- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
الدرس الخامس
تابع باب الأذان - باب استقبال القبلة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم).
في الحديث عدة وجوه سنتكلم عنها :
أولا: في الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنَيْن ( إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وفي المسجد الواحد يجوز أن نتخذ مؤذنَيْن، وأما الاقتصار على مؤذن واحد فجائز ولا يكره هذا، ، وقد استحب بعض أصحاب الشافعي أن يكون في المسجد الواحد أربعة، على كل جانب من الجوانب مؤذن لإبلاغ جميع الجهات، وكرهوا أكثر من ذلك، وإن كان الحديث لم يتعرض لأكثر من مؤذنَيْن.
ثانيا : إذا كان هناك أكثر من مؤذن في المسجد فيستحب أن يترتبوا، وهذا إذا اتسع الوقت وهذا في وقت الفجر خصوصا، فالذي يؤذن أولا يكون معلوما بصوته، والذي يؤذن بعده يكون أيضاً معلوما حتى لا يقع التلبيس على الناس، فدائما كان الذي يؤذن أولا هو بلال ( إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فلو أذن بلال متأخرا لتلبس ذلك على الناس، فيستحب أن يترتب المؤذنون في هذا الأمر.
ثالثا : في الحديث جواز أن يكون المؤذن أعمى، ابن أم مكتوم كان أعمى كما هو معروف.
رابعا: في الحديث دليل جواز تقليد الأعمى للبصير في الوقت؛ لأن ابن أم مكتوم كان لا يعرف دخول الوقت إلا عن طريق بلال، فكان بلال ينزل ويقول له: « أصبحنا أصبحنا » أو يقال له: أصبحت أصبحت فيصعد ابن أم مكتوم ويؤذن، فهذا يدل على رجوعه إلى البصير ليعلم دخول الوقت، ففيه جواز تقليلد البصير في الوقت.
خامسا : في الحديث دليل على جواز الأذان للصبح قبل دخول وقته، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم طبعا (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) لكن نُقِل عن أبي حنيفة خلاف ذلك قياسا على سائر الصلوات أنه لا يجوز الأذان قبل الوقت، لكن ورد دليل في الفجر بخصوصه بجواز الأذان قبل الوقت، فالحديث حجة على من يقول بخلاف هذا.
وأيضاً والذين قالوا بجواز الأذان قبل وقت الصبح اختلفوافي وقته : ذكرت طائفة أنه يكون في وقت السحر قبل الفجر ويكره التقديم على ذلك الوقت. أي: يكون قبل دخول الوقت بقليل، وقد يستأنس لهذا القول من قوله -صلوات الله وسلامه عليه-: (إن بلالا يؤذن بليل) فـ ( يؤذن بليل ) هذا إخبار لابد أن يتعلق به فائدة للسامعين قطعا (يؤذن بليل) وذلك بأن يكون وقت الأذان مشتبَها، يعني: هل دخل الوقت أم لا؟ فمعنى ذلك أنه يكون قبل طلوع الفجر بقليل، فبَيَّنَ أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب (إن بلالا يؤذن بليل) فهذا يدل على أن الأذان الأول قريب من الأذان الثاني، وقد حدده البعض بقدر ما ينزل هذا ويصعد هذا، يعني: الفرق بينهما قليل، أو بقدر ما يقرأ ثلاثين آية أو ما شابه ذلك، فالوقت بين الأذانين قليل قد لا يتجاوز الثلث ساعة أو ما يقرب منها.
من الفوائد المتعلقة بالحديث:
يستحب أن يقول بعد حيعلة أذان الفجر، أي بعد « حي على الصلاة حي على الفلاح» أن يقول المؤذن: « الصلاة خير من النوم» وهذا ما يسميه العلماء بالتثويب .
والتثويب لغة معناه: العود إلى الإعلام بعد الإعلام، والتثويب يطلق على ثلاث معانٍ:
تثويب الفجر وهو أنه يقول في الأذان بعد الحيعلة: « الصلاة خير من النوم » وهو سنة طبعا لحديث أنس الوارد في ذلك: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: « حي على الفلاح » قال: « الصلاة خير من النوم » مرتين ) هذا الحديث [رواه ابن خزيمة] وله حكم الرفع لأن أنس يقول: « من السنة » وإذا قال الصحابي « من السنة » فهذا له حكم الرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فالتثويب يطلق على تثويب الفجر، وهو « الصلاة خير من النوم » وهذا السنة.
ويطلق أيضاً على التأذين بعد التأذين، أو الإعلام بعد الإعلام وهذا بدعة، فإذا أذن المؤذن للظهر مثلا ثم نادى: الصلاة يا عباد الله أو ما شابه ذلك، أو: الصلاة يا أمير المؤمنين أو ما شابه هذا من الأقوال فهذا بدعة.
وأيضاً التثويب يطلق على الإقامة؛ لأن الإقامة أذان ( بين كل أذانين صلاة ) كما صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسمى الإقامة أذانا، فالإقامة تعد تثويبا؛ لأنها أذان بعد الأذان، وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث في الصحيحين أيضاً: (إذا ثُوِّبَ للصلاة أدبر الشيطان حتى إذا قُضِي التثويب أقبل ) فسمى الإقامة أيضاً أو الأذان التثويب ( إذا ثُوِّب للصلاة ) إذا نودي للصلاة أو إعادة الإعلام بعد الإعلام كما هو معلوم لغة .
فالتثويب يطلق على ثلاثة معان هي:
المعنى الأول: هو التثويب في صلاة الفجر وهو سنة.
المعنى الثاني: التثويب بعد أي صلاة وهو بدعة.
المعنى الثالث: والإقامة وهو مشروع.
الفائد الثانية: هل التثويب في الأذان الأول في الفجر أم في الأذان الثاني؟
اختلف الناس في ذلك، لكن الأدلة تشير على أن التثويب هو في الأذان الثاني، في حديث أبي محذورة في بعض رواياته: (وكنت أقول في أذان الفجر الأول: « حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم » ) فكان يقول: ( في أذان الفجر الأول ) أذان الفجر الأول التبس على البعض أنه الأذان الأول الذي في الليل وهو أذان بلال لأنه قال: (أذان الفجر الأول) الشبهة دخلت من هنا، وأيضاً في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح: « الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم » ) لكن هنا ( بعد الفلاح ) هذه في الحقيقة مشيرة على أن ذلك بعد الصباح، أي في الأذان الذي يجب بدخول الوقت.
أما تسمية ذلك بالأذان الأول فلأن الإقامة أذان ثانٍ، وقد روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( بين كل آذانين صلاة ) فإذن الأذان الأول هو الإعلام بدخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة .
و جاء التصريح بذلك في روايات متعددة من حديث أبي محذورة: ( فإذا كان في صلاة الصبح قلتُ: « الصلاة خير من النوم » ) وفي حديث أنس الذي ذكرناه (كنت أقول في أذان الفجر الأول) وأيضاً يوجد ما يشهد لذلك صراحة ما ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح من حديث رواه البيهقي من حديث نُعَيم بن النحام -رضي الله عنه- قال: (كنت مع امرأتي في مرطها -في غطائها- في غداة باردة، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى صلاة الصبح، فلما سمعت قلت: لو قال: ومن قعد فلا حرج ) في غداة باردة يقول: ومن قعد فلا حرج، وهذا سنة فلما قال: « الصلاة خير من النوم » قال: « ومن قعد فلا حرج »
هذا الحديث قال ابن حجر: إسناده صحيح.
في هذا الحديث فوائد تشير على أن التثويب هو في الأذان الثاني، أو بمعنى أصح بعد دخول الوقت، أنه قال: ( في غداة باردة ) والغداة لا تطلق إلا بعد دخول وقت الصبح، وكذلك قال: (فنادى منادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى صلاة الصبح ) وأيضاً قوله: ( فلو قال: ومن قعد فلا حرج ) وهذا لا يكون في الأذان الأول لأنه لا يجب عليه أن يسع في الأذان الأول لكن ذلك في الأذان الثاني، فهذه الأمور تبين أن التثويب يكون في الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت.
قال: ( ومن قعد فلا حرج ) من السنة إذا كان في يوم مطر أو برد شديد أن يقول المؤذن: « صلوا في رحالكم » فذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب الكلام في الأذان، وذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ( أنه أمر المنادي إذا بلغ: «حي على الصلاة » أن يقول: « الصلاة في الرحال » وذكر أن ذلك في يوم ردغ ) أي: في يوم برد شديد أو في مطر شديد.
هذه من أعذار ترك الجماعة في البرد الشديد في الليل أو في المطر الشديد فيقول: « صلوا في رحالكم أو صلوا في بيوتكم ».
صلوا في رحالكم على ثلاثة أقوال :
1-إما أن يقول ذلك بدلا من الحيعلتين، أي بدل أن يقول: حي على الصلاة يقول: صلوا في الرحال.
2- أو يقول: بعدما ينتهي الأذان يقول: صلوا في الرحال، والأمر قريب، المهم أنه يعلم الناس أن الصلاة في الرحال في اليوم المطير أو في اليوم الذي به برد شديد.
3- إذا أذن المؤذن وأنت في المسجد فلا تخرج لحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وأخرجه الترمذي أيضاً وغيره ( أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان، فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ) وهذا القول من أبي هريرة لا يقوله اجتهاداً، لا مجال للاجتهاد فيه، فيدل على أنه فهم ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فله حكم الرفع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لذلك قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم. أنهم لا يجيزون خروج الرجل من المسجد بعد ارتفاع الأذان فيحرم الخروج بلا عذر لقوله: ( أما هذا فقد عصى أبا القاسم ) أما إذا كان عنده موعد في مسجد آخر أو يوجد شيء طارئ حدث يقتضي الخروج وعذر من أعذار ترك الجماعة فلا إثم في ذلك، ولكن يأثم إن خرج بغير عذر بعد سماع الأذان ولم يُصلِ.
ويستحب للإنسان إذا سمع المؤذن ألا يتحرك إلا بعد أن ينتهي من كلمات الأذان، وهذا كان يفعله الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- حتى لا يتشبه بالشيطان؛ لأن الشيطان إذا سمع الأذان فر وترك المكان وتحرك، فحتى لا يكن هناك تشبه ظاهري عند بداية سماع الأذان أن يتحرك فاستحب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أن ينتظر حتى ينتهي من كلمات الأذان، يردد معه ثم بعد ذلك يتحرك؛ حتى لا يتشابه معه عند بداية سماع الأذان يتحرك، طبعاً وإن كان هذا يهرب من السماع والمؤمن يتحرك ليستعد للصلاة وليأخذ في أسبابها فشتان شتان، لكن لا يتشبه به حتى في الظاهر، والشريعة حافظت على هذا، لا نتشبه بالمشركين ولو في الهدي الظاهر ولو اختلفت النيات، فقد نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي عند شروق الشمس وعند غروبها؛ حتى لا نشابه هؤلاء القوم ظاهرا مع أن النية مختلفة، فهذا يدور مع الأصول .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم–: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )).
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أولا: إجابة المؤذن ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) فإجابة المؤذن مطلوبة وهذا بالاتفاق، لا خلاف في أن إجابة المؤذن مطلوبة، والمختار هو حكاية قول المؤذن في كل لفظة عَقِب قوله، يعني قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) يمكن ان أنتظر حتى ينتهي من جميع كلمات الأذان ثم أقول، ويمكن أن أقول بعد كل جملة، أردد ما يقول، فالأَوْلَى أن أردد بعد كل جملة ما يقوله المؤذن، ويشير إلى ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر -رضي الله عنه- مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قال المؤذن: « الله أكبر، الله أكبر » فقولوا: « الله أكبر، الله أكبر » ) إلى آخر الأذان، فتردد خلف المؤذن جملة جملة.
أيضاً فوائد وتنبيهات مع الحديث في الترديد إن عجزت عن أنك تردد خلف المؤذن كلمات الأذان لسبب أو لآخر، يعني: كنت مسافراً في قطار في طائرة وسمعت بعض الكلمات ولم تدرك باقي كلمات الأذان حتى تردد خلف المؤذن فيكفيك أن تقول وأنا وأنت، وهذا حديث رواه أبو داود في سننه عن عائشة -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا سمع المؤذن يتشهد يقول: وأنا وأنت) [ وأخرجه البيهقي وابن حبان والحاكم ] والحديث حجة بمجموع طرقه.
أيضاً من الفوائد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد الفراغ من ترديد كلمات الأذان خلف المؤذن؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله ليَّ الوسيلة حلت له الشفاعة )
فنقول بعد أن نردد كلمات الأذان خلف المؤذن: " اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " وهذه من أصح الصيغ التي ورد في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته".
:: تنبيهات::
في بعض الروايات: ( إذا قال المؤذن: "الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" ) وردت بعض الروايات أن يقول المردد: ( صدقت وبررت ) لكن هذه لا أصل لها، هذه الزيادة في الحديث لا أصل لها، كذلك في بعض الروايات: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد ) هذه الزيادة أيضاً شاذة مدرجة، وأيضاً في بعض الروايات: ( اللهم آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ) هذه زيادة شاذة أيضاً مدرجة: ( وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ) كذلك ( إنك لا تخلف الميعاد ) هذه الزيادة أيضاً ضعيفة وشاذة ومدرجة أيضاً فلم تصح هذه الزيادات، أن تقول: "سيدنا محمد" هو سيدنا وسيد الأولين والآخرين -صلوات الله وسلام عليه- لكن لم يثبت ذلك، والأصل أن هذه الألفاظ تعبدية فنقف عند ما وردت به النصوص، كذلك ( الدرجة الرفيعة، إنك لا تخلف الميعاد ) كل هذه الزيادات ضعيفة.
إذا رأيت بعض الناس يقول هذه الزيادات هل ننكر عليه أم لا؟
إن شاء الله ننكر عليه؛ لأن هذه الزيادة من البدع التي ليست محل خلاف بين العلماء، ننكر عليه ونصحح له هذا .
لأن الأمور التي لا ننكر فيها تكون محل خلاف بين العلماء في أيهما أرجح.
إذا ذكرنا أنها محل خلاف الأقرب أننا لا ننكر، لكن نتواصى، لأن الأمر يخرج من إطار البدعة إن ثبت بحديث ولو ضعيف، نعم هذه الزيادات مدرجة، وهذه الزيادات لم تصح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن لا يصل إلى درجة أنني أبدع القائل،أتواصى وأقول: هذا لم يثبت وألتزم بما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما نعلم أن البدع ليست على درجة واحدة، فهنا قد تجد بعض العلماء يقولون: هذا بدعة. وهناك من البدع ما يختلف فيه الناس، منهم من يقول: هذا سنة. ومنهم من يقول: هذا بدعة. فالبدعة ليست على رتب واحدة، منها ما هو مكفر يخرج من الملة، ومنها ما هو قريب من السنن يختلف الناس أنه سنة أو أنه بدعة.
تابع باب الأذان - باب استقبال القبلة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أما بعد:
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم).
في الحديث عدة وجوه سنتكلم عنها :
أولا: في الحديث دليل على جواز اتخاذ مؤذنَيْن ( إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) وفي المسجد الواحد يجوز أن نتخذ مؤذنَيْن، وأما الاقتصار على مؤذن واحد فجائز ولا يكره هذا، ، وقد استحب بعض أصحاب الشافعي أن يكون في المسجد الواحد أربعة، على كل جانب من الجوانب مؤذن لإبلاغ جميع الجهات، وكرهوا أكثر من ذلك، وإن كان الحديث لم يتعرض لأكثر من مؤذنَيْن.
ثانيا : إذا كان هناك أكثر من مؤذن في المسجد فيستحب أن يترتبوا، وهذا إذا اتسع الوقت وهذا في وقت الفجر خصوصا، فالذي يؤذن أولا يكون معلوما بصوته، والذي يؤذن بعده يكون أيضاً معلوما حتى لا يقع التلبيس على الناس، فدائما كان الذي يؤذن أولا هو بلال ( إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ) فلو أذن بلال متأخرا لتلبس ذلك على الناس، فيستحب أن يترتب المؤذنون في هذا الأمر.
ثالثا : في الحديث جواز أن يكون المؤذن أعمى، ابن أم مكتوم كان أعمى كما هو معروف.
رابعا: في الحديث دليل جواز تقليد الأعمى للبصير في الوقت؛ لأن ابن أم مكتوم كان لا يعرف دخول الوقت إلا عن طريق بلال، فكان بلال ينزل ويقول له: « أصبحنا أصبحنا » أو يقال له: أصبحت أصبحت فيصعد ابن أم مكتوم ويؤذن، فهذا يدل على رجوعه إلى البصير ليعلم دخول الوقت، ففيه جواز تقليلد البصير في الوقت.
خامسا : في الحديث دليل على جواز الأذان للصبح قبل دخول وقته، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم طبعا (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) لكن نُقِل عن أبي حنيفة خلاف ذلك قياسا على سائر الصلوات أنه لا يجوز الأذان قبل الوقت، لكن ورد دليل في الفجر بخصوصه بجواز الأذان قبل الوقت، فالحديث حجة على من يقول بخلاف هذا.
وأيضاً والذين قالوا بجواز الأذان قبل وقت الصبح اختلفوافي وقته : ذكرت طائفة أنه يكون في وقت السحر قبل الفجر ويكره التقديم على ذلك الوقت. أي: يكون قبل دخول الوقت بقليل، وقد يستأنس لهذا القول من قوله -صلوات الله وسلامه عليه-: (إن بلالا يؤذن بليل) فـ ( يؤذن بليل ) هذا إخبار لابد أن يتعلق به فائدة للسامعين قطعا (يؤذن بليل) وذلك بأن يكون وقت الأذان مشتبَها، يعني: هل دخل الوقت أم لا؟ فمعنى ذلك أنه يكون قبل طلوع الفجر بقليل، فبَيَّنَ أن ذلك لا يمنع الأكل والشرب (إن بلالا يؤذن بليل) فهذا يدل على أن الأذان الأول قريب من الأذان الثاني، وقد حدده البعض بقدر ما ينزل هذا ويصعد هذا، يعني: الفرق بينهما قليل، أو بقدر ما يقرأ ثلاثين آية أو ما شابه ذلك، فالوقت بين الأذانين قليل قد لا يتجاوز الثلث ساعة أو ما يقرب منها.
من الفوائد المتعلقة بالحديث:
يستحب أن يقول بعد حيعلة أذان الفجر، أي بعد « حي على الصلاة حي على الفلاح» أن يقول المؤذن: « الصلاة خير من النوم» وهذا ما يسميه العلماء بالتثويب .
والتثويب لغة معناه: العود إلى الإعلام بعد الإعلام، والتثويب يطلق على ثلاث معانٍ:
تثويب الفجر وهو أنه يقول في الأذان بعد الحيعلة: « الصلاة خير من النوم » وهو سنة طبعا لحديث أنس الوارد في ذلك: (من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: « حي على الفلاح » قال: « الصلاة خير من النوم » مرتين ) هذا الحديث [رواه ابن خزيمة] وله حكم الرفع لأن أنس يقول: « من السنة » وإذا قال الصحابي « من السنة » فهذا له حكم الرفع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فالتثويب يطلق على تثويب الفجر، وهو « الصلاة خير من النوم » وهذا السنة.
ويطلق أيضاً على التأذين بعد التأذين، أو الإعلام بعد الإعلام وهذا بدعة، فإذا أذن المؤذن للظهر مثلا ثم نادى: الصلاة يا عباد الله أو ما شابه ذلك، أو: الصلاة يا أمير المؤمنين أو ما شابه هذا من الأقوال فهذا بدعة.
وأيضاً التثويب يطلق على الإقامة؛ لأن الإقامة أذان ( بين كل أذانين صلاة ) كما صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسمى الإقامة أذانا، فالإقامة تعد تثويبا؛ لأنها أذان بعد الأذان، وقال -عليه الصلاة والسلام- في حديث في الصحيحين أيضاً: (إذا ثُوِّبَ للصلاة أدبر الشيطان حتى إذا قُضِي التثويب أقبل ) فسمى الإقامة أيضاً أو الأذان التثويب ( إذا ثُوِّب للصلاة ) إذا نودي للصلاة أو إعادة الإعلام بعد الإعلام كما هو معلوم لغة .
فالتثويب يطلق على ثلاثة معان هي:
المعنى الأول: هو التثويب في صلاة الفجر وهو سنة.
المعنى الثاني: التثويب بعد أي صلاة وهو بدعة.
المعنى الثالث: والإقامة وهو مشروع.
الفائد الثانية: هل التثويب في الأذان الأول في الفجر أم في الأذان الثاني؟
اختلف الناس في ذلك، لكن الأدلة تشير على أن التثويب هو في الأذان الثاني، في حديث أبي محذورة في بعض رواياته: (وكنت أقول في أذان الفجر الأول: « حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم » ) فكان يقول: ( في أذان الفجر الأول ) أذان الفجر الأول التبس على البعض أنه الأذان الأول الذي في الليل وهو أذان بلال لأنه قال: (أذان الفجر الأول) الشبهة دخلت من هنا، وأيضاً في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: ( كان في الأذان الأول بعد الفلاح: « الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم » ) لكن هنا ( بعد الفلاح ) هذه في الحقيقة مشيرة على أن ذلك بعد الصباح، أي في الأذان الذي يجب بدخول الوقت.
أما تسمية ذلك بالأذان الأول فلأن الإقامة أذان ثانٍ، وقد روى مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( بين كل آذانين صلاة ) فإذن الأذان الأول هو الإعلام بدخول الوقت، والأذان الثاني هو الإقامة .
و جاء التصريح بذلك في روايات متعددة من حديث أبي محذورة: ( فإذا كان في صلاة الصبح قلتُ: « الصلاة خير من النوم » ) وفي حديث أنس الذي ذكرناه (كنت أقول في أذان الفجر الأول) وأيضاً يوجد ما يشهد لذلك صراحة ما ذكره ابن حجر -رحمه الله تعالى- في الفتح من حديث رواه البيهقي من حديث نُعَيم بن النحام -رضي الله عنه- قال: (كنت مع امرأتي في مرطها -في غطائها- في غداة باردة، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى صلاة الصبح، فلما سمعت قلت: لو قال: ومن قعد فلا حرج ) في غداة باردة يقول: ومن قعد فلا حرج، وهذا سنة فلما قال: « الصلاة خير من النوم » قال: « ومن قعد فلا حرج »
هذا الحديث قال ابن حجر: إسناده صحيح.
في هذا الحديث فوائد تشير على أن التثويب هو في الأذان الثاني، أو بمعنى أصح بعد دخول الوقت، أنه قال: ( في غداة باردة ) والغداة لا تطلق إلا بعد دخول وقت الصبح، وكذلك قال: (فنادى منادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – إلى صلاة الصبح ) وأيضاً قوله: ( فلو قال: ومن قعد فلا حرج ) وهذا لا يكون في الأذان الأول لأنه لا يجب عليه أن يسع في الأذان الأول لكن ذلك في الأذان الثاني، فهذه الأمور تبين أن التثويب يكون في الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت.
قال: ( ومن قعد فلا حرج ) من السنة إذا كان في يوم مطر أو برد شديد أن يقول المؤذن: « صلوا في رحالكم » فذكر البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب الكلام في الأذان، وذكر عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ( أنه أمر المنادي إذا بلغ: «حي على الصلاة » أن يقول: « الصلاة في الرحال » وذكر أن ذلك في يوم ردغ ) أي: في يوم برد شديد أو في مطر شديد.
هذه من أعذار ترك الجماعة في البرد الشديد في الليل أو في المطر الشديد فيقول: « صلوا في رحالكم أو صلوا في بيوتكم ».
صلوا في رحالكم على ثلاثة أقوال :
1-إما أن يقول ذلك بدلا من الحيعلتين، أي بدل أن يقول: حي على الصلاة يقول: صلوا في الرحال.
2- أو يقول: بعدما ينتهي الأذان يقول: صلوا في الرحال، والأمر قريب، المهم أنه يعلم الناس أن الصلاة في الرحال في اليوم المطير أو في اليوم الذي به برد شديد.
3- إذا أذن المؤذن وأنت في المسجد فلا تخرج لحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم وأخرجه الترمذي أيضاً وغيره ( أنه رأى رجلاً خرج من المسجد بعد الأذان، فقال: أما هذا فقد عصى أبا القاسم ) وهذا القول من أبي هريرة لا يقوله اجتهاداً، لا مجال للاجتهاد فيه، فيدل على أنه فهم ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فله حكم الرفع إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- لذلك قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن بعدهم. أنهم لا يجيزون خروج الرجل من المسجد بعد ارتفاع الأذان فيحرم الخروج بلا عذر لقوله: ( أما هذا فقد عصى أبا القاسم ) أما إذا كان عنده موعد في مسجد آخر أو يوجد شيء طارئ حدث يقتضي الخروج وعذر من أعذار ترك الجماعة فلا إثم في ذلك، ولكن يأثم إن خرج بغير عذر بعد سماع الأذان ولم يُصلِ.
ويستحب للإنسان إذا سمع المؤذن ألا يتحرك إلا بعد أن ينتهي من كلمات الأذان، وهذا كان يفعله الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- حتى لا يتشبه بالشيطان؛ لأن الشيطان إذا سمع الأذان فر وترك المكان وتحرك، فحتى لا يكن هناك تشبه ظاهري عند بداية سماع الأذان أن يتحرك فاستحب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أن ينتظر حتى ينتهي من كلمات الأذان، يردد معه ثم بعد ذلك يتحرك؛ حتى لا يتشابه معه عند بداية سماع الأذان يتحرك، طبعاً وإن كان هذا يهرب من السماع والمؤمن يتحرك ليستعد للصلاة وليأخذ في أسبابها فشتان شتان، لكن لا يتشبه به حتى في الظاهر، والشريعة حافظت على هذا، لا نتشبه بالمشركين ولو في الهدي الظاهر ولو اختلفت النيات، فقد نهانا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نصلي عند شروق الشمس وعند غروبها؛ حتى لا نشابه هؤلاء القوم ظاهرا مع أن النية مختلفة، فهذا يدور مع الأصول .
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم–: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول )).
الكلام على هذا الحديث من وجوه:
أولا: إجابة المؤذن ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) فإجابة المؤذن مطلوبة وهذا بالاتفاق، لا خلاف في أن إجابة المؤذن مطلوبة، والمختار هو حكاية قول المؤذن في كل لفظة عَقِب قوله، يعني قال: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ) يمكن ان أنتظر حتى ينتهي من جميع كلمات الأذان ثم أقول، ويمكن أن أقول بعد كل جملة، أردد ما يقول، فالأَوْلَى أن أردد بعد كل جملة ما يقوله المؤذن، ويشير إلى ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر -رضي الله عنه- مرفوعا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا قال المؤذن: « الله أكبر، الله أكبر » فقولوا: « الله أكبر، الله أكبر » ) إلى آخر الأذان، فتردد خلف المؤذن جملة جملة.
أيضاً فوائد وتنبيهات مع الحديث في الترديد إن عجزت عن أنك تردد خلف المؤذن كلمات الأذان لسبب أو لآخر، يعني: كنت مسافراً في قطار في طائرة وسمعت بعض الكلمات ولم تدرك باقي كلمات الأذان حتى تردد خلف المؤذن فيكفيك أن تقول وأنا وأنت، وهذا حديث رواه أبو داود في سننه عن عائشة -رضي الله عنه- أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا سمع المؤذن يتشهد يقول: وأنا وأنت) [ وأخرجه البيهقي وابن حبان والحاكم ] والحديث حجة بمجموع طرقه.
أيضاً من الفوائد الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بعد الفراغ من ترديد كلمات الأذان خلف المؤذن؛ لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعا: ( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله ليَّ الوسيلة حلت له الشفاعة )
فنقول بعد أن نردد كلمات الأذان خلف المؤذن: " اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد " وهذه من أصح الصيغ التي ورد في الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يقول: " اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته".
:: تنبيهات::
في بعض الروايات: ( إذا قال المؤذن: "الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم" ) وردت بعض الروايات أن يقول المردد: ( صدقت وبررت ) لكن هذه لا أصل لها، هذه الزيادة في الحديث لا أصل لها، كذلك في بعض الروايات: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمد ) هذه الزيادة أيضاً شاذة مدرجة، وأيضاً في بعض الروايات: ( اللهم آت محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة ) هذه زيادة شاذة أيضاً مدرجة: ( وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد ) كذلك ( إنك لا تخلف الميعاد ) هذه الزيادة أيضاً ضعيفة وشاذة ومدرجة أيضاً فلم تصح هذه الزيادات، أن تقول: "سيدنا محمد" هو سيدنا وسيد الأولين والآخرين -صلوات الله وسلام عليه- لكن لم يثبت ذلك، والأصل أن هذه الألفاظ تعبدية فنقف عند ما وردت به النصوص، كذلك ( الدرجة الرفيعة، إنك لا تخلف الميعاد ) كل هذه الزيادات ضعيفة.
إذا رأيت بعض الناس يقول هذه الزيادات هل ننكر عليه أم لا؟
إن شاء الله ننكر عليه؛ لأن هذه الزيادة من البدع التي ليست محل خلاف بين العلماء، ننكر عليه ونصحح له هذا .
لأن الأمور التي لا ننكر فيها تكون محل خلاف بين العلماء في أيهما أرجح.
إذا ذكرنا أنها محل خلاف الأقرب أننا لا ننكر، لكن نتواصى، لأن الأمر يخرج من إطار البدعة إن ثبت بحديث ولو ضعيف، نعم هذه الزيادات مدرجة، وهذه الزيادات لم تصح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لكن لا يصل إلى درجة أنني أبدع القائل،أتواصى وأقول: هذا لم يثبت وألتزم بما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكما نعلم أن البدع ليست على درجة واحدة، فهنا قد تجد بعض العلماء يقولون: هذا بدعة. وهناك من البدع ما يختلف فيه الناس، منهم من يقول: هذا سنة. ومنهم من يقول: هذا بدعة. فالبدعة ليست على رتب واحدة، منها ما هو مكفر يخرج من الملة، ومنها ما هو قريب من السنن يختلف الناس أنه سنة أو أنه بدعة.
:: باب استقبال القبلة ::
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب استقبال القبلة، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يفعله ) وفي رواية: ( كان يوتر على بعيره ) ولمسلم: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وللبخاري ( إلا الفرائض ) ).
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب استقبال القبلة) وأتى في هذا الباب بثلاثة أحاديث:
الحديث الأول في الباب فيه عدم افتراض استقبال القبلة في النافلة على الراحلة، هذا الحديث: ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ) فيبين عدم إفراد استقبال القبلة في النافلة على الراحلة.
الحديث الثاني في الباب يبين فيه استدارة القوم في الصلاة من استقبال بيت المقدس إلى الكعبة.
والحديث الثالث في الباب فيه الصلاة على الدابة أيضاً.
فكأن المراد هو باب استقبال القبلة في الفرائض أنه يقصد أن يقول: إن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة في الفرض.
أيضاً لدلالة قوله في الحديث: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وفي البخاري ( لا يصلي عليها الفرائض أو إلا الفرائض ) يعني: يصلي على راحلته يوميء حيث توجهه إلا الفرائض، أي: لا يصلي عليها الفرائض، ولا يصلي عليها المكتوبة.
وأيضاً في الحديث الثاني الذي سيذكره في الباب فيه استدارة المصلين من القبلة المنسوخة إلى الكعبة، فهذا أيضاً يدل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة المكتوبة، واستقبال القبلة هو شرط من شروط صحة الصلاة بلا خلاف بين أهل العلم مع القدرة، فيسقط مع العجز، فإن عجز الإنسان عن استقبال القبلة لشرط أو آخر فيسقط لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16] افترض أنه كان مقيدا إلى جهة غير جهة القبلة ولا يستطيع أن يتحرك إلى جهة القبلة يصلي على حاله ولا يترك الصلاة، ويسقط هذا الشرط في حقه، فهو شرط من شروط صحة الصلاة لكنه يسقط مع العذر.
الحديث الأول في الباب وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه، وكان ابن عمر يفعله ) الكلام على الحديث من وجوه:
أولا: معنى التسبيح ( كان يسبح على ظهر راحلته ) التسبيح يطلق على صلاة النافلة، وهذا الحديث من هذه الأحاديث التي يطلق فيها التسبيح على صلاة النافلة، فقوله: ( يسبح ) أي: يصلي النافلة على راحلته، وربما أُطلق التسبيح على مطلق الصلاة سواء كانت نافلة أو سواء كانت فريضة، وقد فُسر قوله تعالى: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39 ﴾ ﴾ [ق: 39] على صلاة الصبح وصلاة العصر.
والتسبيح حقيقة في قول القائل: "سبحان الله" التسبيح يقول لك: سبح فهو حقيقة، كَبِّر تقول: الله أكبر. فالتسبيح حقيقة في قول القائل: "سبحان الله" فإذا أُطلق على الصلاة مِن يُسبح أي: يصلي النافلة فهو من باب إطلاق البعض على الكل، إطلاق البعض أو الجزء على الكل، والعرب تفعل ذلك لبيان أهمية هذا الجزء بالنسبة للكل، أنها تسمي الجزء بالكل أو تسمي الكل بالجزء، كان يُسبح، والتسبيح هذا جزء من أجزاء الصلاة فأُطلق على الصلاة تسبيحا لبيان هذا الجزء في الصلاة بالنسبة للصلاة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ( الدعاء هو العبادة ) مع أن العبادة دعاء وصلاة وحج وأقوال ظاهرة وأفعال ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك كما هو معروف في العبادة، لكن قال: ( الدعاء هو العبادة ) وكأنه قصر العبادة على الدعاء هذا لبيان أهمية الدعاء بالنسبة للعبادة، أو لبيان أهمية هذا الجزء بالنسبة للكل، كذلك ( الحج عرفة ) فعرفة هذا ركن من أركان الحج وليس كل الحج، لكنه من أهم أركان الحج، من فاته عرفة فقد فاته الحج، فقال: ( الحج عرفة ) لبيان أهمية هذا الركن أو هذا الجزء من الكل كذلك التسبيح، وكذلك الصلاة هي أصلها الدعاء سميت العبادة كلها بهذا لاشتمالها على الدعاء.
أيضاً ( كان يسبح على ظهر راحلته ) الراحلة هي الناقة الصالحة لأنْ ترحل، ومفهومها غير مراد، يعني: لا يشترط أن تكون ناقة يمكن كما سيأتي في الحديث الثالث في الباب ( كان يصلي على حمار ) فلا يشترط أن تكون ناقة، فمفهومها غير مراد ( كان يصلي على راحلته ) أي على دابته أيا كانت هذه الدابة، فيجوز للمرء أن يصلي على دابته التي يركبها في السفر حيث توجه.
أيضاً الوجه الثاني في هذا الحديث دليل على جواز صلاة النافلة على الراحلة، وأيضاً جواز صلاتها حيث توجهت بالراكب راحلته فإنه يصلي ولا يشترط استقبال القبلة، وكأن السبب في ذلك هو التيسير لتكثير النوافل على المسافر، كما يقول العلماء: فإن ما ضُيِّق طريقه قل وما اتسع طريقه كثر وسهل.
فحتى يُوَسِّعَ عليك في النافلة فخَفَّفَ عنك وأسقط عنك استقبال القبلة وجعلك تصلي حيث توجهت، وأيضاً هذا فتح باب لتعظيم الأجر أو لتكثير الأجر.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عليها في الحديث قوله: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ) يستنبط منه ما قاله بعض الفقهاء إن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة، أي: فلا ينحرف عنها، إذا صارت جهة الطريق فهي قبلته، فلا ينحرف عن جهة طريقه لغير حاجة.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عليها (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ) يعني: الحديث يدل على الإيماء ومطلقه يقتضي الإيماء بالركوع وبالسجود أيضاً لكن الفقهاء قالوا: الإيماء للسجود يكون أخفض من الإيماء بالركوع؛ ليكون البدل على وفق الأصل، فيكون الإيماء للسجود أكثر من الإيماء للركوع، كما أن السجود أكثر من الركوع، فيكون البدل على وفق الأصل.
أيضاً في الحديث بيان حكم صلاة الوتر لأنه قال هنا: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وفي رواية: ( كان يوتر على بعيره ) يعني: لا يصلي المكتوبة ( وكان يوتر على بعيره ) إذن الوتر ليس فرضا، فيستدل بإيتاره -صلى الله عليه وسلم- على البعير على أن الوتر ليس بواجب، هذا بناءً على أن الفرض لا يقام على الراحلة، أن الفرض لا يصلى على الراحلة، وأن الفرض مرادف للواجب كما هو قول جماهير أهل العلم، لا فرق بين الفرض والواجب.
فيستدل بذلك على أن الوتر ليس بواجب، وهو قول جماهير أهل العلم خلافاً للأحناف.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عنها قوله: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) فقد يتمسك به البعض أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة، في الحقيقة ليس الترك بدليل على الامتناع، مجرد أنه ترك لا يدل على أن ذلك لا يجوز، لكن ترك صلاة الفريضة دائماً مع تكررها في السفر والنزول وصلاتها على الأرض لا على النافلة قد يشعر بأن ذلك لا يجوز، قد يشعر أن صلاة الفريضة لا تشرع ولا تصح على النافلة طبعاً إلا لعذر، افترض أنه تعذر أن ينزلوا ويصلوا على الأرض فيصلي على دابته، كذلك لو كان المرء مسافر في طائرة، مثلاً ركب في منتصف الليل ولا ينزل من الطائرة إلا بعد الصبح فيصلي في الطائرة أو في القطار فرضه وهو على الدابة لأنه لا سبيل له إلا ذلك ولا يستطيع أن يؤجل الوقت حتى ينزل لأن الوقت يكون خرج، ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ فهو يصلي على راحلته وعلى دابته، لكن إن كانت في إحدى الصلاتين جمع ظهر أو عصر وتمكن أن يجمع ويصلي على الأرض فهذا أولى له بل يجب عليه إذا تمكن من أن يصلي على الأرض جمعا سواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير فلا يصلي الفرض على الراحلة.
أيضاً ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ( كان يسبح على الراحلة قِبَلَ أي وجه توجهه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) لكن استشكل هذا الحديث مع ما روي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- من فعله بما أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه ( كان يصلي على الراحلة تطوعا، فإذا أراد أن يوتر نزل ) أي: وصلى على الأرض، فكأنه يرى أنه يصلي الوتر على الأرض ولا يصليها على الراحلة، وأجيب عن ذلك بأنه يحمل أنه كان يفعل ذلك تارة وتارة .
فائدة أخرى تتعلق باستقبال القبلة حال تكبيرة الإحرام في النافلة، الحديث ظاهر الذي (كان يسبح على راحلته أو على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ).
وظاهر الحديث أنه لم يستقبل القبلة حال تكبيرة الإحرام للنافلة، لكن أخرج الإمام أحمد وأبوا داود وغيرهما من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا يتطوع في سفره استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهه ركابه ) ولذا استحب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وأبو ثور أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة ثم يتوجه حيث وجهته راحلته، ولعل هذا يكون إذا كانت القبلة جهة اليمين أو جهة الشمال منه لا تكون خلفه، لأنه قد يتعذر أن يتوجه ثم يدير نصف دائرة ويتجه إلى طريقه، فيستحب أن يتجه إلى القبلة عند صلاته ثم يتولى أو يسير مع الطريق حيث سار.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)).
هذا الحديث يتعلق به عدة مسائل في الأصول والفروع:
أول المسائل التي في الأصول : قبول خبر الواحد. وعادة الصحابة في ذلك اعتداد بعضهم بنقل بعض.. لأن رجلا واحداً جاء إليهم وأخبرهم أن القبلة تغيرت فانصاعوا لقوله وقال: ( فاستقبِلوها ) فاستقبلواها، وهذا خبر واحد ففيه دليل على قبول خبر الواحد.
وعادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يقبلوا خبر بعضهم البعض ولا يشترط كل واحد منهم أن يأتي بعدد ليثبت صحة هذا الخبر عنده، وليس المقصود هنا أن يثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر واحد وإلا ذلك يكون من باب إثبات الشيء بنفسه، فمثلا يقول: ما الدليل على أن قبول خبر الواحد يُقبل؟ نقول الحديث، والحديث هذا دليل على قبول خبر الواحد بنفسه فيلزم منه الدور وكما يقول العلماء: الدور باطل.
لكن نثبت قبول خبر الواحد من عدة أمثلة وعدة أحاديث تدل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقبلون خبر الواحد، كلمة "يلزم منه الدور" فمثلاً: من أين جاءت البيضة؟ من الفرخة، والفرخة من أين جاءت؟ من البيضة، ومن أين جاءت البيضة؟ لم نصل إلى نتيجة هذا هو الذي يلزم منه الدور .
فنقول: إن هذا الحديث دليل على أن خبر الآحاد حجة ونستدل بهذا الحديث ثم خبر الآحاد لهذا الحديث وهكذا يلزم منه الدور وكما يقول العلماء الدور باطل.
فلا نستدل بذلك على قبول الخبر الواحد ولكن بعدة أحاديث كثيرة تشير على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقبلون خبر بعضهم البعض وهذا حجة، وحديث الآحاد حجة في العقائد وفي العمل عند أهل السنة، وكما قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: إن حديث الآحاد حجة في العمل وفي العلم، في العلم أي: في الاعتقاد.
المسألة الأصولية الثانية في الكتاب وهي: نسخ الكتاب والسنة المتواترة هل يجوز بخبر الواحد أم لا؟ بمعنى: هل يمكن أن ننسخ آية بحديث آحاد؟ أو سنة متواترة بحديث آحاد, منعه الأكثرلأن الآية قطعية الثبوت.. والحديث متواتر قطعي الثبوت، ولكن حديث الآحاد ظني الثبوت،،، فلا ننسخ القطعي بالظني، لكن نُقل عن الظاهرية جواز ذلك استدلالا بهذا الحديث أن هذا الحديث نُسخ به الأمر المتواتر أو السنة المتواترة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة.
والمسألة فيها أخذٌ ورَدٌ بين الناس في ذلك، ولكن قول الأكثر: إن الكتاب والسنة المتواترة لا ينسخ بالأحاديث الآحاد.
المسألة الثالثة من المسائل الأصولية في الباب: نسخ السنة بالكتاب.
لأن السنة كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس، وجاء الكتاب وأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فكأن الكتاب نسخ السنة ففي الحديث دليل على نسخ السنة بالكتاب وأن ذلك جائز، وهذا قول جماهير أهل العلم أن السنة تنسخ بالكتاب.
المسألة الأصولية الرابعة: اختلف العلماء في أن حكم الناسخ هل يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له أم لا؟ وتعلقوا بهذا الحديث وأنه لا يثبت، لا يثبت حكم النسخ في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب .
قالوا: إن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له لأنهم كانوا يصلون إحدى صلاتي العشي الظهر وأتاهم آت وأمرهم أن القبلة تحولت فتحولوا الاستنتاج من هنا.
إن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يعيدوا الجزء الذي قضوه من الصلاة.
فهم استمروا على صلاتهم مع أن قبل ذلك كان الخطاب قد نزل لكن لم يصل إليهم الخطاب وكان حكم النسخ ثبت لكن لم يصلهم ذلك، فالمكلف كان يعمل بالأمر الأول فلو قلنا: إنه يجب عليه أو أن حكم الناسخ يثبت في حقه لبطلت الصلاة واستأنفوها من جديد، لكنهم بنَوا عليها، فدل هذا على أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له.
أيضاً في هذا الحديث دليل على جواز مطلق النسخ، يعني هذه مسألة نُسخت فيها القبلة، فهذا دليل على جواز مطلق النسخ، لقوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة 106] وهذا لفوائد عظيمة جداً فالله -تبارك وتعالى- يراعي حال المكلفين فيأمرهم بأمر في وقت ما ذلك الأمر يكون أنسب لهم وفي وقت آخر لا يكون مناسبا لهم فيأمرهم بما يحقق مصالحهم في الوقت الآخر وينسخ الحكم الأول، وهذا لحكم عظيمة جداً فالنسخ جائز عقلا وجائز شرعا وواقع شرعا أيضاً.
أيضاً مما يؤخذ من الحديث من المسائل الأصولية قد يؤخذ جواز الاجتهاد في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن المعلوم أنه لا اجتهاد مع النص، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- موجود لا يحل لأحد أن يجتهد، لكن قد يؤخذ منه أنه إذا تعذر أن يصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويسأله فجاز له أن يجتهد؛ لأنهم بنوا على صلاتهم، وهذا اجتهاد منهم أن الصلاة صحيحة، وكان يمكن أن يخرجوا من الصلاة ويستأنفوا الصلاة فهذا اجتهاد منهم، أن جزء الصلاة الذي صلوه صحيح وبنوا عليه .
فاستدل العلماء أنه قد يؤخذ من هذا الحديث جواز الاجتهاد في زمنه -صلى الله عليه وسلم- طبعاً عند تعذر الوصول إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه يجتهد ويقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذا الفعل أو لا يقره.
مسائل الفروع التي تستفاد من هذا الحديث:
المسألة الأولى: في الحديث دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة لمن هو فيها؛ لأنهم وهم يصلون أتاهم آت فقال: إن الله أنزل قرآنا بتغيير القبلة فاستقبِلوها. خاطبهم وأمرهم واستداروا واستقبلوا الكعبة. ففيه دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة بما هو فيه، لكن مما لا شك هو كان مخبرا عن أمر واجب، أو عن أمر مقطوع بأنه ممنوع، فقد يكون ذلك مثلاً إذا نبه مَن خارج الصلاة مَن في الصلاة على أمر واجب؛ لأن بعضهم استدل بذلك على جواز الفتح على الإمام من الخارج، بمعني: إذا كنت تصلي وأخطأ الإمام فأنت تفتح على الإمام إذا كنت معه في الصلاة، أما إن كنت خارج الصلاة فلا تفتح على الإمام أو تفتح على الإمام، استدل بعضهم بهذا الحديث أنه يجوز أن يفتح على الإمام وهو في خارج الصلاة، لكن في هذا الأمر نظرا لأن القراءة التي بعد الفاتحة ليست واجبة، فلا يتحقق القياس كاملا، فعلى هذا لا ينبهه إن كان خارج الصلاة إلا لأمر واجب أو لترك أمر ممنوع.
أيضاً من المسائل الفرعية في الحديث: دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ومراعاة السمت لأنهم استداروا ولم يستقبلوا عين البيت، لكن استقبلوا الجهة، فهذا أيضاً دليل على جواز الاجتهاد في القبلة واستقبال جهة القبلة أو مراعاة سمت القبلة؛ لأنهم استداروا إلى جهة الكعبة لأول وهلة وهم في الصلاة، ومما لا شك لم يتوجهوا إلى عينها أنه لا سبيل إلى ذلك فتوجهوا إلى جهتها.
أيضاً قد يؤخذ من الحديث أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ أنه لا يلزمه الإعادة : لأنه فعل ما وجب عليه في ظنه مع مخالفة الحكم في نفس الأمر، كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقاء الأمر، ولم يفسد فعلهم، ولا أُمِروا بالإعادة، فيستدل من ذلك أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له خطؤه أن صلاته صحيحة ولا يعيد.
من المسائل الفرعية المستفادة من الحديث :أن الحديث فيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة عليه، طالما أنه لم يتمكن .
وركب بعض الناس على هذا مسألة: من أسلم في دار الحرب أو في أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلمه عن شرائع الإسلام هل يجب عليه أن يقضي ما مر من صلاة أو صيام ولم يعلم وجوب ذلك عليه؟ الحديث يدل على أنه لا يجب، وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أنس ابن سيرين قال: استقبلْنا أنسا -رضي الله عنه- حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب، يعني عن يسار القبلة، فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة. فقال: لولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله ما فعلته) ).
موضوع هذا الحديث:
يدل على جواز النافلة على الدابة إلى غير القبلة، وهو الذي تقدم في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يعني: لا توجد زيادة في هذا الحديث إلا أنه كان يصلي على حمار فقد يؤخذ منه طهارته لأن ملامسة الحمار مع التحرز عنه متعذرة فيدل ذلك على طهارة عرَقِهِ وطهارة بدنه وإن كان يحتمل أن يكون هناك حائل بينه وبينه، لكن الأصل عدم هذا الاحتمال والأصل هو الطهارة ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه، الأصل في الأعيان الطهارة.
صحيح ان لحم الحمار نجس لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرم لحوم الحمر الأهلية لكن الحمار في ذاته وهو حي الأصل الطهارة . فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، ماذا تعني ناقل صحيح؟ يعني نص نقل من كتاب أو سنة تبين أن هذا رجس أو نجس، فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا نص صحيح صريح لا يعارضه ما يساويه، ولو كان هناك نص يحكم بنجاسة شيء، ونص آخر يعارضه يحكم بطهارة هذا الشيء فسقط وعدنا إلى البراءة الأصلية وقلنا: إن هذا الشيء طاهر، فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه، ناقل صحيح لو هذا الناقل نقلنا من البراءة إلى النجاسة لكن عارضه ما يساويه لسقط،
فلو كان هناك نص يبين أن عين ما من الأعيان نجسة ونص آخر يبين أنها طاهرة وهو أقوى منه فيسقط هذا النص، إذن الأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه فيسقط القول بنجاسة هذه الأعيان.
أيضاً في الحديث (استقبلْنا أنسا حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر) عين التمر هذا موضع معروف بطريق العراق مما يلي الشام.
وأيضاً في صحيح مسلم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر) وهذا فعل أنس وأيضاً هو فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب استقبال القبلة، عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يفعله ) وفي رواية: ( كان يوتر على بعيره ) ولمسلم: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وللبخاري ( إلا الفرائض ) ).
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (باب استقبال القبلة) وأتى في هذا الباب بثلاثة أحاديث:
الحديث الأول في الباب فيه عدم افتراض استقبال القبلة في النافلة على الراحلة، هذا الحديث: ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ) فيبين عدم إفراد استقبال القبلة في النافلة على الراحلة.
الحديث الثاني في الباب يبين فيه استدارة القوم في الصلاة من استقبال بيت المقدس إلى الكعبة.
والحديث الثالث في الباب فيه الصلاة على الدابة أيضاً.
فكأن المراد هو باب استقبال القبلة في الفرائض أنه يقصد أن يقول: إن استقبال القبلة شرط من شروط صحة الصلاة في الفرض.
أيضاً لدلالة قوله في الحديث: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وفي البخاري ( لا يصلي عليها الفرائض أو إلا الفرائض ) يعني: يصلي على راحلته يوميء حيث توجهه إلا الفرائض، أي: لا يصلي عليها الفرائض، ولا يصلي عليها المكتوبة.
وأيضاً في الحديث الثاني الذي سيذكره في الباب فيه استدارة المصلين من القبلة المنسوخة إلى الكعبة، فهذا أيضاً يدل على وجوب استقبال القبلة في الصلاة المكتوبة، واستقبال القبلة هو شرط من شروط صحة الصلاة بلا خلاف بين أهل العلم مع القدرة، فيسقط مع العجز، فإن عجز الإنسان عن استقبال القبلة لشرط أو آخر فيسقط لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [التغابن: 16] افترض أنه كان مقيدا إلى جهة غير جهة القبلة ولا يستطيع أن يتحرك إلى جهة القبلة يصلي على حاله ولا يترك الصلاة، ويسقط هذا الشرط في حقه، فهو شرط من شروط صحة الصلاة لكنه يسقط مع العذر.
الحديث الأول في الباب وهو حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه، وكان ابن عمر يفعله ) الكلام على الحديث من وجوه:
أولا: معنى التسبيح ( كان يسبح على ظهر راحلته ) التسبيح يطلق على صلاة النافلة، وهذا الحديث من هذه الأحاديث التي يطلق فيها التسبيح على صلاة النافلة، فقوله: ( يسبح ) أي: يصلي النافلة على راحلته، وربما أُطلق التسبيح على مطلق الصلاة سواء كانت نافلة أو سواء كانت فريضة، وقد فُسر قوله تعالى: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴿39 ﴾ ﴾ [ق: 39] على صلاة الصبح وصلاة العصر.
والتسبيح حقيقة في قول القائل: "سبحان الله" التسبيح يقول لك: سبح فهو حقيقة، كَبِّر تقول: الله أكبر. فالتسبيح حقيقة في قول القائل: "سبحان الله" فإذا أُطلق على الصلاة مِن يُسبح أي: يصلي النافلة فهو من باب إطلاق البعض على الكل، إطلاق البعض أو الجزء على الكل، والعرب تفعل ذلك لبيان أهمية هذا الجزء بالنسبة للكل، أنها تسمي الجزء بالكل أو تسمي الكل بالجزء، كان يُسبح، والتسبيح هذا جزء من أجزاء الصلاة فأُطلق على الصلاة تسبيحا لبيان هذا الجزء في الصلاة بالنسبة للصلاة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ( الدعاء هو العبادة ) مع أن العبادة دعاء وصلاة وحج وأقوال ظاهرة وأفعال ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك كما هو معروف في العبادة، لكن قال: ( الدعاء هو العبادة ) وكأنه قصر العبادة على الدعاء هذا لبيان أهمية الدعاء بالنسبة للعبادة، أو لبيان أهمية هذا الجزء بالنسبة للكل، كذلك ( الحج عرفة ) فعرفة هذا ركن من أركان الحج وليس كل الحج، لكنه من أهم أركان الحج، من فاته عرفة فقد فاته الحج، فقال: ( الحج عرفة ) لبيان أهمية هذا الركن أو هذا الجزء من الكل كذلك التسبيح، وكذلك الصلاة هي أصلها الدعاء سميت العبادة كلها بهذا لاشتمالها على الدعاء.
أيضاً ( كان يسبح على ظهر راحلته ) الراحلة هي الناقة الصالحة لأنْ ترحل، ومفهومها غير مراد، يعني: لا يشترط أن تكون ناقة يمكن كما سيأتي في الحديث الثالث في الباب ( كان يصلي على حمار ) فلا يشترط أن تكون ناقة، فمفهومها غير مراد ( كان يصلي على راحلته ) أي على دابته أيا كانت هذه الدابة، فيجوز للمرء أن يصلي على دابته التي يركبها في السفر حيث توجه.
أيضاً الوجه الثاني في هذا الحديث دليل على جواز صلاة النافلة على الراحلة، وأيضاً جواز صلاتها حيث توجهت بالراكب راحلته فإنه يصلي ولا يشترط استقبال القبلة، وكأن السبب في ذلك هو التيسير لتكثير النوافل على المسافر، كما يقول العلماء: فإن ما ضُيِّق طريقه قل وما اتسع طريقه كثر وسهل.
فحتى يُوَسِّعَ عليك في النافلة فخَفَّفَ عنك وأسقط عنك استقبال القبلة وجعلك تصلي حيث توجهت، وأيضاً هذا فتح باب لتعظيم الأجر أو لتكثير الأجر.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عليها في الحديث قوله: (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ) يستنبط منه ما قاله بعض الفقهاء إن جهة الطريق تكون بدلا عن القبلة، أي: فلا ينحرف عنها، إذا صارت جهة الطريق فهي قبلته، فلا ينحرف عن جهة طريقه لغير حاجة.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عليها (كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ) يعني: الحديث يدل على الإيماء ومطلقه يقتضي الإيماء بالركوع وبالسجود أيضاً لكن الفقهاء قالوا: الإيماء للسجود يكون أخفض من الإيماء بالركوع؛ ليكون البدل على وفق الأصل، فيكون الإيماء للسجود أكثر من الإيماء للركوع، كما أن السجود أكثر من الركوع، فيكون البدل على وفق الأصل.
أيضاً في الحديث بيان حكم صلاة الوتر لأنه قال هنا: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) وفي رواية: ( كان يوتر على بعيره ) يعني: لا يصلي المكتوبة ( وكان يوتر على بعيره ) إذن الوتر ليس فرضا، فيستدل بإيتاره -صلى الله عليه وسلم- على البعير على أن الوتر ليس بواجب، هذا بناءً على أن الفرض لا يقام على الراحلة، أن الفرض لا يصلى على الراحلة، وأن الفرض مرادف للواجب كما هو قول جماهير أهل العلم، لا فرق بين الفرض والواجب.
فيستدل بذلك على أن الوتر ليس بواجب، وهو قول جماهير أهل العلم خلافاً للأحناف.
أيضاً من الوجوه التي نتكلم عنها قوله: ( غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) فقد يتمسك به البعض أن صلاة الفرض لا تؤدى على الراحلة، في الحقيقة ليس الترك بدليل على الامتناع، مجرد أنه ترك لا يدل على أن ذلك لا يجوز، لكن ترك صلاة الفريضة دائماً مع تكررها في السفر والنزول وصلاتها على الأرض لا على النافلة قد يشعر بأن ذلك لا يجوز، قد يشعر أن صلاة الفريضة لا تشرع ولا تصح على النافلة طبعاً إلا لعذر، افترض أنه تعذر أن ينزلوا ويصلوا على الأرض فيصلي على دابته، كذلك لو كان المرء مسافر في طائرة، مثلاً ركب في منتصف الليل ولا ينزل من الطائرة إلا بعد الصبح فيصلي في الطائرة أو في القطار فرضه وهو على الدابة لأنه لا سبيل له إلا ذلك ولا يستطيع أن يؤجل الوقت حتى ينزل لأن الوقت يكون خرج، ﴿ فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ فهو يصلي على راحلته وعلى دابته، لكن إن كانت في إحدى الصلاتين جمع ظهر أو عصر وتمكن أن يجمع ويصلي على الأرض فهذا أولى له بل يجب عليه إذا تمكن من أن يصلي على الأرض جمعا سواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير فلا يصلي الفرض على الراحلة.
أيضاً ورد في صحيح البخاري عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ( كان يسبح على الراحلة قِبَلَ أي وجه توجهه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ) لكن استشكل هذا الحديث مع ما روي عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- من فعله بما أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- أنه ( كان يصلي على الراحلة تطوعا، فإذا أراد أن يوتر نزل ) أي: وصلى على الأرض، فكأنه يرى أنه يصلي الوتر على الأرض ولا يصليها على الراحلة، وأجيب عن ذلك بأنه يحمل أنه كان يفعل ذلك تارة وتارة .
فائدة أخرى تتعلق باستقبال القبلة حال تكبيرة الإحرام في النافلة، الحديث ظاهر الذي (كان يسبح على راحلته أو على ظهر راحلته حيث كان وجهه يوميء برأسه ).
وظاهر الحديث أنه لم يستقبل القبلة حال تكبيرة الإحرام للنافلة، لكن أخرج الإمام أحمد وأبوا داود وغيرهما من حديث أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ( كان إذا يتطوع في سفره استقبل بناقته القبلة، ثم صلى حيث وجهه ركابه ) ولذا استحب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وأبو ثور أن يستقبل القبلة بالتكبير حال ابتداء الصلاة ثم يتوجه حيث وجهته راحلته، ولعل هذا يكون إذا كانت القبلة جهة اليمين أو جهة الشمال منه لا تكون خلفه، لأنه قد يتعذر أن يتوجه ثم يدير نصف دائرة ويتجه إلى طريقه، فيستحب أن يتجه إلى القبلة عند صلاته ثم يتولى أو يسير مع الطريق حيث سار.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: (بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة)).
هذا الحديث يتعلق به عدة مسائل في الأصول والفروع:
أول المسائل التي في الأصول : قبول خبر الواحد. وعادة الصحابة في ذلك اعتداد بعضهم بنقل بعض.. لأن رجلا واحداً جاء إليهم وأخبرهم أن القبلة تغيرت فانصاعوا لقوله وقال: ( فاستقبِلوها ) فاستقبلواها، وهذا خبر واحد ففيه دليل على قبول خبر الواحد.
وعادة الصحابة -رضي الله عنهم- أن يقبلوا خبر بعضهم البعض ولا يشترط كل واحد منهم أن يأتي بعدد ليثبت صحة هذا الخبر عنده، وليس المقصود هنا أن يثبت قبول خبر الواحد بهذا الخبر الذي هو خبر واحد وإلا ذلك يكون من باب إثبات الشيء بنفسه، فمثلا يقول: ما الدليل على أن قبول خبر الواحد يُقبل؟ نقول الحديث، والحديث هذا دليل على قبول خبر الواحد بنفسه فيلزم منه الدور وكما يقول العلماء: الدور باطل.
لكن نثبت قبول خبر الواحد من عدة أمثلة وعدة أحاديث تدل على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقبلون خبر الواحد، كلمة "يلزم منه الدور" فمثلاً: من أين جاءت البيضة؟ من الفرخة، والفرخة من أين جاءت؟ من البيضة، ومن أين جاءت البيضة؟ لم نصل إلى نتيجة هذا هو الذي يلزم منه الدور .
فنقول: إن هذا الحديث دليل على أن خبر الآحاد حجة ونستدل بهذا الحديث ثم خبر الآحاد لهذا الحديث وهكذا يلزم منه الدور وكما يقول العلماء الدور باطل.
فلا نستدل بذلك على قبول الخبر الواحد ولكن بعدة أحاديث كثيرة تشير على أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يقبلون خبر بعضهم البعض وهذا حجة، وحديث الآحاد حجة في العقائد وفي العمل عند أهل السنة، وكما قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: إن حديث الآحاد حجة في العمل وفي العلم، في العلم أي: في الاعتقاد.
المسألة الأصولية الثانية في الكتاب وهي: نسخ الكتاب والسنة المتواترة هل يجوز بخبر الواحد أم لا؟ بمعنى: هل يمكن أن ننسخ آية بحديث آحاد؟ أو سنة متواترة بحديث آحاد, منعه الأكثرلأن الآية قطعية الثبوت.. والحديث متواتر قطعي الثبوت، ولكن حديث الآحاد ظني الثبوت،،، فلا ننسخ القطعي بالظني، لكن نُقل عن الظاهرية جواز ذلك استدلالا بهذا الحديث أن هذا الحديث نُسخ به الأمر المتواتر أو السنة المتواترة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة.
والمسألة فيها أخذٌ ورَدٌ بين الناس في ذلك، ولكن قول الأكثر: إن الكتاب والسنة المتواترة لا ينسخ بالأحاديث الآحاد.
المسألة الثالثة من المسائل الأصولية في الباب: نسخ السنة بالكتاب.
لأن السنة كانوا يتوجهون إلى بيت المقدس، وجاء الكتاب وأمرهم بالتوجه إلى الكعبة، فكأن الكتاب نسخ السنة ففي الحديث دليل على نسخ السنة بالكتاب وأن ذلك جائز، وهذا قول جماهير أهل العلم أن السنة تنسخ بالكتاب.
المسألة الأصولية الرابعة: اختلف العلماء في أن حكم الناسخ هل يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له أم لا؟ وتعلقوا بهذا الحديث وأنه لا يثبت، لا يثبت حكم النسخ في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب .
قالوا: إن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له لأنهم كانوا يصلون إحدى صلاتي العشي الظهر وأتاهم آت وأمرهم أن القبلة تحولت فتحولوا الاستنتاج من هنا.
إن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يعيدوا الجزء الذي قضوه من الصلاة.
فهم استمروا على صلاتهم مع أن قبل ذلك كان الخطاب قد نزل لكن لم يصل إليهم الخطاب وكان حكم النسخ ثبت لكن لم يصلهم ذلك، فالمكلف كان يعمل بالأمر الأول فلو قلنا: إنه يجب عليه أو أن حكم الناسخ يثبت في حقه لبطلت الصلاة واستأنفوها من جديد، لكنهم بنَوا عليها، فدل هذا على أن حكم الناسخ لا يثبت في حق المكلف قبل بلوغ الخطاب له.
أيضاً في هذا الحديث دليل على جواز مطلق النسخ، يعني هذه مسألة نُسخت فيها القبلة، فهذا دليل على جواز مطلق النسخ، لقوله تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة 106] وهذا لفوائد عظيمة جداً فالله -تبارك وتعالى- يراعي حال المكلفين فيأمرهم بأمر في وقت ما ذلك الأمر يكون أنسب لهم وفي وقت آخر لا يكون مناسبا لهم فيأمرهم بما يحقق مصالحهم في الوقت الآخر وينسخ الحكم الأول، وهذا لحكم عظيمة جداً فالنسخ جائز عقلا وجائز شرعا وواقع شرعا أيضاً.
أيضاً مما يؤخذ من الحديث من المسائل الأصولية قد يؤخذ جواز الاجتهاد في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن المعلوم أنه لا اجتهاد مع النص، وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- موجود لا يحل لأحد أن يجتهد، لكن قد يؤخذ منه أنه إذا تعذر أن يصل إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- ويسأله فجاز له أن يجتهد؛ لأنهم بنوا على صلاتهم، وهذا اجتهاد منهم أن الصلاة صحيحة، وكان يمكن أن يخرجوا من الصلاة ويستأنفوا الصلاة فهذا اجتهاد منهم، أن جزء الصلاة الذي صلوه صحيح وبنوا عليه .
فاستدل العلماء أنه قد يؤخذ من هذا الحديث جواز الاجتهاد في زمنه -صلى الله عليه وسلم- طبعاً عند تعذر الوصول إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإنه يجتهد ويقره الرسول -صلى الله عليه وسلم- على هذا الفعل أو لا يقره.
مسائل الفروع التي تستفاد من هذا الحديث:
المسألة الأولى: في الحديث دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة لمن هو فيها؛ لأنهم وهم يصلون أتاهم آت فقال: إن الله أنزل قرآنا بتغيير القبلة فاستقبِلوها. خاطبهم وأمرهم واستداروا واستقبلوا الكعبة. ففيه دليل على جواز تنبيه من ليس في الصلاة بما هو فيه، لكن مما لا شك هو كان مخبرا عن أمر واجب، أو عن أمر مقطوع بأنه ممنوع، فقد يكون ذلك مثلاً إذا نبه مَن خارج الصلاة مَن في الصلاة على أمر واجب؛ لأن بعضهم استدل بذلك على جواز الفتح على الإمام من الخارج، بمعني: إذا كنت تصلي وأخطأ الإمام فأنت تفتح على الإمام إذا كنت معه في الصلاة، أما إن كنت خارج الصلاة فلا تفتح على الإمام أو تفتح على الإمام، استدل بعضهم بهذا الحديث أنه يجوز أن يفتح على الإمام وهو في خارج الصلاة، لكن في هذا الأمر نظرا لأن القراءة التي بعد الفاتحة ليست واجبة، فلا يتحقق القياس كاملا، فعلى هذا لا ينبهه إن كان خارج الصلاة إلا لأمر واجب أو لترك أمر ممنوع.
أيضاً من المسائل الفرعية في الحديث: دليل على جواز الاجتهاد في القبلة ومراعاة السمت لأنهم استداروا ولم يستقبلوا عين البيت، لكن استقبلوا الجهة، فهذا أيضاً دليل على جواز الاجتهاد في القبلة واستقبال جهة القبلة أو مراعاة سمت القبلة؛ لأنهم استداروا إلى جهة الكعبة لأول وهلة وهم في الصلاة، ومما لا شك لم يتوجهوا إلى عينها أنه لا سبيل إلى ذلك فتوجهوا إلى جهتها.
أيضاً قد يؤخذ من الحديث أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له الخطأ أنه لا يلزمه الإعادة : لأنه فعل ما وجب عليه في ظنه مع مخالفة الحكم في نفس الأمر، كما أن أهل قباء فعلوا ما وجب عليهم عند ظنهم بقاء الأمر، ولم يفسد فعلهم، ولا أُمِروا بالإعادة، فيستدل من ذلك أن من صلى إلى غير القبلة بالاجتهاد ثم تبين له خطؤه أن صلاته صحيحة ولا يعيد.
من المسائل الفرعية المستفادة من الحديث :أن الحديث فيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله تعالى ولم تبلغه الدعوة ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره فالفرض غير لازم له، والحجة غير قائمة عليه، طالما أنه لم يتمكن .
وركب بعض الناس على هذا مسألة: من أسلم في دار الحرب أو في أطراف بلاد الإسلام حيث لا يجد من يستعلمه عن شرائع الإسلام هل يجب عليه أن يقضي ما مر من صلاة أو صيام ولم يعلم وجوب ذلك عليه؟ الحديث يدل على أنه لا يجب، وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (عن أنس ابن سيرين قال: استقبلْنا أنسا -رضي الله عنه- حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجهه من ذا الجانب، يعني عن يسار القبلة، فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة. فقال: لولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعله ما فعلته) ).
موضوع هذا الحديث:
يدل على جواز النافلة على الدابة إلى غير القبلة، وهو الذي تقدم في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يعني: لا توجد زيادة في هذا الحديث إلا أنه كان يصلي على حمار فقد يؤخذ منه طهارته لأن ملامسة الحمار مع التحرز عنه متعذرة فيدل ذلك على طهارة عرَقِهِ وطهارة بدنه وإن كان يحتمل أن يكون هناك حائل بينه وبينه، لكن الأصل عدم هذا الاحتمال والأصل هو الطهارة ولا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه، الأصل في الأعيان الطهارة.
صحيح ان لحم الحمار نجس لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حرم لحوم الحمر الأهلية لكن الحمار في ذاته وهو حي الأصل الطهارة . فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح، ماذا تعني ناقل صحيح؟ يعني نص نقل من كتاب أو سنة تبين أن هذا رجس أو نجس، فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا نص صحيح صريح لا يعارضه ما يساويه، ولو كان هناك نص يحكم بنجاسة شيء، ونص آخر يعارضه يحكم بطهارة هذا الشيء فسقط وعدنا إلى البراءة الأصلية وقلنا: إن هذا الشيء طاهر، فالأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه، ناقل صحيح لو هذا الناقل نقلنا من البراءة إلى النجاسة لكن عارضه ما يساويه لسقط،
فلو كان هناك نص يبين أن عين ما من الأعيان نجسة ونص آخر يبين أنها طاهرة وهو أقوى منه فيسقط هذا النص، إذن الأصل في الأعيان الطهارة لا ينقل عنها إلا ناقل صحيح لا يعارضه ما يساويه أو يقدم عليه فيسقط القول بنجاسة هذه الأعيان.
أيضاً في الحديث (استقبلْنا أنسا حين قدم من الشام فلقيناه بعين التمر) عين التمر هذا موضع معروف بطريق العراق مما يلي الشام.
وأيضاً في صحيح مسلم عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- (كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلي على حمار وهو متوجه إلى خيبر) وهذا فعل أنس وأيضاً هو فعل الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع
التعديل الأخير: