الرد على الموضوع

مدّة السّفر

28 - السّفر لغةً قطع المسافة ، وليس كلّ سفر تتغيّر به الأحكام ، من جواز الإفطار ، وقصر الصّلاة الرّباعيّة ، ومسح الخفّ ، وإنّما سفر خاصّ ، حدّده الفقهاء ، وإن اختلفوا في هذا التّحديد : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ طويل السّفر هو المجيز لقصر الصّلاة ، وقالوا : إنّ السّفر الطّويل هو أربعة برد فأكثر برّاً أو بحراً . وقد استدلّ أصحاب هذا الرّأي بما روي أنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها . ولا يعرف لهما مخالف ، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح ، قال الخطّابيّ : ومثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف . وروي عن جماعة من السّلف ما يدلّ على جواز القصر في أقلّ من يوم . فقال الأوزاعيّ : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه خرج من قصره بالكوفة حتّى أتى النّخيلة فصلّى بها كلّاً من الظّهر والعصر ركعتين ، ثمّ رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلّمكم سنّتكم . ويرى الحنفيّة أنّ السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها ، بسير الإبل ، ومشي الأقدام ، لقوله عليه السلام : « يمسح المقيم كمال يوم وليلة ، والمسافر ثلاثة أيّام ولياليها » عمّ الجنس ، ومن ضرورته عموم التّقدير ؛ ولأنّ الثّلاثة الأيّام متّفق عليها ، وليس فيما دونها توقيف ولا اتّفاق . وقدّره أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر الثّالث . والسّير المذكور هو الوسط ، ويعتبر في الجبل ما يليق به ، وفي البحر اعتدال الرّياح . فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيّام فيجعل أصلاً » .

الفصل الثّاني الأجل القضائي

 29 - المراد بالأجل القضائيّ : الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور الخصوم ، أو إحضار البيّنة ، أو إحضار الكفيل ، أو تأجيل المعسر إلى ميسرة . الحضور للتّقاضي :

30 - إنّ الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور المتخاصمين موكول إلى تقديره وطبيعة موضوع النّزاع . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في هذا ، هي من قبيل الأوضاع الزّمنيّة الّتي تتغيّر ، وتفصيلها في أبواب الدّعوى والقضاء من كتب الفقه .

( إحضار البيّنة ) :

31 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ للقاضي أن يمهل المدّعي ثلاثة أيّام لإحضار البيّنة ، بينما يرى المالكيّة والحنابلة أنّ ذلك موكول لاجتهاد القاضي .

الفصل الثّالث

الأجل الاتّفاقيّ

32 - يقصد به المدّة المستقلّة الّتي يحدّدها الملتزم للوفاء بالتزامه ، سواء أكان هذا الالتزام يقابله التزام من آخر أو لا يقابله ، أو يحدّدها لإنهاء هذا الالتزام . وينقسم هذا النّوع من الأجل إلى قسمين : أجل إضافة ، ومحلّ بيان أحكامه مصطلح ( إضافة ) وأجل توقيت ، وفيما يلي آراء الفقهاء في حكمه :

اشتراط تأجيل تسليم العين في التّصرّفات النّاقلة للملكيّة :

33 - اختلف الفقهاء في صحّة اشتراط تأجيل تسليم ( العين ) إلى المنقول إليه ملكيّتها مدّةً معلومةً للانتفاع بها على رأيين : الأوّل : يرى المالكيّة والحنابلة وهو رأي مرجوح في مذهب الشّافعيّة : أنّه يجوز أن يشترط تأجيل تسليم العين إلى المدّة الّتي يحدّدها المتعاقدان ، وأن يكون المنتفع بها هو النّاقل للملكيّة ، وهذا الرّأي منقول عن الأوزاعيّ ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأبي ثور . ومن أمثلته : إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ، ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً . واستدلّ لهذا الرّأي بأنّ عموم الآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بالعقود . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . } وقال تعالى : { وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسئولاً } وقال عليه الصلاة والسلام : « المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً ، أو أحلّ حراماً » ، فالآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بكلّ عقد وشرط لا يخالف كتاب اللّه ، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . وبخصوص ما روي عن جابر رضي الله عنه : « أنّه كان يسير على جمل قد أعيا ، فضربه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسار سيراً لم يسر مثله . فقال : بعنيه . فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » . متّفق عليه . فهذا الحديث يدلّ على جواز اشتراط تأجيل تسليم المبيع فترةً ينتفع فيها البائع به ، ثمّ يسلّمه إلى المشتري . ويؤيّده أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثّنيا أي الاستثناء إلاّ أن تعلم » وهذه معلومة ، وأكثر ما فيه تأخير تسليم المبيع مدّة معلومة ، فصحّ . الثّاني : يرى الحنفيّة ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، عدم صحّة اشتراط تأجيل تسليم العين . واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع وشرط » ، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً من امرأته زينب الثّقفيّة . وشرطت عليه أنّك إن بعتها فهي لي بالثّمن . فاستفتى عمر رضي الله عنه ، فقال : « لا تقربها » ، وفيها شرط لأحد وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً واشترط خدمتها ، فقال له عمر لا تقربها وفيها مثنويّة . وأمّا إذا جعل تأجيل تسليم العين لمصلحة أجنبيّ عن العقد ، كما إذا باعه بشرط أن ينتفع بها فلان « الأجنبيّ عن العقد » شهراً ، فلم ير صحّة هذا أحد من الفقهاء غير الحنابلة .

المبحث الثّالث

تأجيل الدّين الدّين : هو مال حكميّ يحدث في الذّمّة ببيع أو استهلاك أو غيرهما .

مشروعيّة تأجيل الدّيون

34 - لقد شرع جواز تأجيل الدّيون بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه . . . } فهذه الآية ، وإن كانت لا تدلّ على جواز تأجيل سائر الدّيون ، إلاّ أنّها تدلّ على أنّ من الدّيون ما يكون مؤجّلاً ، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعيّة الأجل . وأمّا السّنّة فما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديّ طعاماً إلى أجل ، ورهنه درعاً له من حديد » . رواه مسلم واللّفظ له . فهو يدلّ على مشروعيّة تأجيل الأثمان ، وقد أجمعت الأمّة على ذلك . حكمة قبول الدّين التّأجيل دون العين :

35 - نصّ الفقهاء على أنّ الفرق بين الأعيان والدّيون من حيث جواز التّأجيل في الثّانية دون الأولى : أنّ الأعيان معيّنة ومشاهدة ، والمعيّن حاصل وموجود ، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه . أمّا الدّيون : فهي مال حكميّ يثبت في الذّمّة ، فهي غير حاصلة ولا موجودة ، ومن ثمّ شرع جواز تأجيلها ، رفقاً بالمدين ، وتمكيناً له من اكتسابها وتحصيلها في المدّة المضروبة ، حتّى إنّ المشتري لو عيّن النّقود الّتي اشترى بها لم يصحّ تأجيلها . الدّيون من حيث جواز التّأجيل وعدمه :

36 - أوضح الفقهاء أنّ الدّيون تكون حالّةً ، وأنّه يجوز تأجيلها إذا قبل الدّائن ، واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدّة ديون : أ - ( رأس مال السّلم ) :

37 - وذلك لأنّ حقيقته شراء آجل ، وهو المسلم فيه ( وهو السّلعة ) ، بعاجل ، وهو رأس المال ( وهو الثّمن ) فرأس مال السّلم لا بدّ من كونه حالّاً ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ من شرط صحّة هذا العقد قبض رأس المال قبل انتهاء مجلس العقد ولأنّه لو تأخّر لكان في معنى بيع الدّين بالدّين ، ( إن كان رأس المال في الذّمّة ) وهو منهيّ عنه ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » أي النّسيئة بالنّسيئة ؛ ولأنّ في السّلم غرراً ، فلا يضمّ إليه غرر تأخير تسليم رأس المال ، فلا بدّ من حلول رأس المال ، كالصّرف ، فلو تفرّقا قبل قبض رأس المال بطل العقد . ويرى المالكيّة أنّ من شروط صحّة عقد السّلم قبض رأس المال كلّه في مجلس العقد ، ويجوز تأخير قبضه بعد العقد لمدّة لا تزيد على ثلاثة أيّام ، ولو بشرط ذلك في العقد ؛ لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، وهذا إذا لم يكن أجل السّلم قريباً كيومين ، وذلك فيما شرط قبضه في بلد آخر ، وإلاّ فلا يجوز تأخير هذه المدّة ؛ لأنّه عين الكالئ بالكالئ ، فيجب أن يقبض رأس المال بالمجلس أو ما يقرب منه . وفي فساد السّلم بالزّيادة على الثّلاث ( بلا شرط إن لم تكثر جدّاً - بألاّ يحلّ أجل المسلم فيه - ) وعدم فساده قولان لمالك .

ب - ( بدل الصّرف ) :

38 - من شروط صحّة الصّرف تقابض الثّمنين في مجلس العقد ، أي قبل افتراق المتعاقدين بأبدانهما ، فلو اشترط الأجل فيه فسد ؛ لأنّ الأجل يمنع القبض ، وإذا لم يتحقّق القبض لم يتحقّق شرط صحّته ، وهذا ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ، أي مقابضةً . قال الرّافعيّ : ومن لوازمه الحلول . وقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد » .

ج - ( الثّمن بعد الإقالة ) :

39 - الإقالة جائزة في البيع بمثل الثّمن الأوّل ، عليه إجماع المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته يوم القيامة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته » زاد ابن ماجه : « يوم القيامة » . ورواه ابن حبّان في صحيحه والحاكم ، وقال على شرط الشّيخين ، وأمّا لفظ « نادماً " فعند البيهقيّ . والإقالة عند الجمهور عود المتعاقدين إلى الحال الأوّل ، بحيث يأخذ البائع المبيع والمشتري الثّمن . فإن شرط غير جنس الثّمن ، أو أكثر منه ، أو أجله ، بأن كان الثّمن حالّاً فأجّله المشتري عند الإقالة ، فإنّ التّأجيل يبطل ، وتصحّ الإقالة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإقالة بيع فتجري عليها أحكامه من التّأجيل وغيره .

د - ( بدل القرض ) :

40 - اختلف العلماء في جواز اشتراط تأجيل القرض : فيرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال ، وأنّه لو اشترط فيه التّأجيل لم يتأجّل ، وكان حالّاً ، وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والحارث العكليّ والأوزاعيّ وابن المنذر . وذلك لأنّه سبب يوجب ردّ المثل في المثليّات ، فأوجبه حالّاً ، كالإتلاف ، ولو أقرضه بتفاريق ، ثمّ طالبه بها جملةً فله ذلك ؛ لأنّ الجميع حالّ ، فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالّةً ، ثمّ طالبه بثمنها جملةً ؛ ولأنّ الحقّ يثبت حالّاً ، والتّأجيل تبرّع منه ووعد ، فلا يلزم الوفاء به ، كما لو أعاره شيئاً ، وهذا لا يقع عليه اسم الشّرط ، ولو سمّي شرطاً ، فلا يدخل في حديث : « المؤمنون عند شروطهم » .

هـ - ( ثمن المشفوع فيه ) :

41 - اختلف الفقهاء في كون ثمن المشفوع فيه هل يجب حالّاً ، أو يجوز فيه التّأجيل ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه يجب حالّاً ولو كان الثّمن مؤجّلاً على المشتري ، ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه إذا بيع العقار مؤجّلاً أخذه الشّفيع إلى أجله .

الدّيون المؤجّلة بحكم الشّرع

أ - ( الدّية ) :

42 - لمّا كانت الدّية قد تجب في القتل العمد ( إذا عفي عن القاتل ، وطلبها أولياء المقتول ، كما هو رأي الشّافعيّة والحنابلة - أو رضي أولياء الدّم ورضي القاتل بدفعها كما هو رأي الحنفيّة والمالكيّة ) ، وفي شبه العمد ، وفي الخطأ ، ولمّا كان الفقهاء قد اختلفوا في كيفيّة أدائها في كلّ نوع من أنواع القتل الّذي وجبت فيه ، كان لا بدّ من بيان آرائهم فيما يكون منها حالّاً أو مؤجّلاً . الدّية في القتل العمد :

43 - يرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ) أنّها تجب في مال القاتل حالّةً غير مؤجّلة ولا منجّمة ، وذلك لأنّ ما وجب بالقتل العمد كان حالّاً ، كالقصاص ، فإنّه يجب حالّاً ، ويرى الحنفيّة التّفريق بين الدّية الّتي تجب بالصّلح ، فيجعلونها حالّةً في مال القاتل ، وبين الّتي تجب بسقوط القصاص بشبهة ، كما إذا قتل الأب ابنه عمداً ، فإنّها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين ، وذلك قياساً على القتل الخطأ .

الدّية في القتل شبه العمد :

44 - تجب الدّية في هذا النّوع من القتل على العاقلة في ثلاث سنين ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ( وهو المرويّ عن عمر وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة وعبد اللّه بن عمر وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ) . واستدلّوا بما روي أنّ عمر وعليّاً قضيا بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعاً ، ولأنّ المرويّ عنهما كالمرويّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه ممّا لا يعرف بالرّأي .

الدّية في القتل الخطأ :

45 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الدّية في القتل الخطأ تكون مؤجّلةً لمدّة ثلاث سنوات ، يؤخذ في كلّ سنة ثلث الدّية ، ويجب في آخر كلّ سنة ، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قضى بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقد قال هذا أيضاً عليّ وعبد اللّه بن عبّاس ، وقد عزاه الإمام الشّافعيّ في المختصر إلى قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد نقل الرّافعيّ والتّرمذيّ في جامعه وابن المنذر الإجماع على ذلك .

ب - المسلم فيه :

46 - لمّا كان السّلم هو شراء آجل بعاجل ، والآجل هو المسلم فيه ، فقد اشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً إلى أجل معلوم ، ولا يصحّ السّلم الحالّ لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم » . فأمر بالأجل ، وأمره يقتضي الوجوب ؛ ولأنّه أمر بهذه الأمور تبييناً لشروط السّلم ، ومنعاً منه بدونها ، وكذلك لا يصحّ إذا انتفى الكيل والوزن ، فكذلك الأجل ؛ ولأنّ السّلم إنّما جاز رخصةً للرّفق ، ولا يحصل الرّفق إلاّ بالأجل ، فإذا انتفى الأجل انتفى الرّفق ، فلا يصحّ ، كالكتابة ؛ ولأنّ الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه . ويرى الشّافعيّة وأبو ثور وابن المنذر أنّه يجوز أن يكون السّلم في الحالّ ؛ لأنّه عقد يصحّ مؤجّلاً فصحّ حالّاً ، كبيوع الأعيان ؛ ولأنّه إذا جاز مؤجّلاً ، فحالّاً أجوز ، ومن الغرر أبعد .

ج - ( مال الكتابة ) :

47 - اختلف الفقهاء في وجوب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن : فيرى الحنفيّة ، وابن رشد من المالكيّة ، وابن عبد السّلام والرّويانيّ من الشّافعيّة ، أنّه لا يشترط ذلك ، بل تصحّ بمال مؤجّل وبمال حالّ ، ويرى المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة : أنّها لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم تيسيراً على المكاتب في الجملة .

د - توقيت القرض :

48 - سبق بيان آراء الفقهاء في جواز تأجيل بدل القرض وعدمه . أمّا عقد القرض فهو عقد لا يصدر إلاّ مؤقّتاً ، وذلك لأنّه عقد تبرّع ابتداءً ، ومعاوضة انتهاءً ، أو دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله . والانتفاع به يكون بمضيّ فترة ينتفع فيها المقترض بمال القرض ، وذلك باستهلاك عينه ؛ لأنّه لو كان الانتفاع به مع بقاء عينه كان إعارةً لا قرضاً ، ثمّ يردّ مثله إذا كان مثليّاً وقيمته إذا كان قيميّاً ، وقد اختلف الفقهاء في المدّة الّتي يلزم فيها هذا العقد : فيرى المالكيّة أنّه عقد لازم في حقّ الطّرفين طوال المدّة المشترطة في العقد ، فإن لم يكن اشتراط فللمدّة الّتي اعتيد اقتراض مثله لها ، ويرى الحنابلة أنّ عقد القرض عقد لازم بالقبض في حقّ المقرض ، جائز في حقّ المقترض ، ويثبت العوض عن القرض في ذمّة المقترض حالّاً ، وإن أجّله ؛ لأنّه عقد منع فيه من التّفاضل ، فمنع الأجل فيه ، كالصّرف ، إذ الحالّ لا يتأجّل بالتّأجيل ، وهو عدة تبرّع لا يلزم الوفاء به . قال أحمد : القرض حالّ ، وينبغي أن يفي بوعده ، ويحرم الإلزام بتأجيل القرض ؛ لأنّه إلزام بما لا يلزم . ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ القرض عقد إرفاق جائز في حقّ الطّرفين ، وذلك لأنّ الملك في القرض غير تامّ ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ .

القسم الثّاني أجل التّوقيت

49 - يقصد بأجل التّوقيت : الزّمن الّذي يترتّب على انقضائه زوال التّصرّف ، أو انتهاء الحقّ الّذي اكتسب خلال هذه المدّة المتّفق عليها ، والعقود والتّصرّفات من حيث قبولها للتّوقيت تنقسم إلى : أ - ( عقود لا تصلح إلاّ ممتدّةً لأجل ) ( مؤقّتة ) .

ب - عقود تصحّ حالّةً ومؤقّتةً . كما أنّ هذه العقود منها ما لا يصحّ إلاّ بأجل معلوم ، ومنها ما لا يصحّ إلاّ بأجل مجهول ، ومنها ما يصحّ بأجل معلوم أو مجهول ، وفيما يلي بيان ذلك . المبحث الأوّل عقود لا تصحّ إلاّ ممتدّةً لأجل ( مؤقّتة ) .

وهذا القسم يشمل عقود : الإجارة ، والكتابة والقراض :

أ - ( عقد الإجارة ) :

50 - إنّ الإجارة مؤقّتة إمّا بمدّة ، وإمّا بعمل معيّن ، والعمل يتمّ في زمن عادةً ، وبانتهاء العمل ينتهي عقد الإجارة ، فهو عقد مؤقّت . ومثل عقد الإجارة : المساقاة والمزارعة .

عقد المساقاة :

51 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ المساقاة تكون مؤقّتةً ، فإن لم يبيّنا مدّةً وقع على أوّل ثمر يخرج ، ويرى الحنابلة أنّها يصحّ توقيتها ؛ لأنّه لا ضرر في تقدير مدّتها ، ولا يشترط توقيتها .

( تأقيت المزارعة ) :

52 - المزارعة لا يجيزها الإمام أبو حنيفة ، ويجيزها الصّاحبان أبو يوسف ومحمّد وبقولهما يفتى في المذهب . كما لا يجيزها الشّافعيّة إلاّ إذا كان بين النّخل أو العنب بياض ( أي أرض لا زرع فيها ) صحّت المزارعة عليه مع المساقاة على النّخل أو العنب تبعاً للمساقاة ، ويرى المالكيّة ومحمّد بن الحسن والحنابلة أنّ عقد المزارعة يجوز بلا بيان مدّة ، وتقع على أوّل زرع يخرج ، ويرى جمهور الحنفيّة أنّ من شروط صحّة عقد المزارعة ذكر مدّة متعارفة ، فتفسد بما لا يتمكّن فيها من المزارعة ، وبما لا يعيش إليها أحدهما غالباً .

ب - ( عقد الكتابة ) :

53 - هو عقد بين السّيّد ومملوكه على مال يوجب تحرير يد المملوك ( أي تصرّفه ) في الحال ورقبته في المآل وهو من محاسن الإسلام ، إذ فيه فتح باب الحرّيّة للأرقّاء ، وعقد الكتابة يوجب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن عند جمهور الفقهاء ، فإذا أدّاه المكاتب عتق ، فيكون هذا العقد مؤقّتاً بتأقيت العوض فيه . فإذا وفّى بما التزمه انتهى عقد الكتابة ، وعتق ، وإن لم يوفّ أو عجز نفسه ، انتهى عقد الكتابة وعاد رقيقاً ، على تفصيل في ذلك .

المبحث الثّاني

عقود تصحّ مطلقةً ومقيّدةً تأقيت عقد العاريّة لأجل :

54 - لمّا كانت حقيقة العاريّة أنّها إباحة نفع عين يحلّ الانتفاع بها مع بقاء العين ، ليردّها على مالكها ، لذلك لم يختلف الفقهاء في أنّ هذه الإباحة موقوتة ، غير أنّ هذا الوقت قد يكون محدّداً ، وتسمّى عاريّة مقيّدة - وقد لا يكون ، وتسمّى العاريّة المطلقة ، ويرى جمهور الفقهاء أنّ العاريّة عقد غير لازم فلكلّ واحد من المتعاقدين الرّجوع متى شاء ، خلافاً للمالكيّة في المقيّدة ، وفي المطلقة إلى مدّة ينتفع فيها بمثلها عادةً .

تأقيت الوكالة لأجل :

55 - يجوز تأقيت الوكالة بأجل عند جميع الفقهاء ، كقوله " وكّلتك شهراً ، فإذا مضى الشّهر امتنع الوكيل عن التّصرّف " " ولو قال وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا صحّ بلا خلاف " لأنّ الوكيل لا يملك من التّصرّف إلاّ ما يقتضيه إذن الموكّل ، وعلى الوجه الّذي أراده ، وفي الزّمن والمكان الّذي حدّده . والأصل في الوكالة أنّها عقد جائز من الطّرفين ، لكلّ واحد منهما فسخها متى شاء ، إلاّ إذا تعلّق بها حقّ للغير ؛ لأنّه إذن في التّصرّف ، فكان لكلّ واحد منها إبطاله ، كالإذن في أكل طعامه . وهذا ما صرّح به جمهور الفقهاء في الجملة . وللمالكيّة تفصيل في هذا تبعاً للعوض وعدمه ، يرجع فيه وفي التّفصيلات الأخرى إلى الوكالة .

توقيت المضاربة ( القراض ) :

56 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت المضاربة : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّه يجوز توقيت المضاربة ، مثل أن يقول : ضاربتك على هذه الدّراهم سنةً ، فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر . فإذا وقّت لها وقتاً انتهت بمضيّه ؛ لأنّ التّوقيت مقيّد ، وهو وكيل ، فيتقيّد بما وقّته ، كالتّقييد بالنّوع والمكان . ولأنّه تصرّف يتوقّت بنوع من المتاع ، فجاز توقيته في الزّمان ، كالوكالة ؛ ولأنّ لربّ المال منعه من البيع والشّراء في كلّ وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضاً ، فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد ، فصحّ ، كما لو قال : إذا انقضت السّنة فلا تشتر شيئاً . ويرى المالكيّة ، والشّافعيّة ، أنّه لا يجوز توقيت المضاربة .

تأقيت الكفالة بأجل :

57 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت الكفالة ، كما لو قال : « أنا كفيل بزيد إلى شهر وبعده أنا بريء » . فيرى الحنفيّة والشّافعيّة ( على الصّحيح عندهم  ) والحنابلة أنّه يجوز توقيتها ، وكذلك المالكيّة بشروط تفصيلها في باب الضّمان من كتبهم ؛ لأنّه قد يكون له غرض في التّقيّد بهذه المدّة ، وقد أورد الحنفيّة بعض صور التّوقيت . واختلف المذهب في صحّة التّوقيت فيها يرجع إليها في الكفالة . ويرى الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) أنّه لا يجوز توقيت الكفالة .

(  تأقيت الوقف بأجل ) :

58 - إذا صدر الوقف مؤقّتاً ، وذلك بأن علّق فسخه على مجيء زمن معيّن ، كما لو قال : « داري وقف إلى سنة ، أو إلى أن يقدم الحاجّ » . فقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الوقف مقتضاه التّأبيد . ويرى المالكيّة ، وهو قول للحنابلة ، أنّه لا يشترط في صحّة الوقف التّأبيد ، فيصحّ مدّةً معيّنةً ، ثمّ يرجع ملكاً كما كان .

تأقيت البيع :

59 - لمّا كان البيع هو مبادلة المال بالمال بالتّراضي ، وكان حكمه هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع ، وللبائع في الثّمن للحالّ ولمّا كان هذا الملك يثبت له على التّأبيد ، فإنّه لا يحتمل التّأقيت جاء في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ : « أنّ ممّا لا يقبل التّأقيت بحال ، ومتى أقّت بطل ، البيع بأنواعه » ... وذلك كما قال الكاسانيّ : « لأنّ عقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً » . وقد أبطل الفقهاء كلّ شرط يؤدّي إلى تأقيت البيع ، أي إلى عودة المبيع إلى بائعه الأوّل ، سواء كان هذا التّأقيت ناتجاً عن الصّيغة ، كبعتك هذا سنةً ، أو عن شرط يؤدّي إلى توقيت البيع ، كبعتك هذا بشرط أن تردّه لي بعد مدّة كذا .

بيوع الآجال عند المالكيّة

60 - وهي بيوع دخل فيها الأجل ، واتّحدت فيها السّلعة ، واتّحد فيها المتعاقدان ، وقد أبرزها فقهاء المالكيّة ، وبيّنوا أنّ هذه البيوع ظاهرها الجواز ، لكنّها قد تؤدّي إلى ممنوع ، وذلك لأنّها قد تؤدّي إلى بيع وسلف ، أو سلف جرّ منفعةً ، وكلاهما ممنوع ، كما وضعوا ضابطاً لما يمنع من هذه البيوع . فقالوا : يمنع من هذه البيوع ما اشتمل على بيع وسلف ، وما اشتمل على سلف جرّ منفعةً ، أو يمنع منها ما كثر قصد النّاس إليه للتّوصّل إلى الرّبا الممنوع ، كبيع وسلف ، وسلف بمنفعة ، ولا يمنع ما قلّ قصده ، كضمان بجعل ، أي كبيع جائز أدّى إلى ضمان بجعل .

( صور بيوع الآجال ) :

61 - وصورها كما ذكرها المالكيّة متعدّدة ، وتشمل الصّور التّالية : إذا باع شيئاً لأجل ، ثمّ اشتراه بجنس ثمنه فهذا إمّا أن يكون :

1 - نقداً .

2 - أو لأجل أقلّ .

3 - أو لأجل أكثر .

4 - أو لأجل مساو للأجل الأوّل .

وكلّ ذلك إمّا أن يكون :

1 - بمثل الثّمن الأوّل .

2 - أو أقلّ من الثّمن الأوّل .

3 - أو أكثر من الثّمن الأوّل . فتكون هذه الصّور اثنتي عشرة صورةً ، يمنع من هذه الصّور ثلاث فقط وهي ما تعجّل فيه الأقلّ ، وهي :

1 - ما إذا باع سلعةً لأجل ، ثمّ اشتراها بأقلّ نقداً ( بيع العينة ) .

2 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل دون الأجل الأوّل .

3 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل أبعد من الأجل الأوّل ، وعلّة المنع في هذه الصّور هي دفع قليل في كثير ، وهو سلف بمنفعة ، إلاّ أنّه في الصّورتين الأوليين من البائع ، وفي الأخيرة من المشتري ، وأمّا الصّور التّسع الباقية فجائزة . والضّابط أنّه إذا تساوى الأجلان أو الثّمنان فالجواز ، وإن اختلف الأجلان والثّمنان فينظر إلى اليد السّابقة بالعطاء ، فإن دفعت قليلاً عاد إليها كثيراً فالمنع ، وإلاّ فالجواز :

62 - فمن صور « بيوع الآجال » بيع العينة . وبيع العينة قال الرّافعيّ : هو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ، ويسلّمه إلى المشتري ، ثمّ يشتريه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر وقال ابن رسلان في شرح السّنن : وسمّيت هذه المبايعة عينةً لحصول النّقد لصاحب العينة ؛ لأنّ العين هو المال الحاضر ، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ، ليصل به إلى مقصوده ، وقد روي عدم جواز بيع العينة عن ابن عبّاس وعائشة وابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ ، وبه قال الثّوريّ والأوزاعيّ وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأحمد . وقد استدلّوا بأحاديث ، منها : ما روي عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم وتبايعوا بالعينة ، واتّبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه ، أنزل اللّه بهم بلاءً ، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم » . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزّرع ، وتركتم الجهاد ، سلّط اللّه عليكم ذلّاً لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم » . واستدلّ ابن القيّم على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يأتي على النّاس زمان يستحلّون الرّبا بالبيع » . قال : وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فإنّه صالح للاعتضاد به بالاتّفاق ، وله من المسندات ما يشهد له ، وهي الأحاديث الدّالّة على تحريم العينة ، فإنّه من المعلوم أنّ العينة عند من يستعملها إنّما يسمّيها بيعاً ، وقد اتّفقا على حقيقة الرّبا الصّريح قبل العقد ، ثمّ غيّر اسمها إلى المعاملة ، وصورتها إلى التّبايع الّذي لا قصد لهما فيه ألبتّة ، وإنّما هو حيلة ومكر وخديعة للّه تعالى . وأجاز الشّافعيّة هذا البيع مستدلّين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع ، ولأنّه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها ، فجاز من بائعها ، كما لو باعها بثمن المثل ، ولم يأخذوا بالأحاديث المتقدّمة .

تأقيت الهبة :

63 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهبة لا يجوز توقيتها لأنّها عقد تمليك لعين في الحال ، وتمليك الأعيان لا يصحّ مؤقّتاً ، كالبيع . فلو قال : وهبتك هذا سنةً ثمّ يعود إليّ ، لم يصحّ . وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك العمرى والرّقبى على خلاف وتفصيل موطنه في مصطلحيهما .

(  تأقيت النّكاح )

تأقيت النّكاح له صور نبيّنها ونبيّن آراء الفقهاء في كلّ صورة منها :

أ - ( نكاح المتعة ) :

64 - وهو أن يقول لامرأة خالية من الموانع : أتمتّع بك مدّة كذا وقد ذهب إلى حرمته الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وكثير من السّلف . وتفصيله في نكاح المتعة

ب - ( النّكاح المؤقّت أو النّكاح لأجل ) :

65 - وهو أن يتزوّج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيّام مثلاً . وهذا النّكاح أيضاً باطل عند الحنفيّة ( عدا زفر فإنّه قال بصحّة العقد وبطلان الشّرط ) والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه في معنى المتعة . وتفصيل أحكامه في موضع آخر ( ر : نكاح ) .

ج - النّكاح المؤقّت بمدّة عمره أو عمرها ، أو إلى مدّة لا يعيشان إليها :

66 - اختلف الفقهاء في حكم النّكاح المؤقّت إلى مدّة عمر الزّوج أو الزّوجة أو إلى مدّة لا يعيشان أو أحدهما إليها : فيرى الحنفيّة غير الحسن بن زياد والمالكيّة غير أبي الحسن والشّافعيّة غير البلقينيّ والحنابلة أنّه باطل ، لأنّه في معنى نكاح المتعة ، ويرى الحسن بن زياد أنّهما إذا ذكرا من الوقت ما يعلم أنّهما لا يعيشان إليه ، كمائة سنة أو أكثر ، كان النّكاح صحيحاً ؛ لأنّه في معنى التّأبيد ، وهو رواية عن أبي حنيفة . ويرى البلقينيّ أنّه يستثنى من بطلان النّكاح ما إذا نكحها مدّة عمره ، أو مدّة عمرها ، قال : فإنّ النّكاح المطلق لا يزيد على ذلك ، والتّصريح بمقتضى الإطلاق لا يضرّ ، فينبغي أن يصحّ النّكاح في هاتين الصّورتين ، قال : وفي نصّ الأمّ ما يشهد له ، وتبعه على ذلك بعض المتأخّرين . وجاء في حاشية الدّسوقيّ أنّ « ظاهر كلام أبي الحسن أنّ الأجل البعيد الّذي لا يبلغه عمرهما لا يضرّ بخلاف ما يبلغه عمر أحدهما فيضرّ » .

د - ( إضمار الزّوج تأقيت النّكاح ) :

67 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو تزوّج وفي نيّته أن يطلّقها بعد مدّة نواها صحّ زواجه ، لكن الشّافعيّة قالوا بكراهة النّكاح ، إذ كلّ ما صرّح به أبطل يكون إضماره مكروهاً عندهم كما قال المالكيّة إنّ الأجل إذا لم يقع في العقد ، ولم يعلمها الزّوج بذلك ، وإنّما قصده في نفسه ، وفهمت المرأة أو وليّها المفارقة بعد مدّة ، فإنّه لا يضرّ وهذا هو الرّاجح ، وإن كان بهرام صدّر في « شرحه » وفي « شامله » بالفساد إذا فهمت منه ذلك الأمر الّذي قصده في نفسه فإن لم يصرّح للمرأة ولا لوليّها بذلك ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه فليس نكاح متعة . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّه لو تزوّج الغريب بنيّة طلاقها إذا خرج ، فإنّ النّكاح يبطل ؛ لأنّه نكاح متعة ، وهو باطل . ولكن جاء في المغني : « وإن تزوّجها بغير شرط إلاّ أنّ في نيّته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنّكاح صحيح في قول عامّة أهل العلم إلاّ الأوزاعيّ ، قال : هو نكاح متعة . والصّحيح أنّه لا بأس به ، ولا تضرّ نيّته ، وليس على الرّجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلاّ طلّقها .

هـ - ( احتواء النّكاح على وقت يقع فيه الطّلاق ) :

68 - إذا تزوّج امرأةً بشرط أن يطلّقها في وقت معيّن ، لم يصحّ النّكاح ، وسواء كان معلوماً أو مجهولاً ، مثل أن يشترط عليه طلاقها إن قدم أبوها أو أخوها ، وقال أبو حنيفة : يصحّ النّكاح ، ويبطل الشّرط ، وهو أظهر قولي الشّافعيّ ، قاله في عامّة كتبه ؛ لأنّ النّكاح وقع مطلقاً ، وإنّما شرط على نفسه شرطاً ، وذلك لا يؤثّر فيه ، كما لو شرط ألاّ يتزوّج عليها أو لا يسافر بها . واستدلّ القائلون بالبطلان بأنّ هذا الشّرط مانع من بقاء النّكاح فأشبه نكاح المتعة ، ويفارق ما قاسوا عليها فإنّه لم يشترط قطع النّكاح .

تأقيت الرّهن بأجل :

69 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز تأقيت الرّهن بأجل ، كأن يقول : رهنتك هذا الشّيء شهراً ، في الدّين الّذي لك عليّ .

تقسيم الأجل باعتبار ضبطه وتحديده :

70 - ينقسم الأجل من حيث ضبطه وتحديده إلى أجل معلوم وأجل مجهول . ومعلوميّة الأجل وجهالته لها أثر على صحّة العقد ، وعدم صحّته ، لما تورثه الجهالة من الغرر ، إلاّ أنّ من الجهالة ما كان متقارباً ، ومنها ما كان متفاوتاً ، وفيما يلي آراء المذاهب في ذلك .

( المبحث الأوّل الأجل المعلوم )

71 - اتّفق الفقهاء على صحّة الأجل ( فيما يقبل التّأجيل ) إذا كان الأجل معلوماً فأمّا كيفيّة العلم به فإنّه يحتاج فيها إلى أن يعلم بزمان بعينه لا يختلف من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة ، وذلك إنّما يكون إذا كان محدّداً باليوم والشّهر والسّنة . والدّليل على اشتراط معلوميّة الأجل : قوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } . ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في موضع شرط الأجل : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وقد انعقد الإجماع على صحّة التّأجيل إلى أجل معلوم . ولأنّ جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التّسلّم والتّسليم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ، وكلّ ما يفضي إلى المنازعة يجب إغلاق بابه . ولأنّه . سيؤدّي إلى عدم الوفاء بالعقود ، وقد أمرنا بالوفاء بها . 72 - وقد اختلف الفقهاء في حقيقة العلم بالأجل ، أو معلوميّة الأجل : فصرّح بعضهم بأنّ الأجل المعلوم هو ما يعرفه النّاس ، كشهور العرب . وبعضهم جعله " ما يكون معلوماً للمتعاقدين ولو حكماً ، وأنّ الأيّام المعلومة للمتعاقدين كالمنصوصة ، وأنّ التّأجيل بالفعل الّذي يفعل في الأيّام المعتادة كالتّأجيل بالأيّام » . وإزاء هذين الاتّجاهين لا بدّ من بيان آراء الفقهاء في التّأجيل إلى أزمنة معلومة حقيقةً أو حكماً ، أو إلى فصول أو مناسبات ، أو إلى فعل يقع في أزمنة معتادة .

التّأجيل إلى أزمنة منصوصة

73 - اتّفق الفقهاء على صحّة التّأجيل إلى أزمنة منصوصة ، كما لو قال " خذ هذا الدّينار سلماً في إردبّ قمح إلى أوّل شهر رجب من هذا العام ، أو آخذه منك بعد عشرين يوماً » . والأصل في التّأجيل إلى الشّهور والسّنين عند الإطلاق أن تكون هلاليّةً ، فإذا ضرب أجلاً مدّته شهر أو شهران ، أو سنة أو سنتان ، مثلاً ، انصرف عند الإطلاق إلى الأشهر والسّنين الهلاليّة ، وذلك لأنّه عرف الشّرع ، قال تعالى : { يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ } وقال تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وقد صرّح بهذا الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .

التّأجيل بغير الشّهور العربيّة

74 - إذا جعل الأجل مقدّراً بغير الشّهور الهلاليّة فذلك قسمان : القسم الأوّل : ما يعرفه المسلمون ، وهو بينهم مشهور ، ككانون وشباط . فقد جاز ذلك عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّه أجل معلوم لا يختلف ، فصار كالتّأجيل بالشّهور الهلاليّة . القسم الثّاني : ما قد لا يعرفه المسلمون كالتّأجيل إلى النّيروز والمهرجان ونحوهما فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّأجيل إليه .


اكتب معهد الماهر
أعلى