تابع باب الامامة
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري -رضي الله عنه- قال: ( حدثني البراء بن عازب وهو غير كذوب، قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا قال: سمع الله لمن حمده لم يَحْنِ أحدٌ منا ظهره حتى يقع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ساجدا، ثم نقع سجودا بعده ) ).
تأخر المأموم في الاقتداء عن فعل الإمام حتى يتلبس الإمام بالركن.
فالحديث يدل على تأخر الصحابة -رضي الله عنهم- في الاقتداء عن فعل رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حتى يتلبس بالركن الذي ينتقل إليه، لا حين يشرع في الهوي إلى الركن، بعدما يتلبس بالركن وينتقل إليه يبتدئون هم الحركة.
وفي هذا دليل على طول الطمأنينية من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا ) فهذا يدل على أن المأموم يتأخر عن الإمام حتى يتلبس الإمام بالركن.
وقد علمنا أنه يحرم على المأموم أن يسبق الإمام، وذكرنا أن الفقهاء قالوا أيضاً: يكره أن نساوي الإمام في الحركة، وأيضاً لا يتأخر عنه بأكثر من حركة ( إذا ركع فاركعوا ) وهذا يقتضي التعقيب وراء حركة الإمام، الفاء هنا للتعقيب فلا يتأخر عن الإمام بأكثر من ركن.
فأيضاً هذا من أحكام الإمامة في هذا الباب، فلا يتقدم المأموم على الإمام في حركة، ولا يساويه، ولا يتأخر عنه بأكثر من ركن.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: ( إذا أمَّن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
موضوع هذا الحديث هو: جهر الإمام بالتأمين، كما هو واضح في الحديث ( إذا أمن الإمام ) فالحديث يدل على أن الإمام يؤَمِّن.
وهو اختيار الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- واختيار غيره أيضاً من أهل العلم، واختار الإمام مالك -رحمه الله تعالى- أن التأمين للمأمومين وأن الإمام لا يؤَمِّن.
وأيضاً لعله يُؤخذ من نص الحديث أن الإمام يجهر بالتأمين أنه قال: (إذا أمن الإمام فأمنوا ) فإنه -صلوات الله وسلامه عليه- علق تأمين المأمومين بتأمين الإمام، فلابد أن يكونوا عالمين به، وذلك لا يكون إلا بالسماع من الإمام.
والذين قالوا: إن الإمام لا يؤمن. أوَّلوا قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إذا أمن الإمام ) فهذا صريح أن الإمام يؤَمِّن، أوَّلوا على بلوغه إلى موضع التأمين وهو خاتمة الفاتحة، أي: إذا قال: ﴿ وَلاَ الضَّالِّين ﴾ فقولوا آمين، أي: أنه إذا بلغ التأمين فأمِّنوا، يعني استدلالا باللغة إذا قيل: إن الرجل أنجد، أي: وصل أو بلغ نجدا، وإذا قيل: إن الرجل أتهم بلغ تهامة، وإذا أحرم، أي: بلغ الحرم، فـ ( إذا أمَّن ) أي: إذا بلغ التأمين ( فأمِّنوا ) على هذا يكون هذا الكلام مجازا، والذي جعلهم يقولون ذلك في حديث آخر ( إذا قال الإمام: ﴿ وَلاَ الضَّالِّين ﴾ فقولوا: آمين ) فإن وُجد دليل يرجح قولهم وإلا فالأصل هو الحقيقة، والأصل عدم المجاز، فهم استدلوا برواية أبي صالح عن أبي هريرة عند البخاري ( إذا قال الإمام: ﴿ وَلاَ الضَّالِّين﴾ فقولوا: آمين ) قالوا: والجمع بين الروايتين يقتضي حمل قوله: ( إذا أمن الإمام ) على المجاز جمعا بين هذه الرواية وهذه الرواية. ورَدَّ الجمهور هذا الجمع بأن المراد بقوله: ( إذا أمن الإمام ) أي: إذا أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم معاً.
واستدل مالكا -رحمه الله تعالى- بعمل أهل المدينة كما يقول ابن دقيق العيد -عليه رحمة الله تعالى- ورجح مذهبه بذلك.
فالحديث دليل على أن الإمام يؤَمِّن، وأيضاً دلالة الحديث على أن الإمام يؤَمِّن ويجهر بالتأمين؛ لأنه يُمكن أن يؤَمِّن ولا يجهر بالتأمين: ( إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ) فدليل الجهر استدل عليه البخاري -رحمه الله تعالى- بهذا الحديث، فترجم عليه الجهر بالتأمين وساق حديث أبي هريرة لأنه علق تأمين الناس بتأمين الإمام ولا يكون ذلك إلا بسماع تأمين الإمام.
وخالف آخرون وقالوا: يُسر مطلقاً. أي: يسر بالتأمين مطلقاً، لكن الظاهر هنا أن الإمام يؤَمِّن والمأمون يؤَمِّن معه؛ لظاهر الحديث الذي ذكرناه حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ( إذا أمن الإمام فأمنوا ).
وأيضاً في الحديث موافقة تأمين الإمام لتأمين الملائكة مَن فَعَلَ ذلك (غفر له ما تقدم من ذنبه ) كما قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- والموافقة هنا يعني ( من وافق تأمينه تأمين الملائكة ) إذن تأمين الإمام وتأمين المأمومين؛ لأنه قلنا: إن الإمام يؤَمِّن مع المأمومين، فإذا وافق تأمين الإمام وتأمين المأمومين تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبهم.
هذه الموافقة هل هي الموافقة في الزمان؟ إذا وافق وقت تأمين الملائكة وقت تأمين الإمام والمأمومين غفر له ما تقدم من ذنبهم أم الموافقة في الصفة إخلاص التأمين وغير ذلك؟ فالظاهر أن الموافقة تكون في الزمان، ويحتمل أن تكون في الزمان والصفة، لكن الأظهر هو أن تكون الموافقة في الزمان ( فإذا أمن الإمام فأمنوا ) معناه أن الإمام يؤَمِّن والمأمومين يؤَمِّنون معه والأحاديث على هذا وكذلك ( من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه) في الوقت وفي الإخلاص على قول، أو في الوقت فقط على الوقت الآخر وهو أظهر لظاهر الحديث.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ( إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فلْيُطَوِّل ما شاء ) عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، قال: فما رأيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز؛ فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجة )
الحديثان يدلان على أمر الأئمة بالتخفيف مراعاة لأحوال الناس، فحديث أبي هريرة وأبي مسعود يدلان على ذلك، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وهي المشقة اللاحقة بالمأمومين؛ فلذلك أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- الأئمة بالتخفيف.
وكما يقول ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: في المسألة بحثان:
الأول أنه لما ذُكِرت العلة وجب أن يتبعها الحكم، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فحيث وُجدت المشقة فالإمام مأمور بالتخفيف، وحيث لا يشق عليه جاز له أن يُطَوِّل ولا يكره التطويل. ومما لا شك هذا يكون في مكان مغلق، لكن في أئمة المساجد فلا يعلم من يأتي فالأصل أنه يخفف، لكن إذا صلى جماعة في مكان مغلق وارتضوا التطويل فلهم ذلك؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
وعلى هذا قال الفقهاء: إذا عُلم من المأموين أنهم يؤثرون التطويل طَوَّل، كما إذا اجتمع قوم لقيام الليل مثلاً، فإن ذلك وإن شق عليهم فقد آثروه ودخلوا عليه ورضوا به.
المبحث الثاني: التطويل والتخفيف من الأمور الإضافية. فقد يكون الشيء طويلا بالنسبة إلى عادة قوم ويكون خفيفا بالنسبة إلى آخرين، وقال الفقهاء: إنه لا يزيد الإمام على ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود. والمروي عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكثر من ذلك مع أمره بالتخفيف كما في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- ( كان يعد خلف النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عشر تسبيحات ) فكأن الصحابة -رضي الله عنهم - لشدة رغبتهم في الخير يقتضي ألا يكون ذلك تطويلا بالنسبة لهم، وهذا إذا فعل النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- ذلك دائماً في صلواته أو في أكثرها، وإن كان خاصا ببعضها أي: ببعض الصلوات فيكون النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- رآى أنهم في هذه الحالة مستعدين للتطويل فطوَّل بهم، وفي حالة أخرى الأمر لا يحتمل ذلك فلم يطول بهم.
وعلى هذا تجتمع الأحاديث؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- صلى مرة في المغرب بالأعراف ومرة بالطور، ومما لا شك هذه صور طويلة فصلى بها، لكن لم يكن ذلك غالب أحواله -صلوات الله وسلامه عليه- غالبًا كان يقرأ في المغرب بقصار المفصل؛ ولذلك نقل ذلك مرة فعَلَه النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فلعله علم من أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- أنهم مستعدون للتطويل في ذلك الوقت وإلا فالأصل هو التخيف.
لذلك يقول ابن دقيق العيد -رحمه الله تعالى-: « الشيء قد يكون طويلاً أو يكون خفيفا بالنسبة لعادة قوم طويل وبالنسبة لعادة آخرين خفيف » فيكون على هذا التطويل والتخفيف أمرا نسبيا. فعلى هذا ينبغي للأئمة مطلقاً ألا يطيلوا إذا كانوا في مكان غير مغلق، أما إذا كانوا في مكان مغلق فهذا على حسب أحوال القوم إن رضوا التطويل طولوا وإلا فلا.