ام عبد المولى
مراقب عام
- إنضم
- 26 سبتمبر 2012
- المشاركات
- 2,741
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المغرب
- احفظ من كتاب الله
- الجزء الخامس
- احب القراءة برواية
- ورش
- القارئ المفضل
- الشيخ الحصري
- الجنس
- اخت
تفسير الحروف القرآنية وفق المنهج النووي
مقدمة
حروف ونوى
من حيث التسمية, فإن الحرف في اللغة لا يقتصر على (أ, ب, ....الخ), فبعض التراكيب مثل «من» أو «على» تسمى حروف جر, بما يؤكد أن تسمية «الشيء اللغوي» بالحرف يرتبط بطبيعة المنظور الذي يقرأ به وجملة الاعتبارات التي تحيط به, فليس في اللغة حرف مطلق, أو تسمية مطلقة.
لذلك فتسمية النوى اللغوية التي ترد في بداية بعض السوّر القرآنية بحروف, هي تسمية تنتهي صلاحيتها عندما نتناولها من منظور معرفي خاص يعنى بجوانب فكرية تندرج في إطار فقه اللغة, أو علم الأنثربولوجيا, أو تندرج في إطار نوع خاص من الدراسات القرآنية.
والتسمية المناسبة التي تصلح لموضوع هذا الاكتشاف, هي النوى اللغوية التي تأسست عليها التراكيب, وما يرد منها في معرض الخطاب القرآني.
تلك النوى هي في حقيقتها أسماء/تسميات, لأنها كانت تحمل معانيها البدائية التي تعلمها الإنسان الأول بالفطرة, وراح يستخدمها ويؤسس عليها تراكيب ثنائية وثلاثية في مسار تاريخي طويل, شهد أطوار حضارية مختلفة, ومازال الإنسان في مساره يراكم خبراته بمضمون مثلث الحضارة «لغة فكر تاريخ».
وبهذا المعنى يمكن القول أن اللغة في نشوئها وتطورها بدأت بمرحلة يمكن تسميتها مرحلة الأسماء البدائية أو المرحلة النووية, فلو لم يكن لتلك النوى معنى مفهوم ومتداول, لما كان ممكناً أن تتشكل على أساسها تراكيب لغوية تصلح للتداول.
وهذا الأمر من منظور قرآني, نجده بالغ التأكيد, والإشارة البليغة هي أساساً في ورود تلك النوى بمفردها في آوائل بعض السوّر, إذ يشكل الأمر بذاته دليلاً على أن تلك النوى هي تسميات فعلية, تجاوزتها حدود البلاغة والبيان.
الفصل الأول - الصيغة «كـهـيـعـص»
وهي الصيغة الواردة في سورة مريم, ولنبدأ بالنواة «ك» حيث أود الأشارة أن تناول موضوعها التصويري الذي يمثل المغزى من الطريقة التي اصطلح عليها في كتابة (ك) وغيرها من النوى اللفظية, يدخلنا في مجال الدراسات اللغوية التي تختص بجانب علمي يعرف بعلم «الأثروغرافيا» وهو علم يدرس تاريخية البنية التصويرية للأبجديات, وتطورها, ولم أجد ضرورة لتناوله في هذا الكتاب, كي لا يتشعب الموضوع ويخرج عن طابعه التبسيطي, لكن يمكن لمن يتأمل في بنية النواة «ك» أن يلاحظ همزة التعريف القائمة عليه.
والكاف نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الكينونة, الكائن, الشيء في تموضعه, الماثل, الموجود, القائم, ..., حيث تعبر تلك المترادفات عن معنى النواة «ك» التي يمكن فهمها بمعنى الشيء عندما نجده ونوليه الاعتبار.
ولو تناولناه في وروده القرآني, لوجدناه يرد مرة واحدة في سورة مريم, «كـــهيعـص • ذكر رحمة ربـّك عبده زكريا • إذ نادى ربه نداءً خفيـّا • قال ربّ إنـّي ...».
ولو قرأنا السورة وتأملنا في معانيها, لوجدنا أن السورة تستفتح بقصة زكريا التي تتمحور حول دعائه لربه كي يهبه ولداً صالحاً بعد أن بلغ من العمر عتيا, وملاحظة الحالة المتمثلة بزوجته العجوز.
إذا فالقصة تشغلها ثنائية العقم والولادة, وهي توازي ثنائية العدم والوجود, وهذا يشير للمغزى من ورود الكاف في بداية السورة, فهي نواة الكينونة والوجود, نواة الشيء حين نبحث عنه فنجده, نواة الكائن الذي نجده ونوليه الاعتبار.
«هـ» هي نواة لغوية يمكن مقاربتها بمعنى الغائب, الغيب, الخيال, غير الموجود, الوهم, ..., لكنها في بداية التركيب تمثل باب الإشارة المعروف للغائب عند حضوره, فالهاء تخص ثنائية الحضور والغياب, فقد يحضر الغائب بذكره, وقد يغيب الحاضر عن الخطاب, فكلمة «هو» على سبيل المثال تستخدم للإشارة للغائب, كما تستخدم للإشارة للحاضر, حيث يكون الحاضر غائباً عن المخاطبة.
ويمكن أن نستشف هذا المعنى من صورة الحرف المكتوب, مع ملاحظة تميز كل لغة بطريقتها الخاصة في التصوير, والانتباه للتطورات التي شهدها المسار التاريخي لعملية نشوء الأبجديات وتطورها في حضارات الشعوب المختلفة.
وهو يرد في الكتاب مرتين, في سورتين متتاليتين, هما مريم وطه, ونلاحظ أنه يأتي في سورة مريم ضمن الصيغة «كهـيعص» فإذا كانت الكاف قرينة الكائن في وجوده وتواجده, فإن الهاء هي قرينة غيابه, أو قرينة ظهوره بعد الغياب, وهي تتجسد في معاني قصة زكريا, ولاسيما وقوفه على باب الغيب.
ولو أخذنا الجذر «كه» ويقرأ نووياً بمعنى الغيب في باب الوجود, ويمكن ترجمته بمعنى استحضار الغيب, أو الوقوف على بابه, وهذا المعنى نجده في التركيب «كهل» وفيه اللام التي سآتي على ذكرها لاحقاً, وهي نواة الطبيعة, الإرادة الإلهية, الطبيعة التكوينية, واقع الحال,.. ومنه «كهل» تقرأ بمعنى الطبيعة في باب الوقوف على الغيب, وتفهم بمعنى الرجل الكبير في السن بما يتوافق مع قصة زكريا, وبما يشير إلى أن البلاغ القرآني لا يحصر المعنى في حالة الكهولة «كهل» وإنما في حالة وجدانية تأخذ فيها الكهولة بعداً مجازياً «كه» أي أن زكريا هرم بعلمه ولم يهرم بعمره, وهذا على كل حال قراءة خاصة يمكن مناقشتها في إطار فقهي مستقل.
كما نجده في «كهن» حيث النواة «ن» وهي نواة لغوية تفهم بمعنى الذات, الموضوع, محور الاهتمام.., لكنها غالباً ماتميل لمعنى النعمة, وبذلك نقرأ «كهن» بمعنى الذات الموضوعية والنعمة في باب الوقوف على الغيب, ومنه معنى الكاهن والكهنوت.
وفي «كهف» ويقرأ بمعنى الحاجة والمنفعة/ف في باب الوقوف على الغيب, وهو معنى نجده في طبيعة الكهف المعروفة, وهي كلمة ترد في الإنكليزية بنفس اللفظ «Cave» وهنا أود الإشارة لمسألة بالغة الأهمية, وهي أن معظم الباحثين, غالباً ما يفسرون ظاهرة تطابق بعض التسميات في لغات مختلفة, بأنها نقلت من لغة إلى أخرى, والحقيقة أن اللغات وإن كانت تستعير من بعضها, لكن هذا ليس هو التفسير الوحيد لتطابق تسمية معينة بين لغتين مختلفتين.
وتجدر الإشارة أن النواة «هـ» تنافست تاريخياً مع النواة «ل» على تسمية معنى الجلالة, هذا الأمر يمكن أن نستشفه من الروايات المتناثرة في عديد المصادر, حول التسمية الأكادية القديمة «ألُ» والتسمية «يهوه» ويمكن أن نستشفها من التسمية المعاصرة «الله».
«ي» الياء نواة لغوية تمثل جملة انفعالية معينة, حيث نميز بين ورودها في بداية التركيب, وورودها الذي تتبع فيه ماقبلها وتحمله إلى انفعاليتها, وهي انفعالية يحددها السياق, وتشمل انفعالية التملك والتمكن والرغبة والتطويع والانكسار والسقوط والأسفل والقتل والغضب, والتأكيد, وغيرها من الإنفعالات الخاصة بالياء, وهي في بداية التركيب تمثل نواة النداء, وهي في صيغة التعريف «أي» فتعني التأكيد والتفسير, وهي بذلك تختلف عن جملة انفعالات الواو, التي تشمل انفعالية التعجب والتفخيم والتبجيل والتعيين والتهويل والنفي والاستفسار والعطف وما يشاكلها, وكذلك جملة الألف الممدودة والمقصورة «ا, ى» وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار.
وهي ترد في الكتاب مرتين, مرة في «يس» وفيها تكون ابتدائية, ومرة في سورة مريم, وفيها تكون لاحقة, ويمكن أن نستشف معناها في الورود القرآني من خلال قصة زكريا, التي تتمحور حول بلاغة النداء «..إذ نادى ربه نداءً خفيـّا» كما تنطوي السورة على معنى الياء التي تحمل انفعاليتها الخاصة في «خفيـّا, وليـّا, رضيـّا».
وفي سورة «يس» «يس • والقرآن الحكيم • إنك لمن المرسلين» والتي سأناقشها لاحقاً من باب النواة «س» حيث يمكن أن نستشف إشارة لدور الياء في مقام التصريف, فلو أخذنا كلمة «حكيم» فالكلمة من أصل «حكم» وبالتصريف تصبح «حكيم» والسؤال لماذا لم تكن «حكوم»؟, وهنا يتبين مغزى التصريف, لأن الياء في الحكيم هي دالة على انفعالية التأكيد وما يقاربها في ارتباط الصفة بالموصوف, حيث نلاحظ أن الياء تستخدم في معظم الحالات المشابهة مثل «حكيم, رحيم, عظيم, ...» بينما نجد حالات أخرى تحل فيها انفعالية الواو أو الألف الممدودة, مثل «صبور, شكور, جسور» حيث تختلف الطبيعة الإنفعالية المطابقة لطبيعة التصريف, فهي انفعالية أقرب للتعيين أوالإعجاب أوالاستغراب أو التحديد, كذلك نلاحظ أنها في حالات نادرة ترد بألف المد مثل «جبان» حيث أن المد هو انفعالية التعريف والإخبار والتعميم, وهو يستخدم في تصريف حالات تجسد أصل القيمة مثل «جمال, منال, كمال ..».
كذلك في مقام تصريف الإعراب, نجد الفرق بين الصيغة الصحيحة «إنـّك لمن المرسلين» والصيغة الخاطئة «إنـّك لمن المرسلون» حيث الياء تتبع انفعالية السياق, فنجدها تستبدل بالواو في «فهم غافلون» لأن القيمة الإنفعالية التي يحملها السياق أقرب لجملة الواو في التعيين والتحديد.
وكي نفهم طبيعة هذه النواة في وروداتها الأصيلة, فيمكن مناقشتها في التركيب «شيب» وهو أصل ورودها في «....واشتعل الرأس شيباً» حيث «شيب» تقرأ بتمركز معنى الفعـّالية «ب» في باب الجذر «شي» وهنا لا بد من الإشارة لنـّواة «ش» وهي نواة الإشارة الشينية, وسميتها شينية للتمييز بينها وبين الهاء, التي هي نواة تفيد بمعنى الإشارة على وجه المعروف والمستدرك, بينما الشين هي نواة الإشارة على وجه الملفت والداهم والمجهول والمعاينة, أي أن الشين نواة تفهم بمعنى الإشارة للحدث في وقوعه, أو الشيء في ظهوره الملفت أو المريب, ومنه الجذر «شي» وهو يقرأ بمعنى الداهم الانفعالي, أو الانفعال بالشيئ, وهكذا نقرأ «شيب» بمعنى الفعـّالية «ب» في باب الإنفعال بالشيء, وتفهم بمعنى الأثر الذي يتركه الزمن على الإنسان في مكابدته لمشاق الحياة, وتجدر المقارنة مع «شب» ويقرأ بمعنى الفعـّالية في باب الإشارة الشينية, وتفهم بمعنى الشب في إشارة لحيوية الشباب, وللنار عندما تزداد فاعليتها.
وقبل أن أدخل في مناقشة العين, تجدر الإشارة أن النوى الثلاث «ك, هـ, ي» تمثل ثلاثية الأنا والهو والأنت, في إشارة لدور الكاف في المخاطبة, والهاء في الغائب, والياء للمتكلم.
كما تجدر الإشارة للطبيعة التصويرية التي تكتب فيها الياء «ي» فهي توحي بمعاني الملكية والمغنم والداخل والأسفل ...
«ع» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الوعي, الاعتبار, الرادعية, التحسب, التعقل, التقدير,... ويمكن التأمل في بنيتها التصويرية, حيث يمكن أن نستشف من رمزيتها معنى الرادعية والوقوف على ما يفرضه المقام, حيث نلاحظ كيف تتحول عند التصريف إلى الشكل «ـعـ» الذي يشبه رأس الإنسان الذي يحتوي على دماغه, وهي ترد في الكتاب مرتين, في سورة مريم «كهيـعص» وفي سورة الشورى «حم, عسق» التي سأناقشها في معرض «حم».
وهي في أول ورودها نجدها في «عبده» وهي إشارة بليغة تعبر عن الحكمة في عبادة الإنسان لرب العالمين, فذروة الوعي هي في وقوف الإنسان عند مقام ربـّه, ومعرفة ما يقتضيه المقام.
ولو تناولنا التركيب «عبد» فهو يقرأ نووياً من خلال تمركز معنى الجسد «د» في باب فعـّالية الوعي والتدبير, والجسد هنا هو دالة على الطبيعة البشرية التي يجسدها الإنسان في وجوده في هذا العالم, لذلك فإن عبوديته لربه, يمكن فهمها وفق التركيب «عبده» فتعني استرشاده بالله واكتسابه للعلم والمعرفة التي يهديه إليها كي يتدبر شؤونه في هذا العالم الذي خلق فيه, وكي يعيش حياته بطريقة مثلى.
«ص» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الثبات, الرسوخ, المتانة, الصلابة, الالتصاق, ويمكن التأمل في طبيعتها اللفظية وفي بنيتها التصويرية, حيث يمكن أن نستشف معنى الثبات والرسوخ والعزم, حيث نلاحظ كيف تحافظ على نبرتها «نتوئها» عند التصريف في الشكل «صـ» وهي ترد في الكتاب ثلاث مرات, في سورة الأعراف, وفي سورة مريم, وفي سورة ص.
ولو ناقشناها حسب ترتيب الورود, فنجدها في سورة الأعراف «المص • كتاب أنزل إليك فلايكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين».
وهنا نجد الإشارة لمعنى الثبات والصلابة في كلمة «صدرك» سواء كانت إشارة من أصل البلاغ القرآني, أم كانت من أصل البنية النووية للتركيب.
كما نلاحظ ورود الصاد مع صيغة «الم» وهي صيغة تتكرر ست مرات, تشمل سورة البقرة وآل عمران و الروم والعنكبوت والسجدة ولقمان, فإذا أضفنا إليها «المص» في الأعراف و «المر» في الرعد تصبح ثمانية, فإذا أضفنا الصيغة «الر» التي تتكرر خمس مرات, تصبح ثلاث عشر من الصيغة «أل» ثمانية منها من الصيغة «الم» وخمسة من الصيغة «الر».
وهنا تجدر الإشارة للنواة «أ» فهي نواة التعريف في حالة الهمزة, وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار في حالة المد غير المهمـّز, وهي في ورودها القرآني تحمل معنى الكتاب, الذي يجسد معنى التعريف في طبيعة البلاغ.
وبذلك يمكن قراءة الصيغة «الم» بمعنى الخلاصة والأصل «م» في كتاب الله «أل» أو المجموع في كتاب الله, أو الأصل في معرفة الله, وهذا يمكن فهمه على نحو إجمالي بمعنى كتاب الله المنزل.
وبذلك يمكن قراءة الصيغة «المص» بمعنى الثبات والرسوخ والثقة في كتاب الله المنزل, وهذا يتوافق مع معنى النص «كتاب أنزل إليك فلايكن في صدرك حرج منه .. ».
وبالعودة لسورة مريم وقصة زكريا, فلو أخذنا الجذر «عص» ويقرأ نووياً بمعنى الثبات والرسوخ في باب الوعي والتدبير, ويفهم بمعنى التمسك بالأمر والثبات على الموقف والثقة بالنفس, كما يفهم بمعنى الشيء الثابت المعتبر, وهو جذر يرد في عديد من التراكيب, منها «عصا» و«عصى» وهو صيغة التعميم في معنى الثبات والتمسك بالموقف, وهو معنى العصيان والخروج عن السلطان.
كما يرد في «عصر» ويمكن مناقشته وفق معاني مختلفة منها وقت العصر, ومنها معنى العصور, ومنها العصير, ففي معنى وقت العصر, فيقرأ «عصر» بمعنى الحركية في باب الوضع الثابت المعتبر, وهو وقت انكسار الشمس نحو المغيب, وهو نفس المعنى الذي يحمله التحول بين العصور, ويمكن مجازياً تشبيه نهاية كل عصر بشمس آفلة.
وهكذا يمكن وضع قراءة إجمالية للصيغة «كهـيـعص» على النحو ... التأكيد على الثبات واليقين في باب الوقوف على الغيب.
الفصل الثاني - قراءة في جملة الصيغ النووية «الم - الر»
في الفصل السابق تناولت الصيغة «كهيعص» الواردة في سورة مريم في معرض مناقشة شاملة لجملة النوى القرآنية الأربعة عشر التي شكلت على مدى قرون طويلة سؤالاً استفهامياً مفتوحاً ينتظر الإجابة, ولا بد من الإشارة هنا, أن المنهج النووي في التفكيك, يمثل موضوع دراستي التي أطرحها كبراءة اكتشاف, وهو يشكل الأساس المعرفي الذي لا يمكن أن تفهم بدونه الحروف القرآنية, لذلك فقد يكون مؤسفاً ألا نجد له أثراً في المنتوجات الفكرية المعاصرة, أو في موروثنا الثقافي وما تناقل إلينا من أخبار السالفين, بما يشير لفجوة ثقافية تاريخية تتجسد ملامحها في افتقاد حركة الفكر العربي المعاصر لصورة واضحة تجسد تاريخ نشوء وتطور اللغة, وعلاقة اللغات المختلفة ببعضها, إضافة لجوانب تاريخية مختلفة مازال الأكاديميون التاريخيون والأركيولوجيون يتعاركون فيها, في نظريات وقراءات مختلفة, تجهد في محاولات لمعرفة الجوانب التاريخية والفكرية التي رافقت تاريخ اللغة والأديان وعملية اختراع الأبجدية, وفي نسبتها لشعب معين, ومعظم تلك الدراسات تشوبها نزعات أيديولوجية تفقدها طابعها الأكاديمي, وتمنعنا من اعتمادها والارتكاز عليها لبناء جيل غير مضلل, يمتلك وعياً تاريخياً صحـيـّاً وصحيحاً, ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار, أن تلك البيئة البحثية, هي بيئة الأديان الرئيسية الثلاث التي تتقاسم ثلاثة أرباع العالم, والتي تحولت لمعاقل تحد من قيمة الفكر وحرية البحث المعرفي, الذي يمكن له أن يصل لنتائج تخالف طبيعة بنيتها المغلقة, إضافة للحساسية الكبيرة التي تحملها قضية «إسرائيل» بأبعادها التاريخية والسياسية البالغة.
الصيغ النووية في الإطار اللغوي العام
قبل أن نتعرض للنوى القرآنية وما تجسده في وروداتها الخاصة, يجب أن نقرأها في إطارها اللغوي العام, وأن نختبر صلاحية تلك القراءة في الورودات اللغوية المختلفة.
فلو أخذنا حرف الألف «أ» فهو يمثل حالة مركبة تحتاج لتفكيك, لأنه يشمل مكونين مجتمعين يمثلان الثنائية الرقمية «0, 1» فالهمزة توازي الرقم صفر وترسم في مدّها اللفظي الرقم واحد.
والهمزة كنواة للتعريف ترد مع المد بمقتضى اللفظ, وبذلك فإن الألف هو المد«ا» ويرفق بالهمزة في صيغة التعريف.
وهذا يفسر لنا كيف أن الصيغة القرآنية تكتب «الم» بينما تلفظ على النحو «أ ل م» ولو تأملنا في كلمة «ألف» لوجدنا الجذر «لف» ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة «ف» في باب الطبيعة «ل» ويفهم بمعنى طبيعة احتياجية, أو حاجة الطبيعة, ومنها معنى الإلفة والتآلف واللف والالتفاف, وبذلك تكون «ألف» وتقرأ بمعنى طبيعة احتياجية في باب التعريف, وبذلك يتضح معنى المد في حاجته للهمزة لضرورة اللفظ.
والهمزة نووياً هي نواة التعريف/صيغة التعريف, أضيفت لها اللام على نحو مستحدث, فاستحدثت بها صيغة التعريف المعروفة «ال» في إشارة لقيمة اللام في الحضارة القديمة, وارتباطها بالمعبود, وتم اصطلاح ما يسمى همزة الوصل «ا» وهي ألف غير مهمزة, تكتب ولا تلفظ, تستخدم في حالات خاصة من نمط «ال» التعريف ومن نمط يشمل جميع الكلمات التي تبدأ بحرف ساكن مثل «اصطلح».
والمد «ا» يمثل انفعالية الهمزة, وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار, وهذا يفسر طبيعة التداخل بين كلتا النواتين, واشتراكهما في معنى التعريف.
سأترك المناقشة اللغوية الشاملة للحالات «أ, إ, ا, ؤ, ئ, ى, ء» كي لا تأخذ المناقشة طابعاً تدريسياً عاماً, فما يشغلنا في هذا المقام هو جملة النوى القرآنية.
لنأخذ التركيب «أم» ويقرأ نووياً بتمركز معنى الأصل/المصدر «م» في باب التعريف, وهذا المعنى نجده يترجم باتجاهات عدة, فهو يفهم بمعنى الأم في إشارة لمكانتها كوالدة, كما يفهم وفق الصيغة البلاغية «أم» التي يمكن معاينتها في «أفلم يدّبّروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين» حيث نجدها تستخدم في محل تجميع وتأصيل للقيمة البلاغية, وهنا تجدر الإشارة للنواة «م» فهي نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ الأصل, المصدر, المجموع, الخلاصة, ولو تأملنا في بنيتها التصويرية التي تكتب فيها «م» فيمكن أن نستشف هذا المعنى من شكلها المرسوم, كما نستشفه من طبيعتها اللفظية.
وبالمناسبة, فإن الميم ترد في تسمية الأم في لغات مختلفة, فهي في الفرنسية «Mere» كما أنها ترد بتسمية مشابهة للعربية «Maman» وفي الإنكليزية «Mother» كما نجدها في كلمة امرأة و«madam».
لذلك فيمكن وضع الأم في جملة المترادفات التي نقارب فيها النواة «م» حيث نلاحظ أنها ترد في الكتاب بقيمتها المجازية في « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ...» «آل عمران» وتفهم أم الكتاب بمعنى خلاصته الإجمالية/الكلية, وهي الجملة المحكمة التي تم تفصيل الكتاب على مضمونها.
ولنأخذ الصيغة «أر» حيث نجد النواة «ر» وهي نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الحيوية, الحركية, الأرض, العالم, الحياة.
ولو تأملنا في بنيتها التصويرية «ر» فيمكن أن نستشف ما يقارب هذا المعنى, فهي ترد في جملة من النوى المشابهة «ر, ز, و» حيث «ر» قرينة الحركية والحيوية, وحين توضع عليه نقطة يصبح زين أو زال, وهي نواة لغوية تحمل معاني الاهتزاز والسرعة والكثرة والتزايد, وحين تعلوه الرأس في واو, يصبح نواة تعبر عن جملة انفعالات تشمل الانبهار والتعجب والدهشة والاستغراب والتهويل والتعيين وما يشاكلها من جملة انفعالات الواو.
والجذر «أر» يقرأ بمعنى الحركية والحيوية/ر في باب التعريف, ويفهم بمعنى مساحة من الأرض, ويرد في «أرض» وهي تقرأ نووياً بمعنى صعوبة البلوغ والمنال «ض» في باب مساحة الأرض «أر» وهو معنى الأرض في إشارة لأبعادها الشاسعة.
والملاحظ أن الراء ترد في تسمية الأرض في اللغات المختلفة, فهي في الإنكليزية تلفظ «إرث» حيث النواة «ث» وهي نواة الاستمرارية والمتابعة, ولو تأملنا في كلمة «إرث» لتبين لنا تفسير التطابق اللفظي على اختلاف المعنى بين دالة التوريث العربية ودالة الأرض الإنكليزية, حيث أنها في التفكيك تقرأ «إرث» بمعنى الاستمرارية والتتابع«ث» في باب مساحة الأرض, وهذا يفهم في الإنكليزية بمعنى الأرض في إشارة لاستمراريتها, ويفهم في العربية بمعنى التوريث وتتابع الملكية على نحو مستمر.
ونجدها في الفرنسية تلفظ «تيرّ» وتقرأ بمعنى الأرض «رّ» في باب الاكتمال والبلوغ «ت» وهذا يؤكد ما أشرت له سابقاً, وهو أن التسمية لا تمثل المسار الحتمي للمعنى, وإنما تعبر عن مساره التاريخي المرتبط ببيئة اجتماعية خاصة, تفاعلت في ظروفها النوى, ورسمت ملامح لغتها المميزة, وأن اختلاف التسميات بين اللغات المختلفة, ليس دليلاً على انعزالها النووي.
«ل» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ الطبيعة, الإرادة الإلهية, الطبيعة التكوينية, طبيعة الأشياء, واقع الحال,...الله.
يمكننا مناقشتها وفق الجذر «لم» ويقرأ نووياً بمعنى الأصل/المجموع في باب الطبيعة, ويفهم بمعنى اللم والتجميع, ومنه اشتق حرف الجزم «لم» على نحو بلاغي.
والجذر «لم» يرد في تراكيب عديدة, منها «علم» ويقرأ بمعنى التجميع في باب الوعي والاعتبار, ويفهم بمعنى العلم والتعلم, كما يفهم بمعنى الراية الوطنية التي تجمع شعباً من الشعوب.
كما نجده في «حلم» ويقرأ بمعنى التجميع واللم في باب الإحساس «ح» ويفهم بمعنى الحلم وهو المنامات, كما يفهم بمعنى الحلم وهو معنى الحليم الذي يضبط أعصابه في الانفعال.
وهنا تبرز القيمة النووية في تفسير المعاني, حيث نلاحظ في تفكيك الكلمة «حلم» كيف تتجسد خواص الحلم في أصل بنيته اللغوية, علماً أنه كتركيب ثلاثي الأبعاد, فإنه يقرأ وفق جذريه «ح - لم» و «حل - م» وعندما تعطي كلتا الطريقتين نتيجة واحدة, نقول عن التركيب أنه ثلاثي الأبعاد, أو ذو طبيعة مثلثية.
«ح» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الحس, الإحساس, الشعور, الانفعال.
ولو ناقشناها في بنيتها التصويرية, فسنجد أنها تأتي في جملة «ح, ج, خ» حيث النقطة التي تعلوها في «خ» تشير لمعنى الخاء كنواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ المباغتة, المفاجأة, الإصابة, الخبر...
والنقطة التي تحويها في «ج» فإنها تشير لمعنى الجيم كنواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ المجيء, الحضور, الجلب والإحضار..
ولو أخذنا الجذر «حل» ويقرأ نووياً بمعنى الطبيعة في باب الإحساس, وهذا يترجم وفق المعنى المعروف «حل/طبيعة الإحساس» ومنه معنى حل المشكلة, ومنه معنى الحلال, ومنه يشتق معنى حلول ومحل وانحلال, وهو في «حلو» يأخذ معنى قريب يحمل انفعالية مميزة.
والجذر «حل» نجده في «حلف» ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة في باب الحل, ويفهم بمعنى التحالف, كما يفهم بمعنى الحلفان, حيث نلاحظ كيف يختلف المعنى في «فحل» وهو يقرأ بمعنى الحل/طبيعة الإحساس في باب الحاجة.
ولو أعدنا قراءة كلمة «حلم» وفق الجذر «حل» فنجده يقرأ بمعنى الأصل/التجميع «م» في باب طبيعة الإحساس«حل» وهذا يمكن ترجمته بمعاني الحلم المعروفة, وهنا تجدر الإشارة لدور الحلم في الحضارات القديمة والاعتماد عليه في حل الكثير من الأزمات.
الصيغ النووية في بيئتها القرآنية
في الفصل السابق تناولت الصيغة «الم» وقرأتها على نحو .. الأصل /المجموع «م» في باب معرفة/تعريف «ا» الله/الطبيعة «ل» وذكرت أن هذه القراءة النووية يمكن فهمها بصيغة اجمالية من نمط .. كتاب الله المنزل, الأصل في معرفة الله, خلاصة كتاب الله, .., لذلك لا بد من الإشارة أن شفافية المكونات النووية في الصيغة, تتيح الإمكانية لقراءات متعددة, لكني تبينت من خلال الدراسة والتأمل, أن القراءة الأصح هي التي تحمل معنى الخلاصة الكلية «أم الكتاب» أي القراءة على نحو .. الأصل المحكم في كتاب الله, وهذا ستؤكده المناقشة اللاحقة.
«المر» وترد في سورة الرعد, «المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربـّك الحق لكن أكثر الناس لا يؤمنون».
وهي سورة تحمل في مضامينها صوراً رمزية تبجيلية لله في مظاهر الخلق التي يجسدها الكون, وفيه إشارة بليغة إلى البرق والرعد والماء المنهمر من السماء, وتلك المعاني يمكن أن نستشفها في مضمون الصيغة «المر» حيث تقرأ وفق التحليل النووي على النحو الأرض/العالم «ر» في باب كتاب الله المجموع/ المحكم «الم» ويمكن قراءتها اجمالياً على نحو ... مجموع/محكم كتاب الله إلى الأرض/العالم, أو الكتاب المنزل من السماء إلى الأرض, وهذا المعنى نجده يتأكد في الرمزية البليغة التي يمثلها الرعد.
وهنا يجدر التنويه, أن اختياري لثنائية أرض/عالم من بين جملة مقاربات الراء العديدة, ليس نازعاً تحايلياً, فطبيعة التسميات والتراكيب هي التي تشد النوى التي تحتويها إلى سياق معنوي يختار منها ما يتناسب مع طبيعته, وهذا أمر يعرفه كل من يشتغل في مجال الترجمة.
«الر» وتقرأ نووياً بمعنى الأرض/العالم في باب معرفة الله/ال, ويمكن فهمها اجمالياً على النحو .. كتاب الله في الأرض, وهي صيغة يمكن فهمها بالمقارنة مع الصيغة «المر» حيث نلاحظ غياب الميم, وهي دالة الأصل والمحكم والتجميع.
وهذا يشير لحقيقة مفادها أن الكتاب تم تفصيله على أساس جملة مضامين كليـّة محكمة, والمقصد هو التمييز بين الكتاب في خلاصته الكلية المحكمة «الم» وهي المضمون المعرفي والخلاصة الكلية أم الكتاب, الذي يفوز به الدارس المتأني في جهده واجتهاده, وبين الكتاب في تفصيله «الر» وهو سبيل الدارس لبلوغ المضمون الأصيل المستبطن في مكنون الكتاب على مدارج البحث والدراسة.
وهذا ما يفسر كيف أن «الم» تستقل بذاتها في السور التي ترد فيها, بينما نجد الصيغة «الر» تدمج بما يليها من بيان.
وهذا المعنى يمكن أن نلاحظه في مضامين السور التي ترد فيها الصيغة «الر» وهي ترد في خمس سور هي ..
سورة يونس «الر تلك آيات الكتاب الحكيم» وهنا تكون الميم في مضمون البيان «تلك آيات الكتاب الحكيم» للإشارة إلى حقيقة أن تفصيل الكتاب «الر» يتبع لقيمة إجمالية هي خلاصته المحكمة التي اقتضى تفصيلها كي يتعلمها عموم الناس.
سورة هود «الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» وهنا نجد الإشارة الواضحة للمقصد المذكور.
سورة يوسف «الر تلك آيات الكتاب المبين • إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون • نحن نقص عليك ...»
وهنا تتجسد الفكرة في الإشارة إلى الخصوصية العربية التي نزل فيها الكتاب, وهي إشارة إلى أن الخطاب يوائم - في تفصيله - عقل المخاطبين ولسانهم وطبيعة وعيهم ومداركهم, وهذا يفرض على جملة الكتاب المحكمة أن تجد تفصيلاً يتمكن المخاطبون من استيعابه, وهنا تبرز قيمة القصة كشكل من أشكال تبسيط الموضوع كي يستوعبه الناس على قلة مداركهم «نحن نقص عليك ..».
وبنفس المعنى يمكن استعراض الصيغة «الر» في سورة ابراهيم وفي سورة الحجر.
أخيراً, يجدر التنويه أن الراء ترد في الكتاب ست مرات, وربما يحمل ذلك معنى الراء في إشارة للفراغ الكوني في سداسية المكعب, وهي الأمام والخلف والأعلى والأسفل واليمين واليسار, وهو معنى الحركية والأرض والدنيا والحياة والعالم الذي نعيش فيه.
كما أن الملاحظ أن الصيغة «الم» ترد مرة واحدة في صيغة «المص» ومرة واحدة في صيغة «المر» حيث يمكن أن نستشف منها إشارة لثنائية «الحركة - السكون».
الفصل الثالث - الصيغة القرآنية «طسم/طس - طه»
«ط» نواة لغوية تقرأ في الفهرس النووي في جملة مرادفاتها؛ الوجهة, الاتجاه, الانبساط, الطبقات, ..الخ. نجدها بدلالاتها البليغة في؛ طريق, طي, طول, مط, نط, حط, قط, طير, ...الخ.
ولو تأملنا في بنيتها التصويرية, فيمكن أن نستشف هذا المعنى, حيث نلاحظ أنها تأتي في جملة النوى؛ ط, ظ, صـ, ضـ, حيث نجد بالمقارنة كيف تشكل الصورة «صـ» تمثيلاً لمعنى الثبات والرسوخ والالتصاق,.. وهي مع النقطة التي تعلوها في «ضـ» تصبح صورة تمثيلية لمعنى صعوبة المنال/صعوبة البلوغ, وبزوال النتوء من «صـ» تصبح «ط» صورة تمثيلية للخروج من حال الثبات في اتجاه ترسمه العصا القائمة, التي تعبر عن عملية اتخاذ وجهة. والنقطة التي تدخل عليها في «ظ» هي إشارة للمشقة والأذى والمخاطر التي يحملها الطريق.
وبذلك تصبح الجملة النووية على النحو؛ «ص» الثبات والرسوخ والالتصاق «ض» صعوبة المنال والبلوغ, «ط» الوجهة/الاتجاه الطريق «ظ» المشقة الأذى المصيبة البلاء المعاناة.
«س» نواة لغوية تقرأ في جملة مقارباتها؛ الإنسان/الإنسانية, النفس, الشخص, خاصية الحياة في الكائنات, تلك مقاربات النواة «س» التي يمكننا فهمها بمعنى القيمة الحية في الكائن الحي.
ويمكن أن نستشف هذا المعنى من بنيتها التصويرية «س» فهي مكونة من شبه يد ممدودة تعبر عن خاصية الفعل الإنساني «سـ» التي تستقل عند تصريفه عن البنية القاعدة/التكوين الثابت الذي يرتبط بها في «س» وهو رسم اصطلاحي/أبجدي يرد في جملة من النوى؛ «ن, س, ض, ص, ل» فهو مع النقطة التي تسقط فيه, يصبح النون, وهي نواة لغوية تفهم بما يقارب معنى الذات, الذات الموضوعية, النعمة, ذات النعمة, الحقيقة, الأهمية..., ومع اليد الممدودة يصبح «س» وهي دالة النفس والإنسانية والفعل الإنساني والروح, ومع العقدة يصبح صاد, وهي دالة الثبات والرسوخ والالتصاق, وهو في «ل» يمثل بمداه الصاعد ارتباطه بالطبيعة التي كونته, حيث «ل» الطبيعة/الطبيعة التكوينية.
والنواة «س» ترد في الكتاب على نحو مميز في الصيغة/السورة «يس» ويمكن قراءتها على نحو ..أيها الإنسان, ويمكن فهمها بمعنى مخاطبة الله لرسوله, «يس • والقرآن الحكيم • إنك لمن المرسلين • على صراط مستقيم».
وقبل أن نتناول الصيغ في إطارها القرآني, يجدر تناولها في إطارها اللغوي العام, وبملاحظة الجذر «طس» ويقرأ نووياً بمعنى النفس/إنسان في باب الوجهة/اتجاه, وهذا يمكن ترجمته بمعنى النظرة الإعتبارية وفق التعبير المحلي المعروف .. طس, التي تحمل معنى النظر في اتجاه معين, كما يمكن فهم الجذر «طس» بمعنى الإنسان في باب الطريق/الوجهة, وهو معنى الاستكشاف والرحلة.
يمكن أن نستخلصه من«عطس» ويقرأ وفق الجذر «طس» بمعنى الاستكشاف في باب الوعي/التدبير, وهي العطسة المعروفة في إشارة لخاصيتها البنيوية التي يمكن أن نلاحظها عندما نعطس, كما يمكن قراءتها بمعنى الإنسان في باب الوعي بالوجهة/عط, اشارة لأدب العطس.
كما نجده في «غطس» ويقرأ بمعنى الاستكشاف في باب الغين, حيث «غ» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الغاية, الابتغاء, التوجه نحو هدف, ..., وهنا يجدر التنويه أن معظم التراكيب التي تصادفنا هي تراكيب ثلاثية الأبعاد, يمكن قراءتها وفق جذرين مختلفين.
الجذر «طه» ويقرأ بمعنى الغيب في باب الوجهة/ الطريق, ويفهم بمعنى غياهب الطريق, ويرد في قليل من التراكيب, منها «طهر» ويقرأ وفق جذريه, فهو «ط - هر» في إشارة للقيمة الحركية «هر» في باب الوجهة, وهي ميزة الطهارة في علاقتها بالحيوية, كما يقرأ «طه - ر» بمعنى الحركية في باب غياهب الطريق, وهي حالة تعبر عن معاني الطهر وقيمته الروحية.
وفي «طهو/طهي» فالطاه هنا تحمل معنى الطريقة, حيث تقرأ «طهو» بمعنى انفعالية التعيين أو المنفعة في تابعيتها لوجهة خاصة.
طسم/طس – طه
ترد الطاه في النص القرآني في أربع ورودات, منها؛ الصيغة «طس» وترد مرة واحدة في سورة النمل, والصيغة «طسم» وترد مرتين في سورة القصص وفي سورة الشعراء, والصيغة «طه» وترد في سورة «طه».
ولا يمكننا تجاهل الإشارة البليغة التي تحملها هذه الرباعية, والتي يمكن اعتبارها دليلاً إضافياً على أن الطاه هي قرينة الاتجاه, في معنى الجهات الرئيسية الأربعة.
وقد فاتنا أيضاً أن نشير للصاد في ورودها الثلاثي, الذي يمكن أن يقرأ كإشارة لمعنى الثبات في ارتكازه على دعائم ثلاثة.
كما أن السين ترد خمس مرات, ويمكن أن نستشف منها معنى الإنسانية في إشارة إلى ... اليد بمعانيها البليغة.
ولو تناولنا الجذر «طه» فهو يقرأ نووياً وفق خصوصيته الدينية بمعنى الغيب في باب الطريق, وهذا يمكن ترجمته بمعنى غياهب الطريق, حيث الخصوصية التي يمثلها الكتاب المقدس, هي التي تحدد طبيعة القراءة الإجمالية التي تأخذ بعين الإعتبار البيئة الخاصة التي يدرس فيها التركيب اللغوي, وهذا يجسد المعنى الديني الخاص للصيغة «طه» والتي يمكن قراءتها على نحو إجمالي؛ الغيب في باب الطريق/التوجه نحو الغيب/وجهة الغيب.
وهذا المعنى نجده في السورة «طه • ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى• إلا تذكرة لمن يخشى ...»
وهي سورة تتمحور حول قصة موسى, والنار التي رآها حين كان في الليل هائماً في رحلته مع أهله يبحث عن مكان يأويه.. «.. وهل أتاك حديث موسى • إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى • فلما آتاها نودي ياموسى • إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طـوى».
وهذا يؤكد معنى الصيغة «طه» الغيب في باب الطريق, ونلاحظ الطاه في أول ورودها, في «فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى» وهنا يمكننا في مناقشة السورة, أن نقرأ في معنى «اخلع نعليك» فقد يتبادر للذهن سؤال حول مغزى الأمر بخلع النعلين, ويمكن ان يفهم بمعنى التأكيد على قيمة الوصول, والوقوف على تلك القيمة/الوصول, كما يمكن أن نستشف منها إشارة على معنى «ط» الوجهة والطريق.
وهذا المعنى يتجسد في معنى كلمة «طوى» وتقرأ نووياً بمعنى انفعالية التعريف في معنى الرحلة الطويلة/المعتبرة «طو» وتفهم بمعنى الوصول والبلوغ والإنجاز, ونجده في «طوى الصفحة» وفي «طوى الصحراء».
والملاحظة هنا أن الطاه ترد في الصيغة «طه» المتفردة عن الصيغ الثلاث «طسم2, طس1» وربما كانت إشارة للجهة التي يباركها الله ويفضلها عن بقية الجهات, وهي الوجهة التي يتوجه فيها الإنسان نحو ربه/الغيب, وهذه مسألة فقهية يمكن مناقشتها في دراسة خاصة.
إن الصيغة «طس» كنت قد ناقشتها في الجذر «طس» ويقرأ نووياً بمعنى الإنسان في باب الوجهة/الطريق, ويفهم بمعنى الاستكشاف, كما يمكن فهمها ضمن بيئتها القرآنية بمعنى رحلة إنسانية/ رحلة الإنسان.
وبالمقارنة نجد «طسم» وتقرأ بمعنى الأصل والتجميع/م في باب رحلة الإنسان, ويمكن فهمها بمعنى القصة البليغة/الأسطورة التي تحمل في طياتها الكثير من العبر الإنسانية, كما يمكن فهمها بمعنى جمع لحكايات وقصص بليغة تعبر عن رحلة الإنسان في هذه الدنيا.
وهذا المعنى نجده يتأكد من خلال إسم السورة التي يرد فيها «القصص» ومن خلال موضوعها الذي يتضمن عرض بليغ واسع يشمل جوانب مختلفة من قصة موسى التي كان لها النصيب الأكبر من بين جميع القصص الأخرى.
وفي سورة الشعراء كذلك نجد هذا المعنى يتأكد من خلال اسم السورة, وهي إشارة لدور الشعر وقدرته على تضمين القيم البليغة التي تختزن في بلاغتها معاني وجدانية كبيرة تجسد رحلة الإنسان وتجربته في الحياة, ومن خلال مضمون السورة الذي يروي قصص عديدة تتحدث عن جملة كبيرة من الأنبياء السابقين.
كذلك يمكن ملاحظة الفرق بين «طس» و «طسم» حيث نجد الصيغة «طسم» ترد مستقلة عما يليها, في ورودها القرآني «طسم • تلك آيات الكتاب المبين» «الشعراء/القصص» بينما نجد الصيغة «طس» تدمج بما بعدها «طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين» «النمل».
وهذا يشير لحقيقة مفادها أن القصة القرآنية كقيمة بلاغية, ليست من نمط القصة التي يرويها البشر, فهي قصة بالغة الإتقان لا تخوض في تفاصيل هامشية, وكلما ازداد الإنسان في علمه وجد فيها معاني جديدة, وهي تتمايز بين طبيعتين, وهما القصة في طبيعتها التفصيلية وما يمكن أن نستخلصه منها في معرض الاعتبار «طس» والقصة في طبيعتها الاجمالية/الأسطورية وهي دلالات بليغة تقوم على بنية رمزية لا يكشفها سوى من يتعمق في الدراسة, ويبلغ مستوى متقدم في تجربته مع الحياة «طسم».
أخيراً, لا جرم/ضير أن يصف الإنسان بنية النص القرآني بالأسطورية, طالما أنه يقصد الإشارة لصناعته المتقنة, وبلاغة معانيه, فالعبرة هي في المقصد, ولو قمنا بتحليل كلمة «أسطورة» وفق المنهج النووي, لوجدناها مكونة من «أ» التعريف, «س» الإنسان, «طو» الوجهةالبعيدة/الرحلة المعتبرة, «رة» القيمة الحيوية المعروفة, وبذلك تقرأ «أسطورة» بمعنى القيمة الحيوية المعتبرة «رة» في باب الرحلة الطويلة/الأصيلة «طو» للإنسان «أس».
الفصل الرابع - «حم – عسق – ص – ق - ن»
في الفصول السابقة, تناولت جملة الصيغ القرآنية؛ «كهيعص» «الم» «المص» «المر» «الر» «يس» «طه» «طس» «طسم» وبذلك يبقى أن نتناول ما تبقى منها وهي الصيغ؛ «حم» «عسق» إضافة للصيغ الفردية الثلاث «ص» «ق» «ن».
في الإطار اللغوي العام
«ح» نواة لغوية تفهم في تقريبها بمعنى الحس والشعور, نجدها في الجذر البسيط «حس» ويقرأ نووياً بمعنى القيمة الإنسانية/س في باب الإحساس/ح, وتفهم بمعنى الحس المعروف, وهو جذر يرد في تراكيب عديدة, نجده في «حسم» ويقرأ نووياً بمعنى الأصل/م في باب الحس, وهو المعنى البليغ للحسم, كما نجده في «حسن» ويقرأ بمعنى النعمة في باب الحس, ويفهم بمعنى الشيء الطيب الجميل, وفي«نحس» ويقرأ بمعنى الحس في باب النعمة, وتفهم بمعنى النحس, إشارة لضياع النعمة في ريبة الإحساس, كما تفهم بمعنى النحاس إشارة لمكانته في الحضارات القديمة, ويرد في «لحس» ويقرأ بمعنى الحس في باب الطبيعة/طبيعة تكوين.
وتجدر الملاحظة أن الحاء ترد في جملة البلاغيات الحسية المعروفة «حلو, حد, حامض, مالح» وفي «حك, حس, حن, حب, حز, حر».
«ق» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, النطق, القول, اللفظ, القوة, الدافعية, وهي حين تقترن بالمادة والجماد تعطيها معنى استنطاقي, وفاعليتها في الاستنطاق تتباين بين أول الجذر وآخره, فهي في «قطر» تقرأ بمعنى اتخاذ وجهة/طر في باب الاستنطاق, وهو معنى القطر كاتجاه رئيسي, وهو أيضاً معنى القطرة التي تعبر عن ذات المضمون.
وهي في «طرق» تقرأ بمعنى النطق في باب اتخاذ وجهة/طر, وهو معنى الطرق كعلامة على الوصول.
وفي الجذر «قف» نجد التشابه في البنية التصويرية بين النواتين «ق» «ف» كما نلاحظ أن النواة «ق» تلفظ لغوياً على النحو ..قاف, وهذا يدل على الارتباط النووي بين النطق والحاجة, فالحاجة هي أصل النطق والدافعية, وهذا المعنى يمكن أن نستشفه من البنية التصويرية للنواتين, حيث تتحول الفاء إلى قاف بإضافة نقطة, وبتغير في شكل التموضع.
والجذر «قف» يقرأ نووياً بمعنى الحاجة في باب النطق/الدافعية, ومنه معنى الوقوف والتوقف والالتقاف والتقفي, كما يمكن معاينته في وروداته الواسعة.
ولو أخذنا الجذر «قل» ويقرأ نووياً بمعنى الطبيعة في باب النطق/الدافعية, وتفهم بمعنى القول, وهو طبيعة النطق التي يتميز بها البشر, كما تفهم بمعنى القلي, في اشارة لعملية القلي في طابعها الاستنطاقي, كما تفهم بمعنى القليل والقلـّة, وهو معنى مجازي يعبر عن ارتباط النطق بطبيعة القلـّة من منظور بدائي.
والحاء والقاف يشكلان الجذر «حق» ويقرأ نووياً بمعنى النطق في باب الإحساس, وهو منطق الإحساس, ويفهم بمعنى دافعية الاحساس, أو احساس بليغ ومؤثر, ومنه معنى الحق المعروف, في إشارة لبلاغته الوجدانية.
نجده في «لحق» ويقرأ بمعنى دافعية الاحساس/حق في باب الطبيعة, وفي «حقن» ويقرأ بمعنى الذات الموضوعية في باب دافعية الاحساس, ومنه معنى الحقن والاحتقان, كما يمكن استعراضه في جملة وروداته الواسعة.
وفي الجذر المعاكس «قح» فيقرأ بمعنى الإحساس في باب النطق, وهو إحساس بالمنطوق, ويفهم بمعنى النطق على نحو مثير للمشاعر/استفزازي, ومنه معنى وقح وقحط وقحل.
وفي القوة, «قوّة» نجد القاف ينفعل وفق رابط خصوصية المعروف/ة, ويقرأ بمعنى الدافعية المعتبرة/قو على نحو مميز/وة, وهنا تجدر الإشارة أن القوة هي من مقاربات النواة «ق» لكنها لا تمثل معناها الدقيق.
مناقشة النوى في وروداتها القرآنية
لو بدأنا بالجذر «حم» فهو يقرأ نووياً بمعنى الأصل/المجموع في باب الإحساس, أي مبعث الاحساس, ويفهم بمعنى الطمأنينة, ومنه معنى الحماية والحمى, كما يفهم بمعنى عكسي, ومنه معنى الحمأة والحماوة والحمـّى, وهو يشكل الصيغة القرآنية «حم» وترد في سبعة سور قرآنية متتالية, هي سورة غافر, فصلت, الشورى, الزخرف, الدخان, الجاثية, الأحقاف.
وبمراعاة الخصوصية القرآنية, التي تمثل البيئة الخاصة التي تتضمن الجذر «حم» فيمكن أن نقرأه ضمن ثنائية الثواب والعقاب/الرحمة والغضب, ولو تأملنا في عموم تلك السور, سنجد أنها تتمحور حول هذا المعنى.
ففي سورة «غافر» نقرأ «حم • تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم • غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير» وهي سورة تتمحور حول قيمة الغفران في دلالته البليغة.
وفي سورة «فصـّلت» نقرأ «حم • تنزيل من الرحمن الرحيم • كتاب فصـّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون». وهي سورة تتجسد فيها قيمة الرحمة في تفصيل الكتاب كي يتمكن الناس من استيعابه والتدرج في فهم جملته المحكمة ذات الطبيعة الروحانية, فالكتاب في أمه, جملة محكمة ذات قيمة روحية كبيرة, وثمة نصوص قرآنية كثيرة تشير لمسألة التدرج في التنزيل, بدافع الرحمة في ثقل وعظمة المضمون الكلي المهيب للرسالة, وفي هذا المعنى تتجسد الرحمة في معنى الصيغة «حم» التي تقرأ نووياً بمعنى أصل الإحساس/كليـّة الإحساس.
وفي سورة «الشورى» نقرأ «حم • عسق • كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم»
وهنا نجد الصيغة «عسق» التي ترد مرة واحدة, وبذلك فإن سورة الشورى تشكل علامة فارقة من بين /29/ سورة, من حيث احتوائها على صيغتين نوويتين.
وفي مناقشة الصيغة«عسق» نجد الجذر «عس» يقرأ بمعنى الإنسان/س في باب الوعي والتدبير/ع, أي الوعي الإنساني, ويفهم «تاريخياً» بمعنى الحالة التي تحتاج لتفكير وتدبير, أو بمعنى المهمة/المهمة الصعبة, ومنه اشتقت الصيغة البلاغية «عسى».
نجده في «عسكر» ويقرأ بمعنى الكر في باب المهمة والتجنيد, ونجده في «عسر» ويقرأ بمعنى الحركية في باب المهمة/المهمة الصعبة.
ومنه تقرأ الصيغة «عسق» بمعنى النطق في باب الوعي الإنساني, وبمراعاة البيئة القرآنية التي يرد فيها التركيب, تصبح القراءة الاجمالية على النحو .. النطق/القول بمقتضى وعي الإنسان.
هذا المعنى يعبر عن قيمة التيسير والرحمة في مراعاة الخطاب القرآني لمستوى مدارك الإنسان, أي أن حكمة الرسالة وطبيعة الرحمة فيها, اقتضت تفصيل جملتها المحكمة, على نحو يقارب مدارك الانسان, ومستوى فهمه وقدرته على الاستيعاب, وهذا يفسر اختلاف البنية التفصيلية بين الكتب والرسالات التي أنزلها الله على شعوب وعصور مختلفة, رغم وحدة المضمون والخلاصة الكليـّة, وهذا المعنى نجده مؤكداً في قوله تعالى «لكل أجل كتاب • يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» «الرعد».
وبالعودة لسورة الشورى «حم • عسق • كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم».
يمكن استخلاص هذا المعنى من المضامين البليغة الواردة في السورة, وبذلك يتضح المغزى من اجتماع الصيغتين «حم» و «عسق» حيث تصبح القراءة الاجمالية على النحو .. (رحمة من الله)/حم (أنزل القول بمقتضى وعي الإنسان)/عسق.
ولو تأملنا في اسم السورة «الشورى» لوجدنا هذا المعنى يتجسد على نحو بليغ.
مناقشة الصيغ «ص» «ق» «ن»
«ص» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الثبات, الرسوخ, الالتصاق, الصلابة, المتانة.
وهي ترد في الكتاب في ثلاث سور, كنت قد ناقشتها في سورة الأعراف وفي سورة مريم, وهي ترد في سورة «ص» ونقرأ «ص والقرآن ذي الذكر • بل الذين كفروا في عزة وشقاق • كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص».
إن معنى الثبات والرسوخ والتمكن الذي تحمله النواة «ص» يتجلى في مضامين هذه السورة, فهي تحدّث عن ثبات حكم الله على الذين كفروا, وسأقوم بتحليل الصيغة «ولات حين مناص» وفق المنهج النووي, حيث أني لم أطلع على مراجع تناولت هذه الصيغة وقامت بشرحها وإن كان ثمة من فعل.
«لات» تقرأ نووياً بمعنى التمام أو النهاية أو الاكتمال/ت في باب الطبيعة المعروفة/لا, وتفهم بمعنى حالة عدم الاكتمال, أو حالة من عدم البلوغ, كما تفهم بمعنى التأخر عن الموعد.
«مناص» وتقرأ نووياً بمعنى الثبات والتمركز/ص في باب مصدر الأمر/منا, وتفهم بمعنى الملاذ والملجأ, ويقال «لامناص» بمعنى «لا مفر» لكنها تفهم أيضاً «مناص» بمعنى ثبات الأمر الصادر, أو القضاء المبرم.
وهكذا يمكن قراءة الصيغة «فنادوا ولات حين مناص» أي أنهم نادوا كي يرد عنهم الأمر, لكنهم تأخروا «لات» وكان الأمر قد صدر وصار نافذاً لا يرد «مناص».
«ق» وترد في سورة «ق» «ق والقـرآن المجيد • بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقـال الكافرون هذا شيء عجيب • أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد • قـد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ »
حيث نلاحظه في وروده الأصيل في «ق والقرآن المجيد» إشارة للنطق في معناه الأصيل, ثم يرد في وروده الأول بالإنسان في «فقال الكافرون» اشارة لمعنى النطق في الإنسان, ثم يرد بالمادة والجسد والجماد في «قد علمنا» إشارة لمعناه في الجماد.
ولو تأملنا في مضامين السورة, سنجد أنها تتمحور حول معاني النطق في الطبيعة, وكيف أن كل شيء يعود للنطق والنطق في أصله يعود للطبيعة التي خلقنا منها, فما كان للإنسان أن يتعلم شيئاً لولا اللغة التي يتداولها, تلك اللغة التي تعود في أصلها لبضعة حروف منحته الطبيعة التكوينية قدرة على نطقها.
«ن» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الذات, الذات الموضوعية, ذات النعمة, الموضوع, الحقيقة, مركز الأهمية,..
ترد مرة واحدة في الكتاب, في سورة القلم؛ «ن والقلم ومايسطرون • ماأنت بنعمة ربك بمجنون • وأن لك لأجراً غير ممنون».
ومن يتأمل في السورة, يجد تلك المعاني التي تقارب معنى النواة «ن» تتجلى في مضمون السورة.
مناقشة الصيغة «نقص»
إن النوى الفردية الواردة في الخطاب, هي «ص» «ق» «ن» تشكل في جملتها التركيب «نقص» وذلك بمراعاة المبدأ العكسي في التحليل النووي, ولنأخذ الجذر «نق» ويقرأ بمعنى النطق/الدافعية «ق» في باب الذات الموضوعية/ذات النعمة «ن» وتقرأ بمعنى منطوق ذاتي, أو دافعية الذات, وتفهم بمعنى الأصالة ومنه معنى «نقي» أي بلا شوائب, كما تفهم بمعنى حضور الذات ومنه معنى الانتقاء, كما تفهم بمعنى طلب المزيد, ومنه التعبير العمومي «نق» أي ألح في الطلب, ولو أردنا قراءة التركيب «نقص» وفق الجذر «نق» فيمكن قراءته بمعنى الثبات في باب دافعية الذات/طلب المزيد, ويفهم بمعنى النقص المعروف.
ولو أردنا قراءته وفق الجذر«قص» ويقرأ بمعنى الثبات في باب النطق/الدافعية, وتفهم بمعنى الكلام البليغ الذي ينصت له, ومنه معنى القاص والقصص, كما تفهم في الجماد بمعنى فاعلية القص في القطعة الثابتة, كما تفهم بمعنى المنع والصد, ومنه معنى الاقصاء, ونجده في «قصب» ويقرأ بمعنى الفعـّالية/ب في باب الصد, وهي اشارة للقصب في متانته, وبذلك يمكن أن نقرأ «نقص» بمعنى الصد والاقصاء في باب ذات الموضوع و النعمة.
لكن لو ناقشنا التركيب «نقص» في بيئته القرآنية, فيمكن قراءته على نحو «نقص» وهو الثبات/ص في باب تابعية النعمة/ن للنطق/ق.
وهذه الحقيقة يمكن فهمها بمعنى الكتاب الذي يواكب طبيعة النطق في ثبات القيمة التاريخية, كما يمكن فهمها عبر اسقاطها على مثلث الحضارة لغة/ق, فكر/ن, تاريخ/ص.
حول معنى الرقم /14/
الرقم, هو رمز الدقة والشفافية والصدق والاتقان والحساب الدقيق, وهو مع الحرف يشكل ثنائية «حرف - رقم» حيث الحرف هو رمز اللغة والمنطق والبلاغة وخصوصية العالم البشري, والرقم هو رمز الحسابات الدقيقة, والقيمة البليغة, وخصوصية العالم الرباني, لذلك فليس ممكناً كشف معاني المنظومة الرقمية التي يقوم عليها الخطاب القرآني, وإن كانت الإشارة تفرض نفسها على من يريد أن يستشف منها بعض معانيه.
ففي مساحة التأمل, يمكن ملاحظة الرقم /14/ في جملة التناسق الكوني, فهو اليوم الذي يكتمل فيه القمر في الأشهر القمرية, وهو اليوم الذي تكتمل فيه البويضة في العملية التكاثرية, وهو يمثل نصف حروف الأبجدية, كما أن الأرقام (28, 29, 30, 31) هي جملة الأرقام التي يتحدد فيها الشهر القمري والشمسي, وهي ذاتها عدد الحروف الأبجدية التي تشمل اللغات المختلفة, كما أن الرقم /14/ أخذ قيمة خاصة في الديانات القديمة, فهو يمثل درج البلوغ لمقام المعرفة والنورانية, حيث تصعد الروح على مدارج المقامات المباركة, وصولاً لمقام ربها الأعلى, ولو تأملنا في قصة يوسف, فسنجد الرقم /14/ في أحدى عشر كوكباً والشمس والقمر, يضاف إليهم المقام الأعلى, الذي سجدت له المقامات الثلاثة عشر, وهو مقام الربوبية, الذي يكرم به الله من يشاء «وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلـّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون 79» «آل عمران».
تفسير المفردات القرآنية وفق المنهج النووي
تشكل اللغة النووية ركيزة أساسية لدراسات قرآنية معمقة, تتناول مفردات النص بمنهجية التحليل النووي, وهذا الأمر يمكن استثماره في إطار دراسات تطبيقية تساهم في خدمة الفكر عموماً, وخدمة الفكر الديني بشكل خاص.
إن الإشارة البليغة التي تمثلها جملة الصيغ النووية الواردة في الكتاب, تعطي كل المشروعية لهذه الدراسات, وهي أربعة عشر صيغة, مكونة من أربعة عشرة نواة, يمكن وضعها ضمن الصيغة «سعى يكمل صرح نطقه» أو «نص حكيم سطره عاقل» وغيرها من الصياغات, ولو تأملنا في جملة النوى تلك, فسنلاحظ أنها لم تشمل جميع النوى اللغوية, فهي تستكمل ببقية النوى اللغوية؛ «ب, ج, د, و, ز, ف, ش, ت, ث, خ, ذ, ض, ظ, غ» التي يمكن وضعها في جملة تجميع اعتبارية «زدت شظ فخذ بغوث ضج» حيث نلاحظ بالمقارنة, صعوبة التجميع, بسبب حالة من التنافر اللغوي بين تلك النوى, بما يثير السؤال, هل لهذا الأمر دلالات يمكن استخلاصها؟.
لو تأملنا في البنية النووية للجملة الأولى, فسنجد المعاني التالية؛ س/ النفس والإنسان, ع/الوعي والتقدير, أ/ التعريف, ي/ النداء والتأكيد, ك/ الكينونة والوجود, م/المصدر والأصل, ل/الطبيعة والتكوين, ص/الثبات والرسوخ, ر/الحركة والحيوية, ح/الإحساس, ن/الذات والموضوع, ط/الوجهة والاتجاه, ق/النطق والدافعية, هـ/الغيب والإشارة.
بينما في الجملة الثانية؛ ز/الكثرة والتزايد والسرعة والاهتزاز, د/الجسد والمادة والهامدات, ت/التمام والاكتمال, ش/الإشارة الشينية والداهمية, ظ/المحنة والبلاء, ف/الحاجة والفائدة, خ/المفاجأة والخبر, ذ/الشك واليقين, ب/الفعـّالية, غ/الغاية والابتغاء, و/ جملة الانفعال والعطف, ث/المتابعة والاستمرار, ض/صعوبة البلوغ والمنال, ج/المجيء والإحضار.
هذه التعينات البنيوية, تبين الطبيعة الفعلية للنوى اللغوية, وقد يكون من قبيل الاستعجال, أن نطلق أحكام قيمة مطلقة على جملة النوى المتباينة, وفق الاعتبارات السابقة, لكن يمكن أن نستشف من معانيها دلالات تخدم قضايا إنسانية, على نحو علمي يشمل جوانب فكرية تاريخية دينية لغوية انسانية.
كما تجدر الإشارة, أن الخطاب القرآني يحتوي بطبيعة الحال على جميع النوى اللغوية, وما ينطبق على جملة النوى الخاصة, ينطبق على بقية النوى, وخاصة النوى التي تبدأ بها السورة, حيث يمكننا قراءة النواة «ذ» في بداية سورة البقرة, وهي السورة الأولى في الكتاب بعد الفاتحة, ونقرأ «الم • ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» حيث يمكننا أن نستشف إشارة على معناها, في ثنائية الشك واليقين/لاريب فيه, كما نجد النواة «ب» وهي نواة الفعـّالية في سورة التوبة, ونقرأ «براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين • فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين» حيث يتجسد في مضمون العبارة معنى الفعـّالية/فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزين.
ومن جهة ثانية, فإن الكتاب في تاريخية نزوله, قد ضمـّن كلمات لم تكن معهودة في ثقافة المجتمع الذي نزل فيه, وكان الناس يتساءلون عن معاني بعض الكلمات الواردة, فيخبرهم النبي بمعانيها, بما يشير لمشروعية وأصالة المنهج النووي في التفسير, على اعتبار أنه يشكل أساس العلاقة بين اللفظ والمعنى, بما يتيح لنا أن ندرسه بما يتجاوز منطق النقل, وأن نفهم العبارة من خلال تحديد الإطار العام الذي يمكن أن تأخذ فيه العبارة معناها, وفقاً لطبيعتها النووية.
وفي هذا الإطار سأختار عينة من الكلمات «غير المألوفة» الواردة في سورة النبأ, وسأحاول شرحها وفق المنهج النووي.
ثجـّاجا – كواعب – أترابا - دهاقا
نقرأ في السورة «وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجـّاجا» حيث يتضح من سياق السورة أن الإشارة للمطر, والسؤال هو ما معنى «ثجـّاجا» وفق المنهج النووي؟.
لو أخذنا الجذر «ثج» ويقرأ نووياً بمعنى المجيء/ج في باب المتابعة والتكرار/ث, وهو جذر فريد لا يلحظ وروده في عموم الكلمات المعروفة, ويفهم بمعنى المجيء على نحو مستمر/التدفق, لكن ثمة كلمة قريبة منه, وهي «ثلج» حيث تصبح القراءة بمراعاة اللام, المجيء في باب طبيعة الاستمرار, اشارة إلى طبيعة الثلج في خاصيته بالذوبان وفي الهطول على حد سواء.
كما نلاحظ الجذر «جاج» ويقرأ بمعنى المجيء/ج في باب المعنى العام للمجيء/جا, ويفهم بمعنى مجيء ذو قيمة اعتبارية عامة, كما يفهم بمعنى المجيء المقترن بمحمول, نجده في«أجاج» وهو ذات المعنى/جاج في باب التعريف/أ, إشارة للطعم المالح وبلاغته الحسية, كما نجده في «دجاجة» حيث الجسد/د, إشارة للدجاجة والتدجين وفق القيمة التاريخية المعروفة, كما نجده في «عجاج» حيث «ع» الوعي والتدبير, إشارة للريح المحملة بالغبار والأتربة, وفي«زجاج» حيث «ز» الاهتزاز والسرعة/الزيادة والكثرة, إشارة للزجاج في خواصه البنيوية المختلفة.
وبذلك نقرأ «ثج - جاج» بمعنى «جاج» المجيء المقترن بمحمول/مجيء ذو قيمة اعتبارية عامة في باب التدفق/ثج, فينتج معنى «ثجـّاج» ويفهم بمعنى تدفق المطر بما يحمله من معنى معروف «وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجـّاجا • لنخرج به حباً ونباتا».
كما نقرأ في نفس السورة «إن للمتقين مفازا • حدائق وأعنابا • وكواعب أترابا ً• وكأساً دِهاقا».
حيث يمكن أن يبرز السؤال عن معنى «كواعب» و معنى «دهاقا».
«كعب» ويمكن قراءته من خلال الجذر «كع» ويقرأ نووياً بمعنى الوعي/ع في باب الكينونة والمثول/ك, أي كينونة معتبرة, ويفهم بمعنى تموضع لافت, أو بمعنى اتخاذ وضعية مناسبة, ومنه المعنى المعروف«كعك» وهو الكائن في باب كينونة معتبرة, اشارة للكعك في شكله الاعتباري المعروف, كما يفهم الجذر «كع» بمعنى تجليس الشيء واصلاح وضعيته, ويمكن ملاحظته في وروداته المختلفة, فنجده في التعبير«كعف» وهو معنى الانعطاف, ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة/ف في باب اتخاذ وضعية مناسبة/كع, وهو معنى الانعطاف, كما نجده في «كوع» وهو بانفعالية الواو يعطي معنى المنعطف, كما نجده في «ركع» ويقرأ بمعنى اتخاذ وضعية مناسبة/كع في باب الحركة والحيوية/ر, وهو معنى الركوع, كما نجده في «كعر» ويقرأ بمعنى الحركية/ر في باب تموضع معتبر/كع, وهو معنى «كعر» أي طرد الشخص من المكان.
ومنه «كعب» ويقرأ اجمالياً بمعنى الفعـّالية في باب التموضع, ومنه معنى المكعب, اشارة لمثاليته في التموضع, ومنه معنى الكعب في القدمين, وفي الحذاء, ومنه أيضاً كعب الفنجان.
وهو يرد في السورة في «كواعب أتراباً» حيث يمكن فهمها في معرض وصف الثواب والنعيم, بمعنى النعمة في مثالية تموضعها وفي باب منالها, وهي أيضاً صفة تطلق على المرأة البالغة في حسنها, حيث «أترابا» تقرأ من خلال الجذر «تر» وهو الحركية في باب التمام, وتفهم بمعنى الوضع الجيد والحالة المستقرة والمقدار المعتبر, ومنه «لتر - متر» بمعنى مقدار ثابت معتبر, كما نجده في «ترك» وهو الكائن/ك في حال مستقرة, إشارة لفعل الترك بمعنى ابقاء الشيء على حاله, وفي «ترس» وتقرأ بمعنى النفس والإنسان في باب الحالة الجيدة, وفي «ترب» وتقرأ بمعنى الفـّعالية في باب الوضع الجيد المستحسن والمستقر, وتفهم بمعنى الغنى والخصوبة الذي تمثله التربة, ومنه صيغة التوصيف«كواعب أترابا» أي النعمة في مثالية تموضعها وفي غناها وخصوبتها.
«دهاقا» من «دهق» ويمكن قراءته من خلال الجذر «ده» ويقرأ بمعنى الغيب/هـ في باب الجسد/د, ويفهم بمعنى ما يعتري الجسد من تبدلات وأحاسيس, ومنه «ما دهاه؟» أي ما أصابه, ومنه «دهاء» ويقرأ بمعنى المعروف/ء في باب الإصابة/دها, أما في «دهر» فيمكن أن يقرأ وفق الجذر «هر» كما يمكن أن يقرأ بمعنى الحركية في باب تبدلات الجسد وهو معنى الدهر كمدة زمنية طويلة.
ومنه «دهق» ويقرأ بمعنى الدافعية والنطق/ق في باب تبدل الأحاسيس, ويفهم بمعنى أحاسيس بليغة تصيب الشعور, وهو المعنى البليغ للكأس الموصوفة.
ملاحظة, التحليل النووي للكلمة, سواء كانت عربية أو غيرها, بدون معرفة معناها المتداول, وبدون أن تكون متموضعة في سياق بلاغي معين, أو ضمن بيئة لغوية محددة, لا يعطي سوى ترجمتها النووية, التي قد تكون مفتوحة على تأويلات مختلفة, وبالتالي يمكن القول أن القيمة الاستثمارية للمنهج النووي تزداد حين نتناول كلمة مستخدمة ومتداولة أو مطروحة في سياق بلاغي معين.
مقدمة
حروف ونوى
من حيث التسمية, فإن الحرف في اللغة لا يقتصر على (أ, ب, ....الخ), فبعض التراكيب مثل «من» أو «على» تسمى حروف جر, بما يؤكد أن تسمية «الشيء اللغوي» بالحرف يرتبط بطبيعة المنظور الذي يقرأ به وجملة الاعتبارات التي تحيط به, فليس في اللغة حرف مطلق, أو تسمية مطلقة.
لذلك فتسمية النوى اللغوية التي ترد في بداية بعض السوّر القرآنية بحروف, هي تسمية تنتهي صلاحيتها عندما نتناولها من منظور معرفي خاص يعنى بجوانب فكرية تندرج في إطار فقه اللغة, أو علم الأنثربولوجيا, أو تندرج في إطار نوع خاص من الدراسات القرآنية.
والتسمية المناسبة التي تصلح لموضوع هذا الاكتشاف, هي النوى اللغوية التي تأسست عليها التراكيب, وما يرد منها في معرض الخطاب القرآني.
تلك النوى هي في حقيقتها أسماء/تسميات, لأنها كانت تحمل معانيها البدائية التي تعلمها الإنسان الأول بالفطرة, وراح يستخدمها ويؤسس عليها تراكيب ثنائية وثلاثية في مسار تاريخي طويل, شهد أطوار حضارية مختلفة, ومازال الإنسان في مساره يراكم خبراته بمضمون مثلث الحضارة «لغة فكر تاريخ».
وبهذا المعنى يمكن القول أن اللغة في نشوئها وتطورها بدأت بمرحلة يمكن تسميتها مرحلة الأسماء البدائية أو المرحلة النووية, فلو لم يكن لتلك النوى معنى مفهوم ومتداول, لما كان ممكناً أن تتشكل على أساسها تراكيب لغوية تصلح للتداول.
وهذا الأمر من منظور قرآني, نجده بالغ التأكيد, والإشارة البليغة هي أساساً في ورود تلك النوى بمفردها في آوائل بعض السوّر, إذ يشكل الأمر بذاته دليلاً على أن تلك النوى هي تسميات فعلية, تجاوزتها حدود البلاغة والبيان.
الفصل الأول - الصيغة «كـهـيـعـص»
وهي الصيغة الواردة في سورة مريم, ولنبدأ بالنواة «ك» حيث أود الأشارة أن تناول موضوعها التصويري الذي يمثل المغزى من الطريقة التي اصطلح عليها في كتابة (ك) وغيرها من النوى اللفظية, يدخلنا في مجال الدراسات اللغوية التي تختص بجانب علمي يعرف بعلم «الأثروغرافيا» وهو علم يدرس تاريخية البنية التصويرية للأبجديات, وتطورها, ولم أجد ضرورة لتناوله في هذا الكتاب, كي لا يتشعب الموضوع ويخرج عن طابعه التبسيطي, لكن يمكن لمن يتأمل في بنية النواة «ك» أن يلاحظ همزة التعريف القائمة عليه.
والكاف نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الكينونة, الكائن, الشيء في تموضعه, الماثل, الموجود, القائم, ..., حيث تعبر تلك المترادفات عن معنى النواة «ك» التي يمكن فهمها بمعنى الشيء عندما نجده ونوليه الاعتبار.
ولو تناولناه في وروده القرآني, لوجدناه يرد مرة واحدة في سورة مريم, «كـــهيعـص • ذكر رحمة ربـّك عبده زكريا • إذ نادى ربه نداءً خفيـّا • قال ربّ إنـّي ...».
ولو قرأنا السورة وتأملنا في معانيها, لوجدنا أن السورة تستفتح بقصة زكريا التي تتمحور حول دعائه لربه كي يهبه ولداً صالحاً بعد أن بلغ من العمر عتيا, وملاحظة الحالة المتمثلة بزوجته العجوز.
إذا فالقصة تشغلها ثنائية العقم والولادة, وهي توازي ثنائية العدم والوجود, وهذا يشير للمغزى من ورود الكاف في بداية السورة, فهي نواة الكينونة والوجود, نواة الشيء حين نبحث عنه فنجده, نواة الكائن الذي نجده ونوليه الاعتبار.
«هـ» هي نواة لغوية يمكن مقاربتها بمعنى الغائب, الغيب, الخيال, غير الموجود, الوهم, ..., لكنها في بداية التركيب تمثل باب الإشارة المعروف للغائب عند حضوره, فالهاء تخص ثنائية الحضور والغياب, فقد يحضر الغائب بذكره, وقد يغيب الحاضر عن الخطاب, فكلمة «هو» على سبيل المثال تستخدم للإشارة للغائب, كما تستخدم للإشارة للحاضر, حيث يكون الحاضر غائباً عن المخاطبة.
ويمكن أن نستشف هذا المعنى من صورة الحرف المكتوب, مع ملاحظة تميز كل لغة بطريقتها الخاصة في التصوير, والانتباه للتطورات التي شهدها المسار التاريخي لعملية نشوء الأبجديات وتطورها في حضارات الشعوب المختلفة.
وهو يرد في الكتاب مرتين, في سورتين متتاليتين, هما مريم وطه, ونلاحظ أنه يأتي في سورة مريم ضمن الصيغة «كهـيعص» فإذا كانت الكاف قرينة الكائن في وجوده وتواجده, فإن الهاء هي قرينة غيابه, أو قرينة ظهوره بعد الغياب, وهي تتجسد في معاني قصة زكريا, ولاسيما وقوفه على باب الغيب.
ولو أخذنا الجذر «كه» ويقرأ نووياً بمعنى الغيب في باب الوجود, ويمكن ترجمته بمعنى استحضار الغيب, أو الوقوف على بابه, وهذا المعنى نجده في التركيب «كهل» وفيه اللام التي سآتي على ذكرها لاحقاً, وهي نواة الطبيعة, الإرادة الإلهية, الطبيعة التكوينية, واقع الحال,.. ومنه «كهل» تقرأ بمعنى الطبيعة في باب الوقوف على الغيب, وتفهم بمعنى الرجل الكبير في السن بما يتوافق مع قصة زكريا, وبما يشير إلى أن البلاغ القرآني لا يحصر المعنى في حالة الكهولة «كهل» وإنما في حالة وجدانية تأخذ فيها الكهولة بعداً مجازياً «كه» أي أن زكريا هرم بعلمه ولم يهرم بعمره, وهذا على كل حال قراءة خاصة يمكن مناقشتها في إطار فقهي مستقل.
كما نجده في «كهن» حيث النواة «ن» وهي نواة لغوية تفهم بمعنى الذات, الموضوع, محور الاهتمام.., لكنها غالباً ماتميل لمعنى النعمة, وبذلك نقرأ «كهن» بمعنى الذات الموضوعية والنعمة في باب الوقوف على الغيب, ومنه معنى الكاهن والكهنوت.
وفي «كهف» ويقرأ بمعنى الحاجة والمنفعة/ف في باب الوقوف على الغيب, وهو معنى نجده في طبيعة الكهف المعروفة, وهي كلمة ترد في الإنكليزية بنفس اللفظ «Cave» وهنا أود الإشارة لمسألة بالغة الأهمية, وهي أن معظم الباحثين, غالباً ما يفسرون ظاهرة تطابق بعض التسميات في لغات مختلفة, بأنها نقلت من لغة إلى أخرى, والحقيقة أن اللغات وإن كانت تستعير من بعضها, لكن هذا ليس هو التفسير الوحيد لتطابق تسمية معينة بين لغتين مختلفتين.
وتجدر الإشارة أن النواة «هـ» تنافست تاريخياً مع النواة «ل» على تسمية معنى الجلالة, هذا الأمر يمكن أن نستشفه من الروايات المتناثرة في عديد المصادر, حول التسمية الأكادية القديمة «ألُ» والتسمية «يهوه» ويمكن أن نستشفها من التسمية المعاصرة «الله».
«ي» الياء نواة لغوية تمثل جملة انفعالية معينة, حيث نميز بين ورودها في بداية التركيب, وورودها الذي تتبع فيه ماقبلها وتحمله إلى انفعاليتها, وهي انفعالية يحددها السياق, وتشمل انفعالية التملك والتمكن والرغبة والتطويع والانكسار والسقوط والأسفل والقتل والغضب, والتأكيد, وغيرها من الإنفعالات الخاصة بالياء, وهي في بداية التركيب تمثل نواة النداء, وهي في صيغة التعريف «أي» فتعني التأكيد والتفسير, وهي بذلك تختلف عن جملة انفعالات الواو, التي تشمل انفعالية التعجب والتفخيم والتبجيل والتعيين والتهويل والنفي والاستفسار والعطف وما يشاكلها, وكذلك جملة الألف الممدودة والمقصورة «ا, ى» وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار.
وهي ترد في الكتاب مرتين, مرة في «يس» وفيها تكون ابتدائية, ومرة في سورة مريم, وفيها تكون لاحقة, ويمكن أن نستشف معناها في الورود القرآني من خلال قصة زكريا, التي تتمحور حول بلاغة النداء «..إذ نادى ربه نداءً خفيـّا» كما تنطوي السورة على معنى الياء التي تحمل انفعاليتها الخاصة في «خفيـّا, وليـّا, رضيـّا».
وفي سورة «يس» «يس • والقرآن الحكيم • إنك لمن المرسلين» والتي سأناقشها لاحقاً من باب النواة «س» حيث يمكن أن نستشف إشارة لدور الياء في مقام التصريف, فلو أخذنا كلمة «حكيم» فالكلمة من أصل «حكم» وبالتصريف تصبح «حكيم» والسؤال لماذا لم تكن «حكوم»؟, وهنا يتبين مغزى التصريف, لأن الياء في الحكيم هي دالة على انفعالية التأكيد وما يقاربها في ارتباط الصفة بالموصوف, حيث نلاحظ أن الياء تستخدم في معظم الحالات المشابهة مثل «حكيم, رحيم, عظيم, ...» بينما نجد حالات أخرى تحل فيها انفعالية الواو أو الألف الممدودة, مثل «صبور, شكور, جسور» حيث تختلف الطبيعة الإنفعالية المطابقة لطبيعة التصريف, فهي انفعالية أقرب للتعيين أوالإعجاب أوالاستغراب أو التحديد, كذلك نلاحظ أنها في حالات نادرة ترد بألف المد مثل «جبان» حيث أن المد هو انفعالية التعريف والإخبار والتعميم, وهو يستخدم في تصريف حالات تجسد أصل القيمة مثل «جمال, منال, كمال ..».
كذلك في مقام تصريف الإعراب, نجد الفرق بين الصيغة الصحيحة «إنـّك لمن المرسلين» والصيغة الخاطئة «إنـّك لمن المرسلون» حيث الياء تتبع انفعالية السياق, فنجدها تستبدل بالواو في «فهم غافلون» لأن القيمة الإنفعالية التي يحملها السياق أقرب لجملة الواو في التعيين والتحديد.
وكي نفهم طبيعة هذه النواة في وروداتها الأصيلة, فيمكن مناقشتها في التركيب «شيب» وهو أصل ورودها في «....واشتعل الرأس شيباً» حيث «شيب» تقرأ بتمركز معنى الفعـّالية «ب» في باب الجذر «شي» وهنا لا بد من الإشارة لنـّواة «ش» وهي نواة الإشارة الشينية, وسميتها شينية للتمييز بينها وبين الهاء, التي هي نواة تفيد بمعنى الإشارة على وجه المعروف والمستدرك, بينما الشين هي نواة الإشارة على وجه الملفت والداهم والمجهول والمعاينة, أي أن الشين نواة تفهم بمعنى الإشارة للحدث في وقوعه, أو الشيء في ظهوره الملفت أو المريب, ومنه الجذر «شي» وهو يقرأ بمعنى الداهم الانفعالي, أو الانفعال بالشيئ, وهكذا نقرأ «شيب» بمعنى الفعـّالية «ب» في باب الإنفعال بالشيء, وتفهم بمعنى الأثر الذي يتركه الزمن على الإنسان في مكابدته لمشاق الحياة, وتجدر المقارنة مع «شب» ويقرأ بمعنى الفعـّالية في باب الإشارة الشينية, وتفهم بمعنى الشب في إشارة لحيوية الشباب, وللنار عندما تزداد فاعليتها.
وقبل أن أدخل في مناقشة العين, تجدر الإشارة أن النوى الثلاث «ك, هـ, ي» تمثل ثلاثية الأنا والهو والأنت, في إشارة لدور الكاف في المخاطبة, والهاء في الغائب, والياء للمتكلم.
كما تجدر الإشارة للطبيعة التصويرية التي تكتب فيها الياء «ي» فهي توحي بمعاني الملكية والمغنم والداخل والأسفل ...
«ع» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الوعي, الاعتبار, الرادعية, التحسب, التعقل, التقدير,... ويمكن التأمل في بنيتها التصويرية, حيث يمكن أن نستشف من رمزيتها معنى الرادعية والوقوف على ما يفرضه المقام, حيث نلاحظ كيف تتحول عند التصريف إلى الشكل «ـعـ» الذي يشبه رأس الإنسان الذي يحتوي على دماغه, وهي ترد في الكتاب مرتين, في سورة مريم «كهيـعص» وفي سورة الشورى «حم, عسق» التي سأناقشها في معرض «حم».
وهي في أول ورودها نجدها في «عبده» وهي إشارة بليغة تعبر عن الحكمة في عبادة الإنسان لرب العالمين, فذروة الوعي هي في وقوف الإنسان عند مقام ربـّه, ومعرفة ما يقتضيه المقام.
ولو تناولنا التركيب «عبد» فهو يقرأ نووياً من خلال تمركز معنى الجسد «د» في باب فعـّالية الوعي والتدبير, والجسد هنا هو دالة على الطبيعة البشرية التي يجسدها الإنسان في وجوده في هذا العالم, لذلك فإن عبوديته لربه, يمكن فهمها وفق التركيب «عبده» فتعني استرشاده بالله واكتسابه للعلم والمعرفة التي يهديه إليها كي يتدبر شؤونه في هذا العالم الذي خلق فيه, وكي يعيش حياته بطريقة مثلى.
«ص» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, الثبات, الرسوخ, المتانة, الصلابة, الالتصاق, ويمكن التأمل في طبيعتها اللفظية وفي بنيتها التصويرية, حيث يمكن أن نستشف معنى الثبات والرسوخ والعزم, حيث نلاحظ كيف تحافظ على نبرتها «نتوئها» عند التصريف في الشكل «صـ» وهي ترد في الكتاب ثلاث مرات, في سورة الأعراف, وفي سورة مريم, وفي سورة ص.
ولو ناقشناها حسب ترتيب الورود, فنجدها في سورة الأعراف «المص • كتاب أنزل إليك فلايكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين».
وهنا نجد الإشارة لمعنى الثبات والصلابة في كلمة «صدرك» سواء كانت إشارة من أصل البلاغ القرآني, أم كانت من أصل البنية النووية للتركيب.
كما نلاحظ ورود الصاد مع صيغة «الم» وهي صيغة تتكرر ست مرات, تشمل سورة البقرة وآل عمران و الروم والعنكبوت والسجدة ولقمان, فإذا أضفنا إليها «المص» في الأعراف و «المر» في الرعد تصبح ثمانية, فإذا أضفنا الصيغة «الر» التي تتكرر خمس مرات, تصبح ثلاث عشر من الصيغة «أل» ثمانية منها من الصيغة «الم» وخمسة من الصيغة «الر».
وهنا تجدر الإشارة للنواة «أ» فهي نواة التعريف في حالة الهمزة, وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار في حالة المد غير المهمـّز, وهي في ورودها القرآني تحمل معنى الكتاب, الذي يجسد معنى التعريف في طبيعة البلاغ.
وبذلك يمكن قراءة الصيغة «الم» بمعنى الخلاصة والأصل «م» في كتاب الله «أل» أو المجموع في كتاب الله, أو الأصل في معرفة الله, وهذا يمكن فهمه على نحو إجمالي بمعنى كتاب الله المنزل.
وبذلك يمكن قراءة الصيغة «المص» بمعنى الثبات والرسوخ والثقة في كتاب الله المنزل, وهذا يتوافق مع معنى النص «كتاب أنزل إليك فلايكن في صدرك حرج منه .. ».
وبالعودة لسورة مريم وقصة زكريا, فلو أخذنا الجذر «عص» ويقرأ نووياً بمعنى الثبات والرسوخ في باب الوعي والتدبير, ويفهم بمعنى التمسك بالأمر والثبات على الموقف والثقة بالنفس, كما يفهم بمعنى الشيء الثابت المعتبر, وهو جذر يرد في عديد من التراكيب, منها «عصا» و«عصى» وهو صيغة التعميم في معنى الثبات والتمسك بالموقف, وهو معنى العصيان والخروج عن السلطان.
كما يرد في «عصر» ويمكن مناقشته وفق معاني مختلفة منها وقت العصر, ومنها معنى العصور, ومنها العصير, ففي معنى وقت العصر, فيقرأ «عصر» بمعنى الحركية في باب الوضع الثابت المعتبر, وهو وقت انكسار الشمس نحو المغيب, وهو نفس المعنى الذي يحمله التحول بين العصور, ويمكن مجازياً تشبيه نهاية كل عصر بشمس آفلة.
وهكذا يمكن وضع قراءة إجمالية للصيغة «كهـيـعص» على النحو ... التأكيد على الثبات واليقين في باب الوقوف على الغيب.
الفصل الثاني - قراءة في جملة الصيغ النووية «الم - الر»
في الفصل السابق تناولت الصيغة «كهيعص» الواردة في سورة مريم في معرض مناقشة شاملة لجملة النوى القرآنية الأربعة عشر التي شكلت على مدى قرون طويلة سؤالاً استفهامياً مفتوحاً ينتظر الإجابة, ولا بد من الإشارة هنا, أن المنهج النووي في التفكيك, يمثل موضوع دراستي التي أطرحها كبراءة اكتشاف, وهو يشكل الأساس المعرفي الذي لا يمكن أن تفهم بدونه الحروف القرآنية, لذلك فقد يكون مؤسفاً ألا نجد له أثراً في المنتوجات الفكرية المعاصرة, أو في موروثنا الثقافي وما تناقل إلينا من أخبار السالفين, بما يشير لفجوة ثقافية تاريخية تتجسد ملامحها في افتقاد حركة الفكر العربي المعاصر لصورة واضحة تجسد تاريخ نشوء وتطور اللغة, وعلاقة اللغات المختلفة ببعضها, إضافة لجوانب تاريخية مختلفة مازال الأكاديميون التاريخيون والأركيولوجيون يتعاركون فيها, في نظريات وقراءات مختلفة, تجهد في محاولات لمعرفة الجوانب التاريخية والفكرية التي رافقت تاريخ اللغة والأديان وعملية اختراع الأبجدية, وفي نسبتها لشعب معين, ومعظم تلك الدراسات تشوبها نزعات أيديولوجية تفقدها طابعها الأكاديمي, وتمنعنا من اعتمادها والارتكاز عليها لبناء جيل غير مضلل, يمتلك وعياً تاريخياً صحـيـّاً وصحيحاً, ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار, أن تلك البيئة البحثية, هي بيئة الأديان الرئيسية الثلاث التي تتقاسم ثلاثة أرباع العالم, والتي تحولت لمعاقل تحد من قيمة الفكر وحرية البحث المعرفي, الذي يمكن له أن يصل لنتائج تخالف طبيعة بنيتها المغلقة, إضافة للحساسية الكبيرة التي تحملها قضية «إسرائيل» بأبعادها التاريخية والسياسية البالغة.
الصيغ النووية في الإطار اللغوي العام
قبل أن نتعرض للنوى القرآنية وما تجسده في وروداتها الخاصة, يجب أن نقرأها في إطارها اللغوي العام, وأن نختبر صلاحية تلك القراءة في الورودات اللغوية المختلفة.
فلو أخذنا حرف الألف «أ» فهو يمثل حالة مركبة تحتاج لتفكيك, لأنه يشمل مكونين مجتمعين يمثلان الثنائية الرقمية «0, 1» فالهمزة توازي الرقم صفر وترسم في مدّها اللفظي الرقم واحد.
والهمزة كنواة للتعريف ترد مع المد بمقتضى اللفظ, وبذلك فإن الألف هو المد«ا» ويرفق بالهمزة في صيغة التعريف.
وهذا يفسر لنا كيف أن الصيغة القرآنية تكتب «الم» بينما تلفظ على النحو «أ ل م» ولو تأملنا في كلمة «ألف» لوجدنا الجذر «لف» ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة «ف» في باب الطبيعة «ل» ويفهم بمعنى طبيعة احتياجية, أو حاجة الطبيعة, ومنها معنى الإلفة والتآلف واللف والالتفاف, وبذلك تكون «ألف» وتقرأ بمعنى طبيعة احتياجية في باب التعريف, وبذلك يتضح معنى المد في حاجته للهمزة لضرورة اللفظ.
والهمزة نووياً هي نواة التعريف/صيغة التعريف, أضيفت لها اللام على نحو مستحدث, فاستحدثت بها صيغة التعريف المعروفة «ال» في إشارة لقيمة اللام في الحضارة القديمة, وارتباطها بالمعبود, وتم اصطلاح ما يسمى همزة الوصل «ا» وهي ألف غير مهمزة, تكتب ولا تلفظ, تستخدم في حالات خاصة من نمط «ال» التعريف ومن نمط يشمل جميع الكلمات التي تبدأ بحرف ساكن مثل «اصطلح».
والمد «ا» يمثل انفعالية الهمزة, وهي انفعالية التعريف والتعميم والإخبار, وهذا يفسر طبيعة التداخل بين كلتا النواتين, واشتراكهما في معنى التعريف.
سأترك المناقشة اللغوية الشاملة للحالات «أ, إ, ا, ؤ, ئ, ى, ء» كي لا تأخذ المناقشة طابعاً تدريسياً عاماً, فما يشغلنا في هذا المقام هو جملة النوى القرآنية.
لنأخذ التركيب «أم» ويقرأ نووياً بتمركز معنى الأصل/المصدر «م» في باب التعريف, وهذا المعنى نجده يترجم باتجاهات عدة, فهو يفهم بمعنى الأم في إشارة لمكانتها كوالدة, كما يفهم وفق الصيغة البلاغية «أم» التي يمكن معاينتها في «أفلم يدّبّروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين» حيث نجدها تستخدم في محل تجميع وتأصيل للقيمة البلاغية, وهنا تجدر الإشارة للنواة «م» فهي نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ الأصل, المصدر, المجموع, الخلاصة, ولو تأملنا في بنيتها التصويرية التي تكتب فيها «م» فيمكن أن نستشف هذا المعنى من شكلها المرسوم, كما نستشفه من طبيعتها اللفظية.
وبالمناسبة, فإن الميم ترد في تسمية الأم في لغات مختلفة, فهي في الفرنسية «Mere» كما أنها ترد بتسمية مشابهة للعربية «Maman» وفي الإنكليزية «Mother» كما نجدها في كلمة امرأة و«madam».
لذلك فيمكن وضع الأم في جملة المترادفات التي نقارب فيها النواة «م» حيث نلاحظ أنها ترد في الكتاب بقيمتها المجازية في « هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ...» «آل عمران» وتفهم أم الكتاب بمعنى خلاصته الإجمالية/الكلية, وهي الجملة المحكمة التي تم تفصيل الكتاب على مضمونها.
ولنأخذ الصيغة «أر» حيث نجد النواة «ر» وهي نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الحيوية, الحركية, الأرض, العالم, الحياة.
ولو تأملنا في بنيتها التصويرية «ر» فيمكن أن نستشف ما يقارب هذا المعنى, فهي ترد في جملة من النوى المشابهة «ر, ز, و» حيث «ر» قرينة الحركية والحيوية, وحين توضع عليه نقطة يصبح زين أو زال, وهي نواة لغوية تحمل معاني الاهتزاز والسرعة والكثرة والتزايد, وحين تعلوه الرأس في واو, يصبح نواة تعبر عن جملة انفعالات تشمل الانبهار والتعجب والدهشة والاستغراب والتهويل والتعيين وما يشاكلها من جملة انفعالات الواو.
والجذر «أر» يقرأ بمعنى الحركية والحيوية/ر في باب التعريف, ويفهم بمعنى مساحة من الأرض, ويرد في «أرض» وهي تقرأ نووياً بمعنى صعوبة البلوغ والمنال «ض» في باب مساحة الأرض «أر» وهو معنى الأرض في إشارة لأبعادها الشاسعة.
والملاحظ أن الراء ترد في تسمية الأرض في اللغات المختلفة, فهي في الإنكليزية تلفظ «إرث» حيث النواة «ث» وهي نواة الاستمرارية والمتابعة, ولو تأملنا في كلمة «إرث» لتبين لنا تفسير التطابق اللفظي على اختلاف المعنى بين دالة التوريث العربية ودالة الأرض الإنكليزية, حيث أنها في التفكيك تقرأ «إرث» بمعنى الاستمرارية والتتابع«ث» في باب مساحة الأرض, وهذا يفهم في الإنكليزية بمعنى الأرض في إشارة لاستمراريتها, ويفهم في العربية بمعنى التوريث وتتابع الملكية على نحو مستمر.
ونجدها في الفرنسية تلفظ «تيرّ» وتقرأ بمعنى الأرض «رّ» في باب الاكتمال والبلوغ «ت» وهذا يؤكد ما أشرت له سابقاً, وهو أن التسمية لا تمثل المسار الحتمي للمعنى, وإنما تعبر عن مساره التاريخي المرتبط ببيئة اجتماعية خاصة, تفاعلت في ظروفها النوى, ورسمت ملامح لغتها المميزة, وأن اختلاف التسميات بين اللغات المختلفة, ليس دليلاً على انعزالها النووي.
«ل» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ الطبيعة, الإرادة الإلهية, الطبيعة التكوينية, طبيعة الأشياء, واقع الحال,...الله.
يمكننا مناقشتها وفق الجذر «لم» ويقرأ نووياً بمعنى الأصل/المجموع في باب الطبيعة, ويفهم بمعنى اللم والتجميع, ومنه اشتق حرف الجزم «لم» على نحو بلاغي.
والجذر «لم» يرد في تراكيب عديدة, منها «علم» ويقرأ بمعنى التجميع في باب الوعي والاعتبار, ويفهم بمعنى العلم والتعلم, كما يفهم بمعنى الراية الوطنية التي تجمع شعباً من الشعوب.
كما نجده في «حلم» ويقرأ بمعنى التجميع واللم في باب الإحساس «ح» ويفهم بمعنى الحلم وهو المنامات, كما يفهم بمعنى الحلم وهو معنى الحليم الذي يضبط أعصابه في الانفعال.
وهنا تبرز القيمة النووية في تفسير المعاني, حيث نلاحظ في تفكيك الكلمة «حلم» كيف تتجسد خواص الحلم في أصل بنيته اللغوية, علماً أنه كتركيب ثلاثي الأبعاد, فإنه يقرأ وفق جذريه «ح - لم» و «حل - م» وعندما تعطي كلتا الطريقتين نتيجة واحدة, نقول عن التركيب أنه ثلاثي الأبعاد, أو ذو طبيعة مثلثية.
«ح» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الحس, الإحساس, الشعور, الانفعال.
ولو ناقشناها في بنيتها التصويرية, فسنجد أنها تأتي في جملة «ح, ج, خ» حيث النقطة التي تعلوها في «خ» تشير لمعنى الخاء كنواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ المباغتة, المفاجأة, الإصابة, الخبر...
والنقطة التي تحويها في «ج» فإنها تشير لمعنى الجيم كنواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها؛ المجيء, الحضور, الجلب والإحضار..
ولو أخذنا الجذر «حل» ويقرأ نووياً بمعنى الطبيعة في باب الإحساس, وهذا يترجم وفق المعنى المعروف «حل/طبيعة الإحساس» ومنه معنى حل المشكلة, ومنه معنى الحلال, ومنه يشتق معنى حلول ومحل وانحلال, وهو في «حلو» يأخذ معنى قريب يحمل انفعالية مميزة.
والجذر «حل» نجده في «حلف» ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة في باب الحل, ويفهم بمعنى التحالف, كما يفهم بمعنى الحلفان, حيث نلاحظ كيف يختلف المعنى في «فحل» وهو يقرأ بمعنى الحل/طبيعة الإحساس في باب الحاجة.
ولو أعدنا قراءة كلمة «حلم» وفق الجذر «حل» فنجده يقرأ بمعنى الأصل/التجميع «م» في باب طبيعة الإحساس«حل» وهذا يمكن ترجمته بمعاني الحلم المعروفة, وهنا تجدر الإشارة لدور الحلم في الحضارات القديمة والاعتماد عليه في حل الكثير من الأزمات.
الصيغ النووية في بيئتها القرآنية
في الفصل السابق تناولت الصيغة «الم» وقرأتها على نحو .. الأصل /المجموع «م» في باب معرفة/تعريف «ا» الله/الطبيعة «ل» وذكرت أن هذه القراءة النووية يمكن فهمها بصيغة اجمالية من نمط .. كتاب الله المنزل, الأصل في معرفة الله, خلاصة كتاب الله, .., لذلك لا بد من الإشارة أن شفافية المكونات النووية في الصيغة, تتيح الإمكانية لقراءات متعددة, لكني تبينت من خلال الدراسة والتأمل, أن القراءة الأصح هي التي تحمل معنى الخلاصة الكلية «أم الكتاب» أي القراءة على نحو .. الأصل المحكم في كتاب الله, وهذا ستؤكده المناقشة اللاحقة.
«المر» وترد في سورة الرعد, «المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربـّك الحق لكن أكثر الناس لا يؤمنون».
وهي سورة تحمل في مضامينها صوراً رمزية تبجيلية لله في مظاهر الخلق التي يجسدها الكون, وفيه إشارة بليغة إلى البرق والرعد والماء المنهمر من السماء, وتلك المعاني يمكن أن نستشفها في مضمون الصيغة «المر» حيث تقرأ وفق التحليل النووي على النحو الأرض/العالم «ر» في باب كتاب الله المجموع/ المحكم «الم» ويمكن قراءتها اجمالياً على نحو ... مجموع/محكم كتاب الله إلى الأرض/العالم, أو الكتاب المنزل من السماء إلى الأرض, وهذا المعنى نجده يتأكد في الرمزية البليغة التي يمثلها الرعد.
وهنا يجدر التنويه, أن اختياري لثنائية أرض/عالم من بين جملة مقاربات الراء العديدة, ليس نازعاً تحايلياً, فطبيعة التسميات والتراكيب هي التي تشد النوى التي تحتويها إلى سياق معنوي يختار منها ما يتناسب مع طبيعته, وهذا أمر يعرفه كل من يشتغل في مجال الترجمة.
«الر» وتقرأ نووياً بمعنى الأرض/العالم في باب معرفة الله/ال, ويمكن فهمها اجمالياً على النحو .. كتاب الله في الأرض, وهي صيغة يمكن فهمها بالمقارنة مع الصيغة «المر» حيث نلاحظ غياب الميم, وهي دالة الأصل والمحكم والتجميع.
وهذا يشير لحقيقة مفادها أن الكتاب تم تفصيله على أساس جملة مضامين كليـّة محكمة, والمقصد هو التمييز بين الكتاب في خلاصته الكلية المحكمة «الم» وهي المضمون المعرفي والخلاصة الكلية أم الكتاب, الذي يفوز به الدارس المتأني في جهده واجتهاده, وبين الكتاب في تفصيله «الر» وهو سبيل الدارس لبلوغ المضمون الأصيل المستبطن في مكنون الكتاب على مدارج البحث والدراسة.
وهذا ما يفسر كيف أن «الم» تستقل بذاتها في السور التي ترد فيها, بينما نجد الصيغة «الر» تدمج بما يليها من بيان.
وهذا المعنى يمكن أن نلاحظه في مضامين السور التي ترد فيها الصيغة «الر» وهي ترد في خمس سور هي ..
سورة يونس «الر تلك آيات الكتاب الحكيم» وهنا تكون الميم في مضمون البيان «تلك آيات الكتاب الحكيم» للإشارة إلى حقيقة أن تفصيل الكتاب «الر» يتبع لقيمة إجمالية هي خلاصته المحكمة التي اقتضى تفصيلها كي يتعلمها عموم الناس.
سورة هود «الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» وهنا نجد الإشارة الواضحة للمقصد المذكور.
سورة يوسف «الر تلك آيات الكتاب المبين • إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون • نحن نقص عليك ...»
وهنا تتجسد الفكرة في الإشارة إلى الخصوصية العربية التي نزل فيها الكتاب, وهي إشارة إلى أن الخطاب يوائم - في تفصيله - عقل المخاطبين ولسانهم وطبيعة وعيهم ومداركهم, وهذا يفرض على جملة الكتاب المحكمة أن تجد تفصيلاً يتمكن المخاطبون من استيعابه, وهنا تبرز قيمة القصة كشكل من أشكال تبسيط الموضوع كي يستوعبه الناس على قلة مداركهم «نحن نقص عليك ..».
وبنفس المعنى يمكن استعراض الصيغة «الر» في سورة ابراهيم وفي سورة الحجر.
أخيراً, يجدر التنويه أن الراء ترد في الكتاب ست مرات, وربما يحمل ذلك معنى الراء في إشارة للفراغ الكوني في سداسية المكعب, وهي الأمام والخلف والأعلى والأسفل واليمين واليسار, وهو معنى الحركية والأرض والدنيا والحياة والعالم الذي نعيش فيه.
كما أن الملاحظ أن الصيغة «الم» ترد مرة واحدة في صيغة «المص» ومرة واحدة في صيغة «المر» حيث يمكن أن نستشف منها إشارة لثنائية «الحركة - السكون».
الفصل الثالث - الصيغة القرآنية «طسم/طس - طه»
«ط» نواة لغوية تقرأ في الفهرس النووي في جملة مرادفاتها؛ الوجهة, الاتجاه, الانبساط, الطبقات, ..الخ. نجدها بدلالاتها البليغة في؛ طريق, طي, طول, مط, نط, حط, قط, طير, ...الخ.
ولو تأملنا في بنيتها التصويرية, فيمكن أن نستشف هذا المعنى, حيث نلاحظ أنها تأتي في جملة النوى؛ ط, ظ, صـ, ضـ, حيث نجد بالمقارنة كيف تشكل الصورة «صـ» تمثيلاً لمعنى الثبات والرسوخ والالتصاق,.. وهي مع النقطة التي تعلوها في «ضـ» تصبح صورة تمثيلية لمعنى صعوبة المنال/صعوبة البلوغ, وبزوال النتوء من «صـ» تصبح «ط» صورة تمثيلية للخروج من حال الثبات في اتجاه ترسمه العصا القائمة, التي تعبر عن عملية اتخاذ وجهة. والنقطة التي تدخل عليها في «ظ» هي إشارة للمشقة والأذى والمخاطر التي يحملها الطريق.
وبذلك تصبح الجملة النووية على النحو؛ «ص» الثبات والرسوخ والالتصاق «ض» صعوبة المنال والبلوغ, «ط» الوجهة/الاتجاه الطريق «ظ» المشقة الأذى المصيبة البلاء المعاناة.
«س» نواة لغوية تقرأ في جملة مقارباتها؛ الإنسان/الإنسانية, النفس, الشخص, خاصية الحياة في الكائنات, تلك مقاربات النواة «س» التي يمكننا فهمها بمعنى القيمة الحية في الكائن الحي.
ويمكن أن نستشف هذا المعنى من بنيتها التصويرية «س» فهي مكونة من شبه يد ممدودة تعبر عن خاصية الفعل الإنساني «سـ» التي تستقل عند تصريفه عن البنية القاعدة/التكوين الثابت الذي يرتبط بها في «س» وهو رسم اصطلاحي/أبجدي يرد في جملة من النوى؛ «ن, س, ض, ص, ل» فهو مع النقطة التي تسقط فيه, يصبح النون, وهي نواة لغوية تفهم بما يقارب معنى الذات, الذات الموضوعية, النعمة, ذات النعمة, الحقيقة, الأهمية..., ومع اليد الممدودة يصبح «س» وهي دالة النفس والإنسانية والفعل الإنساني والروح, ومع العقدة يصبح صاد, وهي دالة الثبات والرسوخ والالتصاق, وهو في «ل» يمثل بمداه الصاعد ارتباطه بالطبيعة التي كونته, حيث «ل» الطبيعة/الطبيعة التكوينية.
والنواة «س» ترد في الكتاب على نحو مميز في الصيغة/السورة «يس» ويمكن قراءتها على نحو ..أيها الإنسان, ويمكن فهمها بمعنى مخاطبة الله لرسوله, «يس • والقرآن الحكيم • إنك لمن المرسلين • على صراط مستقيم».
وقبل أن نتناول الصيغ في إطارها القرآني, يجدر تناولها في إطارها اللغوي العام, وبملاحظة الجذر «طس» ويقرأ نووياً بمعنى النفس/إنسان في باب الوجهة/اتجاه, وهذا يمكن ترجمته بمعنى النظرة الإعتبارية وفق التعبير المحلي المعروف .. طس, التي تحمل معنى النظر في اتجاه معين, كما يمكن فهم الجذر «طس» بمعنى الإنسان في باب الطريق/الوجهة, وهو معنى الاستكشاف والرحلة.
يمكن أن نستخلصه من«عطس» ويقرأ وفق الجذر «طس» بمعنى الاستكشاف في باب الوعي/التدبير, وهي العطسة المعروفة في إشارة لخاصيتها البنيوية التي يمكن أن نلاحظها عندما نعطس, كما يمكن قراءتها بمعنى الإنسان في باب الوعي بالوجهة/عط, اشارة لأدب العطس.
كما نجده في «غطس» ويقرأ بمعنى الاستكشاف في باب الغين, حيث «غ» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الغاية, الابتغاء, التوجه نحو هدف, ..., وهنا يجدر التنويه أن معظم التراكيب التي تصادفنا هي تراكيب ثلاثية الأبعاد, يمكن قراءتها وفق جذرين مختلفين.
الجذر «طه» ويقرأ بمعنى الغيب في باب الوجهة/ الطريق, ويفهم بمعنى غياهب الطريق, ويرد في قليل من التراكيب, منها «طهر» ويقرأ وفق جذريه, فهو «ط - هر» في إشارة للقيمة الحركية «هر» في باب الوجهة, وهي ميزة الطهارة في علاقتها بالحيوية, كما يقرأ «طه - ر» بمعنى الحركية في باب غياهب الطريق, وهي حالة تعبر عن معاني الطهر وقيمته الروحية.
وفي «طهو/طهي» فالطاه هنا تحمل معنى الطريقة, حيث تقرأ «طهو» بمعنى انفعالية التعيين أو المنفعة في تابعيتها لوجهة خاصة.
طسم/طس – طه
ترد الطاه في النص القرآني في أربع ورودات, منها؛ الصيغة «طس» وترد مرة واحدة في سورة النمل, والصيغة «طسم» وترد مرتين في سورة القصص وفي سورة الشعراء, والصيغة «طه» وترد في سورة «طه».
ولا يمكننا تجاهل الإشارة البليغة التي تحملها هذه الرباعية, والتي يمكن اعتبارها دليلاً إضافياً على أن الطاه هي قرينة الاتجاه, في معنى الجهات الرئيسية الأربعة.
وقد فاتنا أيضاً أن نشير للصاد في ورودها الثلاثي, الذي يمكن أن يقرأ كإشارة لمعنى الثبات في ارتكازه على دعائم ثلاثة.
كما أن السين ترد خمس مرات, ويمكن أن نستشف منها معنى الإنسانية في إشارة إلى ... اليد بمعانيها البليغة.
ولو تناولنا الجذر «طه» فهو يقرأ نووياً وفق خصوصيته الدينية بمعنى الغيب في باب الطريق, وهذا يمكن ترجمته بمعنى غياهب الطريق, حيث الخصوصية التي يمثلها الكتاب المقدس, هي التي تحدد طبيعة القراءة الإجمالية التي تأخذ بعين الإعتبار البيئة الخاصة التي يدرس فيها التركيب اللغوي, وهذا يجسد المعنى الديني الخاص للصيغة «طه» والتي يمكن قراءتها على نحو إجمالي؛ الغيب في باب الطريق/التوجه نحو الغيب/وجهة الغيب.
وهذا المعنى نجده في السورة «طه • ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى• إلا تذكرة لمن يخشى ...»
وهي سورة تتمحور حول قصة موسى, والنار التي رآها حين كان في الليل هائماً في رحلته مع أهله يبحث عن مكان يأويه.. «.. وهل أتاك حديث موسى • إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى • فلما آتاها نودي ياموسى • إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طـوى».
وهذا يؤكد معنى الصيغة «طه» الغيب في باب الطريق, ونلاحظ الطاه في أول ورودها, في «فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى» وهنا يمكننا في مناقشة السورة, أن نقرأ في معنى «اخلع نعليك» فقد يتبادر للذهن سؤال حول مغزى الأمر بخلع النعلين, ويمكن ان يفهم بمعنى التأكيد على قيمة الوصول, والوقوف على تلك القيمة/الوصول, كما يمكن أن نستشف منها إشارة على معنى «ط» الوجهة والطريق.
وهذا المعنى يتجسد في معنى كلمة «طوى» وتقرأ نووياً بمعنى انفعالية التعريف في معنى الرحلة الطويلة/المعتبرة «طو» وتفهم بمعنى الوصول والبلوغ والإنجاز, ونجده في «طوى الصفحة» وفي «طوى الصحراء».
والملاحظة هنا أن الطاه ترد في الصيغة «طه» المتفردة عن الصيغ الثلاث «طسم2, طس1» وربما كانت إشارة للجهة التي يباركها الله ويفضلها عن بقية الجهات, وهي الوجهة التي يتوجه فيها الإنسان نحو ربه/الغيب, وهذه مسألة فقهية يمكن مناقشتها في دراسة خاصة.
إن الصيغة «طس» كنت قد ناقشتها في الجذر «طس» ويقرأ نووياً بمعنى الإنسان في باب الوجهة/الطريق, ويفهم بمعنى الاستكشاف, كما يمكن فهمها ضمن بيئتها القرآنية بمعنى رحلة إنسانية/ رحلة الإنسان.
وبالمقارنة نجد «طسم» وتقرأ بمعنى الأصل والتجميع/م في باب رحلة الإنسان, ويمكن فهمها بمعنى القصة البليغة/الأسطورة التي تحمل في طياتها الكثير من العبر الإنسانية, كما يمكن فهمها بمعنى جمع لحكايات وقصص بليغة تعبر عن رحلة الإنسان في هذه الدنيا.
وهذا المعنى نجده يتأكد من خلال إسم السورة التي يرد فيها «القصص» ومن خلال موضوعها الذي يتضمن عرض بليغ واسع يشمل جوانب مختلفة من قصة موسى التي كان لها النصيب الأكبر من بين جميع القصص الأخرى.
وفي سورة الشعراء كذلك نجد هذا المعنى يتأكد من خلال اسم السورة, وهي إشارة لدور الشعر وقدرته على تضمين القيم البليغة التي تختزن في بلاغتها معاني وجدانية كبيرة تجسد رحلة الإنسان وتجربته في الحياة, ومن خلال مضمون السورة الذي يروي قصص عديدة تتحدث عن جملة كبيرة من الأنبياء السابقين.
كذلك يمكن ملاحظة الفرق بين «طس» و «طسم» حيث نجد الصيغة «طسم» ترد مستقلة عما يليها, في ورودها القرآني «طسم • تلك آيات الكتاب المبين» «الشعراء/القصص» بينما نجد الصيغة «طس» تدمج بما بعدها «طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين» «النمل».
وهذا يشير لحقيقة مفادها أن القصة القرآنية كقيمة بلاغية, ليست من نمط القصة التي يرويها البشر, فهي قصة بالغة الإتقان لا تخوض في تفاصيل هامشية, وكلما ازداد الإنسان في علمه وجد فيها معاني جديدة, وهي تتمايز بين طبيعتين, وهما القصة في طبيعتها التفصيلية وما يمكن أن نستخلصه منها في معرض الاعتبار «طس» والقصة في طبيعتها الاجمالية/الأسطورية وهي دلالات بليغة تقوم على بنية رمزية لا يكشفها سوى من يتعمق في الدراسة, ويبلغ مستوى متقدم في تجربته مع الحياة «طسم».
أخيراً, لا جرم/ضير أن يصف الإنسان بنية النص القرآني بالأسطورية, طالما أنه يقصد الإشارة لصناعته المتقنة, وبلاغة معانيه, فالعبرة هي في المقصد, ولو قمنا بتحليل كلمة «أسطورة» وفق المنهج النووي, لوجدناها مكونة من «أ» التعريف, «س» الإنسان, «طو» الوجهةالبعيدة/الرحلة المعتبرة, «رة» القيمة الحيوية المعروفة, وبذلك تقرأ «أسطورة» بمعنى القيمة الحيوية المعتبرة «رة» في باب الرحلة الطويلة/الأصيلة «طو» للإنسان «أس».
الفصل الرابع - «حم – عسق – ص – ق - ن»
في الفصول السابقة, تناولت جملة الصيغ القرآنية؛ «كهيعص» «الم» «المص» «المر» «الر» «يس» «طه» «طس» «طسم» وبذلك يبقى أن نتناول ما تبقى منها وهي الصيغ؛ «حم» «عسق» إضافة للصيغ الفردية الثلاث «ص» «ق» «ن».
في الإطار اللغوي العام
«ح» نواة لغوية تفهم في تقريبها بمعنى الحس والشعور, نجدها في الجذر البسيط «حس» ويقرأ نووياً بمعنى القيمة الإنسانية/س في باب الإحساس/ح, وتفهم بمعنى الحس المعروف, وهو جذر يرد في تراكيب عديدة, نجده في «حسم» ويقرأ نووياً بمعنى الأصل/م في باب الحس, وهو المعنى البليغ للحسم, كما نجده في «حسن» ويقرأ بمعنى النعمة في باب الحس, ويفهم بمعنى الشيء الطيب الجميل, وفي«نحس» ويقرأ بمعنى الحس في باب النعمة, وتفهم بمعنى النحس, إشارة لضياع النعمة في ريبة الإحساس, كما تفهم بمعنى النحاس إشارة لمكانته في الحضارات القديمة, ويرد في «لحس» ويقرأ بمعنى الحس في باب الطبيعة/طبيعة تكوين.
وتجدر الملاحظة أن الحاء ترد في جملة البلاغيات الحسية المعروفة «حلو, حد, حامض, مالح» وفي «حك, حس, حن, حب, حز, حر».
«ق» نواة لغوية تفهم في جملة مترادفاتها, النطق, القول, اللفظ, القوة, الدافعية, وهي حين تقترن بالمادة والجماد تعطيها معنى استنطاقي, وفاعليتها في الاستنطاق تتباين بين أول الجذر وآخره, فهي في «قطر» تقرأ بمعنى اتخاذ وجهة/طر في باب الاستنطاق, وهو معنى القطر كاتجاه رئيسي, وهو أيضاً معنى القطرة التي تعبر عن ذات المضمون.
وهي في «طرق» تقرأ بمعنى النطق في باب اتخاذ وجهة/طر, وهو معنى الطرق كعلامة على الوصول.
وفي الجذر «قف» نجد التشابه في البنية التصويرية بين النواتين «ق» «ف» كما نلاحظ أن النواة «ق» تلفظ لغوياً على النحو ..قاف, وهذا يدل على الارتباط النووي بين النطق والحاجة, فالحاجة هي أصل النطق والدافعية, وهذا المعنى يمكن أن نستشفه من البنية التصويرية للنواتين, حيث تتحول الفاء إلى قاف بإضافة نقطة, وبتغير في شكل التموضع.
والجذر «قف» يقرأ نووياً بمعنى الحاجة في باب النطق/الدافعية, ومنه معنى الوقوف والتوقف والالتقاف والتقفي, كما يمكن معاينته في وروداته الواسعة.
ولو أخذنا الجذر «قل» ويقرأ نووياً بمعنى الطبيعة في باب النطق/الدافعية, وتفهم بمعنى القول, وهو طبيعة النطق التي يتميز بها البشر, كما تفهم بمعنى القلي, في اشارة لعملية القلي في طابعها الاستنطاقي, كما تفهم بمعنى القليل والقلـّة, وهو معنى مجازي يعبر عن ارتباط النطق بطبيعة القلـّة من منظور بدائي.
والحاء والقاف يشكلان الجذر «حق» ويقرأ نووياً بمعنى النطق في باب الإحساس, وهو منطق الإحساس, ويفهم بمعنى دافعية الاحساس, أو احساس بليغ ومؤثر, ومنه معنى الحق المعروف, في إشارة لبلاغته الوجدانية.
نجده في «لحق» ويقرأ بمعنى دافعية الاحساس/حق في باب الطبيعة, وفي «حقن» ويقرأ بمعنى الذات الموضوعية في باب دافعية الاحساس, ومنه معنى الحقن والاحتقان, كما يمكن استعراضه في جملة وروداته الواسعة.
وفي الجذر المعاكس «قح» فيقرأ بمعنى الإحساس في باب النطق, وهو إحساس بالمنطوق, ويفهم بمعنى النطق على نحو مثير للمشاعر/استفزازي, ومنه معنى وقح وقحط وقحل.
وفي القوة, «قوّة» نجد القاف ينفعل وفق رابط خصوصية المعروف/ة, ويقرأ بمعنى الدافعية المعتبرة/قو على نحو مميز/وة, وهنا تجدر الإشارة أن القوة هي من مقاربات النواة «ق» لكنها لا تمثل معناها الدقيق.
مناقشة النوى في وروداتها القرآنية
لو بدأنا بالجذر «حم» فهو يقرأ نووياً بمعنى الأصل/المجموع في باب الإحساس, أي مبعث الاحساس, ويفهم بمعنى الطمأنينة, ومنه معنى الحماية والحمى, كما يفهم بمعنى عكسي, ومنه معنى الحمأة والحماوة والحمـّى, وهو يشكل الصيغة القرآنية «حم» وترد في سبعة سور قرآنية متتالية, هي سورة غافر, فصلت, الشورى, الزخرف, الدخان, الجاثية, الأحقاف.
وبمراعاة الخصوصية القرآنية, التي تمثل البيئة الخاصة التي تتضمن الجذر «حم» فيمكن أن نقرأه ضمن ثنائية الثواب والعقاب/الرحمة والغضب, ولو تأملنا في عموم تلك السور, سنجد أنها تتمحور حول هذا المعنى.
ففي سورة «غافر» نقرأ «حم • تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم • غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير» وهي سورة تتمحور حول قيمة الغفران في دلالته البليغة.
وفي سورة «فصـّلت» نقرأ «حم • تنزيل من الرحمن الرحيم • كتاب فصـّلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون». وهي سورة تتجسد فيها قيمة الرحمة في تفصيل الكتاب كي يتمكن الناس من استيعابه والتدرج في فهم جملته المحكمة ذات الطبيعة الروحانية, فالكتاب في أمه, جملة محكمة ذات قيمة روحية كبيرة, وثمة نصوص قرآنية كثيرة تشير لمسألة التدرج في التنزيل, بدافع الرحمة في ثقل وعظمة المضمون الكلي المهيب للرسالة, وفي هذا المعنى تتجسد الرحمة في معنى الصيغة «حم» التي تقرأ نووياً بمعنى أصل الإحساس/كليـّة الإحساس.
وفي سورة «الشورى» نقرأ «حم • عسق • كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم»
وهنا نجد الصيغة «عسق» التي ترد مرة واحدة, وبذلك فإن سورة الشورى تشكل علامة فارقة من بين /29/ سورة, من حيث احتوائها على صيغتين نوويتين.
وفي مناقشة الصيغة«عسق» نجد الجذر «عس» يقرأ بمعنى الإنسان/س في باب الوعي والتدبير/ع, أي الوعي الإنساني, ويفهم «تاريخياً» بمعنى الحالة التي تحتاج لتفكير وتدبير, أو بمعنى المهمة/المهمة الصعبة, ومنه اشتقت الصيغة البلاغية «عسى».
نجده في «عسكر» ويقرأ بمعنى الكر في باب المهمة والتجنيد, ونجده في «عسر» ويقرأ بمعنى الحركية في باب المهمة/المهمة الصعبة.
ومنه تقرأ الصيغة «عسق» بمعنى النطق في باب الوعي الإنساني, وبمراعاة البيئة القرآنية التي يرد فيها التركيب, تصبح القراءة الاجمالية على النحو .. النطق/القول بمقتضى وعي الإنسان.
هذا المعنى يعبر عن قيمة التيسير والرحمة في مراعاة الخطاب القرآني لمستوى مدارك الإنسان, أي أن حكمة الرسالة وطبيعة الرحمة فيها, اقتضت تفصيل جملتها المحكمة, على نحو يقارب مدارك الانسان, ومستوى فهمه وقدرته على الاستيعاب, وهذا يفسر اختلاف البنية التفصيلية بين الكتب والرسالات التي أنزلها الله على شعوب وعصور مختلفة, رغم وحدة المضمون والخلاصة الكليـّة, وهذا المعنى نجده مؤكداً في قوله تعالى «لكل أجل كتاب • يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب» «الرعد».
وبالعودة لسورة الشورى «حم • عسق • كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم».
يمكن استخلاص هذا المعنى من المضامين البليغة الواردة في السورة, وبذلك يتضح المغزى من اجتماع الصيغتين «حم» و «عسق» حيث تصبح القراءة الاجمالية على النحو .. (رحمة من الله)/حم (أنزل القول بمقتضى وعي الإنسان)/عسق.
ولو تأملنا في اسم السورة «الشورى» لوجدنا هذا المعنى يتجسد على نحو بليغ.
مناقشة الصيغ «ص» «ق» «ن»
«ص» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الثبات, الرسوخ, الالتصاق, الصلابة, المتانة.
وهي ترد في الكتاب في ثلاث سور, كنت قد ناقشتها في سورة الأعراف وفي سورة مريم, وهي ترد في سورة «ص» ونقرأ «ص والقرآن ذي الذكر • بل الذين كفروا في عزة وشقاق • كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص».
إن معنى الثبات والرسوخ والتمكن الذي تحمله النواة «ص» يتجلى في مضامين هذه السورة, فهي تحدّث عن ثبات حكم الله على الذين كفروا, وسأقوم بتحليل الصيغة «ولات حين مناص» وفق المنهج النووي, حيث أني لم أطلع على مراجع تناولت هذه الصيغة وقامت بشرحها وإن كان ثمة من فعل.
«لات» تقرأ نووياً بمعنى التمام أو النهاية أو الاكتمال/ت في باب الطبيعة المعروفة/لا, وتفهم بمعنى حالة عدم الاكتمال, أو حالة من عدم البلوغ, كما تفهم بمعنى التأخر عن الموعد.
«مناص» وتقرأ نووياً بمعنى الثبات والتمركز/ص في باب مصدر الأمر/منا, وتفهم بمعنى الملاذ والملجأ, ويقال «لامناص» بمعنى «لا مفر» لكنها تفهم أيضاً «مناص» بمعنى ثبات الأمر الصادر, أو القضاء المبرم.
وهكذا يمكن قراءة الصيغة «فنادوا ولات حين مناص» أي أنهم نادوا كي يرد عنهم الأمر, لكنهم تأخروا «لات» وكان الأمر قد صدر وصار نافذاً لا يرد «مناص».
«ق» وترد في سورة «ق» «ق والقـرآن المجيد • بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقـال الكافرون هذا شيء عجيب • أءذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد • قـد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ »
حيث نلاحظه في وروده الأصيل في «ق والقرآن المجيد» إشارة للنطق في معناه الأصيل, ثم يرد في وروده الأول بالإنسان في «فقال الكافرون» اشارة لمعنى النطق في الإنسان, ثم يرد بالمادة والجسد والجماد في «قد علمنا» إشارة لمعناه في الجماد.
ولو تأملنا في مضامين السورة, سنجد أنها تتمحور حول معاني النطق في الطبيعة, وكيف أن كل شيء يعود للنطق والنطق في أصله يعود للطبيعة التي خلقنا منها, فما كان للإنسان أن يتعلم شيئاً لولا اللغة التي يتداولها, تلك اللغة التي تعود في أصلها لبضعة حروف منحته الطبيعة التكوينية قدرة على نطقها.
«ن» نواة لغوية تفهم في جملة مقارباتها؛ الذات, الذات الموضوعية, ذات النعمة, الموضوع, الحقيقة, مركز الأهمية,..
ترد مرة واحدة في الكتاب, في سورة القلم؛ «ن والقلم ومايسطرون • ماأنت بنعمة ربك بمجنون • وأن لك لأجراً غير ممنون».
ومن يتأمل في السورة, يجد تلك المعاني التي تقارب معنى النواة «ن» تتجلى في مضمون السورة.
مناقشة الصيغة «نقص»
إن النوى الفردية الواردة في الخطاب, هي «ص» «ق» «ن» تشكل في جملتها التركيب «نقص» وذلك بمراعاة المبدأ العكسي في التحليل النووي, ولنأخذ الجذر «نق» ويقرأ بمعنى النطق/الدافعية «ق» في باب الذات الموضوعية/ذات النعمة «ن» وتقرأ بمعنى منطوق ذاتي, أو دافعية الذات, وتفهم بمعنى الأصالة ومنه معنى «نقي» أي بلا شوائب, كما تفهم بمعنى حضور الذات ومنه معنى الانتقاء, كما تفهم بمعنى طلب المزيد, ومنه التعبير العمومي «نق» أي ألح في الطلب, ولو أردنا قراءة التركيب «نقص» وفق الجذر «نق» فيمكن قراءته بمعنى الثبات في باب دافعية الذات/طلب المزيد, ويفهم بمعنى النقص المعروف.
ولو أردنا قراءته وفق الجذر«قص» ويقرأ بمعنى الثبات في باب النطق/الدافعية, وتفهم بمعنى الكلام البليغ الذي ينصت له, ومنه معنى القاص والقصص, كما تفهم في الجماد بمعنى فاعلية القص في القطعة الثابتة, كما تفهم بمعنى المنع والصد, ومنه معنى الاقصاء, ونجده في «قصب» ويقرأ بمعنى الفعـّالية/ب في باب الصد, وهي اشارة للقصب في متانته, وبذلك يمكن أن نقرأ «نقص» بمعنى الصد والاقصاء في باب ذات الموضوع و النعمة.
لكن لو ناقشنا التركيب «نقص» في بيئته القرآنية, فيمكن قراءته على نحو «نقص» وهو الثبات/ص في باب تابعية النعمة/ن للنطق/ق.
وهذه الحقيقة يمكن فهمها بمعنى الكتاب الذي يواكب طبيعة النطق في ثبات القيمة التاريخية, كما يمكن فهمها عبر اسقاطها على مثلث الحضارة لغة/ق, فكر/ن, تاريخ/ص.
حول معنى الرقم /14/
الرقم, هو رمز الدقة والشفافية والصدق والاتقان والحساب الدقيق, وهو مع الحرف يشكل ثنائية «حرف - رقم» حيث الحرف هو رمز اللغة والمنطق والبلاغة وخصوصية العالم البشري, والرقم هو رمز الحسابات الدقيقة, والقيمة البليغة, وخصوصية العالم الرباني, لذلك فليس ممكناً كشف معاني المنظومة الرقمية التي يقوم عليها الخطاب القرآني, وإن كانت الإشارة تفرض نفسها على من يريد أن يستشف منها بعض معانيه.
ففي مساحة التأمل, يمكن ملاحظة الرقم /14/ في جملة التناسق الكوني, فهو اليوم الذي يكتمل فيه القمر في الأشهر القمرية, وهو اليوم الذي تكتمل فيه البويضة في العملية التكاثرية, وهو يمثل نصف حروف الأبجدية, كما أن الأرقام (28, 29, 30, 31) هي جملة الأرقام التي يتحدد فيها الشهر القمري والشمسي, وهي ذاتها عدد الحروف الأبجدية التي تشمل اللغات المختلفة, كما أن الرقم /14/ أخذ قيمة خاصة في الديانات القديمة, فهو يمثل درج البلوغ لمقام المعرفة والنورانية, حيث تصعد الروح على مدارج المقامات المباركة, وصولاً لمقام ربها الأعلى, ولو تأملنا في قصة يوسف, فسنجد الرقم /14/ في أحدى عشر كوكباً والشمس والقمر, يضاف إليهم المقام الأعلى, الذي سجدت له المقامات الثلاثة عشر, وهو مقام الربوبية, الذي يكرم به الله من يشاء «وما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلـّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون 79» «آل عمران».
تفسير المفردات القرآنية وفق المنهج النووي
تشكل اللغة النووية ركيزة أساسية لدراسات قرآنية معمقة, تتناول مفردات النص بمنهجية التحليل النووي, وهذا الأمر يمكن استثماره في إطار دراسات تطبيقية تساهم في خدمة الفكر عموماً, وخدمة الفكر الديني بشكل خاص.
إن الإشارة البليغة التي تمثلها جملة الصيغ النووية الواردة في الكتاب, تعطي كل المشروعية لهذه الدراسات, وهي أربعة عشر صيغة, مكونة من أربعة عشرة نواة, يمكن وضعها ضمن الصيغة «سعى يكمل صرح نطقه» أو «نص حكيم سطره عاقل» وغيرها من الصياغات, ولو تأملنا في جملة النوى تلك, فسنلاحظ أنها لم تشمل جميع النوى اللغوية, فهي تستكمل ببقية النوى اللغوية؛ «ب, ج, د, و, ز, ف, ش, ت, ث, خ, ذ, ض, ظ, غ» التي يمكن وضعها في جملة تجميع اعتبارية «زدت شظ فخذ بغوث ضج» حيث نلاحظ بالمقارنة, صعوبة التجميع, بسبب حالة من التنافر اللغوي بين تلك النوى, بما يثير السؤال, هل لهذا الأمر دلالات يمكن استخلاصها؟.
لو تأملنا في البنية النووية للجملة الأولى, فسنجد المعاني التالية؛ س/ النفس والإنسان, ع/الوعي والتقدير, أ/ التعريف, ي/ النداء والتأكيد, ك/ الكينونة والوجود, م/المصدر والأصل, ل/الطبيعة والتكوين, ص/الثبات والرسوخ, ر/الحركة والحيوية, ح/الإحساس, ن/الذات والموضوع, ط/الوجهة والاتجاه, ق/النطق والدافعية, هـ/الغيب والإشارة.
بينما في الجملة الثانية؛ ز/الكثرة والتزايد والسرعة والاهتزاز, د/الجسد والمادة والهامدات, ت/التمام والاكتمال, ش/الإشارة الشينية والداهمية, ظ/المحنة والبلاء, ف/الحاجة والفائدة, خ/المفاجأة والخبر, ذ/الشك واليقين, ب/الفعـّالية, غ/الغاية والابتغاء, و/ جملة الانفعال والعطف, ث/المتابعة والاستمرار, ض/صعوبة البلوغ والمنال, ج/المجيء والإحضار.
هذه التعينات البنيوية, تبين الطبيعة الفعلية للنوى اللغوية, وقد يكون من قبيل الاستعجال, أن نطلق أحكام قيمة مطلقة على جملة النوى المتباينة, وفق الاعتبارات السابقة, لكن يمكن أن نستشف من معانيها دلالات تخدم قضايا إنسانية, على نحو علمي يشمل جوانب فكرية تاريخية دينية لغوية انسانية.
كما تجدر الإشارة, أن الخطاب القرآني يحتوي بطبيعة الحال على جميع النوى اللغوية, وما ينطبق على جملة النوى الخاصة, ينطبق على بقية النوى, وخاصة النوى التي تبدأ بها السورة, حيث يمكننا قراءة النواة «ذ» في بداية سورة البقرة, وهي السورة الأولى في الكتاب بعد الفاتحة, ونقرأ «الم • ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين» حيث يمكننا أن نستشف إشارة على معناها, في ثنائية الشك واليقين/لاريب فيه, كما نجد النواة «ب» وهي نواة الفعـّالية في سورة التوبة, ونقرأ «براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين • فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين» حيث يتجسد في مضمون العبارة معنى الفعـّالية/فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزين.
ومن جهة ثانية, فإن الكتاب في تاريخية نزوله, قد ضمـّن كلمات لم تكن معهودة في ثقافة المجتمع الذي نزل فيه, وكان الناس يتساءلون عن معاني بعض الكلمات الواردة, فيخبرهم النبي بمعانيها, بما يشير لمشروعية وأصالة المنهج النووي في التفسير, على اعتبار أنه يشكل أساس العلاقة بين اللفظ والمعنى, بما يتيح لنا أن ندرسه بما يتجاوز منطق النقل, وأن نفهم العبارة من خلال تحديد الإطار العام الذي يمكن أن تأخذ فيه العبارة معناها, وفقاً لطبيعتها النووية.
وفي هذا الإطار سأختار عينة من الكلمات «غير المألوفة» الواردة في سورة النبأ, وسأحاول شرحها وفق المنهج النووي.
ثجـّاجا – كواعب – أترابا - دهاقا
نقرأ في السورة «وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجـّاجا» حيث يتضح من سياق السورة أن الإشارة للمطر, والسؤال هو ما معنى «ثجـّاجا» وفق المنهج النووي؟.
لو أخذنا الجذر «ثج» ويقرأ نووياً بمعنى المجيء/ج في باب المتابعة والتكرار/ث, وهو جذر فريد لا يلحظ وروده في عموم الكلمات المعروفة, ويفهم بمعنى المجيء على نحو مستمر/التدفق, لكن ثمة كلمة قريبة منه, وهي «ثلج» حيث تصبح القراءة بمراعاة اللام, المجيء في باب طبيعة الاستمرار, اشارة إلى طبيعة الثلج في خاصيته بالذوبان وفي الهطول على حد سواء.
كما نلاحظ الجذر «جاج» ويقرأ بمعنى المجيء/ج في باب المعنى العام للمجيء/جا, ويفهم بمعنى مجيء ذو قيمة اعتبارية عامة, كما يفهم بمعنى المجيء المقترن بمحمول, نجده في«أجاج» وهو ذات المعنى/جاج في باب التعريف/أ, إشارة للطعم المالح وبلاغته الحسية, كما نجده في «دجاجة» حيث الجسد/د, إشارة للدجاجة والتدجين وفق القيمة التاريخية المعروفة, كما نجده في «عجاج» حيث «ع» الوعي والتدبير, إشارة للريح المحملة بالغبار والأتربة, وفي«زجاج» حيث «ز» الاهتزاز والسرعة/الزيادة والكثرة, إشارة للزجاج في خواصه البنيوية المختلفة.
وبذلك نقرأ «ثج - جاج» بمعنى «جاج» المجيء المقترن بمحمول/مجيء ذو قيمة اعتبارية عامة في باب التدفق/ثج, فينتج معنى «ثجـّاج» ويفهم بمعنى تدفق المطر بما يحمله من معنى معروف «وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجـّاجا • لنخرج به حباً ونباتا».
كما نقرأ في نفس السورة «إن للمتقين مفازا • حدائق وأعنابا • وكواعب أترابا ً• وكأساً دِهاقا».
حيث يمكن أن يبرز السؤال عن معنى «كواعب» و معنى «دهاقا».
«كعب» ويمكن قراءته من خلال الجذر «كع» ويقرأ نووياً بمعنى الوعي/ع في باب الكينونة والمثول/ك, أي كينونة معتبرة, ويفهم بمعنى تموضع لافت, أو بمعنى اتخاذ وضعية مناسبة, ومنه المعنى المعروف«كعك» وهو الكائن في باب كينونة معتبرة, اشارة للكعك في شكله الاعتباري المعروف, كما يفهم الجذر «كع» بمعنى تجليس الشيء واصلاح وضعيته, ويمكن ملاحظته في وروداته المختلفة, فنجده في التعبير«كعف» وهو معنى الانعطاف, ويقرأ نووياً بمعنى الحاجة/ف في باب اتخاذ وضعية مناسبة/كع, وهو معنى الانعطاف, كما نجده في «كوع» وهو بانفعالية الواو يعطي معنى المنعطف, كما نجده في «ركع» ويقرأ بمعنى اتخاذ وضعية مناسبة/كع في باب الحركة والحيوية/ر, وهو معنى الركوع, كما نجده في «كعر» ويقرأ بمعنى الحركية/ر في باب تموضع معتبر/كع, وهو معنى «كعر» أي طرد الشخص من المكان.
ومنه «كعب» ويقرأ اجمالياً بمعنى الفعـّالية في باب التموضع, ومنه معنى المكعب, اشارة لمثاليته في التموضع, ومنه معنى الكعب في القدمين, وفي الحذاء, ومنه أيضاً كعب الفنجان.
وهو يرد في السورة في «كواعب أتراباً» حيث يمكن فهمها في معرض وصف الثواب والنعيم, بمعنى النعمة في مثالية تموضعها وفي باب منالها, وهي أيضاً صفة تطلق على المرأة البالغة في حسنها, حيث «أترابا» تقرأ من خلال الجذر «تر» وهو الحركية في باب التمام, وتفهم بمعنى الوضع الجيد والحالة المستقرة والمقدار المعتبر, ومنه «لتر - متر» بمعنى مقدار ثابت معتبر, كما نجده في «ترك» وهو الكائن/ك في حال مستقرة, إشارة لفعل الترك بمعنى ابقاء الشيء على حاله, وفي «ترس» وتقرأ بمعنى النفس والإنسان في باب الحالة الجيدة, وفي «ترب» وتقرأ بمعنى الفـّعالية في باب الوضع الجيد المستحسن والمستقر, وتفهم بمعنى الغنى والخصوبة الذي تمثله التربة, ومنه صيغة التوصيف«كواعب أترابا» أي النعمة في مثالية تموضعها وفي غناها وخصوبتها.
«دهاقا» من «دهق» ويمكن قراءته من خلال الجذر «ده» ويقرأ بمعنى الغيب/هـ في باب الجسد/د, ويفهم بمعنى ما يعتري الجسد من تبدلات وأحاسيس, ومنه «ما دهاه؟» أي ما أصابه, ومنه «دهاء» ويقرأ بمعنى المعروف/ء في باب الإصابة/دها, أما في «دهر» فيمكن أن يقرأ وفق الجذر «هر» كما يمكن أن يقرأ بمعنى الحركية في باب تبدلات الجسد وهو معنى الدهر كمدة زمنية طويلة.
ومنه «دهق» ويقرأ بمعنى الدافعية والنطق/ق في باب تبدل الأحاسيس, ويفهم بمعنى أحاسيس بليغة تصيب الشعور, وهو المعنى البليغ للكأس الموصوفة.
ملاحظة, التحليل النووي للكلمة, سواء كانت عربية أو غيرها, بدون معرفة معناها المتداول, وبدون أن تكون متموضعة في سياق بلاغي معين, أو ضمن بيئة لغوية محددة, لا يعطي سوى ترجمتها النووية, التي قد تكون مفتوحة على تأويلات مختلفة, وبالتالي يمكن القول أن القيمة الاستثمارية للمنهج النووي تزداد حين نتناول كلمة مستخدمة ومتداولة أو مطروحة في سياق بلاغي معين.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع