الرد على الموضوع

إجبار

التّعريف

1 - الإجبار لغةً : القهر والإكراه . يقال : أجبرته على كذا حملته عليه قهراً ، وغلبته فهو مجبر . وفي لغة بني تميم وكثير من أهل الحجاز : جبرته جبراً وجبوراً قال الأزهريّ : جبرته وأجبرته لغتان جيّدتان . وقال الفرّاء سمعت العرب تقول : جبرته على الأمر وأجبرته . ولم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للإجبار . والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة أنّ استعمالهم هذا اللّفظ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ السّابق فمن تثبت له ولاية الإجبار على الزّواج يملك الاستبداد بتزويج من له عليه الولاية ، ومن تثبت له الشّفعة يتملّك المشفوع فيه جبراً عن المشتري . وقالوا : إنّ للقاضي أن يجبر المدين المماطل على سداد ما عليه من دين إلى غير ذلك من الصّور المنثورة في مختلف أبواب الفقه .

( الألفاظ ذات الصّلة ) :

2 - هناك ألفاظ استعملها الفقهاء في المعاني ذات الصّلة بلفظ إجبار وذلك كالإكراه والتّسخير والضّغط . فالإكراه ، كما يعرّفه بعض الأصوليّين ، هو حمل الإنسان على ما يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه بالوعيد ويعرّفه بعض الفقهاء : بأنّه الإلزام والإجبار على ما يكرهه الإنسان طبعاً أو شرعاً فيقدم عليه مع عدم الرّضا ليدفع عنه ما هو أضرّ به . ومن هذا يتبيّن أنّ الإكراه لا بدّ فيه من التّهديد والوعيد ، وأنّ التّصرّف المطلوب يقوم به المكره - بفتح الرّاء - دون رضاه . ولذا كان الإكراه معدماً للرّضا ومفسداً للاختيار أو مبطلاً له ، فيبطل التّصرّف ، أو يثبت لمن وقع عليه الإكراه حقّ الخيار ، على تفصيل موضع بيانه مصطلح « إكراه » .

3 - ( والتّسخير لغةً ) : استعمال الشّخص غيره في عمل بالمجّان . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى .

4 - والضّغط لغةً : الضّيق والشّدّة والإكراه . وأمّا في الاستعمال الفقهيّ فقد قال البرزليّ : سئل ابن أبي زيد عن المضغوط ما هو ؟ فقال : هو من أضغط في بيع ربعه أو شيء بعينه ، أو في مال يؤخذ منه ظلماً فباع لذلك . وقيل : إنّ المضغوط هو من أكره على دفع المال ظلماً فباع لذلك فقط . بينما الإجبار أعمّ من كلّ ذلك . إذ قد يكون حراماً غير مشروع فيتضمّن الإكراه والتّسخير والضّغط ، وقد يكون الإجبار مشروعاً بل مطلوباً ، كما لا يشترط لتحقّقه التّهديد والوعيد ، ولا أن يكون التّصرّف بفعل الشّخص المجبر - بفتح الباء - وإنّما قد يكون أيضاً بفعل المجبر - بكسر الباء - أو قوله ، كما في تزويج الوليّ المجبر من له عليه ولاية إجبار كالصّغيرة والمجنونة ، وكما في نزع الملكيّة جبراً عن المالك للمنافع العامّة . وقد يكون تلقائيّاً دون تلفّظ من أحدهما أو طلب كما في المقاصّة الجبريّة الّتي يقول بها جمهور الفقهاء غير المالكيّة كما أنّ الإجبار المشروع لا يؤثّر على صحّة التّصرّف ، ولا يشترط فيه أن يكون تسخيراً بغير مقابل وإنّما العوض فيه قائم ، كما أنّ الإجبار لا يقتصر وقوعه على البيع فقط كما في الضّغط ، بل صوره كثيرة ومتنوّعة .

صفة الإجبار ( حكمه التّكليفيّ ) :

5 - الإجبار إمّا أن يكون مشروعاً ، كإجبار القاضي المدين المماطل على الوفاء ، أو غير مشروع ، كإجبار ظالم شخصاً على بيع ملكه من غير مقتض شرعيّ .

من له حقّ الإجبار :

6 - قد يكون الإجبار من الشّارع دون أن يكون لأحد من الأفراد إرادة فيه كالميراث ، وقد يثبت الإجبار من الشّارع لأحد الأفراد على آخر بسبب يخوّل له هذه السّلطة ، كالقاضي ووليّ الأمر ، منعاً للظّلم ومراعاةً للصّالح العامّ . وسنعرض لكثير من صور هذه الحالات تاركين التّفصيل وبيان آراء المذاهب لمواضعها في مسائل الفقه ومصطلحات الموسوعة .

الإجبار بحكم الشّرع :

7 - يثبت الإجبار بحكم الشّرع ويلتزم الأفراد بالتّنفيذ ديانةً وقضاءً كما في أحكام الإرث الّتي هي فريضة من اللّه أوصى بها ، ويلتزم كلّ وارث بها جبراً عنه . ويثبت ملك الوارث في تركة مورّثه وإن لم يشأ كلّ منهما . وكذلك ما يفرض من العشور والخراج والجزية والزّكاة فإنّ من منعها بخلاً أو تهاوناً تؤخذ منه جبراً . ومن عجز عن الإنفاق على بهائمه أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبح المأكول منها ، فإن أبى فعل الحاكم الأصلح ، لأنّ من ملك حيواناً وجبت عليه مؤنته . ويرد الجبر أيضاً في الإنفاق على الزّوجة والوالدين والأولاد والأقارب على تفصيل وخلاف يذكر في موضعه . كما قالوا : إنّ الأمّ تجبر على إرضاع ولده وحضانته إن تعيّنت لذلك واقتضته مصلحة الصّغير ، كما يجبر الأب على أجر الحضانة والرّضاعة . وليس له إجبارها على الرّضاع إذا لم تتعيّن ، أو الفطام من غير حاجة ، واستظهر ابن عابدين أنّ له أن يجبرها على الفطام بعد حولين . كما أنّ المضطرّ قد يجبر بحكم الشّرع على أن تناول طعاماً أو شراباً محظوراً ليزيل به غصّةً أو يدفع مخمصةً كي لا يلقي بنفسه في التّهلكة . ففي هذه الصّور مصدر الإجبار فيها : الشّرع مباشرةً ، وما وليّ الأمر إلاّ منفّذ فيما يحتاج إلى تدخّله دون أن يكون له خيار .

الإجبار من وليّ الأمر :

8 - قد يكون الإجبار حقّاً لوليّ الأمر بتخويل من الشّارع دفعاً لظلم أو تحقيقاً لمصلحة عامّة . ومن ذلك ما قالوه من جبر المدين المماطل على دفع ما عليه من دين للغير ولو بالضّرب مرّةً بعد أخرى والسّجن ، وإلاّ باع عليه القاضي جبراً . كما قال جمهور الفقهاء خلافاً للإمام أبي حنيفة الّذي رأى جبره بالضّرب والحبس حتّى يقضي دينه دون بيع ماله جبراً عنه . وتفصيله في الحجر . كما قالوا : إذا امتنع أرباب الحرف الضّروريّة للنّاس ، ولم يوجد غيرهم ، أجبرهم وليّ الأمر استحساناً .

9 - كما أنّ لوليّ الأمر أيضاً أن يجبر صاحب الماء على بيع ما يفيض عن حاجته لمن به عطش أو فقد مورد مائه كما أثبتوا للغير حقّ الشّفة في مياه القنوات الخاصّة والعيون الخاصّة ، ومن حقّ النّاس أن يطالبوا مالك المجرى أو النّبع أن يخرج لهم الماء ليستوفوا حقّهم منه أو يمكّنهم من الوصول إليه لذلك وإلاّ أجبره الحاكم إذا تعيّن هذا الماء لدفع حاجتهم . ذكر الكاسانيّ : أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوه أهله فمنعوهم فذكروا ذلك لعمر بن الخطّاب وقالوا : إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا كادت تتقطّع من العطش ، فقال لهم عمر : هلاّ وضعتم فيهم السّلاح ؟ 10 - ولمّا كان الاحتكار محظوراً لما رواه مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من احتكر فهو خاطئ » ، فإنّ فقهاء المذاهب قالوا بأنّ وليّ الأمر يأمر المحتكرين بالبيع بسعر وقته فإن لم يفعلوا أجبروا على ذلك عند ضرورة النّاس إليه ، غير أنّ ابن جزيّ ذكر أنّ في الجبر خلافاً . ونقل الكاسانيّ عن الحنفيّة خلافاً أيضاً ، لكن نقل المرغينانيّ وغيره قولاً اتّفاقيّاً في المذهب - هو الصّحيح - أنّ الإمام يبيع على المحتكر جبراً عنه إذا لم يستجب لأمره بالبيع . كما نصّ الفقهاء على أنّ السّلطان إذا أراد تولية أحد أحصى ما بيده فما وجده بعد ذلك زائداً على ما كان عنده ، وما كان يرزق به من بيت مال المسلمين وإنّما أخذه بجاه الولاية ، أخذه منه جبراً . وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه مع عمّاله لمّا أشكل عليه ما اكتسبوه في مدّة القضاء والإمارة ، فقد شاطر أبا هريرة وأبا موسى مع علوّ مراتبهما .

11 - ويدخل في الإجبار من قبل وليّ الأمر منع عمر كبار الصّحابة من تزوّج الكتابيّات ، فقد منعهم وقال : أنا لا أحرّمه ولكنّي أخشى الإعراض عن الزّواج بالمسلمات ، وفرّق بين كلّ من طلحة وحذيفة وزوجتيهما الكتابيّتين .

الإجبار من الأفراد 12 - خوّل الشّارع بعض الأفراد في حالات خاصّة سلطة إجبار الغير ، كما في الشّفعة فقد أثبت الشّارع للشّفيع حقّ تملّك العقار المبيع بما قام على المشتري من ثمن ومؤنة جبراً عنه . وهو حقّ اختياريّ للشّفيع .

13 - كما خوّل الشّارع للمطلّق طلاقاً رجعيّاً حقّ مراجعة مطلّقته ولو جبراً عنها ما دامت في العدّة ، إذ الرّجعة لا تفتقر إلى وليّ ولا صداق ولا رضا المرأة . وهذا الحقّ ثبت للرّجل من الشّارع في مدّة العدّة دون نصّ عليه عند التّعاقد أو اشتراطه عند الطّلاق ، حتّى إنّه لا يملك إسقاط حقّه فيه ، على ما بيّنه الفقهاء عند الكلام عن الرّجعة . كما أعطى الشّارع الأب ومن في حكمه كوكيله ووصيّه حقّ ولاية الإجبار في النّكاح على خلاف وتفصيل يرجع إليه في موطنه عند الكلام عن الولاية في النّكاح .

14 - وفي إجبار الأمّ على الحضانة إذا لم تتعيّن لها تفصيل بين الفقهاء فمن رأى أنّ الحضانة حقّ للحاضنة قال : إنّها لا تجبر عليها إذا ما أسقطت حقّها لأنّ صاحب الحقّ لا يجبر على استيفاء حقّه . ومن قال : إنّها حقّ للمحضون نفسه قال : إنّ للقاضي أن يجبر الحاضنة ، على ما هو مبيّن تفصيلاً عند كلام الفقهاء عن الحضانة . ومن هذا ما قالوه من أنّ المفوّضة - وهي الّتي عقد نكاحها من غير أن يبيّن لها مهر - لو طالبت قبل الدّخول بأن يفرض لها مهر أجبر على ذلك . قال ابن قدامة : وبهذا قال الشّافعيّ ، ولا نعلم فيه مخالفاً 15 - وقال غير الحنفيّة - وهو قول زفر من الحنفيّة - إنّ للزّوج إجبار زوجته على الغسل من الحيض والنّفاس مسلمةً كانت أو ذمّيّةً ، حرّةً كانت أو مملوكةً لأنّه يمنع الاستمتاع الّذي هو حقّ له ، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقّه وله إجبار زوجته المسلمة البالغة على الغسل من الجنابة ، وأمّا الذّمّيّة ففي رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة له إجبارها . وفي الرّواية الثّانية عندهما ليس له إجبارها لأنّ الاستمتاع لا يتوقّف عليه وهو قول مالك والثّوريّ .

16 - كما قالوا بالنّسبة للأعيان المشتركة إذا كانت من جنس واحد وطلب أحد الشّريكين القسمة . فقد نصّ الحنفيّة على أنّ القاضي يجبر عليها ، لأنّ القسمة لا تخلو عن معنى المبادلة ؛ والمبادلة ممّا يجري فيه الجبر كما في قضاء الدّين ، فإنّ المدين يجبر على القضاء مع أنّ الدّيون تقضي بأمثالها فصار ما يؤدّي بدلاً عمّا في ذمّته . وهذا جبر في المبادلة قصداً وقد جاز ، فلأن يجوز بلا قصد إليه أولى . وإن كانت الأعيان المشتركة من أجناس مختلفة كالإبل والبقر والغنم لا يجبر القاضي الممتنع - على قسمتها لتعذّر المبادلة ، ولو تراضوا عليها جاز . وتفصيل ذلك في الشّركة والقسمة .

17 - وينصّ الشّافعيّة على أنّ ما لا ضرر في قسمته كالبستان والدّار الكبيرة والدّكّان الواسعة ، والمكيل والموزون من جنس واحد ، ونحوها إذا طلب الشّريك قسمته أجبر الآخر عليها . والضّرر المانع من قسمة الإجبار نقص قيمة المقسوم بها ، وقيل : عدم النّفع به مقسوماً . وإن تضرّر أحد الشّريكين وحده وطلب المتضرّر القسمة أجبر الآخر ، وإلاّ فلا إجبار . وقيل : أيّهما طلب لم يجبر الآخر . وتفصيل ذلك في القسمة والشّركة .

18 - كما نصّ الفقهاء فيمن له حقّ السّفل مع من له حقّ العلو أنّه لا يجبر ذو السّفل على البناء ، لأنّ حقّ ذي العلو فائت إذ حقّه قرار العلو على السّفل القائم . ويقول ابن قدامة : إذا كان السّفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السّقف الّذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من الآخر فامتنع فعلى روايتين كالحائط بين البيتين . وللشّافعيّ قولان كالرّوايتين . وإن انهدمت حيطان السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها فعلى روايتين : يجبر ، وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشّافعيّ ، وعلى هذه الرّواية يجبر على البناء وحده لأنّه ملكه خاصّةً . والرّواية الثّانية : لا يجبر وهو قول أبي حنيفة ، وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنعه من ذلك على الرّوايتين . وإن طالب صاحب السّفل بالبناء وأبى صاحب العلو ففيه روايتان : الأولى : لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشّافعيّ ، والثّانية : يجبر على مساعدته لأنّه حائط يشتركان في الانتفاع به . وتفصيله في حقّ التّعلّي ضمن حقوق الارتفاق .

19 - وقالوا في الحائط المشترك لو انهدم وعرصته عريضة فطلب أحدهما بناءه يجبر الآخر على الصّحيح في مذاهب الأئمّة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لأنّ في ترك بنائه إضراراً فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى النّقض إذا خيف سقوطه . وغير الصّحيح في المذاهب أنّه لا يجبر لأنّه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به ، ولأنّه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء . ونصّ الحنفيّة أيضاً على أنّه إذا كان مكان الحائط المشترك يحتمل القسمة ويتمكّن كلّ واحد من بناء سدّ في نصيبه لم يجبر ، وإلاّ أجبر .

اجتهاد

التّعريف

1 - الاجتهاد في اللّغة بذل الوسع والطّاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ . أمّا الأصوليّون فمن أدقّ ما عرّفوه به أنّه بذل الطّاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعيّ ظنّيّ ، فلا اجتهاد فيما علم من الدّين بالضّرورة ، كوجوب الصّلوات ، وكونها خمساً . ومن هذا يعلم أنّ معرفة الحكم الشّرعيّ من دليله القطعيّ لا تسمّى اجتهاداً .


اكتب معهد الماهر
أعلى