سورة المطففين

طباعة الموضوع

أم حذيفة

وَهذَا زَمَانُ الصَّبْرِ مَنْ لَكَ بِالَّتي
طاقم الإدارة
إنضم
26 أغسطس 2010
المشاركات
3,675
النقاط
38
الإقامة
الامارات
احفظ من كتاب الله
القرءان كامل
احب القراءة برواية
بحميع الروايات
القارئ المفضل
الشيخ ابراهيم الأخضر
الجنس
أخت
سورة المطففين
السورة مدنية
قال النسائي وابن ماجة:أخبرنا محمد بن عقيل - زاد ابن ماجة:وعبد الرحمن بن بشر- قالا حدثنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، عن يزيد- هو ابن أبي سعيد النحوي، مولى قريش- عن عكرمة، عن ابن عباس قال:لما قدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنـزل الله: ( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) فحسنَّوا الكيلَ بعد ذلك .

افتتحت هذه السورة بقوله -سبحانه تعالى-: ﴿وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿2وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿3أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ﴿4لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿5يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وقد أخذنا معاني هذه الآيات، لكن بقي معنا فيها وقفات.
الوقفة الأولى في هذا المقطع الذي ينتهي بقوله: ﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، بيان التطفيف وضرره، وأن الله عذَّب به أمة من الأمم.
الأمة التي عُذبت بسبب تطفيفها في المكاييل والموازين قوم شعيب كانوا يطففون ويخسرون في المكيال والميزان، وأنزل الله -عز وجل- وبين الله سبب عذابهم، فهم قوم قد كذبوا نبي الله، وأشركوا مع الله، وكان من أعظم المشكلات التي وقعوا فيها أنهم كاو يطففون في المكاييل والموازين.
الوقفة الثانية: في أن هذا التطفيف الذي يكون في المكاييل والموازين يكون له صور كثيرة جدًّا، فعندما تقول لكثير من الناس: ما التطفيف؟ يقول: أن تزيد أو تنقص في المكيال والميزان عندما تزن للناس، حسب ما هو موجود في الموازين المعروفة لدى كثير من الناس.
لكن الحقيقة أن التطفيف ينتظم صورًا كثيرة لا حصر لها.وهذا المثال الذي ذكره الله عز وجل في الكيل والوزن هو مثال، فيقاس عليه كل ما شبهه، فكل من طلب حقه كاملاً ممن هو عليه ومنع الحق الذي عليه فإنه داخل في الآية الكريمة، فمثلاً الزوج يريد من زوجته أن تعطيه حقه كاملاً ولا يتهاون في شيء من حقه، لكنه عند أداء حقها يتهاون ولا يعطيها الذي لها، ربما ينقص أكثر حقها من النفقة والعشرة بالمعروف وغير ذلك، إن ظلم الناس أشد من ظلم الإنسان نفسه في حق الله؛ لأن ظلم الإنسان نفسه في حق الله تحت المشيئة إذا كان دون الشرك، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عاقبه عليه، لكن حق الادميين لابد أن يوفى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من تعدون المفلس فيكم؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع، فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ـ كثيرة ـ فيأتي وقد ظلم هذا، وشتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»
هذه صورة من صور التطفيف
الأمر الثالث من الوقفات: التطفيف إذا كان في القليل يحاسب الله العباد عليه ويحذرهم منه، فكيف بمن يَعتدي على أموال الناس ويسلبها منهم؟ سواء كانت هذه الأموال شيئًا في جيوبهم وتملكوه وحازوه، أو شيئا من بيت مال المسلمين.
إذا كان الله يحاسب على الشيء القليل واليسير، ويتوعد بالويل عليه، فما بالنا بمن يأخذ المال الكثير؟! ومن يأخذه من أفواه الفقراء ليضعه في جيوب الأغنياء؟! أليس هذا متوعدًا بالويل؟!
النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما وقف في يوم عرفة، قال مُعلنًا أمام الناس: «إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا».
وعندما وقف مع المسلمين في يوم النحر، أو في يوم القَرّ قال لهم مثل ذلك، وأكده عليهم تأكيدًا شديدًا، ليُبين أن هذا من أعظم الذنوب عند الله -سبحانه وتعالى- وهو أن يعتدي الإنسان على أموال الناس، أو دمائهم، أو أعراضهم.


ثم قال تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} يعني ألا يتيقن هؤلاء ويعلموا علم اليقين؛ لأن الظن هنا بمعنى اليقين، والظن بمعنى اليقين يأتي كثيراً في القرآن مثل قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون} [البقرة:: 46]. فقال: {الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم} وهم يتيقنون أنهم ملاقوا الله، لكن الظن يستعمل بمعنى اليقين كثيراً في اللغة العربية، وهنا يقول عز وجل: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون} ألا يتيقن هؤلاء أنهم مبعوثون أي مخرجون من قبورهم لله رب العالمين {ليوم عظيم} هذا اليوم عظيم ولا شك أنه عظيم
قال تعالى: {لرب العالمين} وهو الله جل وعلا، وفي هذا اليوم تتلاشى جميع الأملاك إلا ملك رب العالمين جل وعلا، قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيئاً. لمن الملك اليوم لله الواحد القهار.

{كلا إن كتاب الفجار لفي سجين} {كلا} إذا وردت في القرآن لها معانٍ حسب السياق، قد تكون حرف ردع وزجر، وقد تكون بمعنى حقًّا، وقد يكون لها معانٍ أخرى يعينها السياق .
"كلا" هنا لم يسبقها كلام ينكر، لأنها وعيد للمطففين، فتكون هنا بمعنى حقا، وهذا ما اختاره ابن كثير -رحمه الله تعالى-.
يقول الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ بدأ بكتاب الفجار لأن المقام مقام وعيد، ولأن سور الانفطار انتهت بالحديث عن الفجار، فافتتحت هذه السورة أيضا بالحديث عنهم، ليكون الكلام متسقًا ومتصلًا.
قال: ﴿ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ أي مآلهم، ومصيرهم، وكتاب أعمالهم، وهؤلاء الفجار بما أنه جاء الاسم مستقلا ولوحده، فإنه يشمل الفجور في الاعتقاد، والفجور في العمل.
في سورة عبس قال الله -عز وجل-: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴿40تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴿41أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس 40 - 42]، لما ذكر الكفر والفجور فالكفر كفر الاعتقاد، والفجور فجور العمل، ميزنا بينهما.
لكن عندما يذكر الفجور وحده فإنه يشمل الاثنين:
- فجور الاعتقاد بتكذيب الرسل، تكذيب الآيات، الشرك بالله -عز وجل-.
- وفجور العمل بمثل ما ورد في أول السورة: ﴿ وَيلٌ لّلْمُطَفِّفِينَ ﴿1الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، ومثل ارتكاب المحرمات والولوغ في الموبقات، والوقوع في الكبائر وغيرها.
قال: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، سجين، صيغة فِعِّيل هذه مأخوذة في الأصل من السجن، فالكتاب في مكان يتسم بأنه سجن، وهذا يشمل وصفين:
الأول: السفول، أن يكون سافلًا.
والثاني: الضيق، فهو في مكان ضيق وسافل.
وهكذا كتاب الفجار، كما ورد في حديث البراء بن عازب وغيره: «أنه يكون في الأرض السابعة». ولا نعلم نحن أين هذه الأرض السابعة، لكن الله -سبحانه وتعالى- يعلمها، ونعلم أنها مكان سيئ وضيق، وأنه مكان سافل، لا يليق إلا بهؤلاء الفجار.
ثم قال على طريقة القرآن ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، "ما أدراك ما سجين" ليس سؤالًا عن السجين بقدر ما هو تهويل وتعظيم للسجين.
كما يقول مثلا: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴿11وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ [البلد: 11]، ﴿ الْقَارِعَةُ ﴿1مَا الْقَارِعَةُ ﴿2وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة 1-3]، يعني أي شيء هذه القارعة؟ إنها شيء عظيم، فظيع، مهول، ينبغي لمن يسمع أن يتألم وأن يخاف وأن يرهب.


قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، أي مكتوب مرقوم بخط لا يُمحى، فلا يُزاد فيه، ولا يُنقص منه، لا تتصور أيها الفاجر، أو أيها الكافر أنَّ اسمك سيَسقط من بين الأسماء .
قال: ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، "ويل" فيها قولين:
الأول: "ويل" واد في جهنم .
والثاني: "ويل" كلمة تهديد ووعيد، وهذا هو الظاهر من استعمالها في اللغة، خصوصًا وأن الأحاديث الواردة في بيان أن الويل وادٍ في جهنم لا ترقى إلى درجة الصحة.
قال: ﴿ وَيلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أي في ذلك اليوم ويل لمن كذب بالله، وبآياته وبرسله كذب بهذا القرآن الذي أُوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من دون بينة ومن دون أن يكون معه حجة وسلطان .
قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، والتكذيب بيوم الدين فرع عن التكذيب بالله رب العالمين وبرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبآيات الله الموحاة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
كلمة "الدين" تأتي بمعان متعددة:
- منها: الدين بمعنى الملة.
- ومنها: الدين بمعنى الجزاء والحساب، كما تقول العرب: "كما تدين تدان"، وكما في الأثر: " الكيس من دان نفسه" أي حاسبها وجازاها.
قال: ﴿ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿11وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ، ما يكذب بيوم الدين ﴿ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ هذا هو الوصف الأول، و﴿ أَثِيمٍ.
المعتدي هو الذي يتعدَّى الحد:
- إن كان في الاعتقاد: بالشرك بالله -عز وجل- أو تعظيم مخلوق وجعل مقامه كمقام الله، أو الاعتداء على الله بأن يجعل محله كمحل المخلوقين، ونحو ذلك.
- أو في الأعمال: كأن يعتدي على أموال الناس بالظلم، والتطفيف، والربا، والسرقة، والاغتصاب، أو يعتدي على أعراضهم بالزنا واللواط، وغيرها من الأفعال المذمومة، وكبائر الذنوب وغيرها.
﴿ أَثِيمٍ، أي آثم في نفسه.
الذنوب قسمان:
- قسم يكون فيه اعتداء.
- وقسم يكون مقتصرًا على النفس.
يعني كون الإنسان مثلا يُسيء الظن بالمسلمين، هذا إثم، كون الإنسان ينظر إلى شيء محرم، هذا ظلم منه لنفسه، فهم إثم، أما كونه يأخذ أموال الناس؛ فهذا اعتداء.
فهذا هو الفرق بين قوله ﴿ مُعْتَدٍ و﴿ أَثِيمٍ.
وبعض العلماء، أو بعض المفسرين يقول: "﴿ مُعْتَدٍ أي في أفعاله، ﴿ أَثِيمٍ في أقواله".
فالاعتداء تجاوز الحد في الطغيان .والإثم: أن تنتهك المحرم وتأتي به من غير أن يكون في ذلك اعتداء على الغير، أو تعد على الحد.
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا، إذا تليت عليه آيات القرآن، وهنا الآيات ليس المقصود بها آيات الله -عز وجل- التي في الكون، لأنه قال قبلها ؟ ﴿ تُتْلَى، فكلمة ﴿ تُتْلَى تبين لنا معنى "الآيات"، وأن المقصود بـ "الآيات" هنا الآيات الموحى بها؛ لأن آيات الله آيات كونية، وآيات شرعية.
- الآيات الشرعية: هي هذا الوحي الذي أوحاه الله -سبحانه وتعالى- إلى رسوله.
- والآيات الكونية: هي الشمس، والقمر، والسماء، والأرض، وغيرها.
قال -من اعتدائه وإثمه: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أي يرد هذه الآيات ببغي وعدوان، ومن دون حجة وبرهان، فيقول: هذه أساطير الأولين.
الأساطير معروف أنها مختلقة، وأنها تفتقد إلى المصداقية والصحة، وأنها في الغالب تكون أقرب إلى الخرافة، يعني الشيء غير المعقول.
قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا "كلا" هنا بمعنى الردع والزجر، لأن السياق الذي سبق فيه شيء يرد لأنهم قالوا: أساطير الأولين.
قال الله: كلا، ليس الأمر كما تقولون، ثم قال: ﴿ بَلْ، هذه ﴿ بَلْ للإضراب .
والإضراب نوعان:
- إضراب إبطالي.
- وإضراب انتقالي.
قال: ﴿ كَلَّا بَلْ هذا إضراب إبطالي، لإبطال كلامهم الذي تقدم.
﴿ بَلْ رَانَ معنى ﴿ رَانَ، الران: مأخوذ من الرين وهو الغطاء أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبون، الذي كانوا يكسبونه غطى على قلوبهم فعملهم السيئ قد غطى على قلوبهم فهم لا يعقلون ﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، هكذا عادت هؤلاء الكفار أو هؤلاء الضلال، أنهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم يغطي الله قلوبهم، ويحجبها عن سماع الحق وعن قبوله.
والعلماء يقولون الذي يغطي على القلب :
- الغين.
- الران.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة» معنى «ليغان على قلبي» يعني يصيبه شيء لطيف جدا من الحجاب بسبب مكابدة الدنيا وما يتصل بأعمال الإنسان وحياته فهذا الغشاء الرقيق جدا الذي لا يكاد يرى يسبب النبي -صلى الله عليه وسلم- بشيء من الضيق فيستغفر الله -سبحانه وتعالى- منه وهو في الغالب ليس من الذنوب، ولكن ما يصيب الإنسان من غفلة يسيرة يراها المقربون شيئًا عظيمًا في مقام علاقتهم بالله -سبحانه وتعالى-، ولذلك يبادرون إلى محوه، واستغفار الله -عز وجل- منه.
أما الران: فهو الحجاب الكثيف الذي يمنع وصول الحق والاستماع إليه والاستجابة له.
قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبهِم، والرين يكون على القلب، وليس على الأذن، ولا على البصر، ولا على اللسان.
﴿ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿14كَلَّا، أيضا ردع وزجر له لتأكيد هذا الردع والزجر لشدة ما قالوا لأنهم قالوا في كلام الله قولًا عظيمًا، قالوا: ﴿ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ، أي في يوم القيامة سيحجبون عن رؤية الله، لأنهم ما فتحوا أعينهم لرؤية آياته في الدنيا، فيجازون على ذلك بأنهم يوم القيامة يحجبون عن رؤية ربهم -سبحانه وتعالى-.
وهذه الآية استدل بها الإمام الشافعي على أمر يُعتبر من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،{استدل بها الإمام الشافعي على رؤية وجه الله في الآخرة}.
قال: إذا كان هؤلاء قد تُوعِّدوا على ما فعلوا بأنهم سيحجبون عن الله، دل ذلك على أن هناك قومًا وهم المؤمنون سيرون الله -سبحانه وتعالى- وسيكون ذلك من صميم نعيمهم.
وقد جاء بمنطوق هذا المفهوم آيات في القرآن، منها قول الله -عز وجل-: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴿22إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة 22، 23].
قال الله -عز وجل-: ﴿ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ، أي بعد حجبهم عن الله في يوم الموقف يصلون الجحيم.
ومعنى "صالوا" أي يُدخَلون النار فيصلون بحرها، ويقاسون عذابها.
﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ، إذا أدخلوا النار قيل لهم: ﴿ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ، هذا الذي كنتم تكذبون بحصوله وتحققه، انظروا إليه، وهذا يقال لهم على وجه التبكيت والاستهزاء بهم، جزاء ما استهزؤوا بآيات الله -عز وجل-.
قال الله -عز وجل-: ﴿ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بهِ تُكَذِّبُونَ ﴿17كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، هنا "كلا" جاءت وليس قبلها كلام ينفى أو يرد عليه، ولذلك تكون بمعنى حقًا.
قال الله -عز وجل-: ﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ ، أي كتاب أعمالهم، ومآلهم، ومصيرهم ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ.
وجاء بمؤكدات:
- "إن".
- و"لفي".
- وكونه جملة اسمية، ثلاث مؤكدات، لأنه يخاطب قوما منكرين.
والأبرار: جمع بر، والبر: هو من يتوسع في فعل الخير من صلاة، وصوم، زكاة، حج، عمرة، ذكر، قراءة قرآن، بر والدين، صلة رحم، متوسع في أفعال الخير .
قال الله -عز وجل-: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ، أي لفي علو، وهذه الكلمة اختلف فيها السلف:
- فمنهم من قال: ﴿ لَفِي عِلِّيِّينَ أي في السماء السابعة.
- ومنهم من قال: عند قائمة العرش اليمنى.
- ومنهم من قال: عند سدرة المنتهى.
- ومنهم من قال: في السماء.
والصحيح: أن ﴿ عِلِّيِّينَ مأخوذة من العلو، أي في علو عند الله -سبحانه وتعالى-، وقد جاء في حديث البراء الطويل، قال: «اكتبوا -أو ضعوا- كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة»، فهذا يدل على أن عليين في السماء السابعة، والله أعلم
كتابهم: أي مآلهم وكتاب أعمالهم، ولذلك قال بعده ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، هذا ليس على وجه الاستفهام المجرد الذي يراد به الجواب، وإنما يراد به التفخيم، والتعظيم، ولفت الانتباه، وشد الذهن إلى معرفة الأمر الفخيم العظيم.
قال: ﴿ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ، أي هؤلاء كُتبت أسماؤهم وأعمالهم كتابة لا تُمحى ولا يُزاد فيها ولا ينقص، مرقومة رقما كما يكتب وينقش على الحجارة.
قال الله -عز وجل-: ﴿ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ، أي يحضره من كل سماء مقربوها .
والمقربون: هم ملائكة الله -سبحانه وتعالى- الذي يقربهم الله ويدنيهم. يحضرونه ليباركوه، ليشهدوا عليه، وليحصل للمؤمن بشهود هؤلاء السعادة والسرور .
قال الله -عز وجل-: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، هذه على طريقة القرآن في كونه إذا ذكر الترهيب، يذكر بعده الترهيب، وإذا ذكر الوعد، يذكر بعده الوعد، وهكذا العكس، إذا ذكر الوعد، ذكر بعده الوعيد، إذا ذكر الجنة، ذكره بعده النار، إذا ذكر الترغيب، ذكر بعده الترهيب، لأن القرآن مثاني.
معنى مثاني: يعني تثنى فيه الأخبار، والوعد والوعيد، والأحكام، والقصص، وتكرر وتعاد، ويؤتى بها على صفة لا تحمل الإنسان على القنوط ولا على الرجاء الذي يخرجه عن الخوف، فهو دائما بين جناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء.
﴿ لَفِي نَعِيمٍ، وقد جاء بمؤكدين:
- الأول: "إن".
- والثاني: "لفي".
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، هذا النعيم هو نعيم الجنة .
هو نعيم الجنة، لكن لا يمنع أن تبقي الآية على إطلاقها، فإذا كان هذا نعيمهم في الجنة، فلهم نعيم قبله يعتبر تقدمة له، وهو نعيمهم في الدنيا، نعيم الإيمان، وطيب النفس، واليقين.
ونعيم في القبر، عندما يدخل المؤمن في قبره، ويفسح له مد بصره، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحانها.
قال الله -عز وجل-: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ السرر المزينة والمزخرفة، عليها ستور مرخاة، وفيها من أنواع الجمال والحبور واللذة وطيب المنظر، ما يجعلها مختلفة عن بقية السرر
قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، ينظرون إلى نعيمهم؟ أو ينظرون إلى بعضهم؟ أو ينظرون إلى ربهم؟ أو ينظرون إلى الكفار وهم في نار جهنم يكتوون بنارها؟
نقول: ما دام اللفظ مطلقا في القرآن فنبقيه على إطلاقه.
ولذلك من قال: ينظرون إلى نعيمهم؛ فهو صحيح.
ومن قال: ينظرون إلى بعضهم كما قال الله: ﴿ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [الحجر: 47]، قلنا صحيح.
ومن قال: ينظرون إلى ربهم؛ قلنا صحيح؛ لأن في الآيات المتقدمة واللاحقة ما يدل على ذلك.
ومن قال: ينظرون إلى إخوانهم الذين كانوا في الدنيا معهم، وكانوا على غير دينهم، ينظرون إليهم وهم في النار يصرخون من عذابها، فهو صحيح، لأنه ورد في سورة الصافات ما يدل على ذلك.
قال الله -عز وجل-: ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يعني ترى على وجوههم أثر النعمة، وأثر السرور والحبور، ويعرف دائما سرور الإنسان وحبوره، والتذاذه النفسي، وطيب قلبه، بما يرى على وجهه.
يقول عثمان بن عفان: "وما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحة وجهه وفلتات لسانه".
ففي وجوههم تعرف نضرة النعيم، كيف أنهم في مطعم طيب، وفراش طيب، ومسكن طيب، وأهل طيبين، ومكان منعم، كل ذلك يرى على صفحات وجوههم.
﴿ يُسْقَوْنَ، بدأ الآن في تفصيل النعيم، ﴿ يُسْقَوْنَ، قال: ﴿ يُسْقَوْنَ، ولم يقل: "يستقون"، لماذا؟
لأنهم يطوف عليهم غلمان مخلدون، يطوف عليهم غلمان يأتونهم بالماء، يأتونهم بالطعام، لأن الجنة دار لا عناء فيها ولا تعب.
قال: ﴿ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ، الرحيق هو: الخمر، رحيق الجنة خمرها.
﴿ مَّخْتُومٍ: هذه الكلمة وقع فيها خلاف بين السلف على ثلاثة أقوال :.
مختوم، قال بعض العلماء: أي خاتمته مسك.
وقيل: مختوم أي ممزوج يعني ممزوج ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ أي ممزوج بالمسك.
وقيل: مختوم أي عليه طابع وخاتم من مسك، أي ما طبع عليه وختم عليه من المسك.


قال الله -عز وجل- حاثا عباده على السعي لهذا النعيم بالإيمان، والعمل الصالح، واتقاء مظالم العباد: ﴿ وَفِي ذَلِكَ ، أي في مثل هذا النعيم ﴿ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، ليتسابق أهل السباق، قال الله: ﴿ وَمِزَاجُهُ أي خلطه، مخلوط بالتسنيم.

هذا التسنيم هو أعلى أشربة الجنة، ومنه سمي تسنيمًا لأن السنام هو العالي من الشيء، كما هو سنام البعير، فسمي أعلى أشربة الجنة بالتسنيم.
قال الله -عز وجل-: ﴿ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ، أي من شراب عال في الجنة، يخلط مع الرحيق الذي ذكره الله -عز وجل- في هذه الآية.
قال: ﴿ عَيْنًاالتسنيم هذا عين.
﴿ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، فالمقربون يشربون صرفا غير ممزوج من التسنيم، أما الأبرار فإنهم يشربون من الرحيق المختوم ممزوجا بالتسنيم؛ لأن منصبهم ومقامهم في الجنة دون منصب المقربين.
الآيات على اختصارها وإجمالها قد جمعت لنا أصناف المؤمنين في الجنة، فهناك المقربون، وهم المذكورون في سورة الواقعة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴿10أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة 10، 11]، وهناك أصحاب اليمين الذي هم الأبرار، وهذا هو الفرق في منازلهم في الجنة، وفي أعطياتهم، ونعيمهم.
قال: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ، يشرب ملتذا بها، لأن المقربين في الجنة لا يحتاجون إلى الشرب لسد العطش، ليس عندهم في الجنة عطش، وليسوا بحاجة إلى ماء أو خمر يرويهم من العطش، ولكنهم يشربون ليتلذذوا، ويأكلون لا ليسدوا الجوع، وإنما ليتلذذوا.
قال: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا، أي ملتذا أو يلتذ بها المقربون.
بعدما ذكر هذا النعيم، وذكر هذا العذاب، وأين كتاب الفجار، وأين كتاب الأبرار، ذكر لنا حال أولئك الذي كانوا يؤذون المؤمنين ويكذبون بكتاب الله -عز وجل-، وبرسوله -صلى الله عليه وسلمقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا أي في الدنيا، ﴿ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴿ يَضْحَكُونَ ، يستهزؤون ويسخرون، قال الله -عز وجل-: ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ ﴿ يَتَغَامَزُونَ يشيرون بالأيدي، بالشفاه، بالأعين، للاستهزاء والسخرية والانتقاص من أولئك المؤمنين.
﴿ وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ ، إذا رجعوا إلى أهلهم، ﴿ انقَلَبُوا فَكِهِينَ، أي متعجبين، أو مستهزئين ساخرين بأولئك الذين رأوهم من المؤمنين، فلا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا هؤلاء، قال: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ، رأوهم في المجالس، أو في أي مكان﴿ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ، بأي صورة من صور الضلال .
قال: ﴿ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، لم يجعل الله هؤلاء حافظين لأعمال هؤلاء، انشغلوا بأنفسكم، صححوا أوضاعكم، انظروا إلى أعمالكم، تركتم الحق، وسخرتم بالمؤمنين.
قال الله -عز وجل-: ﴿ فَالْيَوْمَ الذي هو يوم القيام، يوم يكون الناس فيه أبرارا وفجارا، هؤلاء في الجحيم وهؤلاء في النعيم.
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، كان هؤلاء في الدنيا يضحكون، إذن تنقلب الآية في الآخرة، فيضحك المؤمنون من الكفار كما ضحك الكفار في الدنيا من المؤمنين، جزاء وفاقا.
ثم قال: ﴿ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، يعني: والمؤمنون جالسون على الأرائك وهم ينظرون إلى الكفار فيضحكون منهم.
قال الله -عز وجل-: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ استفهام للتقرير، يعني هل جوزي، "ثوب" بمعنى: جوزي ﴿ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ، نعم لقد جوزي الكفار ما كانوا يفعلون، وأخذوا حظهم من العذاب جزاءً وفاقًا، لم يظلمهم الله -سبحانه وتعالى- شيئًا من أعمالهم.
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى