الدرس الثاني (سورة النازعات)

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة النازعات
وهي السورة الثانية من جزء عم.
هذه السورة سورة مكية
المكي هو ما نزل قبل الهجرة، ،،والمدني ما نزل بعد الهجرة
موضوعها : الحديث عن القيامة، ءاياتهاقصيرة وقوية،،، وذات دلالات واضحة،،، ومناقشات بيِّنة لهؤلاء الذين كذبوا بالدار الآخرة، وكذبوا بالبعث والجزاء والنشور.
يقول الله -عز وجل- في بداية هذه السورة: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا
هذه خمسة أشياء أقسم الله -عز وجل- بها في مقدمة هذه السورة.
يقول الله -عز وجل-: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾ : المراد بالنازعات في الآية هم ملائكة الموت الذين ينزعون أرواح الكفار نزعًا شديدًا.
النازعات عُطف عليها الناشطات، والسابحات، والسابقات، والمدبرات.
من أسباب وقوع الخلاف بين المفسرين أن يكون الشيءُ صفةً لموصوفٍ، وهذا الموصوفُ لم يُذكر، فعندما تُذكر الصفةُ يُمكن أن تُركَّبَ على هذا وعلى هذا فكل واحد من السلفِ يَجتهد في أن يُبيِّن ما هو هذا الشيء الموصوف.
فقوله: ﴿النَّازِعَاتِ﴾ لم يقل لنا: "والملائكة النازعات غرقًا"، فلو قال هذا ما اختلف المفسرون في هذه الآية، لكن لما قال: ﴿وَالنَّازِعَاتِ﴾، هذا الوصفُ يَصلح أن يكونَ للملائكة، ويصلح أن يكونَ لغيرها.
وقد ذكر بعض السَّلف أن النازعات هي النجومُ، وبعضهم قال: النازعاتُ هو الموت.
وذُكرت أقوالٌ أخرى، لكن أكثر المفسرين على أنَّ النازعات : هي الملائكة تنزع أرواح الكفار نزعًا شديدًا مثلما يفعل الرامي إذا شَدَّ القوس من أجل أن يَرمي بالسهم.
﴿غَرْقًا﴾ : فهي تنزعها نزعًا شديدًا مثلما يجذب الرامي الوتر أو الحبل المعلق بالقوس حتى يُلقي السهم أو يرمي بالسهم، فكذلك تُؤخذ أرواح أخذًا شديدًا .
في المقابل ذكر الله سبحانه وتعالى أرواح المؤمنين فقال ﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾: يعني هذه الملائكة تأخذ أرواح المؤمنين أخذًا سهلًا رفيقًا أو كالشعرة عندما تخرجها من العجينة تَسُلُّها سلًّا رفيقًا، لا تسمع لها صوتًا ولا تأخذ حتى أثرًا من العجين.
﴿وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا﴾، هذا أيضًا صفة لموصوف لا ندري ما هو لكن الظاهر أنه موافق لما قبله وهي الملائكة تسبح في هذا الكون لتنفذ أوامر الله سبحانه وتعالى.
﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾، أيضًا هذا وصف للملائكة في أنها تسبق بأمر الله ولتنفيذ أوامره وطاعته سبحانه وتعالى: ﴿لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
وإما أن يكون قوله: ﴿فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا﴾: أي إنها تسبقُ الشياطين إلى تلقِّي الوحي قبل أن يَسترِقَّها هؤلاء السمع.
ولكنَّ الأَوَّلَ أَوْلَى والله اعلم .
﴿فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾: لم يختلف السلف في أن المدبرات هي الملائكة (اختلفوا في النازعات والناشطات والسابحات والسابقات ) أما المدبرات فلم يختلفوا فيها فنحن نحتج بإجماعهم على تفسير المدبرات بأنها معطوفة على ما قبلها.
أين جواب القسم؟
جواب القسم في القرآن وفي كلام العرب:
- إما أن يكون مَذكورًا مُصرحًا به.
- وإما أن يكون محذوفًا مُقدَّرًا.
إذا صُرح به فالأمرُ واضح؛ فمثلًا: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿1وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿2وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾ [البلد 1-3]، ماذا؟ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد: 4]، هذا جواب القسم.
إذا لم يُصرَّح ؟ لم يُصرح به لشدةِ العلم به أو لكونِ النفسِ تسبحُ في هَيبةِ ذلك القسمِ، فهي تترقبُ ما الذي يُريد الله -سبحانه وتعالى- أن يُقسمَ عليه، فتصبح هناك هيبة، فكونه لا يذكر أولى من كونه يُذكر.
إذن: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴿1وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا ﴿2وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا ﴿3فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا ﴿4فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا﴾، ماذا؟ لتُبْعَثُـنَّ ولَتُجَازُنَّ بأعمالكم.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ﴾ ما الراجفة هي : يوم القيامة وهي الدلالة على النفخةِ الأولى التي إذا نَفخ فيها إسرافيلُ ارتجفت الأرض فمات الخلق.
قال: ﴿تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾، سُميت "رادفة" لأنها تأتي رَديفةً للراجفةِ وهي تابعة لها، و بينهما كما ورد في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: «بينهما أربعون»، قيل: يومًا؟ قال: أبيت. قيل: شهرًا؟ قال: أبيت. قيل: عامًا؟ قال: أبيت، يعني أني أقف عند الذي سمعت قال: «ما بين النفختين أربعون»، فأنا سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أربعون"، فلا أزيد على هذه
الكلمة لا يومًا ولا شهرًا ولا عامًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ﴾ أي إذا بعثتم فرجفت الراجفة،،، وأتبعتها الرادفة؛،، سيكون هناك قلوب في هذا اليوم واجفة.
الواجفة: مأخوذة من الوجيف وهو شدة الاضطراب، أي خائفة ومترقبة، وأصابها من الذهول والرعب الشيء العظيم. ووصف القلوب بذلك لأن الوجيف يكون أولًا في القلب، ثم يظهر أثره على سائر البدن.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾، نسب الأبصار إلى القلوب؛ لأن الأبصار متعلقةٌ بها، فما يكون في القلب يظهر على البصر، ولذلك يُقال: "الإنسان عينه فَرَارُه"، يعني عينه تفرُّ عما في نفسه، فتُبدي له ما إذا كان الذي أمامها صديقًا أو عدوًّا، مواليًا أو معاديًا.


والنفْسُ تعرفُ من عينيْ محدثها *** إن كان من حِزبها أو من أَعَادِيها


العينين تنظر إليهما لأنهما تعبران عما في القلب.
قال: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ﴾؛ أي ذليلة منكسرة. لأنها تعلم أن المصيرَ شديد، وأنها لم تستعدَّ لهذا اليوم، بل قد كَذَّبت به وقد جاءها البرهانُ والحجة، لكنها كذبت من غير حجة ولا برهان.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ ﴿9يَقُولُونَ﴾، هذا استئناف يُبين اللهُ فيه ماذا كانوا يقولون في الدنيا، هذا هو الذي جَعَلَهم يخافونَ في الدارِ الآخرةِ، وَجَعَلَهم يَرهبون اللقاءَ ذلك اليوم؛ لأنهم كانوا في الدنيا يَقولون: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾، يعني أإنا لراجعون إلى الحياة بعد أن متنا.
أو: ﴿يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ﴾؛ أي مردودون في النار -كما يقول بعض المفسرين- والقول الأول أولى، يعني هل يمكن ويعقل أن نرجع أحياءً بعد أن مُتنا وأصبحنا عظامًا نخِرة.
قال الله -عز وجل-: ﴿أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً﴾، سنُرد في الحافرة، سنعود مرة أخرى إلى حياتِنا التي كُنا عليها؟! سنكون أحياءًا بعد الموت؟ هذا شيء عجيب! هذا شيء نُنكره، شيء نكذب به، لا يمكن أن نصدقه، هذا شيء لا نعقله.
قال الله -عز وجل-: ﴿قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ﴾، يعني إن رددنا في ذلك اليوم، فتلك الرجعة رجعة خاسرة.
قال الله -عز وجل- مُبينًا أن الأمرَ أيسرُ ما يكون على الله -جل وعلا- وأن هذا الذي استصعبتموه واستثقلتموه وأنكرتموه سيحدث بلا شكٍّ، وأنه ليس شيئًا عزيزًا على الله -عز وجل-.
قال ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾؛ أي صيحة واحدة يصيحها إسرافيل عندما ينفخ في القرن الذي جعله الله -عز وجل- بنفخة البعث.
﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، فإذا هم فوق الأرض التي جعلها الله أرضًا للمحشر والمنشر.
والساهرة: هي الأرض، سُميت ساهرةً لأن عليها سهر الناسِ ونومهم.
قال: ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، والزجرة هي: الصيحة العظيمة التي يكون فيها شيء من الغضب.
وقد ذكر بعض السلف أنه ما مِن يومٍ يُرى فيه اللهُ -عز وجل- أشدَّ غضبًا من اليوم الذي يُبعث فيه العبادُ.
قال ﴿فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، فإذا هم قيامٌ يَنظرون فوق هذه الأرضِ التي قد جعَلَها الله -عز وجل- مكانًا وموئلًا لحشْر الناسِ ونشْرهم.
هنا انتهى المقطعُ الأول من السورة ثم يَنتقل بنا إلى مقطعٍ جديدٍو قد يَستغرب الإنسان لماذا جاء هذا المقطع في ثنايا الحديث عن يومِ القيامة .


قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾، الآن ترك الحديث عن الآخرة، وعن الجنة، وعن النار، وعن مآل المؤمنين، ومآل الكافرين والمكذبين بالبعث، إلى حديث آخر كأنه منقطع تمامًا.
قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى﴾، ﴿هَلْ هنا استفهام يراد به يراد به التشويق. هل أتاك قصة موسى عندما دعا فرعون إلى الله -عز وجل-؟
قال: ﴿هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ﴿15إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾، إذ كلمه الله -عز وجل- على صفة النداء، وقد أخذ العلماء -علماء أهل السنة- بأنَّ كلامَ الله -عز وجل- لموسى كلامٌ حقيقيٌّ، وأنه بصوتٍ يُسمع؛ لأنه ما وصفه بالنداء إلا لأنَّه يسمع.
قال: ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ﴾، واختار وصفَ الربِّ دُون "إذ ناداه الله" ليُبين أنَّ هذا النداءَ كان رحمة، وكان نعمة، فالربوبية دائمًا ملازمة للرحمة والنعمة والعناية والحفظ والرعاية.
﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ﴾، هذه إشارة إلى الوادي الذي كلم الله فيه موسى، وهو في جانب الطور الأيمن، في ذلك المكان نودي موسى -عليه الصلاة والسلام-.
قال: ﴿طُوًىهذا اسم للوادي، ﴿إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾، "طوى" اسم للوادي .
والْمُقدَّس بمعنى: المطهر، ومنه روح القدس أي روح الطهر.
قال: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ﴾، هذا هو محتوى النداء.
﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾ أي اذهب مُكلَّفًا من عندي برسالة إلى فرعون تبلغه بهذه الرسالة، وتأتيه بتلك الآية، وتقيم عليه الحجة.
﴿إِنَّهُ طَغَى﴾؛ أي عَتَا وزادَ في الكفر، وهذا يدل على أن الكفار أنواع: منهم من هو كافر، لكنه لم يصل إلى المرحلة التي يتعدى بكفره حتى يدعي أنه هو الله، وأنه ربهم الأعلى، وأنه ما علم لهم من إله غيره، ولا يفعل تلك الأفاعيل العظيمة بالناس فيستحيي نساءهم، ويذبح أبناءهم من غير أن يكون هناك حجة أو برهان أو بينة على هذا العمل الذي يعمله.
قال: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ﴿17فَقُلْ﴾، الله -عز وجل- يُبين له طريق الدعوة، كيف تدعو مثل هؤلاء، وإذا كان هذا في حال الطاغية؛ فحال من دونه من بابٍ أولى، هذا الرجل الذي قال ما قال، وفعل ما فعل مما لم يفعله أحد قبله قل له هذه العبارات.
في سورة طه بَيَّن الوصف، قال: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، يعني طبيعة النفس لا تحب أن يَقْصُرَهَا أحدٌ على الحقِّ، ولو كانت تعلمُ أنه حق، وهذا يدلنا على ما أعطيه الإنسان من حب لأن تُحترم ذاته وألا يُهانَ أو يشعر بأنه يُرغم على الحق إرغامًا.
فقال الله -عز وجل-: ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾، ﴿هَل لَّكَ﴾ هذه من باب التودد والترغيب والتحفيز، ﴿هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى﴾، تُزكي نفسك وتطهرها من الذنوب ومن المعاصي ومن الأعمال السيئة وتسلك الطريق الزاكية التي توصلك إلى الله وإلى جنته وإلى رضوانه.
﴿وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ﴾، أدلك إلى ربك الذي يربيك وينعم عليك ويعطيك، الذي يرعاك ويحفظ، ﴿فَتَخْشَى﴾ يعني إذا هديتك إليه حصلت لك الخشية منه.
قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾ أي جاء بالبينة الدالة على أنه صاحب رسالة وهذا يدلنا على أن الداعية يجب أن يكون معه أدلة إذا دعا الناس إلى الله -عز وجل-
وقد كان من أعظم حجج الله التي يؤتيها للأنبياء هي المعجزات التي تكون براهين تدعوا هؤلاء إلى الله وتدلهم على أن هذه الدعوة الصادرة من الأنبياء ليست دعوة مجردة، لأن هذا الذي يأتون به لا يمكن لبشر بمثله.
الآيات التي جاء بها موسى
{العصـا واليد}.
العصا إذا ألقاها انقلبت إلى ثعبان يتحرك و إذا أمسكها مرة أخرى عادت إلى كونها عصا، وهذه آية عظيمة.

الثانية: اليد، كان يدخلها في درع جيبه ثم يخرجها فتكون بيضاء من غير سوء، عجيبة جدًّا، ثم يدخلها مرة أخرى فتعود إلى لونها الأول.
قال: ﴿فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى﴾؛ أي اليد والعصا.
لأن الله قال له في الوادي المقدس: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ﴿17قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾ [طه 17، 18].
طيب.. موسى -عليه الصلاة والسلام- كان حصيفًا ذكيًّا، فهو قال: ﴿هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾، هذه أول مهمة للعصا، أن أتوكأ عليها عند المشي.
﴿وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾؛ أي أضع عصاي على الشجرة فأهز الشجرة؛ لينزل الحشيش وهو ورق الشجر الذي يحتاجه الغنم، وهذا ما يفعله الرعاة عندما يسوقون الغنم، يأتون الأشجار فيهزونها بعصيهم حتى ينزل ورق الشجر فتأكله الغنم.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾، كذب بهذه الرسالة فلم يؤمن بها، وعصى فلم يطع موسى -عليه الصلاة والسلام- جمع بين التكذيب وبين العصيان.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾، يعني تولى يعمل بنشاط وقوة في مقاومة دعوة موسى -عليه الصلاة والسلام- ومقاومة هذا الحق الذي جاء به نبي الله وكليمه موسى -عليه الصلاة والسلام-.
﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى﴾، ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾.
﴿يَسْعَى﴾ فهناك سعي في الباطل، وهناك سعي في الحق والخير، وعلى الإنسان إذا سلك طريق الخير والحق فليسعى فيه سعيًا ولا يكتفي بأن يمشي فيه مشيًا وئيدًا هيِّنًا متماوتًا؛ بل يكون صادقًا فيما يقوم به من الحق.
قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ﴿22فَحَشَرَ فَنَادَى﴾، حشر الناس ونادى فيهم، ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾، يُقال: أنه قال هذه الكلمة بعد أن قال لهم أول مرة: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38].
وقال بعض السلف: إن بين الكلمة الأولى والثانية أربعين سنة.
وهذا يدل على أن الطاغية يسلك مسالكَ في الطغيان يبدأ بكلمة صغيرة، ثم تكبر، ثم تكبر، حتى تصل إلى أن يقول لهم مثل هذه الكلمة التي هو أول من يعلم أنه كاذب فيها، ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.
بعد أن وصل إلى هذه المرحلة العظيمة من الطغيان، قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ﴾، وهذا يدل على أن عذاب الله ينزل بعد أن يشتد طغيان الناس، إذا اشتد الطغيان وظهر فإن الله -سبحانه وتعالى- يأتي بالعذاب المستأصل الذي لا يُبقي ولا يذر.
قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، يعني عقوبة الآخرة أي الحياة الآخرة، وعقوبة الدنيا، أما الدنيا فهو أغرقه، وأراه نجاة عدوه وغرقه وذهاب ملكه، وأما الآخرة فله عذاب شديد سواء في قبره وفي آخرته ومنقلبه إذا بُعث يوم القيامة.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، الآخرة والأولى وصفان أيضًا لموصوف لم يذكر، ولذلك اختلف السلف، فقيل: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ﴾، الآخرة بمعنى الحياة الآخرة.
أو ﴿نَكَالَ الْآخِرَةِ﴾؛ أي الكلمة الآخرة، لأنه قال في المرة الأولى: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وقال في الكلمة الأخيرة: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾.
وعلى كلٍّ أكثر السلف على أن "الآخرة" مستعملة في معناها الذي يدور كثيرًا في القرآن، وهي الآخرة المعروفة التي هي بضد الدنيا.
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾، إن في ذلك الذي حكيناه لكم وحدثناكم به من عقوبة الله العظيمة البالغة على هؤلاء لعبرة أي عظة لمن يخشى، من كان في قلبه خشية يتعظ.وهذه قضية مهمة جدًّا، وهي أن الموعظة لا تُغير ولا تُؤثر إلا فيمن كان في قلبه خشية.
ثم قال في المقطع الثالث من مقاطع هذه السورة:
﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾.
في أول السورة تحدث عن يوم القيامة، وعن المنكرين للبعث، ورد عليهم أبلغ الرد، وبيَّن أن ذلك سيكون ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴿13فَإِذَا هُم بالسَّاهِرَةِ﴾، ثم جاءت قصة موسى مع فرعون، ثم عاد مرة أخرى ليستدل على البعث، فيقول:﴿ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾.
سؤال: كيف جاءت قصة موسى متوسطة بين المقطع الأول والمقطع الثالث
قريش كانوا يعرفون من أهل الكتاب قصة موسى مع فرعون الله -عز وجل- أراد أن يذكرهم بأنه قادر هو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فكما أغرق الله فرعون وعذبه في الحياة الدنيا، فهو قادر على أن يعيد الكرة فالتاريخ يُعيد نفسه، فأنتم -يا قريش- أمامكم تاريخ يشهد بذلك وأنتم تعتقدون وعرفتم وسمعتم ذلك من أهل الكتاب،هذا تهديد من الله لهم، وتذكير بأنهم إن كذبوا بالدار الآخرة فعقوبتهم كعقوبة هؤلاء الذين كذبوا بما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام- عندما قال الله: ﴿فَكَذَّبَ وَعَصَى﴾، الله -عز وجل- قال: ﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى﴾، احذروا أن يأخذكم الله يا من كذبتم بالدار الآخرة وكذبتم بما جاء به محمد أن يأخذكم الله نكال الآخرة والأولى.
ولذلك جاء بعدها فبسط الحديث عن أدلة البعث، وأدلة القدرة فقال: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، يعني عندما أنكرتم البعث ما الذي حملكم على الإنكار؟ هل لصعوبة هذا على الله -عز وجل-؟ تعالى الله عما تقولون علوًّا كبيرًا.
﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، السماء العظيمة التي خلقها الله، الكبيرة الواسعة البنيان، العظيمة القبة، هذه السماء الله -عز وجل- خلقها وخلقكم أيسر بكثير منها، سواء خلقكم ابتداء أو خلقكم على وجه الإعادة بعد الموت، فما الذي تستغربونه على الله؟ أو تستنكرونه من فعل الله -عز وجل-؟
﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ﴾، قال مبينًا ماذا حصل للسماء قال: ﴿بَنَاهَا﴾، ثم بين ما هو البناء الذي حصل قال: ﴿رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾؛ أي رفع بناءها ومكانها، وسواها أي أحكمها حتى أصبحت بناءً مُحكمًا لا ترى فيها شيئًا من خلل أو عوج أو فطور أو شقوق أو نحو ذلك.
قال: ﴿وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا﴾؛ أي أظلم ليلها، جعله مظلمًا، ﴿وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا﴾؛ أي جعل لها نهارًا يخرج من رحم الليل.
﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، والأرض العظيمة الضخمة الهائلة التي نحن نعيش فوقها، الله -عز وجل- هو الذي دحاها.
﴿دَحَاهَا﴾؟ فُسِّرت بعد ذلك بقوله: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا﴾، دحوها هو أن يكون فيها العمل الذي عمل عليها من شق الأنهار والجبال، ونبات الأشجار، وحصول المراعي، هذا هو دحوها، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن.
قال: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، هل يفيد قوله: ﴿وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ أن الأرض خُلقت بعد السماء؟ أم الأرض خلقت قبل؟ ما الذي خلق أولا؟
يقول الله في سورة فصلت: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿9وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ﴿10ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا﴾ [فصلت 9-11].
وقال في سورة البقرة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [البقرة: 29]، فدلت الآيات على أن خلق الأرض تقدم خلق السماء، ولكن ماذا حصل؟
خلق الله الأرض، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض، فدحو الأرض جاء بعد خلق السماء، ولذلك قال هنا: ﴿أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا ﴿27رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿28وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿29وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾، صار ضحو الأرض تاليًا لبناء السماء، أما خلق الأرض فهو سابق لبناء السماء.
قال: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿31وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾، ثم بيَّن حكمة ذلك فقال: ﴿مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ﴾؛ أي جعل الله لكم ذلك متاعًا تتمتعون به أنتم، وتتمتع به أنعامكم.
تنبيه : عندما ذكر الماء والمرعى وغيرها سوَّى بيننا وبين الأنعام ليبين أنكم إذا اكتفيتم بذلك فأنتم والأنعام سواء، لكن إن ترفعتم فآمنتم وأطعتم واستجبتم لأمر الله فلن تستووا مع هذه الأنعام.
فلو اكتفى الإنسان بمجرد المتاع، الأكل والشرب والنكاح وما إلى ذلك فهو بمثابة الأنعام، لكن إن قبل رسالة الله واستجاب لأمر الله، وأطاع الله -جل وعلا- فيما أمره به فإنه يرتفع بذلك إلى الملأ الأعلى.
قال الله -عز وجل-: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ﴾، الآن يُبين جزاء هؤلاء وهؤلاء بعد البعث، قال: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى﴾، الطامة: القيامة.
ولها أسماء في القرآن كثيرة: الصاخة، والطامة، والحاقة، والقيامة، وغيرها من الأسماء، وكلما كان الشيء عظيمًا كثرت أسماؤه.
الطامة؟ قالوا: لأنها تَطم ما سواها، أي تغطي على كل شيء سواها من شدة هولها، فلا يسمع لها حس ولا صوت ولا يُرى شيء إلا هي من شدة هولها وعظمتها.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى﴾؛ أي في ذلك اليوم يتذكر كل واحد منا سعيه، إن كان خيرًا وإن كان شرًا.
ومنشدة الهول، فأنت تنسى ما كنت فيه من النعيم، ما فيه من الرزق، ما عندك من الأولاد، ما عندك من الزوجات، أهلك، أقرباءك، كل هذا يُنسى ولا يبقى إلا شيء واحد وهو سعيك، عملك الذي عملته وقدمته.
قال الله -عز وجل-: ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى ﴿35وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى﴾، برزت أُظهِرت وبينت، الجحيم تُرى.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «يُؤتى يومَ القيامة بجهنمَ لها سبعون ألف زمامٍ»؛ أي خطام وحبل تُشد به النارُ، «مع كل زمامٍ سبعون ألف ملكٍ يجرُّونها»؛ إذن عدد الملائكة الذين يجرون جهنم كم؟ 70 ألف × 70 ألف يصبح 4 مليار و900 مليون ملَكٍ يجرون جهنم.
قال: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾؛ أي أُظهرت وينت، ﴿لِمَن يَرَى﴾، فيعم الخوف أرجاء المكان، ويهاب الناس أن يحصل لهم هذا المصير، أو يكون لهم هذا المآل -نسأل الله العافية والسلامة-.
قال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾، عاد مرة أخرى إلى إلى موضوع الطغيان الذي ذكره في قصة فرعون ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾.
قال: ﴿فَأَمَّا مَن طَغَى﴾؛ أي زاد في الكفران والعناد والعصيان والتكذيب، ﴿وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾؛ أي قدمها وقربها، وجعلها مؤثرة عنده، فلم يستعد للآخرة ولم يعمل لها، وإنما جعل المؤثر والمقدم والمقرب هو الدنيا.
﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أي مأواه يوم القيامة ومآله إلى الجحيم، ولا مآل له سواه.
وبدأ بالترهيب لأن الواقع، أو لأن السورة تتحدث عن قوم مكذبين، فالأولى أن تذكر عقوبتهم كما في سورة عم لما ذكر يوم القيامة، وأنه النبأ العظيم الذي اختُلِفَ فيه، ذكر دلائل القدرة الإلهية، وذكر إن يوم الفصل كان ميقاتًا؛ قال: ﴿إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ﴿21لِلطَّاغِينَ مَآبًا﴾ [النبأ 21، 22]، بدأ بهم لأنهم هم المكذبون بالدار الآخرة.
ثم لما انتهى من عقوبة الكفار والمكذبين انتقل إلى جزاء المؤمنين، وهنا كذلك، قال: ﴿فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى﴾، المأوى أي المآل والمثاب الذي يثوب إليه هؤلاء الكفار.
قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، من خاف مقام الله أي صار عنده هيبة من الله -عز وجل- وخوف من لقاء الله -عز وجل- يخاف إذا لقي الله أن يلقاه مكذبًا، وأن يلقاه عاصيًا، وأن يلقاه ساعيًا في الباطل كما حصل من فرعون الذي أدبر يسعى وحشر فنادى من أجل أن يُجلِب على الحق بخيله ورجله.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ﴾، ونلاحظ كيف يقدم هذه الصفة وهي صفة قلبية؛ لأن عمل القلب هو الذي يكون عليه المرتكز، كل أعمال الجوارح مصدرها ومنبعها من القلب، فمن خاف كفَّت يده عن الحرام، وكفَّ لسانه عن الحرام، وكفَّت عينه عن الحرام، لأنه كلما أراد أن يطلق عينه أو لسانه أو يده أو رجله في الحرام تذكر وقوفه بين يدي الله -عز وجل- فخاف من ذلك.
قال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾، نهى نفسه عما تهواه، طبعًا الذي يهواه الإنسان شيئان:
- إما أن يهوى شيئًا أباحه الله له.
- وإما أن يهوى شيئًا قد حرمه الله عليه.
الهوى ليس بذاته مذمومًا، ولكن لكونِ كثيرٍ من الهوى مذمومًا؛ صار إطلاق الهوى في القرآن غالبًا على هذا المذموم، وإلا أنا أهوى الطعام، أهوى المنام، هذا الهوى لا يلام الإنسان عليه، لأنه هوًى يوافق ما أباحه الله وما شرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
لكن المقصود هنا: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ أي الهوى الذي يخالف أمر الله ويكون فيه معصية لله.
وسمي الهوى -كما يقول بعض العلماء-لأنه يَهْوِي بصاحبه في دَرَكاتِ الشقاء والسفول والباء.
قال: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾.
إذن: الجنة لها شرطان:
- أن تخاف مقام الله، وإذا خفت مقام الله؛ فإنك لا يمكن أن تتأخر عن أمر أمرت به، ولا يمكن أن تبقى في مكان نُهيت عنه.
- ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾ يعني لم يجعل ما يسوقه في أعماله هو هواه، وإنما الذي يسوقه هدى الله، المؤمن يتزوج، والزواج من الهوى، لكنه يفعل ذلك طاعة لله، وليس بناء على استجابته لهواه، وإنما لاستجابته لأمر الله.
المؤمن يهوى الطعام ويهوى الشراب، لكن لا يشرب شيئًا قد حرمه الله عليه؟
نحن في نهار رمضان في شدة الحر نريد أن نشرب الماء البارد؛ لكن نفق نقول: لا.
نفوسنا تهوى الماء البارد لكن نحن نحجب هذه النفوس على هواها إيثارًا لمرضاة الله وخوفًا من مقامنا بين يدي الله -جل وعلا-.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَنهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ﴿40فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾؛ أي هي المقر والمآل والمآب .
ثم ختمت السورة بالسؤال أو بطرح مشكلة دائمًا يطرحها الكفار على النبي -عز وجل- عندما يذكرهم بالقيام وبالجزاء والبعث، يقولون له: متى الساعة؟ هل تخبرنا عن القيامة؟ ويأتي الجواب صريحًا وواضحًا: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا﴾، متى موعدها؟ متى تأتي؟
قال الله -عز وجل-: ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا﴾، ليس شأن الساعة وقيامها من شأنك ﴿فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾؛ أي مستقرها ومنتهى علمها إلى الله؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَينَزِّلُ الْغَيْثَ﴾ [لقمان: 34]، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأعراف: 187]، والمقصود بالساعة إذا وردت في القرآن: أي وقت قيام الناس من قبورهم.
قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ﴿42فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا ﴿43إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا﴾؛ أي علمها إلى الله -عز وجل- هو الذي يعلمها ويعلم متى تقوم.
﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ﴾، المهمة التي بعثناك بها، وأرسلناك لتحقيقها هي: النذارة.
فإن قلت: لمَ لم يقل: إنما أنت منذر ومبشر؟ لأن الحديث هنا عن قوم يكذبون، وعن قوم قد عصوا وكذبوا ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقدم صفة النذارة وأفردها، وإلا فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- نذير وبشير.
الرسول -صلى الله عليه وسلم- منذر لكل أحد، للثقلين الإنس والجن، المؤمن والكافر، فلماذا خصَّ من يخشاها؟ قال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا﴾؟
{لكون الموعظة تنفع من يتذكر ويخشى الله -عز وجل- بخلاف من لا يتقي ولا يخشى فهو لا تنفعه النذارة ولا البشارة}.
وهذا مثل قول الله -عز وجل- في سورة "ق" ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، مع العلم أن القرآن يذكَّر به الجميع، لكن الذي يخاف الوعيد هو الذي ينتفع، ولكونه ينتفع يُقال: ذكره بالقرآن أو انذر بهذه القيامة من يخشى النار أو من يخشى الله -سبحانه وتعالى-.
﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا ﴿45كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا﴾، يُصور الله حالهم عندما يرون القيامة التي كذبوا بها، ويرون الساعة التي أنكروها، ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾.
يقولون -وهم يتذكرون ما سلف من حالهم وحياتهم وغناهم وعيشهم الطويل في الدنيا-: والله ما لبثنا إلا سويعات، كأننا لبثنا جزءًا من النهار، أوله أو آخره؛ لأنَّ هذا الذي نمرُّ به كله يصبح شيئًا يسيرًا في عالم الماضي، أو في عالم المتذكر لما وقع منه في الدنيا.












يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى