الصحبة الطيبة
عضو مميز
- إنضم
- 16 أبريل 2013
- المشاركات
- 199
- النقاط
- 16
- الإقامة
- القاهرة - مصر
- الموقع الالكتروني
- nasrtawfik.blogspot.com
- احفظ من كتاب الله
- اللهم أعينني علي دوام التلاوة والتدبر وحفظ القرآن كاملا
- احب القراءة برواية
- حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- محمد صديق المنشاوي والحصري والسديسي
- الجنس
- أخ وأسرتي
اجتنبوا كثيرا من الظن
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على عبدِه ورسولِهِ ومصطفاه، أما بعد
فتَمُرُّ بالأُمّةِ والفَرْدِ أوقاتٌ من الانتصار، ومثلُها من الانكسار، وأوقاتٌ من الفرح، وأُخرى من الحزن، فيُسَرّ بالأولى، ويَحزَنُ للثانية، ورُبما بَلَغَت عند البعضِ حَدَّ اليأسِ، أو إِساءة الظنِّ باللهِ وبإِخوانِه المسلمين، فأَورَثَه ذلك قُعوداً وإحباطاً.
ولا يَقتَصِرُ هذا الأمرُ على أفرادِ الناسِ أو آحادِهم وعوامِّهم؛ بل رُبما يَشمَلُ فئاتٍ كثيرةً من المجتمع؛ من علمائِه أو قادتِه أو غيرِهم، وهي طبيعةٌ حَدَّثَنا عنها القرآنُ الكريمُ في مواضِعَ كثيرة، لِنعالجَها ونَتَبَصّرَ الطريقَ إزاءَها.
وإذا عُدنا إلى قِصةِ الأَحْزاب؛ سنَتَذَكَّر أنّ الأحزابَ اجتمعتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من خارجِ المدينةِ وداخلِها؛ كقريشٍ ويهودٍ والمنافقين، ولكن لِنتأمَّل وَصْفَ القرآنِ لهذهِ الحال، إذ يقول: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب: 10، 11]، فتأمَّل التعبيرَ بقوله: " وتظنون بالله الظنونا " .
ثم يُعيدُ التاريخُ نَفسَه بَعدَ أكثرَ مِن ستةِ قرون، حين هَجَمَ التَّتارُ على بلادِ الإسلامِ، فيأتي الإمامُ ابنُ الأثير، وهو أحدُ كِبار المؤرِّخين فيقول: "لقد بَقِيتُ عِدَّةَ سنينَ مُعْرِضاً عن ذِكر هذه الحادثةِ – يقصد دخولَ التتارِ وإفسادِهم وقتلِهم في بلاد المسلمين– استعظاماً لها، كارِهاً لِذكرِها، فأنا أُقدِّم رِجْلاً، وأُؤخِّرُ أخرى، فمن يَسهُل عليه نعيُ الإسلامِ والمسلمين، ومَن الذي يَهُون عليه ذِكرُ ذلك، فيا لَيتَ أُمِّي لم تَلِدْني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْيَاً مَنسيّاً" (1).
تأمَّلوا معي هذه الروحَ التي غَلَبت عليه أثناءَ تَسطِيرِ هذه الكلمات، وهي من جِهةٍ تُحمدُ له على حُزنِهِ على ما أَصابَ الإسلامَ والمسلمين، لكن لا تُحمدُ له تلك النظرةُ التشاؤميةُ التي عاشَها ونَقلَها هذا المؤرّخُ إلى كلِّ من قَرَأَ كلماتِه هذه، ولكم أنْ تَتَساءلوا هل ماتَ الإسلامُ بعدَ هُجُومِ التَّتارِ عليه، أَمْ أنَّه اتَّسَعَ وانتَشَرَ، ووَصَل إلى أماكِنَ لم يَصِلْ إليها مِن قبل؟
بعضُ الناسِ - وبعضُهم فُضَلاء- قد يَقعُ - مِن حيث لا يشعر- فيما ذَمَّ اللهُ به طائفةً مِن المنافقين، وهم الذين قال الله عنهم: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[آل عمران: 154]، كما يَغِيبُ عنه الحديثُ القُدسي: " أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء"(2).
قال ابن القيّم رحمه الله: " وإنما كان هذا ظنُّ السوءِ وظنُّ الجاهليةِ المنسوب إلى أهل الجهل، وظنّ غيرِ الحق؛ لأنه ظنُّ غير ما يليقُ بأسمائِهِ الحسنى، وصفاتِه العليا، وذاتِه المبرَّأة مِن كلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ بحكمتِه وحمدِه، وتفرّدِه بالربوبية والألوهية، وما يليقُ بوعدِه الصادقِ الذي لا يخلِفُه، وبكلمتِه التي سَبَقت لِرُسُلِهِ أنه يَنصرُهم ولا يخذلُهم، ولجندِه بأنهم هم الغالبون، فمن ظنّ بأنه لا ينصرُ رسُولَه ولا يُتِمّ أمرَه، ولا يؤيدُه ويؤيدُ حِزبَه ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِه، ويُظهِرُهم عليهم؛ فقد ظَنّ باللهِ ظنَّ السوء"(3).
إذن فنحن مأمورون بحُسْنِ الظنّ بربنا، ومأمورون بالوثوقِ بحكمتِهِ وقدرتِهِ التي نجهَلُ بعضَها، ويغيبُ عنا بعضُها لِعَدَمِ بلوغِ عقولِنا مَرْحلةً عاليةً لِفَهْمِها، وتَظهرُ لنا آثارُ بعضِها في الحياةِ والكونِ والسنن، وحين نَشعُرُ بذلك الشعور؛ فإنه سيقوُدنا إلى الرضى والتسليم – بلا شك –، إضافةً إلى قدرٍ جيّدٍ مِن الراحةِ النفسيةِ؛ التي تُعينُنا على مواجهةِ مصائبِ الحياةِ ومصاعِبِها، وعندها ترتاحُ نفوسُنا، وتسكُنُ قلوبُنا.
وحتى نَستَشعِر أهميةَ هذا الأمر، لِنستمعَ إلى حديثِ جابرٍ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه، قال: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبل موتِه بثلاثةِ أيامٍ يقول: " لا يموتنّ أحدُكم إلّا وهو يُحسِنُ الظنَّ باللهِ عز وجلّ "(4).
إنُّ حسْنَ الظنّ باللهِ شأنُ المؤمنِ الموفَّقِ الواثقِ بربِّه، وهو الذي يجعلُه مُتفائِلاً في حياتِه، يَسيرُ باتجاه العملِ الفاعلِ المثمرِ البنّاء، مُتخَلِّياً عن اليأسِ والإِحباط، وهو ما سوف يُساعِدُه على الثبات أَمام العقباتُ التي تَعترضُه في حياتِه وعملِه ودعوتِه.
وبَعدَ أَنْ يُحسِنَ المرءُ الظنَّ بربِّه؛ فإنّه مأمورٌ بإحسانِ الظنِّ بإخوانِه المسلمين، ولْنَستمعَ سَويّاً قولَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12]، ولْنستمعَ أيضاً قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث"(5).
إنَّ حُسنَ الظنّ بالمسلمين يُورِثُ الأُلفةَ والمحبةَ بينهم، وفي المقابل؛ فإنَّ سوءَ الظنِّ يورثُ العداوةَ والبغضاءَ والحسد، الأمرَ الذي يدفعُ المرءَ إلى ارتكابِ جرائمَ وقبائحَ ليس لها حدّ، ولذلك جاءَ في تمامِ الآية: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}[الحجرات: 12]، كما جاء في تمام الحديث: "ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا و لا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً "(6).
لقد قَرَّر أهلُ العلمِ أنّ البُغضَ والحَسَدَ يَنشآنِ أولَ ما يَنشآن عن سوءِ الظنِّ بالآخرين، حيث يَتأول المرءُ أفعالَ إخوانِه أَيّاً كانت أَسوأَ تَأويل، وهذا واضحٌ ومُشاهدٌ، فكم يرى المرءُ أقواماً أَساؤوا الظنَّ بإخوانِهم؛ فَنَشأَ عن ذلك ما لا يخفى من الحقدِ والحسدِ والغِيبةِ والنميمة، ولو أنهم أَحسَنوا الظنَّ بهم لكانَ الأمرُ أهونَ من ذلك بكثيرٍ، ولمَ احتاجوا كلَّ ذلك، بل باتوا في راحةٍ واطمئنان.
كم هُدِمتْ بيوتٌ وأُسَر، بل كَم فُضّت عقودٌ وشراكات، وانهارت أعمالٌ؛ بسببٍ مِن سوءِ الظنّ، والشيطانُ واقفٌ يترصَّدُ ليوسِّعَ الشّرْخَ ويزيدُ في العداوة.
هذا؛ وإنّ حُسنَ الظنّ ليس مطلوباً مع كل أحدٍ، فربما يأتي مع أُناسٍ يجبُ أن لا نحسنَ الظنَّ بهم، فيغترّ بهم وبأعمالهم المرء، كحالِ بعضِ المنافقين، ففي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أظنّ فلاناً وفلاناً يعرفان من أمرِنا شيئاً "، قال الليث: " كانا رجلين من المنافقين "(7).
قال ابن حجر رحمه الله: "إنَّ مثلَ هذا الذي وَقَعَ في الحديث ليس من الظنِّ المنهيِّ عنه، لأنه في مَقَامِ التحذيرِ مِن مِثلِ مَن كان حالُه كحالِ الرجلين، والنهيُ إنما هو عن الظنِّ السوءِ بالمسلم السالم في دينِهِ وعرضِه، وقد قال ابن عمر: إنّا كنّا إذا فقدْنا الرجلَ في عِشاءِ الآخرةِ أَسأْنا به الظنّ، ومعناه: أنه لا يغيب إلا لأَمْرٍ سيء، إما في بدنِه، وإما في دينِه "(8).
إنّ هذا الأمرَ يقودُنا إلى أنْ لا نَكونَ أَغراراً تُلبَّس علينا الأمور، فيَستغلّنا البعضُ تحت حجةِ حُسْنِ الظنِّ بالآخَرين، فيُمرِّر علينا -وتحت نظرِنا وسمعِنا- ما يريدُ من أعمالٍ أو قراراتٍ أو أفكارٍ أو أخبار، بل المطلوبُ منا التمحيصُ؛ خاصّةً مع من لا تَظهرُ عدالتُه أو لا يظهرُ عدلُه، والتدقيقُ في الأمور، ومتابعتُها جيداً، حتى لا نقعَ في شَراكِ هؤلاء.
إننا إذ نتحدّثُ عن ذلك؛ نطرحُ الأمرَ من جانبيه، والمسلمُ مطلوبٌ منه ألّا يَفقِدَ حُسْنَ الظنِّ بالمسلمين، كما أنّه مَطلوبٌ منه ألا يحسنَ الظنَّ بكلِّ أحدٍ {وكان بين ذلك قواماً}.
اللهم طهِّر قلوبَنا مِن أمراضِها، وارزقنا القصدَ في الفقرِ والغنى، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د . محمد بن مصطفي السيد
______________________________
(1) "الكامل في التاريخ" لابن الأثير 10/333
(2) رواه البخاري (7505)، ومسلم (2675) عن أبي هريرة –رضي الله عنه-: بلفظ: (أنا عند ظن عبدي بي).
(3) "زاد المعاد" 3/205
(4) رواه مسلم (2877).
(5) رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563)
(6) التخريج السابق.
(7) البخاري (6067).
(8) فتح الباري 10/486
الحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على عبدِه ورسولِهِ ومصطفاه، أما بعد
فتَمُرُّ بالأُمّةِ والفَرْدِ أوقاتٌ من الانتصار، ومثلُها من الانكسار، وأوقاتٌ من الفرح، وأُخرى من الحزن، فيُسَرّ بالأولى، ويَحزَنُ للثانية، ورُبما بَلَغَت عند البعضِ حَدَّ اليأسِ، أو إِساءة الظنِّ باللهِ وبإِخوانِه المسلمين، فأَورَثَه ذلك قُعوداً وإحباطاً.
ولا يَقتَصِرُ هذا الأمرُ على أفرادِ الناسِ أو آحادِهم وعوامِّهم؛ بل رُبما يَشمَلُ فئاتٍ كثيرةً من المجتمع؛ من علمائِه أو قادتِه أو غيرِهم، وهي طبيعةٌ حَدَّثَنا عنها القرآنُ الكريمُ في مواضِعَ كثيرة، لِنعالجَها ونَتَبَصّرَ الطريقَ إزاءَها.
وإذا عُدنا إلى قِصةِ الأَحْزاب؛ سنَتَذَكَّر أنّ الأحزابَ اجتمعتْ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من خارجِ المدينةِ وداخلِها؛ كقريشٍ ويهودٍ والمنافقين، ولكن لِنتأمَّل وَصْفَ القرآنِ لهذهِ الحال، إذ يقول: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب: 10، 11]، فتأمَّل التعبيرَ بقوله: " وتظنون بالله الظنونا " .
ثم يُعيدُ التاريخُ نَفسَه بَعدَ أكثرَ مِن ستةِ قرون، حين هَجَمَ التَّتارُ على بلادِ الإسلامِ، فيأتي الإمامُ ابنُ الأثير، وهو أحدُ كِبار المؤرِّخين فيقول: "لقد بَقِيتُ عِدَّةَ سنينَ مُعْرِضاً عن ذِكر هذه الحادثةِ – يقصد دخولَ التتارِ وإفسادِهم وقتلِهم في بلاد المسلمين– استعظاماً لها، كارِهاً لِذكرِها، فأنا أُقدِّم رِجْلاً، وأُؤخِّرُ أخرى، فمن يَسهُل عليه نعيُ الإسلامِ والمسلمين، ومَن الذي يَهُون عليه ذِكرُ ذلك، فيا لَيتَ أُمِّي لم تَلِدْني، ويا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نَسْيَاً مَنسيّاً" (1).
تأمَّلوا معي هذه الروحَ التي غَلَبت عليه أثناءَ تَسطِيرِ هذه الكلمات، وهي من جِهةٍ تُحمدُ له على حُزنِهِ على ما أَصابَ الإسلامَ والمسلمين، لكن لا تُحمدُ له تلك النظرةُ التشاؤميةُ التي عاشَها ونَقلَها هذا المؤرّخُ إلى كلِّ من قَرَأَ كلماتِه هذه، ولكم أنْ تَتَساءلوا هل ماتَ الإسلامُ بعدَ هُجُومِ التَّتارِ عليه، أَمْ أنَّه اتَّسَعَ وانتَشَرَ، ووَصَل إلى أماكِنَ لم يَصِلْ إليها مِن قبل؟
بعضُ الناسِ - وبعضُهم فُضَلاء- قد يَقعُ - مِن حيث لا يشعر- فيما ذَمَّ اللهُ به طائفةً مِن المنافقين، وهم الذين قال الله عنهم: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[آل عمران: 154]، كما يَغِيبُ عنه الحديثُ القُدسي: " أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظنّ بي ما شاء"(2).
قال ابن القيّم رحمه الله: " وإنما كان هذا ظنُّ السوءِ وظنُّ الجاهليةِ المنسوب إلى أهل الجهل، وظنّ غيرِ الحق؛ لأنه ظنُّ غير ما يليقُ بأسمائِهِ الحسنى، وصفاتِه العليا، وذاتِه المبرَّأة مِن كلِّ عيبٍ وسوء، بخلافِ ما يليقُ بحكمتِه وحمدِه، وتفرّدِه بالربوبية والألوهية، وما يليقُ بوعدِه الصادقِ الذي لا يخلِفُه، وبكلمتِه التي سَبَقت لِرُسُلِهِ أنه يَنصرُهم ولا يخذلُهم، ولجندِه بأنهم هم الغالبون، فمن ظنّ بأنه لا ينصرُ رسُولَه ولا يُتِمّ أمرَه، ولا يؤيدُه ويؤيدُ حِزبَه ويُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائِه، ويُظهِرُهم عليهم؛ فقد ظَنّ باللهِ ظنَّ السوء"(3).
إذن فنحن مأمورون بحُسْنِ الظنّ بربنا، ومأمورون بالوثوقِ بحكمتِهِ وقدرتِهِ التي نجهَلُ بعضَها، ويغيبُ عنا بعضُها لِعَدَمِ بلوغِ عقولِنا مَرْحلةً عاليةً لِفَهْمِها، وتَظهرُ لنا آثارُ بعضِها في الحياةِ والكونِ والسنن، وحين نَشعُرُ بذلك الشعور؛ فإنه سيقوُدنا إلى الرضى والتسليم – بلا شك –، إضافةً إلى قدرٍ جيّدٍ مِن الراحةِ النفسيةِ؛ التي تُعينُنا على مواجهةِ مصائبِ الحياةِ ومصاعِبِها، وعندها ترتاحُ نفوسُنا، وتسكُنُ قلوبُنا.
وحتى نَستَشعِر أهميةَ هذا الأمر، لِنستمعَ إلى حديثِ جابرٍ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه، قال: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قبل موتِه بثلاثةِ أيامٍ يقول: " لا يموتنّ أحدُكم إلّا وهو يُحسِنُ الظنَّ باللهِ عز وجلّ "(4).
إنُّ حسْنَ الظنّ باللهِ شأنُ المؤمنِ الموفَّقِ الواثقِ بربِّه، وهو الذي يجعلُه مُتفائِلاً في حياتِه، يَسيرُ باتجاه العملِ الفاعلِ المثمرِ البنّاء، مُتخَلِّياً عن اليأسِ والإِحباط، وهو ما سوف يُساعِدُه على الثبات أَمام العقباتُ التي تَعترضُه في حياتِه وعملِه ودعوتِه.
وبَعدَ أَنْ يُحسِنَ المرءُ الظنَّ بربِّه؛ فإنّه مأمورٌ بإحسانِ الظنِّ بإخوانِه المسلمين، ولْنَستمعَ سَويّاً قولَ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات: 12]، ولْنستمعَ أيضاً قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم والظنَّ فإن الظنَّ أكذبُ الحديث"(5).
إنَّ حُسنَ الظنّ بالمسلمين يُورِثُ الأُلفةَ والمحبةَ بينهم، وفي المقابل؛ فإنَّ سوءَ الظنِّ يورثُ العداوةَ والبغضاءَ والحسد، الأمرَ الذي يدفعُ المرءَ إلى ارتكابِ جرائمَ وقبائحَ ليس لها حدّ، ولذلك جاءَ في تمامِ الآية: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}[الحجرات: 12]، كما جاء في تمام الحديث: "ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا و لا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً "(6).
لقد قَرَّر أهلُ العلمِ أنّ البُغضَ والحَسَدَ يَنشآنِ أولَ ما يَنشآن عن سوءِ الظنِّ بالآخرين، حيث يَتأول المرءُ أفعالَ إخوانِه أَيّاً كانت أَسوأَ تَأويل، وهذا واضحٌ ومُشاهدٌ، فكم يرى المرءُ أقواماً أَساؤوا الظنَّ بإخوانِهم؛ فَنَشأَ عن ذلك ما لا يخفى من الحقدِ والحسدِ والغِيبةِ والنميمة، ولو أنهم أَحسَنوا الظنَّ بهم لكانَ الأمرُ أهونَ من ذلك بكثيرٍ، ولمَ احتاجوا كلَّ ذلك، بل باتوا في راحةٍ واطمئنان.
كم هُدِمتْ بيوتٌ وأُسَر، بل كَم فُضّت عقودٌ وشراكات، وانهارت أعمالٌ؛ بسببٍ مِن سوءِ الظنّ، والشيطانُ واقفٌ يترصَّدُ ليوسِّعَ الشّرْخَ ويزيدُ في العداوة.
هذا؛ وإنّ حُسنَ الظنّ ليس مطلوباً مع كل أحدٍ، فربما يأتي مع أُناسٍ يجبُ أن لا نحسنَ الظنَّ بهم، فيغترّ بهم وبأعمالهم المرء، كحالِ بعضِ المنافقين، ففي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أظنّ فلاناً وفلاناً يعرفان من أمرِنا شيئاً "، قال الليث: " كانا رجلين من المنافقين "(7).
قال ابن حجر رحمه الله: "إنَّ مثلَ هذا الذي وَقَعَ في الحديث ليس من الظنِّ المنهيِّ عنه، لأنه في مَقَامِ التحذيرِ مِن مِثلِ مَن كان حالُه كحالِ الرجلين، والنهيُ إنما هو عن الظنِّ السوءِ بالمسلم السالم في دينِهِ وعرضِه، وقد قال ابن عمر: إنّا كنّا إذا فقدْنا الرجلَ في عِشاءِ الآخرةِ أَسأْنا به الظنّ، ومعناه: أنه لا يغيب إلا لأَمْرٍ سيء، إما في بدنِه، وإما في دينِه "(8).
إنّ هذا الأمرَ يقودُنا إلى أنْ لا نَكونَ أَغراراً تُلبَّس علينا الأمور، فيَستغلّنا البعضُ تحت حجةِ حُسْنِ الظنِّ بالآخَرين، فيُمرِّر علينا -وتحت نظرِنا وسمعِنا- ما يريدُ من أعمالٍ أو قراراتٍ أو أفكارٍ أو أخبار، بل المطلوبُ منا التمحيصُ؛ خاصّةً مع من لا تَظهرُ عدالتُه أو لا يظهرُ عدلُه، والتدقيقُ في الأمور، ومتابعتُها جيداً، حتى لا نقعَ في شَراكِ هؤلاء.
إننا إذ نتحدّثُ عن ذلك؛ نطرحُ الأمرَ من جانبيه، والمسلمُ مطلوبٌ منه ألّا يَفقِدَ حُسْنَ الظنِّ بالمسلمين، كما أنّه مَطلوبٌ منه ألا يحسنَ الظنَّ بكلِّ أحدٍ {وكان بين ذلك قواماً}.
اللهم طهِّر قلوبَنا مِن أمراضِها، وارزقنا القصدَ في الفقرِ والغنى، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د . محمد بن مصطفي السيد
______________________________
(1) "الكامل في التاريخ" لابن الأثير 10/333
(2) رواه البخاري (7505)، ومسلم (2675) عن أبي هريرة –رضي الله عنه-: بلفظ: (أنا عند ظن عبدي بي).
(3) "زاد المعاد" 3/205
(4) رواه مسلم (2877).
(5) رواه البخاري (5143)، ومسلم (2563)
(6) التخريج السابق.
(7) البخاري (6067).
(8) فتح الباري 10/486
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع