الرد على الموضوع

حكم الحرف الدّنيئة :

12 - د - وجمهور الفقهاء على أنّ المكاسب غير المحرّمة كلّها في الإباحة سواء . ولكن هذه الإباحة تكتنفها الكراهة إذا اختار المرء لنفسه أو ولده حرفةً دنيئةً إن وسعه احتراف ما هو أصلح منها . ومع هذا فقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : مكسبة فيها بعض الدّناءة خير من مسألة النّاس . وقال ابن عقيل : يكره تعلّم الصّنائع الرّديئة مع إمكان ما هو أصلح منها . ونصّ الشّافعيّة على زوال هذه الكراهة إذا كانت الحرفة الدّنيئة هي حرفة أبيه . ونصّ ابن مفلح الحنبليّ على زوال هذه الكراهة إذا احترف المرء حرفةً دنيئةً للقيام بفرض الكفاية . وقال بعض المتشدّدين من الحنفيّة : ما يرجع إلى الدّناءة من المكاسب في عرف النّاس لا يسع الإقدام عليه إلاّ عند الضّرورة لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس لمؤمن أن يذلّ نفسه » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها » ، ولكنّ الصّحيح عند الحنفيّة الأوّل .

الحرف المحظورة

13 - أ - الأصل أنّه لا يجوز احتراف عمل محرّم بذاته ، ومن هنا منع الاتّجار بالخمر واحتراف الكهانة .

ب - كما لا يجوز احتراف ما يؤدّي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه ، كالوشم : لما فيه من تغيير خلق اللّه وككتابة الرّبا : لما فيه من الإعانة على أكل أموال النّاس بالباطل ونحو ذلك . وتعرّض الفقهاء إلى اتّخاذ حرف يتكسّب منها المحترف من غير أن يبذل فيها جهداً ، أو يزيد زيادةً ،  كالخيّاط يتسلّم الثّوب ليخيطه بدينارين فيعطيه لمن يخيطه بدينار ويأخذ الفرق . فذهب الفقهاء إلى جواز ذلك ؛ لأنّ مثل هذه الإجارة كالبيع ، وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقلّ منه وبأكثر ، فكذلك الإجارة إلاّ أنّ الحنفيّة نصّوا على أنّه إذا كانت الأجرة الثّانية من جنس الأجرة الأولى فإنّ الزّيادة لا تطيب له إلاّ إذا بذل جهداً أو زاد زيادةً ، فإنّها تطيب ولو اتّحد الجنس .

آثار الاحتراف :

14 - أ - يعطى الفقير المحترف الّذي لا يملك آلات حرفته من الزّكاة ما يشتري به آلة حرفته . وتفصيل ذلك في ( زكاة ) .

ب - إذا فعل المحترف فعلاً في حدود حرفته ، فأخطأ فيه خطأً يحتمل أن يخطئ فيه المحترفون ، فلا ضمان عليه ، كالطّبيب . أمّا من عداه فيضمن . وتفصيل ذلك في باب الضّمان .

ج - يرى بعض الفقهاء جواز إفطار رمضان لمن يحترف حرفةً شاقّةً يتعذّر عليه الصّيام معها ، وليس بإمكانه تركها في رمضان .

د - للمعتدّة - ولا سيّما المحترفة - الخروج في حوائجها نهاراً سواء أكانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة . وتفصيله في ( عدّة ) ( وإحداد ) .

هـ - للاحتراف أثر في الكفاءة بين الزّوجين وتفصيله في ( نكاح ) ، وللاحتراف أثر في تخفيف بعض الأحكام الشّرعيّة ، كالتّرخيص للقصّاب بالصّلاة في ثياب مهنته مع ما عليها من الدّم ، ما لم يفحش . وتفصيله في ( نجاسة - ما يعفى عنه من النّجاسات ) .

احتساب

التّعريف

1 - تأتي كلمة " احتساب " في اللّغة بمعان عديدة منها : أ - الاعتداد بالشّيء ، من الحسب ، وهو العدّ .

ب - طلب الثّواب ، وقد استعمل الفقهاء هذا اللّفظ بهذين المعنيين كليهما ، على أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى معنى طلب الثّواب . الاحتساب بمعنى الاعتداد أو الاعتبار :

2 - يطلق الفقهاء كلمة " احتساب " عندما يأتي المكلّف بالفعل على غير وجه الكمال ، ومع ذلك فإنّ الشّارع يعتبره صحيحاً مقبولاً . فالمسبوق في الصّلاة إذا أدرك الرّكوع مع الإمام احتسبت له ركعة ، وإن لم يأت بالفرائض الّتي قبله ، ومن دخل المسجد ، فرأى الجماعة قائمةً لصلاة الظّهر فنوى تحيّة المسجد وصلاة الظّهر ودخل معهم في صلاتهم ، احتسبت له تلك الصّلاة تحيّة مسجد وصلاة ظهر . وتفصيل ذلك في " الصّلاة » . الاحتساب بمعنى طلب الثّواب من اللّه تعالى :

3 - طلب الثّواب من اللّه تعالى بالاحتساب يتحقّق في أمور كثيرة منها : أ - تنازل المسلم عن حقّه المترتّب على الغير طلباً لثواب اللّه تعالى ، لا عجزاً ، كعتق الرّقيق ، احتساباً ، ووضع السّيّد بعض مال الكتابة احتساباً والعفو عن القصاص دون مقابل احتساباً ، وإرضاع الصّغير دون مقابل احتساباً .

ب - أداء حقّ من حقوق اللّه تعالى المحضة كالصّلاة ، والصّوم ، وأداء الشّهادة دون طلب في حقّ من حقوق اللّه المحضة ، وفيما للّه تعالى فيه حقّ غالب مؤكّد ، وهو ما لا يتأثّر برضا الآدميّ - كطلاق ، وعتق ، وعفو عن قصاص ، وبقاء عدّة ، وانقضائها ، وحدّ ، ونسب . وقد فصّل الفقهاء القول في ذلك في كتاب الشّهادات عند كلامهم على ما يؤدّى حسبةً من الشّهادات ، وما يتّصل بأحكام المحتسب ينظر في مصطلح « حسبة » .

احتشاش

التّعريف

1 - الاحتشاش معناه في اللّغة طلب الحشيش وجمعه ، والحشيش يابس الكلأ . قال الأزهريّ : لا يقال للرّطب حشيش . واصطلاحاً : قطع الحشيش ، سواء أكان يابساً أم رطباً . وإطلاقه في الرّطب من قبيل المجاز ، باعتبار ما يؤول إليه .

( الحكم الإجماليّ )

2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتشاش ، رطباً كان الكلأ أو جافّاً ، في غير الحرم ، ما دام غير مملوك لأحد . أمّا إذا كان مملوكاً فلا يجوز احتشاشه إلاّ بإذن مالكه . أمّا في الحرم فقد اتّفقت المذاهب على أنّه لا يحلّ قطع حشيش الحرم غير المملوك لأحد ، إلاّ أنّهم أباحوا الإذخر وملحقاته والسّواك والعوسج ، وقد أباح الشّافعيّة والحنابلة في رأي وأبو يوسف في رأي أيضاً الاحتشاش في الحرم لعلف الدّوابّ . ولتفصيل ذلك ينظر الجنايات في الإحرام .

السّرقة في الاحتشاش :

3 - قال المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة : تقطع اليد في العشب المحتشّ إذا أخذ من حرز وبلغت قيمته نصاباً ، وقال الحنفيّة وهو رأي للحنابلة : لا قطع فيه .

حماية الكلأ من الاحتشاش :

4 - قال الحنفيّة والحنابلة وهو رأي للشّافعيّة أنّه يجوز للإمام أن يمنع الاحتشاش في مكان معيّن يجعله حمًى لرعي خيل المجاهدين ، ولما يشبه ذلك من المصالح العامّة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فهم لا يجيزون المنع من الاحتشاش .

الشّركة في الاحتشاش :

5 - الحنفيّة والشّافعيّة لا يجيزون عقد الشّركة في تحصيل المباحات العامّة ولا التّوكيل فيها . والاحتشاش والاحتطاب من هذا القبيل . أمّا المالكيّة والحنابلة فقد أجازوا ذلك . ولتفصيل ذلك يرجع إلى أبواب الشّركة والوكالة .

احتضار

التّعريف

1 - الاحتضار لغةً : الإشراف على الموت بظهور علاماته . وقد يطلق على الإصابة باللّمم أو الجنون ، ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ الأوّل .

علامات الاحتضار :

2 - للاحتضار علامات كثيرة يعرفها المختصّون ،  ذكر منها الفقهاء : استرخاء القدمين ، واعوجاج الأنف ، وانخساف الصّدغين ، وامتداد جلدة الوجه .

ملازمة أهل المحتضر له :

3 - يجب على أقارب المحتضر أن يلازموه ، فإن لم يكن فعلى أصحابه ، فإن لم يكن فعلى جيرانه ، فإن لم يكن فعلى عموم المسلمين على وجه الكفاية ، ويستحبّ أن يليه من أقاربه أحسنهم خلقاً وخلقاً وديناً ، وأرفقهم به ، وأعلمهم بسياسته ، وأتقاهم للّه . وندب أن يحضروا عنده طيباً ، وأن يبعدوا النّساء لقلّة صبرهنّ ، وندب إظهار التّجلّد لمن حضر من الرّجال . ولا بأس بحضور الحائض والنّفساء والجنب عند المحتضر وقت الموت ، إذ إنّه قد لا يمكن منعهنّ ، للشّفقة ، أو للاحتياج إليهنّ . وعن الحسن أنّه كان لا يرى بأساً أن تحضر الحائض الميّت والكراهة قول الحنابلة . وقالت المالكيّة : يندب تجنّب حائض وجنب وتمثال وآلة لهو .

من يجري عليهم حكم الاحتضار :

4 - يجري حكم الاحتضار على من قدّم للقتل حدّاً ، أو قصاصاً ، أو ظلماً ، أو من أصيب إصابةً قاتلةً ، كما يجري على من كان عند التحام صفوف المعركة .

ما يفعله المحتضر :

5 - أ - ينبغي للمحتضر تحسين الظّنّ باللّه تعالى ، فيندب لمن حضرته الوفاة أن يرجو رحمة ربّه ومغفرته وسعة عفوه ، زيادةً على حالة الصّحّة ، ترجيحاً للرّجاء على الخوف ، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال " سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : « لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ باللّه تعالى » ولخبر الشّيخين في الحديث القدسيّ قال اللّه تعالى : « أنا عند حسن ظنّ عبدي بي ، فلا يظنّ بي إلاّ خيراً » . ولحديث أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شابّ وهو بالموت ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : واللّه يا رسول اللّه إنّي أرجو اللّه ، وإنّي أخاف ذنوبي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلاّ أعطاه اللّه ما يرجو وأمّنه ممّا يخاف » .

ب - وجوب الإيصاء بأداء الحقوق لأصحابها .

ج - توصية أهله باتّباع ما جرت به السّنّة في التّجهيز والدّفن واجتناب البدع في ذلك اتّباعاً لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقد وردت الآثار الكثيرة عنهم في هذا المجال ، منها ما ورد عن أبي بردة قال : أوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت ، قال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي ، ولا تتبعوني بمجمّر ، ولا تجعلوا على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التّراب ، ولا تجعلوا على قبري بناءً . وأشهدكم أنّي بريء من كلّ حالقة أو سالقة أو خارقة . قالوا : سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .

د - التّوصية لأقربائه الّذين لا يرثون منه ، إن لم يكن وصّى لهم في حال صحّته ، لقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين } . ولحديث « سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : كنت مع رسول اللّه في حجّة الوداع ، فمرضت مرضاً أشفيت منه على الموت ، فعادني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول اللّه إنّ لي مالاً كثيراً ، وليس يرثني إلاّ ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : لا . قلت : بشطر مالي ؟ قال : لا . قلت : فثلث مالي ؟ قال : الثّلث ، والثّلث كثير ، إنّك يا سعد إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس » .

( التّوبة إلى اللّه )

6 - يجب على المحتضر ومن في حكمه أن يتوب إلى اللّه من ذنوبه قبل وصول الرّوح إلى الحلقوم ؛ لأنّ قرب الموت لا يمنع من قبول التّوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . وتفصيل ما يتّصل بالتّوبة من أحكام في مصطلح « توبة » .

تصرّفات المحتضر ومن في حكمه

7 - يجري على تصرّفات المحتضر ومن في حكمه ما يجري على تصرّفات المريض مرض الموت من أحكام ، إذا كان في وعيه ، وتفصيله في مصطلح « مرض الموت » .

ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند الاحتضار : أوّلاً : التّلقين :

8 - ينبغي تلقين المحتضر : « لا إله إلاّ اللّه » لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » . قال النّوويّ : المراد بالموتى في الحديث المحتضرون الّذين هم في سياق الموت ، سمّوا موتى لقربهم من الموت ، تسميةً للشّيء باسم ما يصير إليه مجازاً . وظاهر الحديث يقتضي وجوب التّلقين ، وإليه مال القرطبيّ ، والّذي عليه الجمهور أنّه مندوب ، وأنّه لا يسنّ زيادة " محمّد رسول اللّه " وهو ما صحّحه في الرّوضة ، والمجموع . ويكون التّلقين قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع ؛ لأنّ الغرغرة تكون قرب كون الرّوح في الحلقوم ، وحينئذ لا يمكن النّطق بها . والتّلقين إنّما يكون لمن حضر عقله وقدر على الكلام ، فإنّ شارد اللّبّ لا يمكن تلقينه ، والعاجز عن الكلام يردّد الشّهادة في نفسه . والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » ذكّروا المحتضر « لا إله إلاّ اللّه » لكي تكون آخر كلامه ، كما في الحديث : « من كان آخر كلامه لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة » . ويرى جماعة أنّه يلقّن الشّهادة ، وقالوا : صورة التّلقين أن يقال عنده في حالة النّزع قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه " ولا يقال له : قل ، ولا يلحّ عليه في قولها ، مخافة أن يضجر فيأتي بكلام غير لائق . فإذا قالها مرّةً لا يعيدها عليه الملقّن ، إلاّ أن يتكلّم بكلام غيرها . ويستحبّ أن يكون الملقّن غير متّهم بالمسرّة بموته ، كعدوّ أو حاسد أو وارث غير ولده ، وأن يكون ممّن يعتقد فيه الخير . وإذا ظهرت من المحتضر كلمات توجب الكفر لا يحكم بكفره ، ويعامل معاملة موتى المسلمين . ثانياً : قراءة القرآن :

9 - يندب قراءة سورة ( يس ) عند المحتضر ، لما روى أحمد في مسنده عن صفوان ، قال : « كانت المشيخة يقولون : إذا قرئت ( يس ) عند الموت خفّف عنه بها . وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدّرداء وأبي ذرّ ، قالا : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من ميّت يموت فتقرأ عنده يس إلاّ هوّن اللّه عليه » . قال ابن حبّان : أراد به من حضرته المنيّة ، لا أنّ الميّت يقرأ عليه . وبه قال الشّافعيّة والحنابلة . وزادت الحنابلة قراءة الفاتحة . وقال الشّعبيّ : « كان الأنصار يقرءون عند الميّت بسورة البقرة » . وعن جابر بن زيد أنّه كان يقرأ عند الميّت سورة الرّعد . وقالت المالكيّة : يكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور ؛ لأنّه ليس من عمل السّلف . ثالثاً : التّوجيه :

10 - يوجّه المحتضر للقبلة عند شخوص بصره إلى السّماء ، لا قبل ذلك ، لئلاّ يفزعه ، ويوجّه إليها مضطجعاً على شقّه الأيمن اعتباراً بحال الوضع في القبر ؛ لأنّه أشرف عليه . وفي توجيه المحتضر إلى القبلة ورد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور . فقالوا : توفّي وأوصى بثلث ماله لك ، وأن يوجّه للقبلة لمّا احتضر . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلث ماله على ولده ، ثمّ ذهب فصلّى عليه ، وقال : اللّهمّ اغفر له وارحمه وأدخله جنّتك ، وقد فعلت » . قال الحاكم : ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره . وفي اضطجاعه على شقّه الأيمن قيل : يمكن الاستدلال عليه بحديث النّوم ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة ، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن ، وقل : اللّهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك . . . إلى أن قال : فإن متّ متّ على الفطرة » وليس فيه ذكر القبلة . ولم يذكر ابن شاهين في باب المحتضر من كتاب الجنائز له غير أثر عن إبراهيم النّخعيّ قال : « يستقبل بالميّت القبلة " وزاد عطاء بن أبي رباح : « على شقّه الأيمن . ما علمت أحداً تركه من ميّت " ، ولأنّه قريب من الوضع في القبر ، ومن اضطجاعه في مرضه ، والسّنّة فيهما ذلك ، فكذلك فيما قرب منهما . ويستدلّ عليه أيضاً بما روى أحمد أنّ فاطمة رضي الله عنها عند موتها استقبلت القبلة ، ثمّ توسّدت يمينها . ويصحّ أن يوجّه المحتضر إلى القبلة مستلقياً على ظهره ، فذلك أسهل لخروج الرّوح ، وأيسر لتغميضه وشدّ لحييه ، وأمنع من تقوّس أعضائه ، ثمّ إذا ألقي على القفا يرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة دون السّماء . ويقول بعض الفقهاء : إنّه لم يصحّ حديث في توجيه المحتضر إلى القبلة ، بل كره سعيد بن المسيّب توجيهه إليها . فقد ورد عن زرعة بن عبد الرّحمن : « أنّه شهد سعيد بن المسيّب في مرضه ، وعنده أبو سلمة بن عبد الرّحمن ، فغشي على سعيد ، فأمر أبو سلمة أن يحوّل فراشه إلى الكعبة ، فأفاق ، فقال : حوّلتم فراشي ؟ قالوا : نعم ، فنظر إلى أبي سلمة فقال : أراه بعلمك ، فقال : أنا أمرتهم . فأمر سعيد أن يعاد فراشه » . رابعاً : بلّ حلق المحتضر بالماء :

11 - يسنّ للحاضرين أن يتعاهدوا بلّ حلق المحتضر بماء أو شراب ، وأن يتعاهدوا تندية شفتيه بقطنة لأنّه ربّما ينشف حلقه من شدّة ما نزل به فيعجز عن الكلام . وتعاهده بذلك يطفئ ما نزل به من الشّدّة ، ويسهّل عليه النّطق بالشّهادة . خامساً : ذكر اللّه تعالى :

12 - يستحبّ للصّالحين ممّن يحضرون عند المحتضر أن يذكروا اللّه تعالى ، وأن يكثروا من الدّعاء له بتسهيل الأمر الّذي هو فيه ، وأن يدعوا للحاضرين ، إذ هو من مواطن الإجابة ؛ لأنّ الملائكة يؤمّنون على قولهم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم المريض ، أو الميّت ، فقولوا خيراً ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون » . سادساً : تحسين ظنّ المحتضر باللّه تعالى :

13 - إذا رأى الحاضرون من المحتضر أمارات اليأس والقنوط وجب عليهم أن يحسّنوا ظنّه بربّه ، وأن يطمّعوه في رحمته ، إذ قد يفارق على ذلك فيهلك ، فتعيّن عليهم ذلك ، أخذاً من قاعدة النّصيحة الواجبة . وهذا الحال من أهمّها .

ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند موت المحتضر :

14 - إذا تيقّن الحاضرون موت المحتضر ، وعلامة ذلك انقطاع نفسه وانفراج شفتيه تولّى أرفق أهله به إغماض عينيه ، والدّعاء له ، وشدّ لحييه بعصابة عريضة تشدّ في لحييه للأسفل وتربط فوق رأسه ، لأنّه لو ترك مفتوح العينين والفم حتّى يبرد بقي مفتوحهما فيقبح منظره ، ولا يؤمن دخول الهوامّ فيه والماء في وقت غسله ، ويليّن مفاصله ويردّ ذراعيه إلى عضديه ثمّ يمدّهما ، ويردّ أصابع يديه إلى كفّيه ثمّ يمدّها ، ويردّ فخذيه إلى بطنه ، وساقيه إلى فخذيه ثمّ يمدّهما . ويقول مغمضه : « باسم اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . اللّهمّ يسّر عليه أمره ، وسهّل عليه ما بعده ، وأسعده بلقائك ، واجعل ما خرج إليه خيراً ممّا خرج منه » . فقد روي عن أمّ سلمة أنّها قالت : « دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره ، فأغمضه ثمّ قال : إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر . فضجّ ناس من أهله فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون . ثمّ قال : اللّهمّ اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديّين المقرّبين واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين ، وأفسح له في قبره ، ونوّر له فيه » . وعن شدّاد بن أوس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر . وإنّ البصر يتبع الرّوح . وقولوا خيراً ، فإنّه يؤمّن على ما قال أهل الميّت » .

كشف وجه الميّت والبكاء عليه :

15 - يجوز للحاضرين وغيرهم كشف وجه الميّت وتقبيله ، والبكاء عليه ثلاثة أيّام بكاءً خالياً من الصّراخ والنّواح ، لما ورد عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : « لمّا قتل أبي جعلت أكشف الثّوب عن وجهه أبكي ، ونهوني ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ، فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرفع فجعلت عمّتي فاطمة تبكي . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : تبكين أو لا تبكين ، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه » . ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها : أنّ أبا بكر كشف وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبّله بين عينيه ، ثمّ بكى ، وقال : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، طبت حيّاً وميّتاً ، « وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميّت ، فكشف عن وجهه ، ثمّ أكبّ عليه ، فقبّله وبكى حتّى رأيت الدّموع تسيل على وجنتيه » وعن عبد اللّه بن جعفر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ، ثمّ أتاهم ، فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم » .

احتطاب

التّعريف

1 - الاحتطاب مصدر احتطب ، يقال احتطب بمعنى جمع الحطب ، والحطب : ما أعدّ من شجر وقوداً للنّار . والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ . صفته ( حكمه التّكلّفيّ ) :

2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتطاب رطباً كان الشّجر أو جافّاً في غير الحرم ما دام لا يملكه أحد . أمّا إذا كان محوزاً أو مملوكاً ، فلا يجوز أخذه أو الاحتطاب منه إلاّ بإذن صاحبه . الحكم الإجماليّ ) :

3 - يأخذ الاحتطاب حكم الاحتشاش التّكليفيّ ( ر : احتشاش ) ، غير أنّه يخالفه في أمرين : الأوّل : يباح في الاحتشاش في الحرم قطع الإذخر والعوسج وملحقاتهما ولا يباح ذلك في الاحتطاب . الثّاني : أباح بعض العلماء في الاحتشاش من الحرم علف الدّوابّ منه بخلاف الاحتطاب الّذي لم يبح فيه ذلك .

احتقان

التّعريف

1 - الاحتقان لغةً : مصدر احتقن ، بمعنى احتبس . يقال : حقن الرّجل بوله : حبسه وجمعه ، فهو حاقن ومطاوعه : الاحتقان : وحقنت المريض إذا أوصلت الدّواء إلى باطنه بالمحقن . ويطلق في الشّريعة على احتباس البول ، كما يطلقونه على تعاطي الدّواء بالحقنة في الدّبر .

( الألفاظ ذات الصّلة ) :

2 - الاحتباس . مصدر احتبس . يقال : حبسته فاحتبس بمعنى منعته فامتنع . فالاحتباس أعمّ . الحصر : هو الإحاطة والمنع والحبس . يقال حصره العدوّ في منزله : حبسه ، وأحصره المرض : منعه من السّفر . ويطلق على احتباس النّجو من ضيق المخرج ، فهو كذلك أعمّ . الحقب : حقب بالكسر حقباً فهو حقيب : تعسّر عليه البول ، أو أعجله . وقيل : الحاقب الّذي احتبس غائطه . فهو على المعنى الثّاني مباين للاحتقان . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :

3 - يختلف حكم الاحتقان تبعاً لإطلاقاته ، فيطلق الاحتقان على امتناع خروج البول لمرض أو غيره ، وهذا هو الاحتقان الطّبيعيّ . ويعتبر أحد الأعذار الّتي يسقط معها الحكم التّكليفيّ ما دامت موجودةً . أمّا منع الإنسان نفسه من خروج البول عند الشّعور بالحاجة للتّبوّل فهو الحقن . ويسمّى الإنسان حينئذ حاقناً . وحكمه التّكليفيّ الكراهة أو الحرمة - على خلاف سيأتي ذكره - في حالتي الصّلاة ، والقضاء بين النّاس . ويطلق الاحتقان أيضاً على تعاطي الدّواء أو الماء عن طريق الشّرج ، وحكمه التّكليفيّ تارةً الإباحة ، وتارةً الحظر ، على خلاف وتفصيل سيأتي بيانه . ودليل حكم الحقن في الصّلاة أو القضاء بين النّاس هو حديث عائشة ، رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ولا وهو يدافع الأخبثين » وحديث « لا يحلّ لامرئ مسلم أن ينظر في جوف امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » . وحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الّذي رواه أبو بكرة عنه قال : « لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان » . وقاسوا عليه الحاقن . ودليل الاحتقان للتّداوي هو دليل التّداوي نفسه بشروط . ( ر : تداوي ) .

أوّلاً - احتقان البول وضوء الحاقن :

4 - في المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينتقض وضوء الحاقن ؛ لأنّهم اعتبروا لانتقاض الوضوء الخروج الفعليّ من السّبيلين ، لا الخروج الحكميّ . والحاقن لم يخرج منه شيء من السّبيلين . أمّا المالكيّة فإنّهم اعتبروا الخروج الفعليّ أو الحكميّ ناقضاً للوضوء ، واعتبروا الحقن الشّديد خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . ولكنّهم انقسموا إلى رأيين في تحديد درجة الاحتقان الّتي تنقض الوضوء ، فقال بعضهم : إذا كان الاحتقان شديداً بحيث يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، كما لو كان يقدر على الإتيان بها بعسر ، فقد أبطل الحقن الوضوء ، فليس له أن يفعل به ما يتوقّف على الطّهارة ، كمسّ المصحف . واعتبروا هذا خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . وقال البعض الآخر : الحقن الشّديد ينقض الوضوء ، وإن لم يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة .

صلاة الحاقن :

5 - للفقهاء في حكم صلاة الحاقن اتّجاهان : فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّ صلاة الحاقن مكروهة ، لما ورد من الأحاديث السّابقة . وقال الخراسانيّون وأبو زيد المروزيّ من الشّافعيّة : إذا كانت مدافعة الأخبثين شديدةً لم تصحّ الصّلاة . واستدلّ الجميع بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان » . وما روى ثوبان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا يحلّ لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » ، فالقائلون بالكراهة حملوا النّهي في الأحاديث على الكراهة . وأخذ بظاهر الحديث أصحاب الرّأي الثّاني فحملوه على الفساد . أمّا المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ الحقن الشّديد ناقض للوضوء ، فتكون صلاته باطلةً .

إعادة الحاقن للصّلاة :

6 - لم يقل بإعادة صلاة الحاقن أحد ممّن قال بصحّة الصّلاة مع الكراهة ، إلاّ الحنابلة على رأي ، فقد صرّحوا بإعادة الصّلاة للحاقن لظاهر الحديثين السّابقين . وقد تقدّم أنّ المالكيّة يرون بطلان صلاة الحاقن حقناً شديداً فلا بدّ من إعادتها .

الحاقن وخوف فوت الوقت :

7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا كان في الوقت متّسع فينبغي أن يزيل العارض أوّلاً ، ثمّ يشرع في الصّلاة . فإن خاف فوت الوقت ففي المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّه يصلّي وهو حاقن ، ولا يترك الوقت يضيع منه ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالإعادة في الظّاهر عند ابن أبي موسى للحديث . وذهب الشّافعيّة في رأي آخر حكاه المتولّي إلى أنّه يزيل العارض أوّلاً ويتوضّأ وإن خرج الوقت ، ثمّ يقضيها ، لظاهر الحديث ؛ ولأنّ المراد من الصّلاة الخشوع ، فينبغي أن يحافظ عليه وإن فات الوقت .


اكتب معهد الماهر
أعلى