تريدها، فما الذي يحملك على أن تنهى عبدًا إذا صلى؟
قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الهُدَى﴾، أرأيت إن كان هذا الذي تنهاه على الهدى، أي قد استقام على الهدى؛ لأنه موحد لله قد جاء بالحق يعبد الله وحده، لا يشرك معه أحدًا سواه.
قال: ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾، هو يأمر بالتقوى، يأمر بطاعة الله، يأمر ببر الوالدين، يأمر بتوحيد الله، ينهى عن الشرك، يأمر بصلة الأرحام، يأمر بالصدقة على الفقراء والمساكين، برحمة الأيتام.
﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾، أي إن كذب هذا الناهي بالحق، وتولى: أي أعرض.
﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، ألم يعلم بأن الله -سبحانه وتعالى- يطّلع عليه ويرى، ولا تخفى على الله من عمله خافية؟!
وهذه آية يصح لنا أن نعظ أنفسنا بها، ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، بلى والله إن الله يرى.
﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾، فالله يراك ومطّلع عليك، ولن تفلت من قبضته، ولن تستطيع الخروج من عقوبته.
قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾، هذه ليست كالأولى، الأولى جاءت وليس قبلها كلام أو فعل يُنكر، أما هذه جاءت وقبلها فعل يُنكر، وهو ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى﴾، قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾ ردع وزجر لهذا الناهي الذي ينهى عبدًا إذا صلى.
﴿كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾ عما هو عليه من نهيه لذلك العبد -وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة عند البيت، وأمره بتقوى الله -سبحانه وتعالى-، لئن لم ينته عن فعله، ﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، ﴿لَنَسْفَعاً﴾ هذه قسم، اللام لام القسم.
نسفعًا: لنأخذن هذا الناهي أخذًا شديدًا من ناصيته، والسَّفع يُطلق ويُراد به الجذب بشدة.
﴿لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ﴾، أي لنجذبنه جذبًا شديدًا من ناصيته، وهذا عنوان تحقيره وإذلاله.
والناصية: هي مقدمة الرأس.
قال: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾، وصف هذه الناصية وأراد صاحبها، بأنها كاذبة تكذب، وخاطئة أي آثمة، لأن خاطئ بمعنى آثم، بخلاف مخطئ، لأن مخطئ من الرباعي، أخطأ فهو مخطئ يعني فعل الشيء عن غير قصد. أما خاطئ فهو مأخوذ من خطئ أي فعل الشيء قاصدًا فهو خاطئ.
ولذلك قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: 31]، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «من احتكر فهو خاطئ»، أي آثم.
قال: ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾، أي آثمة.
في هذا الموطن وصف الناصية بأنها كاذبة وخاطئة، فالعلماء يقولون: يُراد من ذلك صاحبها، وهذا لا شك في صحته.
لكن هل يمكن أن توصف الناصية بالكاذبة والخاطئة؟
هذا الآن شيء اكتشفه الناس الآن، وهو أن الناصية هي محل الأعمال الخُلُقيَّة، والتصرفات السلوكيَّة، فمحل الكذب الصدق والحياء والكرم والشجاعة وكل الأخلاق، محلها هي هذه الناصية، ما يسمى بالفص الأمامي من المخ، هو المسئول عن سلوكيات الإنسان.
إذن فنسبة ذلك إلى الناصية لم يأتِ لمجرد الدلالة على الذات؛ بل المراد به ماذا؟ المراد به شيئًا أخص، وهو أن الناصية هي محلٌّ لهذا الأمر.
قال الله -عز وجل: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾، لأنهم لما قالوا أن محمدًا يهددك أو كذا. قال: كيف يهددني محمد وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا، يعني مجلسًا يجلسه الناس وينتدون فيه.
قال الله -عز وجل: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، أي الملائكة، ملائكة العذاب يسمون زبانية.
والزبن مأخوذ من الدفع، ومنه الزبون لأنه يدفع عن نفسه الثمن الغالي، كما أن البائع يدفع عن نفسه الثمن الرخيص، كل واحد منهم يدفع من جهة، فسمي زبونًا.
قال: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ لأنهم يدفعون الكفار إلى النار دفعًا.
قال: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾، أي ملائكة العذاب.
ثم قال الله -عز وجل: ﴿كَلاَّ﴾، ليس الأمر كما يقوله هذا المشرك الكافر الناهي للعبد إذا صلى.
﴿لاَ تُطِعْهُ﴾، فيما يقول لك، ما يأمرك به.
﴿وَاسْجُدْ﴾ لله -عز وجل- وحده، يعني إن أمرك بالسجود للصنم أو عبادة الصنم وتقديسه فلا تطعه في ذلك، بل اسجد لله واقترب من الله.
وكلمة ﴿ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ﴾ فسرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء، قمننٌ أن يستجاب لكم».
فمن مواطن الإجابة العظيمة هي موطن السجود، وهذا متاح لكل إنسان في عامة الأوقات.
هذه الآية إذا قرأها الإنسان يسجد، وهذا ما يسمى بسجود التلاوة، فإن كان في الصلاة كبر عند الهوي للسجود وكبر عند الرفع من السجود، وإن كان خارج الصلاة كبر للسجود ثم رفع بلا تكبير ولا سلام.
ماذا يقول في السجود؟
يقول: سبحان ربي الأعلى، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اجعلوها في سجودكم»، ثم يقول: «سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين»، ثم إن شاء زاد بقوله: «اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود». وهذه آخر سجدة في القرآن من سجدات التلاوة التي اختلف هل هي إحدى عشرة أو أربع عشرة أو خمس عشرة، والمسجل الآن في المصحف لدينا خمس عشرة سجدة.
سورة القدر
هذه السورة اسمها: سورة القدر، أو إنا أنزلناه في ليلة القدر.
والقدر مأخوذ من:
- إما من التقدير، وهو أن الله يكتب في تلك الليلة مقادير الخلائق إلى عام، مقادير الخلق إلى عام، وهذا ما يسمى عن علماء العقيدة "التقدير الحولي"، لأن هناك تقدير شامل كوني، وهناك تقدير عمري وهو الذي يكون عندما ينزل الملك فيكتب للعبد أجله وعمره وشقي وسعيد، وتقدير حولي وهو الذي يكون في ليلة القدر، وتقدير يومي وهو الذي جاء في قول الله -عز وجل: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].
- وإما أن تكون من القَدْر وهو من الشرف والمنزلة، يقال: فلان ذو قدرٍ أي شرف ومنزلة.
ولا مانع من اجتماع المعنيين في هذه الليلة، فهي ليلة ذات شرفٍ ومنزلة، وهي ليلة يكون فيها التقدير الحولي.
اختلف هل هي مكية أو مدنية، بعض العلماء يرى أنها مكيَّة، والأظهر أنها مدنية؛ لأن الحديث عن ليلة القدر وشرفها ومنزلتها، وصيام رمضان ما يتصل به إنما جاء في المدينة، فالجمهور على أنها مدنية.
عدد آياتها خمس آيات ولم يختلفوا في ذلك.
أما محور سورة القدر فهو الحديث عن فضل ليلة القدر.
مناسبتها
في السورة الأولى تحدث عن إكرام الله للناس بهذا القرآن، وفي هذه السورة يتحدث عن تشريف الله لهذا القرآن بأن جعل الليلة التي نزل فيها هي خير الليالي في العام كله، فهي أفضل ليلة على الإطلاق، وهذا من تشريف الله للقرآن.
يقول الله -عز وجل: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ﴿إِنَّا﴾، هذا حديث المعظم نفسه، والله -سبحانه وتعالى- هو العظيم حقًّا، فهو يتحدث عن نفسه بأسلوب المعظِّم، وهذا من الأساليب العربية المعروفة.
﴿إِنَّا﴾ ، إنما يذكرها الرب -سبحانه وتعالى- ليبيِّن أن الذي يفعله ويخبرنا به شيء عظيم جدًا.
قال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ﴿أَنزَلْنَاهُ﴾، الضمير هنا يعود إلى أي شيء؟
ليس هناك شيء مذكور قبل هذه الكلمة يعود إليه الضمير، لكن العلماء يقولون: "كل ضمير لم يذكر ما يعود عليه، فهو عائد على القرآن إلا أن يدل دليل على خلاف ذلك"، هذه قاعدة من قواعد القرآن.
فقوله: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾، أي القرآن أي هذا الكلام الذي أنتم تقرؤونه.
﴿فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، أي في الليلة التي تسمى ليلة القدر، إما من الشرف والقدر والمنزلة، وإما من التقدير.
قال الله -عز وجل: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، إنزال القرآن في الليل له دلالة على أن الأصل في القرآن أن يكون له الليل، وأما النهار فيكون للناس.
قال: ﴿يَاأَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾ [المزمل 1-7]، فالأصل في النهار أن يكون لمعاش الإنسان وإصلاح أحواله الدنيوية، والأصل في الليل أن يكون للقرآن ولحياته الروحية.
قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾، هذا الأسلوب يدل على التفخيم والتعظيم، لهذه الليلة إنها شيء عظيم.
ثم بينها فقال: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، هذه الليلة خير عند الله -سبحانه وتعالى- من ألف شهر، فمن عمل فيها عملًا صالحًا وُزن له عند الله بأكثر من ألف شهر، وهذا يساوى أكثر من عمر الإنسان المعتاد في أمة محمد، لأن ألف شهر ثلاثة وثمانين عام وأربعة أشهر، فمن يعمل في تلك الليلة ويصدق في العمل فيها يؤتيه الله -سبحانه وتعالى- عمرًا وزيادة، كأنه عاش عمرًا كاملًا وزيادة.
ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتحرى هذه الليلة، فإذا دخلت عليه العشر الأخيرة من رمضان شدَّ المئزر وأحيى الليل، واجتهد اجتهادًا عظيمًا من أجل أن يدركها حتى يدرك هذه الفضيلة.
قال: ﴿لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، بعض الناس يخطئ فيقول: تعدل عند الله ألف شهر، لا، هي خير من ألف شهر.
قال مبينًا بعض فضائلها: ﴿تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا﴾، أي في هذه الليلة تنزل الملائكة ملائكة السماء، وينزل الروح وهو جبريل، لأنه يذكر في القرآن كثيرً بهذا الوصف، قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ﴾ [الشعراء 193، 194].
﴿وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم﴾، أي بمشيئة الله، فهم لا ينزلون من تلقاء أنفسهم، بل إنهم لا يفعلون شيئًا إلا بأمر ربهم، وهذا يدل على أن الملائكة قوم منظمون، وخلق مرتَّبون، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يحثُّ الصحابة: «ألا تصفُّون كما تصفّ الملائكة عند ربها؟». قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: «يتراصون في الصف، ويتمُّون الصف الأول فالأول»، أو كما قال -عليه الصلاة والسلام.
قال: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾، أي ينزلون بكل أمر يأمرهم لله بالنزول فيه، وهي هذه المقادير التي يؤمرون بالنزول بها.
ثم قال مبينًا فضيلة من فضائلها: ﴿سَلامٌ﴾، أي هي سلامٌ، فهي ليلة كلها سلام وخير لأهل الإيمان، وأيضًا تُسلم فيها الملائكة على كل ملأ تمر به من المؤمنين، ما مرُّوا بملأ من المؤمنين إلا سلموا عليهم، دعوا لهم بالسلامة، يقولون: السلام عليكم، السلام عليكم.
قال: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾، يعني هي سلام حتى يطلع فجرها، فليلة القد لا تنتهي الساعة الثانية عشر ليلًا، ولكنه تنتهي بطلوع الفجر، وهكذا كل ليلة، إذا قيل ليلة فإنما ينتهي الليل عندنا بطلوع الفجر، وهذا مخالف للنظام الآن العالمي المُحدَث الذي يجعل الصباح يبدأ من الساعة الثانية عشرة ليلًا، الصبح عندنا يبدأ بطلوع الفجر.
سورة البيِّنة
سورة البينة هذه لها عدة أسماء سورة المنفكين، وتسمى سورة أهل الكتاب، وتسمى سورة البينة، وتسمى سورة القيِّمة.والاسم المشهور: لم يكن، والبينة.
نزلت في المدينة، وذكر أهل الكتاب يدل على أنها سورة مدنية، ولما نزلت جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأها على أبي بن كعب، قال: «إن الله أمرني أن أقرأها عليك». قال: أوَ سمَّاني لك؟ قال: «نعم»، فبكى أبيٌّ -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
عدد آيتها: ترون ثمان آيات.
محور هذه السورة: فهو إقامة الحجة على أولئك الذين كفروا بهذه الرسالة، فالله -عز وجل- يقول: كيف لما جاءكم رسول الله ومعه هذه الصحف المطهرة كذبتم به، وأنتم كنتم قبل ذلك تقولون: متى بُعث هذا النبي آمنَّا به، فما الذي تستغربون من حاله؟ ما الذي أنكرتم من شأنه؟ هل جاء يدَّعي الألوهية حتى تنكروا شأنه؟ هل جاء يأمركم بعبادة الأصنام حتى تنكروا شأنه؟
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾، هذا هو الدين المستقيم بصاحبه إلى الله وإلى الجنة، فما الذي أنكرتم حتى كذبتم، وأنتم كنتم تقولون قبل أن يُبعث وقبل أن يأتي: لئن بُعث لنتبعنَّه، فهي إقامة الحجَّة والبيِّنة على أولئك الذين كذبوا برسول الله وليس عنهم حجة ولا بينة.
قال الله -عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ﴾، أي لم يكن الكفار من أهل الكتاب والمشركين منفكين.
﴿مِنْ﴾ هنا بيانية، لم يكن الكفار سواء من أهل الكتاب أو من المشركين منفكين عما هم عليه من الدين، تاركين ما كانوا عليه من الدين حتى تأتيهم البينة، لم ولن يتركوا ذلك الدين إلا أن تأتيهم بينة.
البينة فسرها الله -عز وجل- بقوله: ﴿رَسُولٌ﴾.
إذن معنى الآية على الصحيح من أقوال المفسرين -لأن فيها أقوالًا وأشكلت على بعض أهل التفسير- هذا هو القول الظاهر الواضح الذي يبدو من ألفاظ الآية: أنه لم يكن الكفار من مُشركي العرب عباد الأصنام، ولا من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى -وإذا أطلق أهل الكتاب في القرآن فإنما يراد به هاتان الأمتان- لم يكن هؤلاء جميعًا تاركين ما هم عليه من الدين حتى تأتيهم البينة، وهكذا كان اليهود يقولون للعرب، وهكذا كانت النصارى تقول لمشركي العرب، وهكذا كان مشركو العرب يقولون: لو جاء رسول من عند الله لاتبعناه.
ما هي هذه البينة؟
قال: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ﴾، أي مرسل من عند الله، ﴿يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً﴾، يقرأ صحفًا -جمع صحيفة، ﴿مُّطَهَّرَةً﴾، أي لا لغو فيها ولا كذب، ولا دنس، ولا شرك، ولا ظلم، ولا بغي، ولا عدوان، ولا كفر، ولا ذنب، ولا غير ذلك.
قال: ﴿يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾، أي فيها مكتوب مستقيم، المكتوب الذي فيها لا عوج فيه، وهذا ما جاء به القرآن ما في القرآن شيء أمرنا به أو نهينا عنه يُخالف ما دلت عليه العقول.
ولذلك أحد العرب لما أسلم، قالا: ما حملك على الإسلام؟
قال: إني سمعت كلام هذا النبي، فما أمرني بشيء قال عقلي: ليته لم يأمر به، ولا نهاني عن شيء قال عقلي: ليته لم ينهني عنه.
استدل على ذلك بالعقل السليم، وبالفعل كل ما أمر الله به في كتابه أو نهى عنه في كتابه يدل عليه العقل الصحيح.
ولذلك قال: ﴿فِيهَا كُتُبٌ﴾، أي مكتوبات، ﴿قَيِّمَةٌ﴾ أي مستقيمة لا عوج فيها.
ثم قال الله -عز وجل- مبينًا ما هو سبب نكوص أهل الكتاب عن الإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما هو الذي جعلهم لا يؤمنون أو يختلفون، فمنهم من يؤمن ومنهم من يكفر، قال: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾، قبل أن تأتي البينة -وهو الرسول- كانوا قبل ذلك يقولون: نحن ننتظر الرسول، ولئن بُعث ذلك النبي الخاتَم الذي نعرف خبره صفته في كتابنا سواءً التوراة أو الإنجيل، لنؤمنن به.
فلما بعث وعلموا أنه رسول من عند الله تفرقوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
أيها الكافرون، ما الذي حملكم على الكفر؟هل هذا الرسول الذي وُعدتم به لا تنطبق صفاته على هذا الرسول الذي بعث وهو محمد -صلى الله عليه وسلم؟ بلى والله إنها لتنطبق، لكنه الحسد والبغي والطغيان الذي امتلأت به قلوب هؤلاء -نسأل الله العافية والسلامة.
ومثله المشركون، أبو جهل لما كفر قالوا: ما الذي يحملك وهذا الآن يأتي بكلام لا يستطيعه أحد من البشر، لا شاعر ولا كاهن، ولا ساحر، ولا بليغ، ولا أي شيء فأفصح أبو جهل عن السبب، قال: "نحن وبنو عبد مناف كنا كفرسي رهان" -في جميع المجالات- قال: "حتى إذا كنا نحن وإياهم كفرسي رهان، قالوا: منَّا نبي وليس منكم نبي، لا والله لا نؤمن به حتى يُبعث جمل عبد المطلب". أو كلمة قالها.
إذن ما الذي حملهم على ذلك؟ الكبر، الحسد، البغي ليس لأن هذا الدين لم يأتِ بالبينات الظاهرات، ولا بالحجج الساطعات.
ولذلك قال هنا: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾، فكان منهم المؤمن والكافر ﴿إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾.
ثم عجَّب منهم، فقال: تعالوا، ما الذي حملكم على الكفر؟ هل أمركم بشيء تستغربونه أو تستنكرونه عليه؟
﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ أي في هذا الكتاب وفي تلك البينة ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، هل في أمركم بعبادة الله بإخلاص لا شرك فيه يجعلكم لا تؤمنون به؟ لا يمكن.
قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾،
الحنيف يُطلق على الميل، الحَنَف هو: الميل. والحنيف هو مَن مالت رجله في أعلاها، ويُطلق هنا على مَن مالَ عن الشرك إلى التوحيد قصدًا.
ولذلك: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً﴾ [النحل: 120]، أي مائلًا عن الشرك قصدًا.
ولذلك قال بعدها: ﴿حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾.
قال: ﴿حُنَفَاء﴾، أي مائلون عن الشرك، ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾، يؤدوها مقيمين لها، ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾.
وكل الأديان التي جاءت بها الأنبياء قد جاءت بهذه، الأمر بعبادة الله خالصًا، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فماذا أنكرتم على محمد حتى تكذبوا به وحتى تشكُّوا في رسالته؟
ثم تحدَّث عن مآل أولئك الذين كفروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبالبينة التي جاء بها، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، ها جزاؤهم.
لماذا جزاؤهم هذا؟ لأنهم قد جاءتهم الحجة والبينة فكذبوا بها من غير بينة، فجزاؤهم هذه النار خالدين فيها.
حكم عليهم بالكفر، ويحكم بلكفر على كل مَن لم يؤمن برسول الله وقد بلغته دعوة رسول الله .
قال: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ﴾، أي شرُّ الخليقة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، آمنوا وقرنوا مع الإيمان العمل الصالح، ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾، أي خير الخليقة.
ثم قال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ﴾، ونلاحظ هنا كيف قدَّم العندية لأن ظفرهم بقربهم من الله أحب إليهم من الجنة، ولذلك قال: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾، أي جنات إقامة واستقرار ومكث.
﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾، أي خلودًا أبديًّا لا انقضاء له ولا انقطاع.
﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾، رضي الله عنهم، وهم رضوا عنه لما رضي عنهم وأرضاهم، ورضوا عنه.
﴿ذَلِكَ﴾، أي الجزاء، ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾، أي خاف الله -عز وجل- بعلم.
والفرق بين الخوف والخشية:
- أن الخشية خوف بعلم.
- وأما الخوف لا يلزم منه العلم.
قال: ذلك الجزاء لمن خشي به، آمن برسول الله، وصدق بدين الله، خائفًا من عقاب الله -عز وجل-، متقيًا لله -عز وجل- في طاعته وفي أمره ونهيه، وفي استقامته على درب الدين.
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى