سورة الاعلى والغاشية

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة الأعلى
يقول الله -عز وجل-: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، هذا أمر بالتسبيح .التسبيح، يُقال: سبِّح، وسبحان، ويُسبِّح. {التسبيح: التنزيه}.
التسبيح هو التنزيه، فمعنى سبِّح: أي نزِّه.
وسبحان: هذا تنزيه لله -عز وجل-.
وقد جاء التسبيح مفتتحًا به سبع سور في القرآن الكريم.
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الإسراء: 1].
وعندنا سور المسبحات، وهي: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الحديد، و﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الحشر، و﴿سَبَّحَ لِلَّهِ﴾ الصف، و﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ الجمعة، و﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ التغابن، و﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ في سورة الأعلى.
أما سور المسبحات التي يُطلق عليها كمجموعة "المسبحات" فهي خمس، الحديد، والحشر، والصف، والجمعة، والتغابن.
فالمصدر: سبحان.
والفعل الماضي: سبَّح.
الفعل المضارع: يسبح.
الفعل الأمر:سبِّح اسم ربك الأعلى.
وهذا يدلنا على عظم التسبيح وأهمية منزلته، ولذلك جُعِلَ جزءًا من الأذكار التي يقولها المسلم في اليوم والليلة، في الصباح والمساء، وفي كل وقت، ويقوله أيضًا في الركوع وفي السجود كما جاء في هذه الآية عندما نزلت، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «اجعلوها في سُجودكم».
ولذلك تُشرع في سجود الصلاة المفروضة والنافلة، وفي سجود التلاوة، وفي سجود الشكر، وفي سجود السهو؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال مُطلِقًا: «اجعلوها في سجودكم».
﴿سَبِّحِ﴾، هل هذا خطاب لرسول الله أو لكل مَن يقرأ هذه الآية؟ يصلح أن يُقال هذا، ويصلح أن يُقال هذا، ولا إشكال في ذلك .
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، هل المُسبَّح الاسم أو الرب؟ الحقيقة أن المسبَّح هو الرب، المنزه هو الرب -سبحانه وتعالى-، وإنما جيء بالاسم ليبيِّن أن التسبيح لا بد أن يكون مذكورًا فيه الاسم، وليس المقصود تسبيح القلب، بل المقصود تسبيح القلب مع تسبيح اللسان.
فأنت تقول: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾؛ أي سبِّح ربَّك ذاكرًا اسمَه، وهذه فائدة نفيسة، وهي أن التسبيح لا ينبغي أن يقتصر أمره على القلب، بل لا بد من نطق اللسان، ولذلك جاء قوله: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾.
وجاء بوصف "الأعلى" ليدلَّ على أن لله -عز وجل- العلو كله، العلو الكامل، ولم يقيِّده بعلو معين ليدل على أن له العلو بجميع أنواعه، علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وهذه ثلاث أنواع للعلو.
علو الذات: وهو أن الله -سبحانه وتعالى- مستوٍ على عرشه فوق سماواته، بائنٌ من خلقه، يُشار إليه بجهة العلو، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للجارية: «أين الله؟». قالت: في السماء. قال لصاحبها أو سيدها: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
وقد ثبت هذا العلو -وهو علو الذات- بأدلة كثيرة، أدلة من الكتاب، ومن السنة، ومن إجماع السلف الصالح، ومن العقل، ومن الفطرة.
وهذه الأدلة قلَّما تجتمع في شيءٍ محدد، فأنت إذا قلت "الأعلى" تثبت لله العلو من جوانبه الثلاثة:
- علو القدر.
- وعلو القهر: وهو أنه مستعلٍ على خلقه، قاهر لهم.
- وعلو الذات: وهو أنه فوق السماوات -سبحانه وتعالى-.
ويقول المسلم هذه الكلمة عند السجود لأنه يهوي بأعلى ما فيه إلى الأرض، فيتذكر بذلك علو الله -سبحانه وتعالى- الذي له العلو الكامل من جميع النواحي.
قال واصفًا نفسه: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾؛ أي خلق كل شيء.
﴿فَسَوَّى﴾؛ أي جعله مناسبًا لما خُلق له.
يعني مثلًا: خلق العينين وجعلهما في الرأس من أجل أن تبصر الأشياء، لو جعل العينين مثلًا في الرجلين لكان الأمر فيه مشقة، وكذلك جعل العظام القويَّة في الأسفل لتحمل البدن، هذا من التسوية، جعل كل شيءٍ معتدلًا مناسبًا لما خُلِقَ له.
﴿وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾، قدَّر كل شيء فهداه لما يُصلحه .هذا في جميع المخلوقات، وفي ابن آدم هداه لسبيل الخير وسبيل الشر، ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10].
قال الله -جل وعلا: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾، هذا من عطف الصفات -كما يقولون- ليس في الذوات، بل تُعطَف صفة على صفة، جاء محمد الكاتب والشاعر، و.. إلى آخره. هذا من عطف الصفات.
قال: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾؛ أي النبات والكلأ الذي يكون في البراري والبوادي.
قال: ﴿فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾، جعل هذا المرعى الأخضر، ﴿غُثَاءً﴾؛ أي يابسًا، ﴿أَحْوَى﴾، قد اسودَّ من اليُبسِ.
وهذا فيه تذكير بأمر البعث، لأن أمر البعث يكون كما يكون حال هذا النبات في البراري، يصل إلى حالة اليُبس، ثم ينزل عليه المطر في الموسم القادم فيعود أخضر، كذلك أنتم يا بني آدم، تموتون فتبلون فيبعثكم الله -سبحانه وتعالى- فتعودون كما كنتم.
وقد قال بعض العلماء: "والذي أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاءً"، فجعلوا كلمة "أحوى" من وصف المرعى.
وهذا القول يُخالف ترتيب الآية ونسقها، وما دام كذلك، فإننا لا نقول به إلا إذا اضطررنا إليه. وهذه قاعدة من قواعد التفسير، وهي أننا لا نخالف الترتيب في الآية ونظم الآية، ونُقدم فيها المؤخر ونُؤخر فيها المقدم إلا إذا لم يكن للآية وجه إلا أن تُحمل على ذلك.
أما إذا كان لها وجه بأن تُحمل على نظمها المذكور في كتاب الله -عز وجل-، فإن الأولى أو فإن الراجح هو أن تبقى على نظمها، وتكون كلمة "أحوى" من وصف "غثاء"، وليست من وصف "المرعى".
"أحوى" من وصف "غثاء"، أي: فجعله يابسًا مسودًّا من طولِ اليُبس.
وليس كما يقول بعضهم: "والذي أخرج المرعى أحوى" أي مسودًّا من خضرته، "فجعله الله غثاءً" أي يابسًا بعد أن كان أخضر شديد الخضرة، فهذا قولٌ يُخالف الترتيب، وهذه قاعدة من قواعد الترجيح.
بعد ذلك انتقل إلى وعدين كريمين لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قال فيهما: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾، يا محمد هذا وعدٌ منَّا أننا نُنزل عليك هذا الكتاب الذي لا عهد لك به، فتقرأه فلا تنسى منه شيئًا، سنقرئك يا محمد فلا تنسى شيئًا من هذا القرآن الذي اقرأناكَ إيَّاه، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعالج من التنزيل شدَّة، وكان يقرأ وجبريل يوحي إليه هذا القرآن، فأنزل الله -عز وجل- عليه قوله: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ﴿16إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴿17فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة16-18]، فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُنصِت وجبريل يُلقِي عليه الوحي، فإذا فصم عنه الوحي، إذا به قد استوعبَ الآيات وحفظها لم يخرم منها شيئًا -عليه الصلاة والسلام-.
قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾، "لا" هنا اختُلفَ فيها هل هي "لا" نافية أو ناهية {"لا" نافية}.
﴿فلَا تَنسَى﴾ "لا" النافية، و"لا" النافية لا تجزم الفعل المضارع.
ولذلك من قواعد الترجيح: الاحتكام إلى رسم المصحف.
وقد مرَّ بنا مثالٌ في سورة المطففين: ﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 3].
قال الله -عز وجل-: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى﴾أي سنقرئك ما نوحي إليك يا محمد فلا تنسى شيئًا منه، ثم استثنى فقال: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، يعني إلا ما شاء الله أن تنساه.
