الرد على الموضوع

احتواش

التّعريف

1 - الاحتواش لغةً الإحاطة . يقال : احتوش القوم على فلان إذا جعلوه وسطهم ، واحتوش القوم الصّيد أحاطوا به . ومن استعمله من الفقهاء - وهم الشّافعيّة - أطلقوه على إحاطة خاصّة ، وهي إحاطة الدّمين بطهر ، وإن كان غيرهم تعرّض للمسألة من غير استعمال هذه التّسمية .

( الحكم الإجماليّ )

2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ الطّهر الّذي يعتبر في العدّة هو المحتوش بين دمين ، فلو طلّق صغيرةً ومضى قدر زمن الطّهر ثمّ حاضت فلا يعتبر قرءاً . ومقابل الأصحّ اعتباره قرءاً ؛ لأنّ القرء هو انتقال من طهر إلى حيض ولا يخفى أنّ هذا لا يسمّى احتواشاً . ويذكر الفقهاء ذلك في عدّة ذوات الأقراء . ولا ترد هذه المسألة في مذهب الحنفيّة ، ولا على الأصحّ عند الحنابلة ؛ لأنّ العدّة عندهم بالحيض لا بالأطهار .

احتياط

التّعريف

1 - من معاني الاحتياط لغةً : الأخذ في الأمور بالأحزم والأوثق ، وبمعنى المحاذرة ، ومنه القول السّائر : أوسط الرّأي الاحتياط ، وبمعنى الاحتراز من الخطأ واتّقائه . ويستعمل الفقهاء الاحتياط بهذه المعاني كذلك . أمّا الورع فهو اجتناب الشّبهات خوفاً من الوقوع في المحرّمات .

( الحكم الإجماليّ )

2 - كثير من الأحكام الفقهيّة تثبت لأجل الاحتياط ، فمن نسي الظّهر والعصر من يومين لا يدري أي اليومين أسبق ، فإنّه يصلّي الظّهر ثمّ العصر ثمّ الظّهر في أحد الاحتمالات ، والباعث على ذلك الاحتياط . ولتعارض الاحتياط مع أصل براءة الذّمّة ، ومع قاعدة التّحرّي والتّوخّي عند الحرج ، يأتي التّردّد والخلاف في الأحكام المبنيّة على الاحتياط . ويذكر الأصوليّون ما عبّر عنه الأنصاريّ شارح مسلم الثّبوت أنّه " ليس كلّ ما كان أحوط يجب ، بل إنّما هو فيما ثبت وجوبه من قبل ، فيجب فيه ما تخرج به عن العهدة يقيناً ، كالصّلاة المنسيّة ، كما إذا فاتت صلاة من يوم فنسيها ، فيجب عليه قضاء الصّلوات الخمس من ذلك اليوم ليخرج عن عهدة المنسيّة يقيناً " قال : « ومنه نسيان المستحاضة أيّامها يجب عليها التّطهّر لكلّ صلاة أو لوقت كلّ صلاة " على خلاف تفصيله في " حيض » . ثمّ ذكر الحالة الثّانية الّتي يجب فيها الفعل احتياطاً فقال : « أو كان الوجوب هو الأصل ثمّ يعرض ما يوجب الشّكّ ، كصوم الثّلاثين من رمضان ، فإنّ الوجوب فيه الأصل ، وعروض عارض الغمام لا يمنعه ، فيجب احتياطاً ، لا كصوم يوم الشّكّ ، فلا يثبت الوجوب للاحتياط في صوم يوم الشّكّ ؛ لأنّ الوجوب فيه ليس هو الأصل ، ولا هو ثابت يقيناً » .

( مواطن البحث )

3 - يذكر الأصوليّون في باب تعارض الأدلّة ترجيح الدّليل المقتضي للتّحريم على ما يقتضي غيره من الأحكام لاستناد ذلك التّرجيح للاحتياط ، وفي تعارض العلل ترجيح العلّة المقتضية للتّحريم على المقتضية لغيره . وذكروا أيضاً مسألة جريان الاحتياط في الوجوب والنّدب والتّحريم ، في الباب نفسه أيضاً . ومحلّ ذلك الملحق الأصوليّ . ويذكر الفقهاء القواعد المبنيّة على الاحتياط ، ومنها قاعدة تغليب الحرام عند اجتماع الحرام والحلال ، وما يدخل في هذه القاعدة وما يخرج عنها ، في كتب القواعد الفقهيّة .

احتيال

التّعريف

1 - يأتي الاحتيال بمعنى طلب الحيلة ، وهي الحذق في تدبير الأمور ، أي تقليب الفكر حتّى يهتدي إلى المقصود . ويأتي بمعنى الاحتيال بالدّين . ولا يخرج استعمال الأصوليّين والفقهاء له عن هذا ، إلاّ أنّ ابن القيّم ذكر أنّه غلب على الحيلة في العرف استعمالها في سلوك الطّرق الخفيّة الّتي يتوصّل بها الرّجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطّن له إلاّ بنوع من الذّكاء والفطنة . فهذا أخصّ من موضوعها في أصل اللّغة ، وسواء أكان المقصود أمراً جائزاً أم محرّماً ، وأخصّ من هذا استعمالها في التّوصّل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً أو عقلاً أو عادةً . وهذا هو الغالب عليها في عرف النّاس . إطلاقاته : الأوّل : بمعنى استعمال الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه . الثّاني : بمعنى نقل الدّين من ذمّة إلى ذمّة ، وهو الحوالة .

( الحكم الإجماليّ )

أوّلاً : بالمعنى الأوّل : يختلف حكم الاحتيال باختلاف القصد والنّيّة ، وباختلاف مآل العمل ، وذلك على الوجه الآتي :

2 - يكون الاحتيال حراماً إذا تسبّب به المكلّف في إسقاط ما وجب شرعاً ، حتّى يصير غير واجب في الظّاهر ، أو في جعل المحرّم حلالاً في الظّاهر . ذلك أنّ العمل إذا قصد به إبطال حكم شرعيّ وتحويله في الظّاهر إلى حكم آخر ، حتّى يصير مآل ذلك العمل خرم قواعد الشّريعة في الواقع ، فهو حرام منهيّ عنه . وذلك كما لو دخل عليه وقت الصّلاة فشرب خمراً أو دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو كان له مال يقدر به على الحجّ فوهبه كي لا يجب عليه الحجّ . وكذلك يحرم التّصرّف في المال بهبة أو غيرها قبل الحول للفرار من الزّكاة عند المالكيّة والحنابلة . وقد اختلف الحنفيّة في ذلك ، فقال أبو يوسف : لا يكره ذلك ؛ لأنّه امتناع عن الوجوب لإبطال حقّ الغير . وفي المحيط أنّه الأصحّ . وقال محمّد : يكره . واختاره الشّيخ حميد الدّين الضّرير ؛ لأنّ فيه إضراراً بالفقراء ، وإبطال حقّهم مآلاً . وقيل : الفتوى على قول محمّد ، كذلك الأمر بالنّسبة للشّافعيّة ، ففي نهاية المحتاج والشّروانيّ : يكره تنزيهاً إن قصد به الفرار من الزّكاة . وقال الشّروانيّ : وفي الوجيز يحرم . زاد في الإحياء : ولا تبرأ به الذّمّة باطناً ، وأنّ هذا من الفقه الضّارّ ، وقال ابن الصّلاح يأثم بقصده لا بفعله . كذلك يحرم الاحتيال لأخذ أموال النّاس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم . والدّليل على حرمة الاحتيال قوله تعالى : { ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت . . . } ؛ لأنّهم احتالوا للاصطياد في السّبت بصورة الاصطياد في غيره . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » .

3 - ويكون الاحتيال جائزاً إذا قصد به أخذ حقّ ، أو دفع باطل ، أو التّخلّص من الحرام ، أو التّوصّل إلى الحلال ، وسواء أكانت الوسيلة محرّمةً أم مشروعةً ، إلاّ أنّها إن كانت محرّمةً فهو آثم على الوسيلة دون المقصود ، وقد يطلب الاحتيال ولا سيّما في الحرب ؛ ؛ لأنّها خدعة . والأصل في الجواز قول اللّه تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } .

4 - ومنه ما يختلف فيه وهو ما لم يتبيّن فيه مقصد للشّارع يتّفق على أنّه مقصود له ، ولا ظهر أنّه على خلاف المصلحة الّتي وضعت لها الشّريعة بحسب المسألة المفروضة . فمن رأى من الفقهاء أنّ الاحتيال في أمر ما غير مخالف للمصلحة فالتّحيّل جائز عنده فيه ، ومن رأى أنّه مخالف فالتّحيّل ممنوع عنده فيه . على أنّه من المقرّر أنّ من يجيز التّحيّل في بعض المسائل فإنّما يجيزه بناءً على تحرّي قصد المكلّف المحتال ، وأنّه غير مخالف لقصد الشّارع ؛ لأنّ مصادمة الشّارع صراحاً ، علماً أو ظنّاً ، ممنوع ، كما أنّ المانع إنّما منع بناءً على أنّ ذلك مخالف لقصد الشّارع ؛ ولما وضع في الأحكام من المصالح . ومن ذلك نكاح المحلّل ، فإنّه تحيّل إلى رجوع الزّوجة إلى مطلّقها الأوّل بحيلة توافق في الظّاهر قوله اللّه تعالى : { فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره } فقد نكحت المرأة هذا المحلّل ، فكان رجوعها إلى الأوّل بعد تطليق الثّاني موافقاً . ونصوص الشّارع مفهمة لمقاصده ، ومن ذلك بيوع الآجال .

5 - وأكثر الّذين أخذوا بالاحتيال هم الحنفيّة فالشّافعيّة . أمّا المالكيّة والحنابلة فإنّ الأصل عندهم هو منع الاحتيال غالباً ، وهو لا يفيد في العبادات ولا في المعاملات ؛ لأنّ تجويز الحيل يناقض سدّ الذّرائع ، فإنّ الشّارع يسدّ الطّريق إلى المفاسد بكلّ ممكن ، والمحتال يفتح الطّريق إليها بحيلة . ثانياً بالمعنى الثّاني :

6 - الاحتيال بالحقّ من جهة المحيل يكون نتيجة عقد الحوالة ، فالحوالة عقد يقتضي نقل دين من ذمّة إلى أخرى ، وهي مستثناة - كما يقول بعض الفقهاء - من بيع الدّين بالدّين .

7 - وهي جائزة للحاجة إليها . والأصل فيها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل » والحكم فيها براءة ذمّة المحيل من دين المحال له . وقد اشترط الفقهاء لصحّتها شروطاً ، كرضا المحيل المحال له ، والعلم بما يحال به وعليه . وغير ذلك من التّفاصيل تنظر في مصطلح ( حوالة ) .

( مواطن البحث )

8 - للاحتيال بمعنى الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه أحكام مفصّلة في مصطلح ( حيلة ) وفي كتب الأصول ولها علاقتها بمقاصد الشّريعة وبالذّرائع . وينظر في الملحق الأصوليّ .

إحداد

التّعريف

1 - من معاني الإحداد في اللّغة : المنع ، ومنه امتناع المرأة عن الزّينة وما في معناها إظهاراً للحزن . وهو في الاصطلاح : امتناع المرأة من الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة ، وكذلك من الإحداد امتناعها من البيتوتة في غير منزلها .

( الألفاظ ذات الصّلة ) : الاعتداد :

2 - وهو تربّص المرأة مدّةً محدّدةً شرعاً لفراق زوجها بوفاة أو طلاق أو فسخ . والعلاقة بين الاعتداد والإحداد أنّ الاعتداد طرف للإحداد ، ففي العدّة . تترك المرأة زينتها لموت زوجها . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :

3 - أجمع العلماء على وجوب الإحداد في عدّة الوفاة من نكاح صحيح ولو من غير دخول بالزّوجة . والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلاّ على زوج ، أربعة أشهر وعشراً » . كما أجمعوا على أنّه لا إحداد على الرّجل . وقد أجمعوا أيضاً على أنّه لا إحداد على المطلّقة رجعيّاً ، بل يطلب منها أن تتعرّض لمطلّقها وتتزيّن له لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً . على أنّ للشّافعيّ رأياً بأنّه يستحبّ للمطلّقة رجعيّاً الإحداد إذا لم ترج الرّجعة .

4 - وأمّا المعتدّة من طلاق بائن بينونةً صغرى أو كبرى فقد اختلف العلماء فيه على اتّجاهين : الأوّل : ذهب الحنفيّة والشّافعيّ في قديمه ، وهو إحدى الرّوايتين في مذهب أحمد ، أنّ عليها الإحداد ، لفوات نعمة النّكاح . فهي تشبه من وجه من توفّي عنها زوجها . الثّاني : ذهب المالكيّة والشّافعيّ في جديده وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد ( وقيل في بعض الكتب إنّها المذهب ) إلاّ أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الزّوج هو الّذي فارقها نابذاً لها ، فلا يستحقّ أن تحدّ عليه . وإلى هذا ذهب جماعة من التّابعين ، منهم سعيد بن المسيّب ، وأبو ثور ، وعطاء ، وربيعة ، ومالك ، وابن المنذر . إلاّ أنّ الشّافعيّ يرى في جديده أنّه يستحبّ لها أن تحدّ .

5 - وأمّا المنكوحة نكاحاً فاسداً إذا مات عنها زوجها فالجمهور على أنّه لا إحداد عليها ؛ ؛ لأنّها ليست زوجةً على الحقيقة ، وأنّ بقاء الزّواج الفاسد نقمة ، وزواله نعمة ، فلا محلّ للإحداد . وذهب القاضي أبو يعلى من الحنابلة إلى وجوب الإحداد عليها تبعاً لوجوب العدّة ، وذهب القاضي الباجيّ المالكيّ إلى أنّه إذا ثبت بينها وبين زوجها المتوفّي شيء من أحكام النّكاح ، كالتّوارث وغيره ، فإنّها تعتدّ عدّة الوفاة ، ويلزمها الإحداد .

6 - أمّا إحداد المرأة على قريب غير زوج فإنّه جائز لمدّة ثلاثة أيّام فقط ، ويحرم الزّيادة عليها . والدّليل على ذلك ما روته زينب بنت أبي سلمة ، قالت : « لمّا أتى أمّ حبيبة نعي أبي سفيان دعت في اليوم الثّالث بصفرة ، فمسحت به ذراعيها وعارضيها ، وقالت : كنت عن هذا غنيّة ، سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلاّ على زوج فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً . » أخرجه البخاريّ ومسلم ، واللّفظ له . وللزّوج منعها من الإحداد على القريب .

إحداد زوجة المفقود :

7 - المفقود : هو من انقطع خبره ، ولم تعلم حياته من مماته . فإذا حكم باعتباره ميّتاً فقد أجمع العلماء على أنّ زوجته تعتدّ عدّة وفاة من حين الحكم ، ولكن أيجب عليها الإحداد ؟ ذهب جمهور العلماء إلى وجوبه باعتبار أنّها معتدّة عدّة وفاة ، فتأخذ حكمها . وذهب ابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّه وإن وجبت عليها العدّة فإنّه لا إحداد عليها .

بدء مدّة الإحداد :

8 - يبدأ الإحداد عقيب الوفاة سواء علمت الزّوجة بوقتها ، أو تأخّر علمها ، وعقيب الطّلاق البائن عند من يرى ذلك . هذا إذا كانت الوفاة والطّلاق معلومين . أمّا إذا مات الزّوج ، أو طلّقها ، وهو بعيد عنها فيبدأ الإحداد من حين علمها . وليس عليها قضاء ما فات ، وينقضي بانقضاء العدّة ، وإذا انتهت مدّة الإحداد وبقيت محدّةً بلا قصد فلا إثم عليها .

حكمة تشريع الإحداد :

9 - شرع إحداد المرأة المتوفّى عنها زوجها وفاءً للزّوج ، ومراعاةً لحقّه العظيم عليها ، فإنّ الرّابطة الزّوجيّة أقدس رباط ، فلا يصحّ شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وتتجاهل حقّ الزّوجيّة الّتي كانت بينهما . وليس من الوفاء أن يموت زوجها من هنا ، ثمّ تنغمس في الزّينة وترتدي الثّياب الزّاهية المعطّرة ، وتتحوّل عن منزل الزّوجيّة ، كأنّ عشرةً لم تكن بينهما . وقد كانت المرأة قبل الإسلام تحدّ على زوجها حولاً كاملاً تفجّعاً وحزناً على وفاته ، فنسخ اللّه ذلك وجعله أربعه أشهر وعشراً . هكذا قرّر علماء أئمّة المذاهب الأربعة فيما يستخلص من كلامهم على أحكام الإحداد . فقد ذكروا " أنّ الحداد واجب على من توفّي عنها زوجها ، إظهاراً للتّأسّف على ممات زوج وفّى بعهدها ، وعلى انقطاع نعمة النّكاح ، وهي ليست نعمةً دنيويّةً فحسب ، ولكنّها أيضاً أخرويّة ؛ ؛ لأنّ النّكاح من أسباب النّجاة في المعاد والدّنيا " وشرع الإحداد أيضاً ؛ لأنّه يمنع تشوّف الرّجال إليها ؛ لأنّها إذا تزيّنت يؤدّي إلى التّشوّف ، وهو يؤدّي إلى العقد عليها ، وهو يؤدّي إلى الوطء ، وهو يؤدّي إلى اختلاط الأنساب ، وهو حرام . وما أدّى إلى الحرام حرام » .

من تحدّ ومن لا تحدّ ؟

10 - تبيّن فيما سبق من يطلب منها الإحداد في الجملة . وهناك حالات وقع فيها خلاف بين الفقهاء ، منها : الكتابيّة زوجة المسلم ، والصّغيرة .

11 - أمّا الكتابيّة فقد ذهب مالك - في رواية ابن القاسم - والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها يجب عليها الإحداد مدّة العدّة إذا مات زوجها المسلم ، وذلك ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة فمتى وجبت عليها عدّة الوفاة وجب عليها الإحداد . وذهب الحنفيّة ومالك في رواية أشهب إلى أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الإحداد مطلوب من المسلمة ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر . . . » الحديث .

12 - وأمّا الصّغيرة فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها تحدّ ، وعلى وليّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة . ولما روي عن أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه ، إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال : لا مرّتين ، أو ثلاثاً » الحديث ، ولم يسأل عن سنّها ، وترك الاستفصال في مقام السّؤال دليل على العموم . وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الإحداد عليها لحديث : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلى حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » . فإن بلغت في العدّة حدّت فيما بقي . ومثلها المجنونة الكبيرة إذا أفاقت . وأمّا الأمة فالفقهاء على أنّه يلزمها الإحداد مدّة عدّتها ؛ لعموم الحديث في وجوب الإحداد ، وحكى الشّافعيّة الإجماع على ذلك » .

ما تتجنّبه المحدّة :

13 - تجتنب المحدّة كلّ ما يعتبر زينةً شرعاً أو عرفاً ، سواء أكان يتّصل بالبدن أو الثّياب أو يلفت الأنظار إليها ، كالخروج من مسكنها ، أو التّعرّض للخطّاب . وهذا القدر مجمع عليه في الجملة . وقد اختلف الفقهاء في بعض الحالات فاعتبرها البعض من المحظورات على المحدّة ، ولم يعتبرها الآخرون . وذلك كبعض الملابس المصبوغة ، واختلافهم في الملابس السّوداء والبيضاء والمصبوغة بغير الزّعفران والمعصفر . وعند التّحقيق نجد أنّ اختلافهم - فيما عدا المنصوص عليه - ناشئ عن اختلاف العرف : فما اعتبر في العرف زينة اعتبروه محرّماً ، وما لم يعتبر اعتبر مباحاً . والممنوع يرجع كلّه إمّا إلى البدن ، أو الثّياب ، أو الحليّ ، أو التّعرّض للخطّاب ، أو البيتوتة .

14 - فأمّا ما يتّصل بالبدن فالّذي يحرم عليها كلّ ما يعتبر مرغّباً فيها من طيب وخضاب وكحل للزّينة . ومن ذلك الأشياء المستحدثة للزّينة ، وليس من ذلك ما تتعاطاه المرأة للتّداوي كالكحل والامتشاط بمشط واسع لا طيب فيه . وذهب الحنفيّة إلى كراهية الامتشاط بمشط الأسنان وهو بلا طيب ؛ لأنّه يعتبر من الزّينة عندهم . على أنّ من لا كسب لها إلاّ من الاتّجار بالطّيب أو صناعته فإنّ الشّافعيّة ينصّون على جواز مسّها له . وهذا كلّه في بدء التّطيّب بعد لزوم الإحداد ، أمّا لو تطيّبت قبل ذلك فهل عليها إزالته بعد لزوم الإحداد ؟ ذهب الشّافعيّة - إلى وجوب ذلك - وهو قول للمالكيّة اختاره ابن رشد . والرّأي الآخر للمالكيّة واختاره القرافيّ أنّه ليس عليها إزالته .

15 - واختلفوا في الأدهان غير المطيّبة ، كالزّيت والشّيرج ، فالحنفيّة والشّافعيّة يرون أنّ استعمالها من الزّينة الممنوعة على المحدّة ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة . ففي حديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها حين توفّي زوجها أبو سلمة ، فنهاها أن تمتشط بالطّيب ولا بالحنّاء ، فإنّه خضاب . قالت : قلت بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » أي تجعلين عليه من السّدر ما يشبه الغلاف .

16 - وأمّا ما يتّصل بالملابس فهو كما قلنا كلّ ما جرى العرف باعتباره زينةً ، بصرف النّظر عن اللّون ، فقد يكون الثّوب الأسود محظوراً إذا كان يزيدها جمالاً ، أو جرى العرف عند قومها باعتباره من ملابس الزّينة . ولكن ورد النّصّ بالنّهي عن المعصفر والمزعفر من الثّياب ؛ لأنّهما يفوح منهما الطّيب ، لحديث أمّ عطيّة في الصّحيحين « كنّا ننهى أن نحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ، وأن نكتحل ، وأن نتطيّب ، وأن نلبس ثوباً مصبوغاً . » وأمّا من لم يكن عندها إلاّ ثوب واحد من المنهيّ عن لبسه فلا يحرم عليها لبسه حتّى تجد غيره ؛ لأنّ ستر العورة أوجب من الإحداد . ونقل عن الخرقيّ من الحنابلة أنّه يحرم عليها استعمال النّقاب ، فإن اضطرّت إلى ستر وجهها ؛ فلتسدل النّقاب وتبعده عن وجهها وذلك ؛ لأنّه اعتبر المحدّة كالمحرمة ولكن المذهب على غير ذلك فلها استعمال النّقاب مطلقاً .

17 - أمّا الحليّ : فقد أجمع الفقهاء على حرمة الذّهب بكلّ صوره عليها ، فيلزمها أن تنزعه حينما تعلم بموت زوجها ، لا فرق في ذلك بين الأساور والدّمالج والخواتم ، ومثله الحليّ من الجواهر . ويلحق به ما يتّخذ للحلية من غير الذّهب والفضّة كالعاج وغيره . وجوّز بعض الفقهاء لبس الحليّ من الفضّة ، ولكنّه قول مردود لعموم النّهي عن لبس الحليّ على المحدّة . وقصر الغزاليّ من الشّافعيّة الإباحة على لبس الخاتم من الفضّة ؛ لأنّه ليس ممّا تختصّ بحلّه النّساء . وتحرم على المحدّة التّعرّض للخطّاب بأيّ وسيلة من الوسائل تلميحاً أو تصريحاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النّسائيّ وأبو داود : « ولا تلبس المعصفر من الثّياب ، ولا الحليّ » .

ما يباح للمحدّة

18 - للمعتدّة الخروج في حوائجها نهاراً سواء كانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها ، لما روى « جابر قال : طلقت خالتي ثلاثاً ، فخرجت تجذّ نخلها ، فلقيها رجل فنهاها . فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اخرجي فجذّي نخلك ، لعلّك أن تتصدّقي منه أو تفعلي خيراً . » رواه النّسائيّ وأبو داود . وروى مجاهد قال : « استشهد رجال يوم أحد ، فجاء نساؤهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقلن : يا رسول اللّه نستوحش باللّيل ، أفنبيت عند إحدانا ، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : تحدّثن عند إحداكنّ ، حتّى إذا أردتنّ النّوم فلتؤب كلّ واحدة إلى بيتها » . وليس لها المبيت في غير بيتها ، ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة ؛ لأنّ اللّيل مظنّة الفساد ، بخلاف النّهار فإنّه مظنّة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه . وإن وجب عليها حقّ لا يمكن استيفاؤه إلاّ بها ، كاليمين والحدّ ، وكانت ذات خدر ، بعث إليها الحاكم من يستوفي الحقّ منها في منزلها . وإن كانت برزةً جاز إحضارها لاستيفائه . فإذا فرغت رجعت إلى منزلها . على أنّ المالكيّة صرّحوا بأنّه لا بأس للمحدّة أن تحضر العرس ، ولكن لا تتهيّأ فيه بما لا تلبسه المحدّة . اتّفق أئمّة المذاهب الأربعة على أنّه يباح للمحدّة في عدّة وفاتها الأشياء التّالية : يباح لها أن تلبس ثوباً غير مصبوغ صبغاً فيه طيب وإن كان نفيساً . ويباح لها من الثّياب كلّ ما جرى العرف على أنّه ليس بزينة مهما كان لونه . ولمّا كان الإحداد خاصّاً بالزّينة في البدن أو الحليّ والثّياب على التّفصيل السّابق ، فلا تمنع من تجميل فراش بيتها ، وأثاثه ، وستوره والجلوس على أثاث وثير . ولا بأس بإزالة الوسخ والتّفث من ثوبها وبدنها ، كنتف الإبط ، وتقليم الأظافر إلخ ، والاغتسال بالصّابون غير المطيّب ، وغسل رأسها ويديها ، ولا يخفى أنّ للمرأة المحدّة أن تقابل من الرّجال البالغين من لها حاجة إلى مقابلته ما دامت غير مبدية زينتها ولا مختلية به .

سكن المحدّة :

19 - ذهب جمهور الفقهاء من السّلف والخلف ، ولا سيّما أصحاب المذاهب الأربعة ، إلى أنّه يجب على المعتدّة من وفاة أن تلزم بيت الزّوجيّة الّذي كانت تسكنه عندما بلغها نعي زوجها ، سواء كان هذا البيت ملكاً لزوجها ، أو معاراً له ، أو مستأجراً . ولا فرق في ذلك بين الحضريّة والبدويّة ، والحائل والحامل . والأصل في ذلك قوله تعالى : { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } وحديث « فريعة بنت مالك وأنّها جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّ زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة . قالت : فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم . قالت : فخرجت حتّى إذا كنت في الحجرة ، أو في المسجد دعاني ، أو أمر بي فدعيت له ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصّة ، فقال : امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدّت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتّبعه وقضى به » . رواه مالك في الموطّأ . وذهب جابر بن زيد والحسن البصريّ وعطاء من التّابعين إلى أنّها تعتدّ حيث شاءت . وروي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وجابر وعائشة رضي الله عنهم . وحاصل ما استدلّوا به : أنّ الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } نسخت الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها حولاً ، وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } . والنّسخ إنّما وقع على ما زاد عن أربعة أشهر وعشر ، فبقي ما سوى ذلك من الأحكام ، ثمّ جاء الميراث فأسقط تعلّق حقّ إسكانها بالتّركة .

مسوّغات ترك مسكن الإحداد :

20 - إن طرأ على المحدّة ما يقتضي تحوّلها عن المسكن الّذي وجب عليها الإحداد فيه ، جاز لها الانتقال إلى مسكن آخر تأمن فيه على نفسها ومالها ، كأن خافت هدماً أو عدوّاً ، أو أخرجت من السّكن من مستحقّ أخذه ، كما لو كان عاريّةً أو إجارةً انقضت مدّتها ، أو منعت السّكنى تعدّياً ، أو طلب به أكثر من أجرة المثل . وإذا انتقلت تنتقل حيث شاءت إلاّ عند الشّافعيّة ، وهو اختيار أبي الخطّاب من الحنابلة ، فعليها أن تنتقل إلى أقرب ما يمكنها الانتقال إليه قياساً على ما إذا وجبت الزّكاة ولم يوجد من يستحقّها في مكان وجوبها ، فإنّها تنقل إلى أقرب موضع يجدهم فيه . وللجمهور أنّ الواجب سقط لعذر ولم يرد الشّرع له ببدل فلا يجب ، ولعدم النّصّ على اختيار الأقرب . أمّا البدويّة إذا انتقل جميع أهل المحلّة الّذين هي معهم أو بقي منهم من لا تأمن معه على نفسها ومالها فإنّها تنتقل عن السّكن الّذي بدأت فيه الإحداد كذلك . وإذا مات ربّان السّفينة ، أو أحد العاملين فيها ، وكانت معه زوجته ، ولها مسكن خاصّ بها في السّفينة ، فإنّها تحدّ فيه ، وتجري عليها الأحكام السّابقة .


اكتب معهد الماهر
أعلى