سورة الانفطار

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة الإنفطار
سورة مكية بالإجماع، لم يقع فيها خلاف.
ولا يُعرف لها اسم غير هذا فالبخاري -رحمه الله- في صحيحه قال: «سورة إذا السماء انفطرت» بأول آية من آياتها.
وبعضهم يقول: سورة الانفطار، وهناك من قال: سورة المنفطرة.
وعلى كل هذا الاسم واشتقاقاته هو الذي عُرفت به هذه السورة ولم تُعرف باسم آخر.
موضوع هذه السورة
تتحدث عن مشاهد يوم القيامة، ومشاهد حساب الإنسان.
، لكن ليس بالإطناب المذكور في سورة التكوير وذلك لأن سورة التكوير تقدمت، فجاء فيها من المشاهد ما هو أكثر، وهنا انتقلت من جملة من المشاهد ذكرت في مقدمة السورة، إلى عتاب الإنسان، في تلك السورة، قال: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿2﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ...﴾ إلى آخره [التكوير: 1- 3] ثم ختم تلك المشاهد بآية واحدة: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14].
في هذه السورة زاد في عتاب ابن آدم ومحاسبته وتبكيته على تفريطه في الاستعداد لذلك اليوم المهول، فقال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.
ثم بين أن الذي حمله على الاغترار بالدنيا، وعدم العمل للآخرة، هو كونه كذب بالدين، قال: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ﴾، ثم بين أنه كيف ينكر التكذيب بالدين، والله -سبحانه وتعالى- قد جعل لنا كرامًا كاتبين، يعلمون ما نفعل، لماذا هذا الإحصاء؟ ولماذا هذا التدقيق؟ ولماذا هذا الاستعداد التام؟
إن لكم جزاءً سوف تلقونه عند ربكم -سبحانه وتعالى-.
ولذلك بعدها جاء جزاء: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾.
ويلاحظ في جو هذه السورة العظيمة أن المراد بها ذكر مشاهد يوم القيامة وتبكيت الإنسان على عدم الاستعداد لذلك اليوم، كيف أن التهديد كان أكثر حيزًا من الترغيب والوعد، يعني الوعيد أكثر.
قال: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾، ثم قال: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ ماذا؟ ﴿يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ﴿15﴾ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴿16﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾.
في سورة التكوير أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ و ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾»، فذكر ثلاث سور، تصور لك يوم القيامة تصويرًا بالغًا، وتبين لك مدى الهول الذي سيلقاه الناس، وستلقاه الخلائق في ذلك اليوم.
إذن: هذا في فضيلة هذه السورة وبيان ما تتميز به عن بقية السور.
وأيضًا ورد في فضيلتها: أن معاذ بن جبل حصلت له قصة، وهو أنه كان يطيل على الناس في صلاة العشاء، كان يصلي في قومه، فيطيل عليهم في صلاة العشاء، فحصل ذات يوم أن رجلًا من القوم لما أطال معاذ وكان يقرأ بهم سورة البقرة، كان شابًّا متحمسًا -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-.. انفتل، صلى وحده، ثم ذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: يا رسول الله إن معاذا يأتي ويصلي معك، ثم يأتي إلينا ويصلي بنا فيطول، فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبًا شديدًا، وقال لمعاذ وهو يخاطبه: «أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟» يعني أتفتن الناس في دينهم، وتبغض لهم شعائر الإسلام، ثم قال له: «اقرأ بهم بـ ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴾ و ﴿ وَالضُّحَى ﴿1﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ﴾» وفي رواية: «﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾»، فذكر الانفطار، وهذا موجود في سنن النسائي، والحديث أصله في الصحيحين.
ثم الرابط بين أول السورة وآخرها
لفت سيد قطب -رحمه الله- إلى رابط عجيب جدًّا، فقال: "أولها: هولٌ وحراكٌ واضطرابٌ، وآخرها: صمتٌ ومهابةٌ وسكونٌ، وبينهما لومٌ وعتابٌ".
يُصور ك مشاهد ضخمة، حركة مضطربة، هول جارف في أول السورة، وفي آخرها: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿18﴾ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، فهناك حركة واضطراب، وهنا سكون ومهابة، وهدوء وصمت مفزع، وبينهما: عتاب لهذا الإنسان، يُقال له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿7﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾، إلى آخر ما هنالك من العتاب الذي يُعاتب به ابن آدم.
في سورة التكوير حديث عن مشاهد يوم القيامة، في هذه السورة حديث عن مشاهد يوم القيامة، لكن في سورة التكوير كان الحديث عن مشاهد يوم القيامة مسهبًا طويلًا، والمشاهد كثيرة، في هذه السورة أقل، والانتقال منها إلى الغاية وهي تخويف الإنسان، عتابه، تحريك قلبه، لومه على تقصيره في حق ربه -سبحانه وتعالى-، لماذا لا تستعد لهذا اليوم؟ لماذا لا تأخذ أُهبتك من العمل الصالح؟ لماذا لا تكون من الأبرار؟ إياك أن كون من الفجار.
يقول الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾،الانفطار، يقول العلماء: هو أول الانشقاق، ينفطر الشيء، ثم ما يزال يزداد حتى يتضح الانشقاق، ولذلك جاء في هذه السورة ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾، وجاء في سورة الانشقاق: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وجاء في سورة التكوير: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11].
فالذي يظهر -والله أعلم- أن ترتيب هذه الآيات كالتالي: انفطار، فانشقاق، فكشط.
والكشط: هو السلخ والذهاب أو الطي، كما قال الله -عز وجل-: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ [الأنبياء: 104].
هذا هو المشهد الأول. بُدِئ بهذا المشهد لأن السماء هي أكبر المخلوقات، فنحن لا نرى من مخلوقات الله شيئًا أعظم من هذه السماء، وليس هذا حديثًا عن مخلوقات الله كلها، قال الله بعدها: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴾، انتقل من عالم علويٍّ إلى عالمٍ علويٍّ آخر ولكنه أدنى منه، وهو الكواكب، والمقصود بها نجوم السماء.
قال: ﴿ انتَثَرَتْ ﴾،{انتثرت بمعنى: تتساقط}.
وهذا ما جاء في سورة التكوير، قال: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿1﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴾ [التكوير 1، 2].
قلنا "انكدرت" يمكن أن تكون بمعنى "انكدرت" : تساقطت وانتثرت، وتفسرها هذه الآية.
وانكدرت: من الكدرة، أظلمت وانطفأت.
وهي إذا تساقطت لا شك أنها سينتج من ذلك ويلزم منه أنها ستنطفئ.
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴾، "فجرت" بمعنى: انفجر بعضها على بعض، بعض السلف عبَّر عن هذا بقوله: امتلأت، وبعضهم قال: انفجر بعضها على بعض.
فإذا هي امتلأت انفجر بعضها على بعض، فهذه الحدود التي تحدُّ البحار في الكرة الأرضية ستتلاشى وتذهب.
بعضهم قال: انفجرت بمعنى يبست، وهذا بعيد في اللغة، لكنه من حيث المآل صحيح؛ لأنها ستمتلئ فينفجر بعضها على بعض، ثم تسجَّر بنار عظيمة من تحتها فتيبس ولا يبقى لها وجود.
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾، القبور التي هي مأوى الناس إذا ماتوا.
بعثرت؛ أي أُثيرت وبُحثت، وأُخرج مَن فيها، فكل مَن في هذه القبور من الأجساد التي دخلت فيها ستخرج بهذه البعثرة.
قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلِمَتْ ﴾، هذا جواب "إذا"، يعني إذا السماء، وإذا الكواكب، وإذا البحار، وإذا القبور، في تلك اللحظة كل نفس تعلم ماذا معها من العمل ماذا قدَّمت وماذا أخرت
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾.
وقوله: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾؛ أي نفس نفس صالحة نفس فاسدة مؤمنة؟كافرةكل النفوس.
﴿ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾، هل المقصود ما قدمته في أول عمرها وما أخرته في آخر عمرها يعني كل ذلك في حياتها، أو المقصود: علمت نفس ما قدمت في حياتها، وما أخرت بعد مماتها مما يكون من عملها؟
لأن عمل الإنسان قسمان:
- قسم يكون في حياة الإنسان.
- وقسم يكون بعد موته، مثل الصدقة الجارية، والعلم الذي يُنتفع به. فهذا مما أخره الإنسان بعد موته.
فالآية منتظمة لهذا، ومنتظمة لذاك، والمقصود منها: علم الإنسان بعمله كله، أوله وآخره، ما كان في حياته وما كان بعد موته.
وهذه الآية نأخذ منها: أن الإنسان ينبغي كما يقدم عملًا صالحًا أن يؤخر أيضًا عملًا صالحًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، نسأل الله -سبحانه وتعالى- بمنِّه وكرمه أن يجمعها لنا.
قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿5﴾ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾، قوله: ﴿ الْإِنسَانُ ﴾ تحدَّثنا عنه في سورة عبس، ﴿ قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴾ [عبس: 17]، وأنها ترد كثيرًا في السور المكية ويُراد بها الإنسان الكافر.
والسؤال هنا يُحدد أن المراد به الإنسان الكافر، لأن قوله: ﴿ مَا غَرَّكَ ﴾ جعلك تغتر، فتقصر في حق ربك، ولا تقوم بما هو واجب عليك من الإيمان والطاعة؛ هذا لا يليق إلا بالإنسان الكافر.
ولذلك ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ﴾ ما الذي غرك بربك الكريم.
قوله: ﴿ بِرَبِّكَ ﴾ لمزيد العتاب والذم لهذا الإنسان الذي اغتر بحياته وما أوتيه في الدنيا، وترك طاعة ربه والإيمان به وبآياته ورسله، وليست لإعطائه الحجة على الله -سبحانه وتعالى- كما يقول بعض المتأولين.
فقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ﴾، الذي خلقك، ربَّاك، سوَّاك، أعطاك، أنعم عليك، حفَّك بربوبيته، أكرمك، ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 70].
هذا هو ربك الذي له النعمة الكاملة عليك، ولذلك ما قال: "ما غرك بالله" ما جاء بلفظ الألوهية، وإنما جاء بلفظ الربوبية ليُبيِّن كيف كان الرب رحيمًا، عطوفًا، كريمًا مع هذا الإنسان، لئلا يبقى له حجة على الله.
ثم عطف عليه قوله: ﴿ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ وصفه بالكرم؛ لأنه قد أعطى ابن آدم عطاءً واسعًا وكثيرًا ومجزيًا، ولا يمكن للإنسان أن يكفر أو يُنكر هذه النعمة، ولكن الإنسان بطبعه الكفور الظلوم يجحد هذه النعم، ويستعمل ما آتاه الله من نعمه في معصيته، والعياذ بالله.
ولذلك هذه جاءت "ربك" و"الكريم" لإقامة الحجة على الإنسان وإلجامه، كيف ربك أكرمك؟ هل قصَّر عليك؟ هل لم يُرسل لك الرسل؟ ولم يعطك الوسائل التي تتعرف بها على الحق من الباطل؟ هل هناك شيء تحتجّ به على الله؟ تقول: ما بان ليَ الحق، ما ظهر ليَ المراد، ما أرسلت ليَ الرسل، ما أنزلتَ عليَّ الكتب، ما أوضحت لي المراد، لم تجعل لي عينين، لم تجعل لي أذنين، لم تجعل لي لسانًا وشفتين؟ أبدًا، كل ذلك ليس من حقك أن تقوله لله -عز وجل-؛ لأنه ربَّاك وأكرمك. إذن فما حجَّتك؟
قال الله -عز وجل-: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴿6﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴾.
خلقك بمعنى أنشأك وأوجدك من العدم.
سوَّاك: جعلك مستويًا، يعني كل جزء من أجزائك يؤدي عملًا معيَّـنًا وباستواء.
﴿ فَعَدَلَكَ ﴾ أو ﴿ فَعَدَّلَكَ ﴾، قراءتان معتبرتان، لكن "عدَّلك" أكثر مبالغة من "عدَلك"، جعلك معتدلًا في كل شيء، تجد للإنسان عينين إحداهما في اليمين، والثانية في اليسار. يدين، إحداهما هنا، والثانية في نفس المكان من الشق الآخر. ولم يجعل مشوَّشًا بمعنى أن يدًا في الجنب، ويدًا في الظهر مثلًا، أو عينًا في الأمام، وعينًا في الجنب، أو رجلًا في الرأس، أو رأسًا في الرِّجل أو في القدم، أو في الركبة، لا، جعلك أيضًا معتدلَ الخِلقَة قائمًا مستويًا على خلاف ما هو حال مثلًا هذه البهائم التي سخرها الله لك، فإن الله لم يجعلها كذلك، لم يجعلها مستوية ولا معتدلة، وهذا كله من إقامة الحجة على ابن آدم.
قال الله -عز وجل-: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾؛ أي جعلك في صورة هو شاءها، هذه الصورة هي أجمل الصور وأحسنها، وليس لك من أمر صورتك شيء، يعني لستَ أنتَ الذي تصنع هذه الصورة، فلو وُكِلَ ابن آدم أن يصنع صورة لصنعها على وجه واحد، فالله -عز وجل- من رحمته، ومن حكمته أن جعل التصوير إليه، ولم يجعله لأحد، ولذلك يخلقنا في أي صورة هو يشاؤها -سبحانه وتعالى-،
قال الله -عز وجل-: ﴿ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾، ثم لمَّا ذكَّر بالنعم، وعاتب الإنسان على معصيته، وعدم قيامه بطاعة ربه، واستعداده للقاء الله -عز وجل- قال: ﴿ كَلَّا ﴾.
﴿ كَلَّا ﴾ ردع وزجر لهذا الإنسان الذي اغتر وترك الاستعداد للقاء الله، والاستعداد لذلك اليوم المهول العظيم.
﴿ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾، ما أشغلكم، ولا غرَّكم، ولا جعلكم تنسون لقاء الله؛ إلا تكذيبكم بيوم الدين، فلو أنكم صدقتم به وعرفتم أنكم ستلاقون الله لعلمتم حقًّا، أو لفعلتم حقًّا ما يجب عليكم فعله من الإيمان والطاعة.
والدين: هو الجزاء والحساب.
﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾؛ أي تكذبون بالجزاء والحساب.
﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، هنا يعود المقام إلى تذكير العبد بأنه تحت رقابة الله، وأن الله ما خلقه عبثًا، ولا جعله هملًا، ولم يتركه سدًى، بل خلقه في حالة تدل على أنه متابَع ومراقَب ليستعدَّ للقاء آخر يُجازَى على كل شيء، ويُحاسَب على كلِّ صغيرة وكبيرة.
فقال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، وأكَّد هذا الأمر لأنه يتحدث مع من ينكرونه، وهم الكفار -كفار مكة-، قال: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾،
لاحظ المؤكدات في هذه الآية ثلاثة:
- الأولى: "إنَّ" مؤكدة.
- ﴿ لَحَافِظِينَ ﴾: اللام الدَّالة على التوكيد.
- وأيضًا الجملة الاسمية وهي أيضًا مما يُؤكَّدُ به اللام.
من هم هؤلاء الحافظون؟ هم الملائكة، يحفظون على الإنسان كل عملٍ من أعماله، وليس المقصود بالحفظ هنا هو الحفظ من وقوع المقدور، لماذا؟ لأن الآيات دالَّة هنا على معنًى في الحفظ غير المعنى المذكور في قول الله -عز وجل-: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]، وقوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق 1-4 ].
فالحفظ هنا في سورة الطارق، وفي سورة الرعد هو أن تحفظ الملائكةُ الإنسان من وقوع المكروه، أو وقع ما لم يُقدَّر عليه.
أمَّا هنا فالمقصود بها حفظ الكتابة، فكل ما تقوم به من عمل، ما تلفظ به من قول، فهو مدوَّن ومسجَّل ومثبَت، تثبته هؤلاء الملائكة ولا يتركون منه شيئًا.
كما قال الله -عز وجل-: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
قال هنا: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴾، الدليل على أن "الحافظين" بهذا المعنى قوله: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾.
﴿ كِرَامًا ﴾: يعني ذوي منزلة عالية رفيعة عند الله، والكريم من كل شيء هو أعلاه في جنسه.
ولذلك يُقال: أحجار كريمة، ومخلوق كريم، وكتاب كريم، يعني هو أعلى ما يكون في جنس ذلك الشيء.
قال: ﴿ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴾، يكتبون أعمال الإنسان، لا يدعون منها شيئًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾، فكل ما يفعله الإنسان ويقوم به تعلمه هذه الملائكة وتدوِّنه، لا تترك منه شيئًا.
ثم بيَّن الله بعد ذلك الجزاء والحساب.
.
﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴾.
"كلا" ردع وزجر، وقد قلنا مرارًا أن "كلا" يمكن أن تأتي بمعنى حقًا، ويمكن أن تأتي بمعنى الردع والزجر، ويُحدد ذلك السياق:
- فإن كان ما قبلها شيء يُراد إنكاره، فإنها للردع والزجر، كما في هذا المقام.
- وإن كان ما قبلها ليس شيئًا يُراد إنكاره كما في سورة اقرأ في قول الله -عز وجل-: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1﴾ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3﴾ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4﴾ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق 1- 5]، قال الله بعدها ماذا؟ ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾ [العلق:6 ]، فليس قبلها كلام يُراد إنكاره، ولذلك في معناها: حقًّا، فيكون معناها في هذه الآية: حقًّا إن الإنسان ليطغى.
ويكون معناها في الآية التي معنا: الردع والزجر لهؤلاء الذي اغترُّوا بما هم فيه من النعمة، وكذَّبوا بيوم الدين، ولم يستعدوا للقاء ربَّ العالمين، قال الله لهم: ﴿ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿9﴾ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿10﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿11﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾.
بيَّنَّا فيما تقدَّم أن الله -عز وجل- يبيِّن لهؤلاء كيف تُتركون هملًا والله قد جعل كرامًا من الملائكة يكتبون عليكم، أو يكتبون كل شيء من أعمالكم ويحصونه بكل دقة؟
قال الله -عز وجل-: ﴿ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾؛ أي ما تفعلونه من خير أو شر فإنهم يعلمونه فيكتبون، وقد بيَّنَّا قبل قليل أن الحفظ في هذه الآية أو في هذه السورة المقصود به حفظ الأعمال وتدوينها، وليس هو المقصود بقول الله -عز وجل- في سورة الطارق: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ﴿1﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ﴿2﴾ النَّجْمُ الثَّاقِبُ ﴿3﴾ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴾ [الطارق 1-4 ].. وكذلك في سورة الرعد: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11].
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴿13﴾ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، بعدما ذكر هذا العتاب وبيَّن أن كل عمل ابن آدم محسوب، انتقل إلى الجزاء فقال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، وجاء به مؤكَّدًا مرتين أو ثلاثة:
- المؤكِّد الأول: "إنَّ".
- والثاني: ﴿ لَفِي ﴾.
- والثالث: أن الجملة اسمية، وهذا من المؤكدات.
لأنه يُخاطب قومًا منكرين، والعادة في كلام العرب أنه إذا خوطب المنكِر يؤكَّد الكلام له بأكثر من مؤكد بحسب إنكاره، وإذا كان خالي الذهن فإن الكلام يؤكَّد له، يعني لو قلت لإنسان كلامًا وهو خالي الذهن ولا تتوقع إنكاره، فإنك لا تحتاج إلى أن تحلف له، ولا أن تؤكِّد كلامك بمؤكدات عدَّة.
قال: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ ﴾، والأبرار: جمع برّ، والبر هو المتوسع في فعل الطاعات، يُقال لمادة "بَرَّ" في اللغة العربية تدل على السعة.
فلما كان البر متوسعًا في فعل الطاعة، يتصدق، يصوم، يحج، يذكر الله، يقرأ القرآن، يقوم الليل، يبر الوالدين، يصل الرحم، يحسن إلى الخلق، يُكرم الضيف، إلى آخر أعمال البر، يسعى فيها ويُنوِّع بينها سُمِّيَ برًّا، وجمعه: أبرار.
قال: ﴿ لَفِي نَعِيمٍ ﴾، نعيم، المقصود به -بالدرجة الأولى: نعيم الآخرة، لأن الحديث عن الآخرة، ولكن ذلك لا يمنع أن يأخذ الإنسان من النعيم بقدره في دنياه وفي قبره؛ لأن النعيم هنا جاء مطلقًا غير مقيد.
ما قال: "لفي نعيم في الجنة أو في الآخرة"، فدلَّ ذلك على أن البارَّ يُدرك من النعيم في الدنيا، وفي قبره، وفي الآخرة، كل واحد من هذه الدور الثلاثة بحسبها، وهذا ما أثبته ابن القيم -رحمه الله- في تعليقه على هذه الآية، بأنها جاءت مطلقة.
وهذا يلاحظه الأبرار، فإنهم يُدركون من لذة الطاعة والإيمان، وعمل البر وفعل الخير، ما تنشرح به صدورهم، وتأنس به نفوسهم، ويدركون به لذَّة عظيمة من لذائذ الحياة، حتى إنه يقول بعضهم: "إنه لتمرُّ بي ساعات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي نعيم طيب".
وهذا من جزاء المؤمن المُعجَّل، يُعجِّل الله له أثر برِّه وطاعته، ونحن نقول لكل إنسان يجد ضيقًا، وكدرًا في نفسه، يجد همومًا وأحزانًا، اعلم أن هذا بسبب تقصيرك في حق الله، فالله -سبحانه وتعالى- شكور، ومن كونه شكورًا أنه يُعجل لعبده بالثواب وإن لم يكن هو الثواب الأعظم الذي يُدَّخر للعبد يوم القيامة.
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾، الفجار: هم الذين فجروا من جهتين:
- من جهة فجور القلب بالتكذيب.
- وفجور الجوارح بالعاصي.
أي خرجوا عن الطاعة، قال: ﴿لَفِي جَحِيمٍ ﴿14﴾ يَصْلَوْنَهَا ﴾؛ أي يصلون تلك الجحيم يوم الدين، أي يوم الجزاء والحساب.
والدين يأتي بمعنى الجزاء والحساب، كما تقول العرب:كما تدين تدان.
وكما في الأثر: "الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَن أتبع نفسه هواها وتمنَّى على الله الأماني".
قال: ﴿ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ﴾أي عن الجحيم.
﴿ بِغَائِبِينَ ﴾؛ أي مخلدون فيها لا يخرجون منها، فالمقصود بها ذكر خلودهم وبقائهم في النار -نسأل الله العافية والسلامة.
ثم عظَّم الله يوم الدين في قوله -بهذا الأسلوب الذي سيتكرر معنا كثيرًا في جزء عم: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾، إنه يوم عظيم، يوم مهول، استعدوا له، وانتبهوا له، واستيقظوا لعظمته، وكونوا على حذر منه، وخذوا الأهبة التامة لهوله، فإنه فوق ما تتخيلون، وأعظم مما تصورون.
قال: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴿17﴾ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ﴾، هذا من باب التأكيد على هول ذلك اليوم.
ثم أجاب بهذا الجواب الفخيم، الرهيب، المهول، الساكن، الذي يملأ النفس عظمة وهيبة: ﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ﴾، ليس هناك نفس -مهما كانت- تملك لنفس -مهما كانت- شيئًا، إلا أن يأذن الله بشيء من ذلك ويرضاه، فلا أحد في ذلك اليوم يتصرف أو يقدم خيرًا، أو يدفع ضرًّا، أو ينصر أحدًا، إلا أن يأذن الله به.
ثم ختم الله هذه السورة بقوله: ﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾، الأمر كله لله، لا لملك مقرَّب، ولا لنبي مرسل، حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا طُلبت منه الشفاعة يذهب ويسجد عند العرش، ويحمد الله بمحامدَ لم يُفتح عليه بمثلها من قبل، ويُكثر من الحمد لله -عز وجل- حتى يُقال له: «ارفع رأسك، وسل تعط، واسمع تُجَب»
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

آلداعي

عضو مميز
إنضم
24 نوفمبر 2011
المشاركات
3,316
النقاط
38
الإقامة
||خير بقاع الأرض||
الموقع الالكتروني
www.qoranona.net
احفظ من كتاب الله
احب القراءة برواية
ツ ورش ツ
القارئ المفضل
كل من تلى كتاب الله بتدبر وخشوع
الجنس
||داعي إلى الله||
احسن الله اليكم وجزاكم الله خيرا
 
أعلى