الاستــــعـــاذة المحتاج إلى معرفته في هذا الباب لفظ الاستعاذة، وصورة استعمالها:
فأما لفظها: فلم يأت فيه عن أحد من السبعة نص، وقد قال أبو الحسن أحمد بن يزيد الحلواني: ليس للاستعاذة حد تنتهي إليه، من شاء زاد، ومن شاء نقص.
واختلف أهل الأداء فيها اختلافا شديدا، فقال لنا أبو القاسم -رحمه الله- عن أبي معشر، عن الرفاعي1، عن الخزاعي: إنه قرأ على أبي عدي لورش:
"أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم" وهي رواية أهل مصر عن ورش, فيما ذكر الأهوازي.
وبه قرأت على أبي القاسم من طريقه، وكذا روي ابن الشارب عن الزينبي2 عن قنبل، وليست رواية الزينبي في كتابي هذا، ولكني لا أزال أذكر الشيء من رواية لم أضمنها الكتاب على طريق الفائدة والتنبيه، وتنشيط القارئ إلى طلب تلك الروايات والبحث عنها، فاعلمه.
وقيل عن نافع أيضا: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم".
وقيل عن ابن عامر والكسائي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم" وبه أخذ أبو علي بن حبش في رواية السوسي، وأراه اختيارا منه كما اختار التكبير من {وَالضُّحَى} وكان يأخذ به لجميع القراء.
وقيل عن هبيرة3 عن حفص: "أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم".
1 هو: محمد بن يزيد بن رفاعة "طبقات ابن الجزري 2/ 280".
2 انظر طريقه في كتاب "المستنير" لابن سوار و"الكفاية الكبرى" لأبي العز، و"الغاية" لابن مهران، وكلها صادرة عن الدار، والزينبي: هو محمد بن موسى بن محمد، أبو بكر الزينبي الهاشمي.
3 ليس من طرق الكتاب، وانظر طريقه في الكتب السابقة.
وقيل عن حمزة: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم" وقيل عنه أيضا: "أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم".
واختار بعضهم لجميع القراء: "أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي".
ولكل لفظ من ألفاظ الاستعاذة1 وجه يستند إليه، وقولهم: "الاستعاذة" يصلح بهذه الألفاظ كلها، ولا يعين واحد منها.
والذي صار إليه معظم أهل الأداء، وأختاره لجميع القراء: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لما روى عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجبير بن مطعم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه، وجاء تصديقه في التنزيل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فندبه إلى استعمال هذا اللفظ عندما يريد القراءة، والمعنى: فإذا أردت فقراءة القرآن.
وأما صورة استعمالها, فالقراء فيه على ثلاثة أقسام:
قسم ورد عنه إخفاؤها.
وقسم ورد عنه الجهر بها.
وقسم لم يرد عنه نص على إخفاء, ولا جهر.
القسم الأول: ينقسم ثلاثة أقسام: الإخفاء في جميع القرآن وفاتحة الكتاب، والإخفاء في جميع القرآن إلا فاتحة الكتاب، والتخيير بين الإخفاء والجهر.
فأما الإخفاء في جميع القرآن وفاتحة الكتاب: فرواه خلف وأبو حمدون2 عن المسيبي عن نافع، وإبراهيم بن زربي عن سليم عن حمزة.
وأما الإخفاء في جميعه إلا فاتحة الكتاب: فرواه الحلواني عن خلف.
1 انظر قول ابن الجزري في "النشر" صدر عن الدار.
2 أبو حمدون الطيب بن إسماعيل, قرأ على إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن المسيبي، انظر طريقه في كتب "المستنير" و"الكفاية" و"الغاية".
وأما التخيير: فرواه الحلواني عن خلاد.
وهل تدخل أم القرآن في التخيير؟
فعندي أنها لا تدخل؛ حملا على روايته عن خلف.
القسم الثاني: روى القصباني عن محمد بن غالب عن شجاع1 عن أبي عمرو إخفاء الميم من "الرجيم" عند الباء من "بسم الله الرحمان ارحيم" إذا آثر الإدغام، وهذا يقتضي الجهر، وكذلك ورد عن أبي حمدون عن اليزيدي عن أبي عمرو أداء.
وذكر عثمان بن سعيد أن ما ورد عن أبي عمرو من الجهر أداء لا نص.
القسم الثالث: سائر القراء لم يرد عنهم نص عن جهر, ولا إخفاء.
والمختار للجماعة الجهر بالاستعاذة2، وقد صارت رواية الإخفاء عندهم كالمرفوضة، ورب شيء هكذا يروى ثم يسقط العمل به، وسيمر بك في هذا الكتاب من ذلك أشياء إن شاء الله.
قال أبو جعفر: الاستعاذة مقدمة على التسمية عند ابتداء القراءة لا عند انتهائها، سواء بدأت بأول سورة أو رأس جزء أو غيرهما، ولك أن تصلها بالتسمية في نَفَس واحد وهو أتم؛ لأنك تكمل الاستفتاح، ولك أن تسكت3 عليها ولا تصلها بالتسمية، وذلك أشبه بمذهب أهل الترتيل، فأما من لم يسم فالأشبه عندي أن يسكت عليها ولا يصلها بشيء من القرآن، ويجوز وصلها به، والله أعلم.
1 انظر روايته في "المستنير" وغيره.
2 وقيل: يجهر بها في حالات ويسر بها في حالات، فيسر بها في الصلاة والقراءة منفردا، انظر "النشر" باب الاستعاذة، صدر عن الدار.
3 المراد به سكت مع تنفس ومعروف الآن بالقطع، أي: الوقوف عليها ثم استئناف التلاوة.