ذكر الموت ومنازل الآخرة

طباعة الموضوع
إنضم
4 يناير 2012
المشاركات
587
النقاط
18
الإقامة
الفيوم
الموقع الالكتروني
www.alfayyumy.com
احفظ من كتاب الله
كاملا بحمد الله
احب القراءة برواية
عاصم
القارئ المفضل
المنشاوي
الجنس
أخ
ذكر الموت ومنازل الآخرة


حال الغرباء:

ومن أعلام الهداية على الطريق للسائرين والمشتاقين إلى الجنة ونعيمها وأحوالهم، ذِكْرهم الدائم للموت، مع قصر الأمل، وتذكُّر منازل الآخرة، فَذِكْرُ السالك المشتاق للموت والرحيل عن دار الدنيا، وقِصَر الأمل فيها، وتذكُّر منازل الآخرة وأهلها، من أعظم السبل الموصلة إلى الجنة ونعيمها، ودلالة على الإيمان بها، والاستعداد لها، كما أنه من أعظم الأسباب الموصلة لزيادة الإيمان في القلب، واستقامة الجوارح على الطاعات، وكَفِّ النفس وزجرها عن المعاصي والمحرمات، واستحضار مراقبة الله تعالى حقَّ المراقبة.



فالموت هو: حق مقدَّر من الله على خلقه، ومفارقة للحياة الدنيا بخروج الروح من الجسد، وانفصال مؤقت عنه، يكون معه شدائد وسكرات للمحتضَر، ويُبَشَّر عندئذ ببشرى الصالحين والأولياء إن كان مؤمنًا، أو بسوء وعذاب إن كان فاجرًا فاسقًا، ثم تعود له الروح في عالم القبر والبرزخ، فيُقَعَد في قبره، ويُسأَل مِنَ الملَكَين، عن الرب، والدين، والرسول.



ولهذا فالحياة الدنيا كقنطرة للآخرة، والسائر العاقل فيها يعدُّ نفسه فيها من الغرباء الراحلين عنها، ولهذا يُكْثِر مِنْ ذِكْرِهِ للموت والفراق؛ ليكون على حال المسافر الراحل، فلا يتعلق منها بشيء، بل يُعَلِّق قلبه بالدار الباقية في الآخرة، فهو غريب على حال الاستعداد والرحيل، ويؤكد هذا ما جاء في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبي فقال: ((كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيلٍ))، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "إذا أمسيْتَ، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحْتَ، فلا تنتظر المساء، وخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.



فهذا ولا ريب حال الغرباء عن أوطانهم، أنهم لا يجعلون الدنيا دار مقر، إنما يجعلونها دار مفر، ودار الزاد للآخرة بالتقوى والعمل الصالح؛ لأن وطنهم الحق هو الجنة، دار السلام والنعيم المقيم لأولياء الرحمن، ولهذا فَهُم على حذر دائم من الدنيا، وفي استعداد دائم للرحيل والآخرة، ولهذا قائل القائل:

إن للهِ عبادًا فُطَنَا
space.gif

تركوا الدنيا وخافوا الفِتَنَا
space.gif

نظروا فيها فلمَّا عَلِمُوا
space.gif

أنها ليست لِحَيٍّ وَطَنَا
space.gif

جعلوها لُجَّةً واتخذوا
space.gif

صالِحَ الأعمال فيها سُفُنَا
space.gif



وجاء أيضًا عن أنس رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطوطًا، فقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله، فبينما هو كذلك إذ جاء الخط الأقرب))؛ رواه البخاري.


وأيضًا عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًّا مربَّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخطَّ خُطُطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط، فقال: ((هذا الإنسان، وهذا أجله محيطًا به، أو قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ أمله، وهذه الخُطُط الصغار الأعراضُ، فإن أخطأه هذا، نَهَشَه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا))؛ رواه البخاري.



وقال ابن القيم رحمه الله:

يا غافلاً عما خُلِقْتَ له انتبه
space.gif

جَدَّ الرحيلُ فلست باليقظانِ
space.gif

سار الرفاق وخلَّفوك مع الأُلَى
space.gif

قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
space.gif

ورأيْتَ أكثر من ترى متخلِّفًا
space.gif

فتبعْتَهُم ورَضِيتَ بالحرمانِ
space.gif

لكن أتيت بخطتي عجز وجه
space.gif

ل بعد ذا، وصحبْتَ كل أمانِ
space.gif

مَنَّتْكَ نفسك باللحاق مع القعو
space.gif

د عن المسير وراحة الأبدانِ
space.gif

ولسوف تعلَمُ حين ينكشف الغطا
space.gif

ماذا صنعْتَ وكنت ذا إمكانِ
space.gif



ذكر الموت وزيارة القبور زيادة في الإيمان:
وكذلك؛ ذكرُ الموت هادمِ اللذات، وزيارةُ قبور الموتى؛ مما يزيد قوة الإيمان في القلب ويُحَقِّر شأن الدنيا في نظر السالك الصادق، فلا يتعلق قلبه بغير الله والدار الآخرة، ولا تلتفت نفسه إلى متاع الدنيا الفانية؛ لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: 37]، وقال أيضًا مذكِّرًا بوعده الحق: ﴿ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ﴾ [ق: 19، 20].



وقد حوت سورة "ق" من حقائق الموت وحقائق الآخرة الكثيرَ من المشاهد التي تورث القلب خوفًا وَوَجلاً وقربًا وطمعًا في عفوه وكرمه تعالى، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر منها على المنبر في يوم الجمعة، ولنا فيه الأسوة الحسنة.



قال ابن القيم:

"وقد جمعت هذه السورة من أصول الإيمان ما يكفي ويشفي، ويُغني عن كلام أهل الكلام، ومعقول أهل المعقول، فإنها تضمَّنت تقرير المبدأ والْمَعاد والتوحيد والنبوَّة والإيمان بالملائكة، وانقسام الناس إلى هالك شقي، وفائز سعيد، وأوصاف هؤلاء وهؤلاء، وتضمَّنت إثبات صفات الكمال لله، وتنزيهه عما يضادُّ كماله من النقائص والعيوب، وذكر فيها القيامتين الصغرى والكبرى، والعالَمين: الأكبر وهو عالم الآخرة، والأصغر وهو عالم الدنيا.



وذكر فيها خلق الإنسان ووفاته وإعادته، وحاله عند وفاته ويوم معاده، وإحاطته سبحانه به من كل وجه، حتى عِلْمه بوساوس نفسه، وإقامة الحفظة عليه، يُحْصون عليه كل لفظة يتكلم بها، وأنه يوافيه يوم القيامة، ومعه سائق يسوقه إليه، وشاهد يشهد عليه، فإذا أحضره السائق قال:
﴿ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 23]؛ أي: هذا الذي أُمِرْت بإحضاره قد أحضرْتُه، فيقال عند إحضاره: ﴿ أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ [ق: 24]، كما يُحضَر الجاني إلى حضرة السلطان، فيقال: هذا فلان قد أحضَرْتُه، فيقول: اذهبوا به إلى السجن وعاقبوه بما يستحقُّهُ". وجاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذِكْرَ هادم اللذات))؛ يعني: الموت، رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ، وصححه الألباني، وقال عمر بن ذرٍّ في مواعظه: لو علم أهل العافية ما تضمَّنَتْه القبور من الأجساد البالية، لجدُّوا واجتهدوا في أيَّامهم الخالية خوفًا من يومٍ تتقلَّب فيه القلوب والأبصار، وقال رجل لبعض السَّلف: أوْصِني قال: عسكر الموتى ينتظرونك.


وشهد الحسن جنازة فاجتمع عليه النَّاس، فقال: اعملوا لمثل هذا اليوم رَحِمَكم اللَّهُ؛ فإنَّما هم إخوانكم يَقْدُمُونكم، وأنتم بالأثر، أيُّها المخلَّف بعد أخيه، إنَّك الميِّتُ غدًا، والباقي بعدك الميِّتُ في أثرك أوَّلاً بأوَّل حتَّى تُوافَوْا جميعًا، قد عمَّكم الموت، واستويتم جميعًا في كُرَبِهِ وغصصه، ثمَّ تخلَّيتم إلى القبور، ثمَّ تنشرون جميعا، ثمَّ تُعْرَضون على ربِّكم عزَّ وجلَّ. وعن مُطَرِّفِ بن عبد اللَّه بن الشِّخِّير رحمه اللَّه قال: القبرُ منزل بين الدُّنيا والآخرة، فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.



فلا ينبغي أن يغْفُل المسلم عن ذكر دار مستقره في الآخرة، وعن أنه راحل عن الدنيا، فلا تعتريه الغفلة، وهو في سكرة الدنيا والأموال والتجارة غافلٌ ناسٍ، وقد بيَّن الله ذلك في كتابه، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون: 9 - 11]، وقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100].



فالموت لا محالة منه ولا فرار، فلا بد من الاستعداد له، كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34]، وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل: 61].



قال ابن كثير في قوله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر: 1، 2].
"أَشَغَلَكُمْ حبُّ الدُّنيا ونعيمها وزهرتها، عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتَّى جاءكم الموت، وزرتم المقابر وصرتم من أهلها؟!"، وفي الحديث عن بُرَيْدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كنتُ نَهَيْتُكم عن زيارة القبور فزوروها))؛ رواه مسلم.


فزيارة القبور لغرض إحياء الإيمان في النفس، وأخْذِ الزاد والاعتبار، سُنَّةٌ نبويةٌ ماضية، وليست تلك الزيارةَ البِدْعية القائمةَ على شَدِّ الرحال، والتوسل والتبتُّل عند أصحاب القبور، والعكوف عليها وسؤالهم ودعائهم من دون الله وحده، فمن زار القبور ولم ينشغل قلبه بحالها وحال ساكنيها من الموتى، وما هم فيه من النعيم أو العذاب، فما أقسى قلبَه، وأغلظ طبعَه، وأقلَّ تَذَكُّرَهُ واعتباره! فكم أخذ الموت من أناس في أشد عافيتهم، وأخذ آخرين في نشوة غَيِّهم وفجورهم.


الموت عظة المعتبر:

فسلوا الموت عن أناس ماتوا على المنكرات والسيئات، وسلوه عمن أفْضَوْا لآخرتهم، وهم يشربون الخمور، ويعاقرون الزنى والفواحش واللواط، وعمن ماتوا وهم على كل محرم من عقوق الوالدين، وأكل الربا، وظلم العباد، وغش الموازين.



وسلوه عمن قُبِضَت أرواحهم، وهم بين يدي ربهم، يتلون آياته، ويتعبدون في محراب العبودية، فهم بين قائم وراكع، وتالٍ للكتاب وخاشع، وغيرهم ممن شهدوا الْجُمَع والجماعات، وطافوا بالبيت خاشعين مُلَبِّين مُحْرِمين لرب السماوات.



وسلوه عن أناس ماتوا في سبيل الله يقاتلون، وعن سنن العلم والهدى والإيمان يدافعون وينصرون، وعن غيرهم ممن
عرفوا حقيقة دار الفناء، فقدموا لآخرتهم، وبذلوا للفقراء والمساكين من زكواتهم وصدقاتهم، وأحسنوا للخلق أيَّما إحسان، حتى جاءهم الموت بروح وريحان، ونعيم من الله ورضوان.

فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيا وَزِينَتُها
space.gif


وانْظُرْ إلى فِعْلِها في الأَهْلِ والوَطَنِ
space.gif

وانْظُرْ إِلى مَنْ حَوَى الدُّنْيا بِأَجْمَعِها
space.gif

هَلْ رَاحَ مِنْها بِغَيْرِ الحنْطِ والكَفَنِ
space.gif

خُذِ القَناعَةَ مِنْ دُنْيَاك وارْضَ بِها
space.gif

لَوْ لم يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ
space.gif

يَا زَارِعَ الخَيْرِ تحصُدْ بَعْدَهُ ثَمَرًا
space.gif

يَا زَارِعَ الشَّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى الوَهَنِ
space.gif

يا نَفْسُ كُفِّي عَنِ العِصْيانِ واكْتَسِبِي
space.gif

فِعْلاً جميلاً لَعَلَّ اللهَ يَرحَمُني
space.gif

يَا نَفْسُ وَيْحَكِ تُوبي واعمَلِي حَسَنًا
space.gif

عَسى تُجازَيْنَ بَعْدَ الموتِ بِالحَسَنِ
space.gif



لقد أخذ الموت الصالحين والطالحين، ولبسوا جميعًا الأكفان، إلا أن منهم من يصير إلى حُفَر النيران، ويُزَجُّ في دار الشقاوة والهوان، ومنهم من يصير إلى رياض من نعيم مقيم، وفضل عميم، وعز وعطاء، وسناء من الرحمن وبهاء، ففي أي الدارين غدًا تنزل الأقدام، ويكون المقام؟! نسأل الله حسن الختام، ودار السلام، آمين.



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/65310/#ixzz2qlLu6XKV
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
جزاكم الله خيرا ، وبارك الله فيكم شيخنا الحبيب

، وجمعنا وإياك في الفردوس الأعلى من الجنة .
 
أعلى