وهذا قد جاء تأويله في سورة البقرة في قول الله -عز وجل-: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ [البقرة: 106].
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يوحى إليه بالآيات، ثم يشاء الله -عز وجل- أن ينسخ هذه الآيات ويرفعها بعد أن أُنزلَت بحكمة يعلمها -سبحانه وتعالى-، فتُنزَع ولا يبقى منها شيءٌ بعد أن كانت أُنزلَت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا مانع أيضًا من أن يدخل في حكم الآية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يوحى إليه بالآيات فيقرأها على أصحابه فيحفظونها، ثم ينساها في لحظة من اللحظات بحكم البشرية؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشر، وقد قال: «إنما أنا بشرٌ أُنسَّى -أو أنسَى- كما تنسون، فإذا نسيتُ فذكروني»، وقد فتح عليه بعض الصحابة في صلاته، أو أُرتِجَ في صلاته -عليه الصلاة والسلام- فلم يرد عليه أو لم يفتح عليه أحد من الصحابة، فلما سلَّم قال: «أين فلان؟ لمَ لمْ تفتح عليّ؟»، يعني لِمَ لمْ تذكرني بما فات عليَّ من الآيات؟
لا مانع أن يدخل هذا المعنى في قوله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فلَا تَنسَى ﴿6إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾.
ولما ذكر النسيان ذكر علم الله لمناسبته في هذا الموطن، فإن الله -سبحانه وتعالى- لا ينسى ولا يليق به أن ينسى، كما أنه لا ينام ولا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم -سبحانه وتعالى-.
قال: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾، فهو -سبحانه وتعالى- الذي يعلم ما نجهر به وما نخفيه.
هنا يأتي السؤال: إذا كان الله يعلم ما نخفيه فهو قطعًا يعلم ما نجهر به، فما الذي جعله يقول: ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى﴾؟ لماذا لم يكتفِ بقوله: "إنه يعلم ما يُخفى" مثلًا، لماذا قرَن بينهما؟
ليبين لنا الله أن علمه بالجهر وبما يُخفى على قدر سواء، نحن يختلف عندنا ما يُخفى عما يُجهر، أما الله -سبحانه وتعالى- ما تخفيه وما تسره في نفسك وما تعلنه، كلها بالنسبة له سواء -سبحانه وتعالى-.
الوعد الثاني لرسولنا -صلى الله عليه وسلم- قوله: ﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى﴾، هذا وعدٌ كريم لرسولنا -صلى الله عليه وسلم-، وهو أن الله سيهيِّئ له أسباب اليُسر، الأسباب الموصلة إلى الجنة بيسر، وأسباب الحياة الكريمة بيسر أيضًا، ومن ذلك يُسر دينه -عليه الصلاة والسلام-، فدين محمد يسير وسهل وسمح.
وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ميسرًا في كل شؤونه، في نومه، في طعامه، وشرابه، في مركوبه، في حياته الزوجية، في بيته، مع إخوانه وأهله، مع أصحابه، في كلِّ حالٍ من أحواله؛ لأن الله قد يسر له حياته، وجعله ميسرًا لليسرى؛ لأنه هو -عليه الصلاة والسلام- يحب اليسر، ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
فكان -عليه الصلاة والسلام- ينام حتى إنه ينام على الحصير فيؤثر في جنبه، وما قُدِّم له شيءٌ إلا: إن اشتهاه أكله وإلا تركه، وما عاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طعامًا قط.
وقد قيل في وصفه -عليه الصلاة والسلام: إنه لا يردُّ موجودًا ولا يتكلَّف مفقودًا.
يعني لا يقول: اصنعوا لي كذا وكذا وكذا، ولا يرد شيئًا بين يديه في الحضر، إلا أن يكون شيئًا تعافه نفسه -عليه الصلاة والسلام- كما عاف الضب عندما قُدِّم له -عليه الصلاة والسلام- قال: «إني لا أجده بأرض قومي، فأجدني أعافه»، فأخذه خالد بن الوليد وأكله.
قال: ﴿وَنيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى ﴿8فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، أمره الله -عز وجل- أن يُذكر، بعد الوعيد أمره بهذا الأمر، وهو أن يذكر.
والتذكير هو أن يقول أو يأمر بالشيء ويذكر الناس به، ويُعلمهم إياه مرة بعد أخرى، التذكير يكون بتعليم الشيء الذي يجهل الناس، ويكون أيضًا بتكرار الشيء الذي قد عُلموه، كل ذلك يُسمَّى تذكيرًا، فذكر.
ثم قال: ﴿إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، هل هذا معناه: أنها إن لم تنفع فلا تذكر؟
من العلماء مَن يقول بذلك، وهو أنه متى رجوتَ أن الذكرى تنفع فذكر، ومتى ظننت أن الذكرى لا تنفع فلا تفعل.
وقد قال به جماعة من العلماء، وهو أنهم أعملوا هذا الشرط، وقالوا: متى كانت الذكرى نافعة أو غلب على ظنِّ الإنسان أنها نافعة وجب عليه أن يذكر، ومتى غلب على ظنه أنها غير نافعة فإنه يُعفى عنه أنه لا يُذكر.
وبعض أهل العلم يرى أن المعنى: فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع؛ لأن الذكرى نافعة في كل حال.
قولوا: ويدل لذلك ما يأتي من الآيات، لأن الله قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى ﴿10وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾، فقوله: ﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾ يدل على أن هناك من الناس مَن يُذكَّر ونحن نعلم أنه لا يتذكر، وهذا قولٌ لبعض أهل العلم، وهو أنهم يرون أن الآية إنما نصَّت على التذكير في موطن النفع، ولكنها لم تنه عن التذكير في غير موطن النفع، يعني ما قالت: "فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع فلا تذكر"، وإنما قالت: ﴿فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى﴾، والآيات تدل على أن الذكرى نافعة بكل حال؛ لأنها تكون على الذي يخشى تنفع بالاتباع، والذي لم يخشَ تنفع بإقامة الحجة وبراءة الذمة.
قال الله -عز وجل-: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، هذا وصفٌ لمَن يتذكر وهو أنه يخشى، فكل مَن وقعت الخشية في قلبه والخوف من الله -عز وجل- والعلم بالله؛ لأن الخشية تختلف عن الخوف من جهة أن الخشية خوف بعلم، وأما الخوف فلا يلزم فيه أن يكون بعلم.
قال: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى﴾، مَن يخشى الله -سبحانه وتعالى- سيتذكر وينتفع بما يسمع من الموعظة والأمر والنهي والعلم.
﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى﴾؛ أي يبتعد عنها ويجانبها فلا يقبلها ولا يستمع إليها.
﴿الْأَشْقَى﴾: الذي كتب الله عليه الشِّقوَة.
قال: ﴿الَّذِي يَصْلَى﴾؛ أي يدخل ويقاسي حرَّ النار.
﴿يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾، وهي نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة.
وهل قوله: ﴿الْكُبْرَى﴾ يدل على أن هناك نارًا قبلها وهي النار التي تنال الإنسان في قبره؛ لأن مَن يُعذَّب في قبره يُفتَح له بابٌ إلى النار، فيأتيه من سُمومها وحرها فيقول: يا رب لا تقم الساعة، لا تقم الساعة، لِما يعلم من أن عذابه إذا بُعثَ أشد من عذابه وهو فيقبره.
قال الله -عز وجل-: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا ولَا يَحْيَا أنه في شدة من العذاب، فلا هو يموت فيستريح، ولا هو يحيى حياة مستقرة فينتفع بها، وإنما هو بينهما حتى يدل على شدة حاله في أهوال العذاب}.
قال الله -عز وجل- بعد ذلك: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، هذا هو المقطع الأخير في هذه السورة الكريمة، وقد افتتح بقوله "قد".
"قد" تدل على التحقيق فهي من أدوات التأكيد.
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾، والفلاح هو الفوز والظفر بالمطلوب، ومنه سميَ "الفلاح" يفلح الأرض لأنه يفوز بالثمرة والزرع والغرس، ونحو ذلك.
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾؛ أي فاز وظفر بالمطلوب.
﴿مَن تَزَكَّى﴾؛ أي مَن زكَّى نفسه وطهرها.
والتزكِّي مبني على أمرين:
- تخلية.
- وتحلية.
مثل تمامًا النبات، لا يمكن أن ينبت والغرس لا يمكن أن يحيى إلا بشيئين:
- الأول: أن تنظف الأرض من الشوائب ومن الحشرات التي تقتل وتؤذي النبات.
- والثاني: أن تسقي الأرض بالماء الطيب، وفي الوقت ذاته تضع المواد التي تُعين هذا النبات على الحياة.
وهكذا القلب يحتاج إلى شيئين: تخلية وتحلية.
تخليه من الشرك، من البدعة، من المعصية.
وتحليه بالتوحيد والإيمان، وبالسنة، وبالطاعة والأعمال الصالحة، ولا بد لك من ذلك، وإلا فلا تزكية.
وكلمة التزكية في اللغة تأتي بمعنيين لا بد من مراعاتهما لمن أراد أن يتزكى:
- الأول: الزكاء بمعنى الطهارة، يقال: نفس زاكية أي طاهرة.
- الثاني: والزكاء بمعنى النماء، يقال زكى الشيء أي نما وزاد.
ومنه زكاة المال سُميت بذلك لأنها تطهر المال من الخبث الذي دخل فيه وتنميه أي تزيده، فما أحد زكَّى ماله إلا زاد الله ماله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقصت صدقة من مال».
قال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾، طهر نفسه من الذنوب والمعاصي، وزكَّى نفسه بالإيمان والتوحيد والطاعة.
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ﴾؛ أي أكثر من ذكر اسم الله -عز وجل-.
﴿فَصَلَّى﴾، جعل الصلاة مبنية على ذكر اسم الله ليبين لنا أن الذي يذكر الله ويعظم الله في نفسه، ويكثر من ذكره بلسانه يدعوه ذلك إلى أن يستكثر من الصلاة، وتستجيب للصلاة أعضاؤه، ويستجيب له بدنه، وهذا معروف ومشهور، مَن أكثر من ذكر الله أحب الصلاة وأطال فيها وخشع فيها، ومَن أقلَّ من ذكر الله عظمت عليه الصلاة وضعفت جوارحه عنها.
بعض العلماء يقول: ﴿تَزَكَّى﴾؛ أي زكاة الفطر.
﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾: صلاة العيد.
قال الله -عز وجل-: ﴿بَلْ﴾، "بل" في اللغة تأتي للإضراب، الإضراب نوعان:
- إبطالي.
- وانتقالي.
الإبطالي: لإبطال الكلام السابق، تقول: ما جاء محمد بل علي، فـ"بل" هنا للإبطال.
وتأتي للانتقال، أن تنتقل من كلامٍ إلى كلام.
وهنا جاءت للانتقال، ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ﴾؛ أي تقدمون وتختارون الحياة الدنيا الفانية العاجلة، لما طُبع فيكم من حب العاجل.
﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾، يعني كيف تؤثرون الدنيا الفانية الأولى العاجلة، والآخرة قد جمعت بين أمرين عظيمين:
- الأول: أنها خير، خير في ذاتها.
- والثانية: أنها باقية.
ولذلك قال أحد السلف: "لو كانت الآخرة خزفًا يبقى، والدنيا ذهبًا ينفى، لكان حريًّا بالعاقل أن يأخذ الأبقى" ثم قال الله مؤكدًا هذا الكلام ومُبينًا أنه كلام يستحق أن تعقد عليه الخناصر، وأن يؤخذ بكل جدٍّ واهتمام.
﴿إِنَّ هَذَا﴾، طيب، "هذا" اسم الإشارة يعود إلى
من العلماء مَن قال: إن "هذا" عائد على قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ وما بعدها.
ومنهم مَن قال: إنه عائد على السورة من أولها.
والأظهر هو الأول لأن الكلام الأول فيه حديث عن رسول الله، ثم إن "هذا" اسم إشارة للقريب، فتعود إلى أقرب كلام يصح أن يُنسب أو يُشار إليه.
فلو قيل: إنها راجعة إلى قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى﴾ لكان أولى، والعلم عن الله.
قال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾؛ أي هذا الوارد أو المذكور.
﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى﴾، مذكور في الصحف الأولى التي سبقت هذه الصحيفة التي أنزلت على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وهي القرآن.
﴿لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ﴿18صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى﴾، ذكر منها صحف إبراهيم، وهي الكتاب الذي أنزل على إبراهيم تسمى صحف إبراهيم، ولا يُعرف لها اسم آخر غير هذا، وموسى وهو التوراة.
سورة الغاشية
موضوعها ظاهر وهو الغاشية، وهو القيامة، فهي تتحدث عن القيامة وما فيها من الهول، وانقسام الناس إلى فريقين:
- فريقٍ من أصحاب الوجوه الخاشعة العاملة الناصبة التي تصلى نارًا حامية.
- وفريق آخر من أصحاب الوجوه الناعمة التي أعدَّ الله -عز وجل- لها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وهذه السورة مكيَّة بالإجماع ولم يُختَلَف في كونها مكيَّة أو مدنيَّة .
وقد جاء في فضيلتها أنها تُقرأ في صلاة الجمعة، وتقرأ في صلاة العيد، هذا ثابت في هذه السورة الكريمة.
يقول الله -عز وجل-: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾.
"هل" هنا يراد به التهويل والتفخيم.
هل جاء هذا الحديث الفخيم العظيم وهو حديث الغاشية.
والغاشية اسم من أسماء يوم القيامة، لأنها تغشى الناس بهولها، وضجيجها، وصوتها، ورعبها المرجف الذي لا يدع شيئًا من الأفئدة إلا ملأه بالخوف والرهبة.
وقد قال بعض المفسرين: إن "الغاشية" هنا اسم للنار، ولا مانع من ذلك، لا مانع أن يكون اسمًا من أسماء النار، لكن أكثر المفسرين من السلف على أن الغاشية هي القيامة.
قال الله -عز وجل-: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾، وقد جاء للقيامة في القرآن أسماء، الحاقة، والقارعة، والصاخة، والطامة، والقيامة، والغاشية، ويوم التناد، وغيرها من الأسماء التي ذكرت ليوم القيامة، نعم.
{قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ هذا يقوي قول من قال أن الغاشية المراد بها يوم القيامة.
قال: ﴿وُجُوهٌ﴾، وصف الوجوه، والمقصود أهلها كلهم، يعني بجميع أعضائهم وحواسهم، لكنه ذكر الوجه لأن الوجه هو الذي يعبر عن كثلة البدن، فنحن نعرف من وجه الإنسان أنه مسرور، وأنه مستبشر، وأنه حزين، وأنه متألم من قسمات وجهه، بل حتى سريرته تبدو لك من صفحة وجهه، كما قال عثمان -رضي الله عنه-: "ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".
قال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾، هذا الخشوع مخالفٌ لما كان عليه في الدنيا، فإنه كان في الدنيا لا يعرف الخشوع، فرح، وضحك، ولعب، ولهو، لا يعرف فيه شيء من هذه المعاني، فيأتي يوم القيامة ليكون بضدِّ حاله في الدنيا.
قال الله في سورة الانشقاق ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿10فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿11وَيصْلَى سَعِيرًا﴿12إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ [الانشقاق 10-13].

قال الله -عز وجل-: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾؛ أي في يوم القيامة وفي النار هذه الوجوه وهؤلاء الناس الكفار يعملون عملًا كثيرًا هو جزء من جزائهم وعذابهم، وينصبون نصبًا شديدًا، قد يكونون في الدنيا ممن ارتاح واستلذ، وطابت له الحياة، لا يصوم، لا يصلي، لا يقوم، لا يحج، لا يأمر بمعروف، لا ينهى عن منكر، لا يجاهد في سبيل الله، مرتاح؛ لأن هذه الأعمال فيها مشقة، ولها ضريبة لا نشك في ذلك، ولكن الله -سبحانه وتعالى- يجعل عوضها راحة وسعادة أبدية يلقاها المؤمن إذا بُعث يوم القيامة.
فقوله: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ يراد بها هذا العمل والمشقة الهائلة التي تدخر لهؤلاء في يوم القيامة وفي النار، فهم في النار يجرون السلاسل، ويعملون أعمالًا، ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ﴿17إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ﴾ [المدثر 17-18]، يعني سيعمل عملًا شديدًا ويعذب عذابًا أكيدًا نكدًا ويتعب منه ويشقى، حتى إنهم ينادون مالك، ﴿وَنادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ﴾ [الزخرف: 77].
يقال أنه يجيبهم بعد أربعين ألف سنة، يقول لهم: إنكم ماكثون، أي باقون فيها بقاءً تامًا أبديًّا.
ومَن قال أن ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ نزلت في الرهبان الذين يتعبدون إلى الله في الصوامع، هذا غير صحيح، لأن الحديث في سياقه عن القيامة وليس عن الدنيا.
فإن قيل القصة الواردة عن عمر أنه مرَّ على راهبٍ فناداه، فلما طلع إليه بكى عمر وقال: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾، نقول: هذا -والعلم عند الله- إن صحَّ عن عمر، فإنما مراده أن يستعير اللفظ، استعار اللفظ القرآن لهذا الشيء الذي رآه، وهو أنه يرى إنسانًا يعمل وينصب نصبًا شديدًا وفي النهاية لن يُجزى عن نصبه بشيء لأنه لم يُوحِّد الله -عز وجل- ولم يؤمن برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال: ﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي تُدخَل.
وفي قراءة ﴿تُصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي نارًا شديدة.
﴿حَامِيَةً﴾؛ أي حارة شديدة الحرارة.
ومَن قال: ﴿نَارًا حَامِيَةً﴾؛ أي نارًا حارة شديدة الحرارة.
﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾؛ أي يؤتى لها بشرابٍ من عين حارة شديدة الحارة قد بلغت من الحرارة منتهاها، هذا معنى قوله: ﴿آنِيَةٍ﴾.
ومنهم من قال: ﴿آنِيَةٍ﴾ بمعنى حاضرة، وهذا المعنى ليس سديدًا، إنما من لوازم معنى قوله تغلي أشد الغليان.
قال: ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ﴾؛ أي ليس لهم في النار طعام إلا من هذا الطعام الذي لا ينفعه، وهو الضريع.
والضريع عند العرب يُطلق على شجرة اسمها "الشِّبرق"، شجرة من الشوك الذي لا يكاد يؤكل ولا يُنتفع به، فإن من الشوك ما يؤكل ويُنتفع به، تنتفع به البهائم والإبل، وهذا النوع من الشجر لا يُنتفع به، فهذا ما سيكون للكفار، لكن ليس بين ما في النار وما في الدنيا إلا الاسم فقط، وأما الحقيقة فمختلفة تمامًا، كما أن ما في الجنة وما في الدنيا من النعم ليس بينها من الاشتراك إلا في الاسم فقط، وإلا فالحقيقة مختلفة تمامًا.
ثم وصفه بقوله: ﴿لَا يُسْمِنُ﴾؛ أي لا ينفع البدن بالسِّمَن ولا يغذي، ﴿ولَا يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾، لا يدفع الجوع.
إذن ما فيه فائدة أبدًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ﴾، هذه على طريقة القرآن في المثاني، وهي أنه -سبحانه وتعالى- ذكر عذاب الكفار، وذكر في مقابله نعيم أهل الجنة، فوصف الوجوه لأنها إذا ظهرت عليها أثر النعمة والسرور دلَّ ذلك على أن باقي الجسم والنفس والقلب كلها في خير وحبور.
﴿لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾؛ أي لعملها وكدها الذي كان منها في الدنيا راضية، يعني لجزاء سعيها راضية، فهي الآن ترى جزاء السعي فترضى رضًا شديدًا، الرضى هو منتهى الفرح بالنتيجة.
قال: ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾؛ أي رفيعة، وليست سافلة.
﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾، لا تسمع فيها كلمة لاغية باطلة مؤذية من اللغو الذي لا ينفع، بل قد يُضر الإنسان سماعه، بل كل الكلام الذي يُسمع فيها كلام طيب، وكلام حق.
قال: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾؛ أي عيون، فكلمة "عين" هنا اسم جنس يدل على العيون التي في الجنة.
قال: ﴿جَارِيَةٌ﴾، ليست ماكثة وباقية لتأسن ويُصبح فيها الآفات وغيرها، ولكن جارية، وهذا ألذ حتى في النظر.
قال: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ﴿12فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾، سررها من طيبها ولينها وجمالها مرفوعة، وكلما كان السرير مرفوعًا كان أبهى في النظر، وأحسن في المجلس، وألذ وأتم في النعمة.
قال: ﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ﴾، أكواب مُعدَّة للشراب موضوعة بين أيديه، متى أرادوا أن يشربوا فإنهم يجدون الشراب، ويجدون الكوب الذي يملئونه بما يشاءون من أنواع الأشربة.
قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾، النمارق جمع نمرقة، والنمرقة هي الوسادة.
﴿مَصْفُوفَةٌ﴾ مراعاة الجمال في الأثاث وفي أنواع النعيم مراعاة وأيضًا لها معنى.
قال: ﴿وَنمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾؛ أي قد صُفَّت صفًّا جميلًا بديعًا رائعًا.
قال: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾؛ أي بُسُط.
﴿مَبْثُوثَةٌ﴾؛ أي قد وُزِّعَت في أماكن متعددة، أينما تريد تجلس تجد هذه الزرابي، وتجد تلك الوسائد.
ثم قال الله -عز وجل- بعد أن ذكر النعيم قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ﴾، هذا من باب استفهام يراد به التبكيت، يعني هذه نذارة الله لكم، وهذا ما وعدتم به، أو حُذِّرتم منه، ما الذي يجعلكم تكفرون؟! أفلم تروا إلى قدرة الله -عز وجل- المبثوثة بين أيديكم؟!
وبدأ بالإبل لقربها منهم، ولكثرة ما فيها من الأعاجيب، فإنها مليئة بالأعاجيب، وما زال العلماء والعلم إلى اليوم يكتشف في الإبل أشياء عجيبة جدًّا، صبرها على العطش الطويل، كونها تحمل الأثقال وهي جالسة باركة ثم تقوم بها، كونها يُشرب حليبها، يؤكل لحمها، يُركب ظهرها، تهتدي إلى أماكن ما، تهتدي إلى المكان الذي رجعت منه، تعرف صاحبها، تحقد فتنتقم ولو بعد سنين، تعرف الذي يُحسن إليها فتحسن إليه، وأعاجيبها لا تكاد تنتهي.
قال: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾، مَن الذي خلقها هذه الخِلقَة؟ إذن فما الذي يدعوهم الإنكار البعث، وإنكار ما تأتي به يا محمد -صلى الله عليه وسلم- من العجائب في هذا القرآن والحقائق التي لا يجوز إنكارها، ولا يمكن لعاقل أن يشكَّ فيها.
قال: ﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿18وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾؛ أي جُعلت منصوبة عالية.
﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾، فإن قيل: هل الأرض مسطحة؟ نعم، هي في نظرنا مسطحة، وإن كانت في جملتها كريَّة مدوَّرة، لكن في النظر نراها أمامنا سطحًا واضحًا ظاهرًا.
ثم قال الله -عز وجل-: ﴿فَذَكِّرْ﴾، يا محمد، أنت بعد أن أقمت الحجج، وبينت الدلائل، وذكرت المصائر والجزاء، ذكر ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾، هذه مهمتك، ليس عليك أن تخلق الهداية في قلوب هؤلاء؛ بل عليكَ أن تذكرهم، وليس عليك شيء آخر.
﴿لَسْتَ عَلَيْهِم بمُسَيْطِرٍ﴾، لستَ قهَّارًا لهم تجبرهم على الإيمان، وما أنت عليهم بجبار.
﴿إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾، يعني لكن، هنا "إلا" بمعنى لكن، لكن مَن تولى وكفر، ﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾، وهذا كما في سورة الأعلى قال: ﴿وَيتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى ﴿11الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى﴾ [الأعلى 11، 12]، وهنا قال: ﴿الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾.
ثم هدَّد بقوله: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾، مرجعهم ومصيرهم إلينا، فنحاسبهم على القليل والكثير، والصغير والنقير والقطمير.
قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾، نحن الذين سنتولى حسابهم، وسيعلمون ماذا سنفعل بهم، كما قال الله -عز وجل-: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى