الرد على الموضوع

الوسم بالنّار :

29 - الوسم في الوجه بالنّار منهيّ عنه بالإجماع في غير الآدميّ . ومن باب أولى وسم الآدميّ ، فهو حرام لكرامته ؛ ولأنّه لا حاجة إليه ، ولا يجوز تعذيبه . وذهب جماعة في غير الآدميّ إلى أنّ النّهي للكراهة ، وذهب جماعة آخرون إلى تحريمه ، وهو الأظهر ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ، واللّعن يقتضي التّحريم ، حيث قال : « أما بلغكم أنّي لعنت من وسم البهيمة في وجهها ؟ » أمّا وسم غير الآدميّ في بقيّة الجسم فالجمهور على أنّه جائز ، بل مستحبّ ، لما روي من فعل الصّحابة في ماشية الزّكاة والجزية . وذهب أبو حنيفة إلى كراهته لما فيه من تعذيب ومثلة .

الانتقال من سبب موت - لآخر أهون

30 - لو شبّت النّار في سفينة أو غيرها فما غلب على ظنّهم السّلامة فيه من بقائهم في أماكنهم أو تركها فعلوه . وإن استوى عندهم الأمران فقال الشّافعيّ وأحمد : كيف شاءوا صنعوا ، وقال الأوزاعيّ : هما موتتان فاختر أيسرهما ، وصرّح المالكيّة بوجوب الانتقال من سبب الموت الّذي حلّ ، إلى سبب آخر إن رجا به حياةً ، أو طولها ، ولو حصل له معها ما هو أشدّ من الموت ؛ لأنّ حفظ النّفوس واجب ما أمكن .

الإحراق في الحرب :

31 - إذا قدر على العدوّ بالتّغلّب عليه فلا يجوز تحريقه بالنّار من غير خلاف يعلم ، لما روى « حمزة الأسلميّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّره على سريّة ، فقال : فخرجت فيها ، فقال : إن أخذتم فلاناً فأحرقوه بالنّار فولّيت ، فناداني ، فرجعت ، فقال : إن أخذتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرّقوه ، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . فأمّا رميهم بالنّار قبل القدرة عليهم مع إمكان أخذهم بغير التّحريق فلا يجوز ؛ لأنّهما حينئذ في حكم المقدور عليهم . وأمّا عند العجز عنهم بغير التّحريق فجائز في قول أكثر أهل العلم ، لفعل الصّحابة والتّابعين في غزواتهم . هذا وإن تترّس العدوّ في الحرب ببعض المسلمين ، فإن اضطررنا إلى رميهم بالنّار فهو جائز عند الجمهور . ومرجع ذلك إلى تقدير المصلحة العامّة . والحكم في البغاة والمرتدّين في هذه المسألة كالكفّار في حال القتال .

إحراق أشجار الكفّار في الحرب :

32 - إذا كان في ذلك نكاية بالعدوّ ، ولم يرج حصولها للمسلمين ، فالإحراق جائز اتّفاقاً . بل ذهب المالكيّة إلى تعيّن الإحراق . أمّا إذا رجي حصولها للمسلمين ، ولم يكن في إحراقها نكاية ، فإنّه محظور . وصرّح المالكيّة بحرمته . وأمّا إذا كان في إحراقها نكاية ، ويرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى كراهة ذلك . بل صرّح الشّافعيّة بندب الإبقاء حفظاً لحقّ الفاتحين . وذهب المالكيّة إلى وجوب الإبقاء . وإذا كان لا نكاية في إحراقها ، ولا يرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جوازه . ومقتضى مذهب الشّافعيّة الكراهة ؛ لأنّه الأصل عندهم . أمّا الحنابلة فالأصل عندهم في هذه المسألة المعاملة بالمثل ، ومراعاة مصلحة المسلمين في القتال .

حرق ما عجز المسلمون عن نقله من أسلحة وبهائم وغيرها :

33 - اختلف الفقهاء في الحرق والإتلاف ، فقال الحنفيّة والمالكيّة : إذا أراد الإمام العود ، وعجز عن نقل أسلحة وأمتعة وبهائم لمسلم أو عدوّ ، وعن الانتفاع بها ، تحرق وما لا يحرق ، كحديد ، يتلف أو يدفن في مكان خفيّ لا يقف عليه الكفّار ، وذلك لئلاّ ينتفعوا بهذه الأشياء . أمّا المواشي والبهائم والحيوانات فتذبح وتحرق ، ولا يتركها لهم ؛ لأنّ الذّبح يجوز لغرض صحيح ، ولا غرض أصحّ من كسر شوكة الأعداء وتعريضهم للهلكة والموت ، ثمّ يحرق بالنّار لتنقطع منفعته عن الكفّار ، وصار كتخريب البنيان والتّحريق لهذا الغرض المشروع ، بخلاف التّحريق قبل الذّبح ، فلا يجوز ؛ لأنّه منهيّ عنه . وفيه أحاديث كثيرة منها ما أخرج البزّار في مسنده عن عثمان بن حبّان قال : « كنت عند أمّ الدّرداء رضي الله عنها ، فأخذت برغوثاً فألقيته في النّار ، فقالت : سمعت أبا الدّرداء يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . وللمالكيّة تفصيل ، قالوا : يجهز على الحيوان وجوباً ، للإراحة من التّعذيب بإزهاق روحه أو قطع عرقوبه ، أو الذّبح الشّرعيّ ويحرق الحيوان ندباً بعد إتلافه إن كان الأعداء يستحلّون أكل الميتة ، ولو ظنّاً ، لئلاّ ينتفعوا به . فإن كانوا لا يستحلّون أكل الميتة لم يطلب التّحريق في هذه الحالة وإن كان جائزاً . والأظهر في المذهب طلب تحريقه مطلقاً ، سواء استحلّوا أكل الميتة أم لا ، لاحتمال أكلهم له حال الضّرورة . وقيل : التّحريق واجب ، ورجح . وقال اللّخميّ : إن كانوا يرجعون إليه قبل فساده وجب التّحريق ، وإلاّ لم يجب ؛ لأنّ المقصود عدم انتفاعهم به ، وقد حصل بالإحراق .

34 - وقال الشّافعيّة والحنابلة وعامّة أهل العلم ، منهم الأوزاعيّ واللّيث : لا يجوز في غير حال الحرب عقر الدّوابّ وإحراق النّحل وبيوته لمغايظة الكفّار والإفساد عليهم ، سواء خفنا أخذهم لها أو لم نخف . وذلك بخلاف حال الحرب حيث يجوز قتل المشركين ورميهم بالنّار ، فيجوز إتلاف البهائم ؛ لأنّه يتوصّل بإتلاف البهائم إلى قتل الأعداء . واستدلّوا بقوله تعالى : { وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد } . ولأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال في وصيّته ليزيد بن أبي سفيان ، حين بعثه أميراً : يا يزيد لا تقتل صبيّاً ولا امرأةً ولا هرماً ، ولا تخرّبنّ عامراً ، ولا تعقرنّ شجراً مثمراً ، ولا دابّةً عجماء ، ولا شاةً إلاّ لمأكلة ، ولا تحرّقن نحلاً ولا تغرقنّه ، ولا تغلل ولا تجبن ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدّوابّ صبراً ولأنّه حيوان ذو حرمة فلم يجز قتله لغيظ المشركين

ما يحرق للغالّ وما لا يحرق

35 - الغالّ هو الّذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، فلا يطلع الإمام عليه ، ولا يضمّه إلى الغنيمة . وقد اختلف الفقهاء في تحريق مال الغالّ للغنيمة ، فقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة واللّيث : لا يحرق ماله . واستدلّوا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعدم تحريقه فعن ابن عمر قال : « جاء رجل بزمام من شعر ، فقال : يا رسول اللّه هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة ، فقال : سمعت بلالاً نادى ثلاثاً ؟ قال : نعم . قال : فما منعك أن تجيء به ؟ فاعتذر . فقال ؛ كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك » أخرجه أبو داود . ولأنّ إحراق المتاع إضاعة له ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وقال بإحراق مال الغالّ الحنابلة وفقهاء الشّام ، منهم مكحول والأوزاعيّ والوليد بن هشام . وقد أتي سعيد بن عبد الملك بغالّ فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه قال يزيد بن يزيد بن جابر : السّنّة في الّذي يغلّ أن يحرق رحله . رواهما سعيد في سننه . وقد استدلّوا بما روى صالح بن محمّد بن زائدة ، قال : « دخلت مع مسلمة أرض الرّوم ، فأتي برجل قد غلّ ، فسأل سالماً عنه ، فقال : سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه . قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً . فسأل سالماً عنه ، فقال : بعه وتصدّق بثمنه » . وروى عبد اللّه بن عمرو « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ » .

36 - قال أحمد : إن لم يحرق رحله حتّى استحدث متاعاً آخر وكذلك إن رجع إلى بلده ، أحرق ما كان معه حال الغلول .

37 - ويشترط في الغالّ أن يكون بالغاً عاقلاً حرّاً ، فتوقع عقوبة الإحراق في متاع الرّجل والخنثى والمرأة والذّمّيّ ؛ لأنّهم من أهل العقوبة . وإن كان الغالّ صبيّاً لم يحرق متاعه عند الحنابلة والأوزاعيّ ؛ لأنّ الإحراق عقوبة ، والصّبيّ ليس من أهل العقوبة .

38 - ويسقط إحراق متاع الغالّ إذا مات قبل إحراق رحله ، نصّ عليه أحمد ، لأنّها عقوبة فتسقط بالموت ، كالحدود ؛ ولأنّه بالموت انتقل المتاع إلى ورثته ، فإحراقه يكون عقوبةً لغير الجاني . وإن انتقل ملكه إلى غير الغالّ بالبيع أو الهبة احتمل عدم تحريقه ، لصيرورته لغيره فأشبه انتقاله للوارث بالموت ، واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق ، لأنّه تعلّق به حقّ سابق على البيع والهبة ، فوجب تقديمه كالقصاص في حقّ الجاني .

39 - وما لا يحرق للغالّ بالاتّفاق المصحف ، والحيوان أمّا المصحف فلا يحرق ، لحرمته ، ولما تقدّم من قول سالم فيه . وإن كان مع الغالّ شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي ألاّ تحرق أيضاً ؛ لأنّ نفع ذلك يعود إلى الدّين ، وليس المقصود الإضرار به في دينه ، وإنّما القصد الإضرار به في شيء من دنياه ، ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدّق به لقول سالم فيه .

40 - أمّا الحيوان فلا يحرق ولنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعذّب بالنّار إلاّ ربّها ؛ ولحرمة الحيوان في نفسه ؛ ولأنّه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه . 41 - ولا تحرق ثياب الغالّ الّتي عليه ؛ لأنّه لا يجوز تركه عرياناً ، ولا سلاحه ؛ ؛ لأنّه يحتاج للقتال ، ولا نفقته ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يحرق عادةً وللاحتياج إلى الإنفاق . 42 - ولا يحرق المال المغلول ؛ لأنّ ما غلّ من غنيمة المسلمين ، والقصد الإضرار بالغالّ في ماله وقيل لأحمد : أيّ شيء يصنع بالمال الّذي أصابه في الغلول ؟ قال : يرفع إلى الغنم . 43 - واختلف في آلة الدّابّة ، فنصّ أحمد على أنّها لا تحرق ؛ لأنّه يحتاج إليها للانتفاع بها ، ولأنّها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه ؛ ولأنّها ملبوس حيوان ، فلا يحرق ، كثياب الغالّ . وقال الأوزاعيّ : يحرق سرجه وإكافه .

ملكيّة ما لم يحرق :

44 - جميع ما ذكر ممّا لم يحرق ، وكذلك ما بقي بعد الإحراق . من حديد أو غيره وهو لصاحبه ؛ لأنّ ملكه كان ثابتاً عليه ، ولم يوجد ما يزيله ، وإنّما عوقب الغالّ بإحراق متاعه ، فما لم يحرق يبقى على ما كان عليه .

إحرام الفصل الأوّل

التّعريف

1 - من معاني الإحرام في اللّغة : الإهلال بحجّ أو عمرة ومباشرة أسبابها ، والدّخول في الحرمة . يقال : أحرم الرّجل إذا دخل في الشّهر الحرام ، وأحرم : دخل في الحرم ، ومنه حرم مكّة ، وحرم المدينة ، وأحرم : دخل في حرمة عهد أو ميثاق . والحرم - بضمّ الحاء وسكون الرّاء - : الإحرام بالحجّ أيضاً ، وبالكسر : الرّجل المحرم ، يقال أنت حلّ ، وأنت حرم . والإحرام في اصطلاح الفقهاء يراد به عند الإطلاق الإحرام بالحجّ ، أو العمرة . وقد يطلق على الدّخول في الصّلاة ويستعملون مادّته مقرونةً بالتّكبيرة الأولى ، فيقولون : « تكبيرة الإحرام " ويسمّونها " التّحريمة " وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة ) . ويطلق فقهاء الشّافعيّة الإحرام على الدّخول في النّسك ، وبه فسّروا قول النّوويّ في المنهاج : « باب الإحرام » . تعريف الحنفيّة للإحرام :

2 - الإحرام عند الحنفيّة هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة . والمراد بالدّخول في حرمات : التزام الحرمات ، والمراد بالذّكر التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى . والمراد بالخصوصيّة : ما يقوم مقامها من سوق الهدي ، أو تقليد البدن . تعريف المذاهب الثّلاثة للإحرام :

3 - أمّا تعريف الإحرام عند المذاهب الثّلاثة : المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة فهو : نيّة الدّخول في حرمات الحجّ والعمرة .

حكم الإحرام :

4 - أجمع العلماء على أنّ الإحرام من فرائض النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » متّفق عليه لكن اختلفوا فيه أمن الأركان هو أم من الشّروط . فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإحرام ركن للنّسك . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإحرام شرط من شروط صحّة الحجّ ، غير أنّه عند الحنفيّة شرط من وجه ، ركن من وجه أو " هو شرط ابتداءً ، وله حكم الرّكن انتهاءً » . ويتفرّع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفيّة وكونه يشبه الرّكن فروع . منها :

1 - أجاز الحنفيّة الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، مع الكراهة ، لكون الإحرام شرطاً عندهم ، فجاز تقديمه على الوقت .

2 - لو أحرم المتمتّع بالعمرة قبل أشهر الحجّ ، وأتى بأفعالها ، أو بركنها ، أو أكثر الرّكن - يعني أربعة أشواط من الطّواف - في أشهر الحجّ يكون متمتّعاً عند الحنفيّة .

3 - تفرّع على شبه الإحرام بالرّكن عند الحنفيّة أنّه لو أحرم الصّبيّ ، ثمّ بلغ بعدما أحرم ، فإنّه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجّة الإسلام . لكن لو جدّد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام عند الحنفيّة اعتباراً لشبه الرّكن في هذه الصّورة احتياطاً في العبادة .

حكمة تشريع الإحرام :

5 - فرضيّة الإحرام للنّسك لها حكم جليلة ، وأسرار ومقاصد تشريعيّة كثيرة ، أهمّها : استشعار تعظيم اللّه تعالى وتلبية أمره بأداء النّسك الّذي يريده المحرم ، وأنّ صاحبه يريد أن يحقّق به التّعبّد والامتثال للّه تعالى .

شروط الإحرام :

6 - يشترط الفقهاء لصحّة الإحرام : الإسلام والنّيّة . وزاد الحنفيّة ، وهو المرجوح عند المالكيّة ، اشتراط التّلبية أو ما يقوم مقامها .

7 - وقد اتّفقوا على أنّه لا يشترط في النّيّة للنّسك الفرض تعيين أنّه فرض في النّيّة ، ولو أطلق النّيّة ولم يكن قد حجّ حجّة الفرض يقع عنها اتّفاقاً . بخلاف ما لو نوى ، حجّة نفل فالمذهب المعتمد عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّه يقع عمّا نوى . وبهذا قال سفيان الثّوريّ وابن المنذر ، وهو رواية عن الإمام أحمد . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن أحرم بتطوّع أو نذر من لم يحجّ حجّة الإسلام وقع عن حجّة الإسلام . وبهذا قال ابن عمر وأنس . وقالوا : من حجّ عن غيره ولم يكن حجّ عن نفسه ، ردّ ما أخذ ، وكانت الحجّة عن نفسه ، وبهذا قال الأوزاعيّ . استدلّ الحنفيّة ومن معهم : « بأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، فإن كان عليه حجّة الإسلام يقع عنها استحساناً ، في ظاهر المذهب أي إذا أطلق ولم يعيّن » . وجه الاستحسان : « أنّ الظّاهر من حال من عليه حجّة الإسلام أنّه لا يريد بإحرام الحجّ حجّة التّطوّع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض ، فيحمل على حجّة الإسلام ، بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعييناً ، كما في صوم رمضان » . وقالوا في اعتباره عمّا نواه من غير الفرض : « إنّما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النّيّة بدلالة حاله ، والدّلالة لا تعمل مع النّصّ بخلافه » . ويشهد لهم نصّ الحديث المشهور الصّحيح : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبّيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي . قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حجّ عن نفسك ، ثمّ حجّ عن شبرمة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما . وفي رواية : « اجعل هذه عن نفسك . . . » فاستدلّوا بها . وقد صحّح النّوويّ أسانيده ، وتكلّم فيه غيره ، فرجّح إرساله ، ووقفه . واستدلّوا بحديث ابن عبّاس أيضاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا صرورة في الإسلام » أخرجه أحمد وأبو داود واختلف في صحّته كذلك . قال الخطّابيّ في معالم السّنن : « وقد يستدلّ به من يزعم أنّ الصّرورة لا يجوز له أن يحجّ عن غيره . وتقدير الكلام عنده : أنّ الصّرورة إذا شرع في الحجّ عن غيره صار الحجّ عنه ، وانقلب عن فرضه ، ليحصل معنى النّفي ، فلا يكون صرورةً ، وهذا مذهب الأوزاعيّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق . . . » . واستدلّوا من المعقول : « أنّ النّفل والنّذر أضعف من حجّة الإسلام ، فلا يجوز تقديمهما عليها ، كحجّ غيره على حجّه » . وبقياس النّفل والنّذر على من أحرم عن غيره وعليه فرضه .

التّلبية :

8 - التّلبية لغةً إجابة المنادي . والمراد بالتّلبية هنا : قول المحرم : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ... » ، أي إجابتي لك يا ربّ . ولم يستعمل " لبّيك " إلاّ على لفظ التّثنية . والمراد بها التّكثير . والمعنى : أجبتك إجابةً بعد إجابة ، إلى ما لا نهاية . حكم التّلبية :

9 - التّلبية شرط في الإحرام عند أبي حنيفة ومحمّد وابن حبيب من المالكيّة ، لا يصحّ الإحرام بمجرّد النّيّة ، حتّى يقرنها بالتّلبية أو ما يقوم مقامها ممّا يدلّ على التّعظيم من ذكر ودعاء أو سوق الهدي . فإذا نوى النّسك الّذي يريده من حجّ أو عمرة أو هما معاً ولبّى فقد أحرم ، ولزمه كلّ أحكام الإحرام الآتية ، وأن يمضي ، في أداء ما أحرم به . والمعتمد عندهم " أنّه يصير محرماً بالنّيّة لكن عند التّلبية ، كما يصير شارعاً في الصّلاة بالنّيّة ، لكن بشرط التّكبير ، لا بالتّكبير » . وقد نقل هذا المذهب عن عبد اللّه بن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وطاوس ومجاهد ، وعطاء بل ادّعى فيه اتّفاق السّلف . وذهب غيرهم إلى أنّ التّلبية لا تشترط في الإحرام ، فإذا نوى فقد أحرم بمجرّد النّيّة ، ولزمته أحكام الإحرام الآتية ، والمضيّ في أداء ما أحرم به . ثمّ اختلفوا : فقال المالكيّة : هي واجبة في الأصل ، والسّنّة قرنها بالإحرام . ويلزم الدّم بطول فصلها عن النّيّة . ولو رجع ولبّى لا يسقط عنه الدّم . وسواء أكان التّرك أو طول الفصل عمداً أم نسياناً . وذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو منقول عن أبي يوسف - إلى أنّ التّلبية سنّة في الإحرام مطلقاً .

المقدار الواجب من لفظ التّلبية :

10 - الصّيغة الّتي أوردها الفقهاء للتّلبية : هي : « لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك . لا شريك لك » . هذه الصّبغة الّتي لزمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، ولم يزد عليها والّذي يحصل به أداء التّلبية في الإحرام عند الحنفيّة هو ما يحصل به التّعظيم . فإنّ المشروط على الحقيقة عند الحنفيّة أن تقترن النّيّة " بذكر يقصد به التّعظيم ، كتسبيح ، وتهليل " ولو مشوباً بالدّعاء » .

النّطق بالتّلبية :

11 - يشترط لأداء التّلبية أن تلفظ باللّسان ، فلو ذكرها بقلبه لم يعتدّ بها عند من يقول إنّها شرط ، ومن يقول إنّها واجب ، ومن يقول إنّها سنّة . وتفرّع على ذلك عند الحنفيّة فرعان :

12 - الفرع الأوّل : لو كان لا يحسن العربيّة ، فنطق بالتّلبية بغير العربيّة ، أجزأه اتّفاقاً . أمّا لو كان يحسن العربيّة ، فنطق بها بغير العربيّة ، فلا يجزئه عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة في ظاهر المذهب . ودليلهم أنّه ذكر مشروع ، فلا يشرع بغير العربيّة ، كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة . ودليل الحنفيّة أنّه ذكر مقصود به التّعظيم ، فإذا حصل هذا المقصود أجزأه ، ولو بغير العربيّة .

13 - الفرع الثّاني في الأخرس : الأصحّ أنّه عند الحنفيّة يستحبّ له تحريك لسانه بالتّلبية مع النّيّة ، ولا يجب . وقيل : يجب تحريك لسانه ، فإنّه نصّ الإمام محمّد على أنّه شرط . وعلى هذا " فينبغي " ألاّ يلزمه في الحجّ بالأولى ، فإنّ باب الحجّ أوسع ، مع أنّ القراءة فرض قطعيّ متّفق عليه ، والتّلبية أمر ظنّيّ مختلف فيه .

وقت التّلبية :

14 - الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة أن يلبّي بنيّة الحجّ أو العمرة أو نيّتهما معاً عقب صلاته ركعتين سنّة الإحرام ، وبعد نيّة النّسك . وإن لبّى بعدما استوت به راحلته أو ركوبته جاز ، إلى أن يبلغ نهاية الميقات ، فإذا جاوز الميقات ولم يلبّ بنيّة النّسك صار مجاوزاً للميقات بغير إحرام عند الحنفيّة ، ولزمه ما يلزم ذاك عندهم . وعند الجمهور يستحبّ البدء بالتّلبية إذا ركب راحلته ، واستوت به ، لكن يلزمه الدّم عند المالكيّة إن تركها أو أخّرها حتّى طال الفصل بين الإحرام والتّلبية كما تقدّم ( ف 9 ) . ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة لقولهم إنّ التّلبية سنّة .

ما يقوم مقام التّلبية :

15 - يقوم مقام التّلبية عند الحنفيّة لصحّة الإحرام أمران : الأوّل : كلّ ذكر فيه تعظيم للّه تعالى ، كالتّسبيح ، والتّحميد ، والتّكبير ، ولو بغير اللّغة العربيّة ، كما سبق بيانه ( ف 10 ) الثّاني : تقليد الهدي وسوقه والتّوجّه معه . والهدي يشمل الإبل والبقر والغنم . لكن يستثنى من التّقليد الغنم ، لعدم سنّيّة تقليد الغنم عند الحنفيّة . ( ر : هدي ) والتّقليد هو أن يربط في عنق البدنة أو البقرة علامةً على أنّه هدي .

شروط إقامة تقليد الهدي وسوقه مقام التّلبية

16 - يشترط :

1 - النّيّة .

2 - سوق البدنة والتّوجّه معها .

3 - يشترط - إن بعث بها ولم يتوجّه معها - أن يدركها قبل الميقات ويسوقها ، إلاّ إذا كان بعثها لنسك متعة أو قران ، وكان التّقليد في أشهر الحجّ ، فإنّه يصير محرماً إذا توجّه بنيّة الإحرام وإن لم يلحقها ، استحساناً .

الفصل الثّاني

حالات الإحرام من حيث إبهام النّيّة وإطلاقها

إبهام الإحرام

تعريفه :

17 - هو أن ينوي مطلق نسك من غير تعيين ، كأن يقول : أحرمت للّه ، ثمّ يلبّي ، ولا يعيّن حجّاً أو عمرةً ، أو يقول : نويت الإحرام للّه تعالى ، لبّيك اللّهمّ . . ، أو ينوي الدّخول في حرمات نسك ، ولم يعيّن شيئاً . فهذا الإحرام صحيح باتّفاق المذاهب . ويترتّب عليه كلّ أحكام الإحرام ، وعليه اجتناب جميع محظوراته ، كالإحرام المعيّن ويسمّى هذا إحراماً مبهماً ، ويسمّونه أيضاً إحراماً مطلقاً .

تعيين النّسك :

18 - ثمّ على هذا المحرم التّعيين قبل أن يشرع في أفعال أحدهما ، وله أن يجعله للعمرة ، أو للحجّ ، أو لهما معاً حسبما يشاء . وترجع الأفضليّة فيما يختاره ويعيّنه إلى خلاف المذاهب في أيّ أوجه الإحرام أفضل : القران ، أو التّمتّع ، أو الإفراد ، وإلى حكم الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، إن وقع هذا الإحرام قبل أشهر الحجّ ، وأراد التّعيين قبلها . واختلفوا في كيفيّة التّعيين . فقال الحنفيّة : إن عيّن ما يريده قبل الطّواف فالعبرة لهذا التّعيين ، وإن لم يعيّن ثمّ طاف بالبيت للعمرة ، أو مطلقاً بغير تعيين ولو شوطاً ، جعل إحرامه للعمرة ، فيتمّ مناسك العمرة ، ثمّ يحرم بالحجّ ويصير متمتّعاً . وعلّة جعله للعمرة " أنّ الطّواف ركن في العمرة ، وطواف القدوم في الحجّ ليس بركن ، بل هو سنّة ، فإيقاعه عن الرّكن أولى ، وتتعيّن العمرة بفعله كما تتعيّن بقصده » . أمّا إن لم يعيّن ، ولم يطف بالبيت ، بل وقف بعرفة قبل أن يطوف ، فينصرف إحرامه للحجّ . وإن لم يقصد الحجّ في وقوفه ، فإنّه ينصرف إلى الحجّ شرعاً ، وعليه أن يتمّم مناسك الحجّ . هذا معتمد مذهب الحنفيّة . ومذهب المالكيّة ، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد ، أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بعد التّعيين ، فإن طاف قبل أن يصرف إحرامه لشيء - سواء أكان أحرم في أشهر الحجّ أم لا - وجب صرفه للحجّ مفرداً ، ويكون هذا الطّواف الواقع قبل الصّرف والتّعيين طواف القدوم ، وهو ليس ركناً من أركان الحجّ فلا يضرّ وقوعه قبل الصّرف . ولا يصحّ صرف ذلك الإحرام لعمرة بعد الطّواف ؛ لأنّ الطّواف ركن منها ، وقد وقع قبل تعيينها . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيشترطون التّعيين قبل الشّروع بأيّ عمل من المناسك . فلو عمل شيئاً من أركان الحجّ أو العمرة قبل التّعيين ، لم يجزئه ، ولم يصحّ فعله .

الإحرام بإحرام الغير

19 - هو أن ينوي المحرم في إحرامه مثل ما أحرم به فلان ، بأن يكون قاصداً مرافقته ، أو الاقتداء به لعلمه وفضله ، فيقول : اللّهمّ إنّي أهلّ أو أحرم أو أنوي مثل ما أهلّ أو نوى فلان ، ويلبّي . فهذا الإحرام صحيح ، وينعقد على مثل ما أحرم به ذلك الشّخص عند الجمهور وظاهر مذهب المالكيّة . ودليلهم حديث عليّ رضي الله عنه « أنّه قدم من اليمن ووافى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : بم أهللت ؟ قال : بما أهلّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : لولا أنّ معي الهدي لأحللت » . زاد في رواية : قال : « فأهد وأمكث حراماً كما أنت » .

الاشتراط في الإحرام

20 - الاشتراط في الإحرام أن يقول عند إحرامه : « إن حبسني حابس ، فمحلّي حيث حبستني » .

21 - ذهب الشّافعيّة إلى صحّة الاشتراط ، وأنّه يفيد إباحة التّحلّل من الإحرام عند وجود الحابس كالمرض ، فإذا لم يشترط لم يجز له التّحلّل ثمّ إن اشترط في التّحلّل أن يكون مع الهدي وجب الهدي ، وإن لم يشترط فلا هدي عليه . على تفاصيل تجدها في بحث الإحصار . وتوسّع الحنابلة فقالوا : يستحبّ لمن أحرم بنسك حجّ أو عمرة أن يشترط عند إحرامه . ويفيد هذا الشّرط عندهم شيئين : أحدهما : إذا عاقه عدوّ أو مرض أو غيرهما يجوز له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى أحلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم ، سواء أكان المانع عدوّاً ، أو مرضاً ، أو غيرهما . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم صحّة الاشتراط ، وعدم إفادته للتّحلّل عند حصول المانع له ، بل يأخذ حاله حكم ذلك المانع ، على ما هو مقرّر في مبحث الإحصار ، استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزّبير ، فقالت : يا رسول اللّه إنّي أريد الحجّ وأنا شاكية ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني » . متّفق عليه . واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وفي المسألة تفصيل موطنه مصطلح ( إحصار ) .

إضافة الإحرام إلى الإحرام

أوّلاً : إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة :

22 - وهو أن يحرم بالعمرة أوّلاً ، ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف لها ، أو بعدما طاف قبل أن يتحلّل منها . وتتنوّع صور إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة بحسب حال إضافته ، وبحسب حال المحرم ، وتأخذ كلّ صورة حكمها .

23 - وللحنفيّة تفصيل خاصّ في هذا ، لقولهم بكراهة القران للمكّيّ ، وأنّه إن فعله جاز وأساء ، وعليه دم جبر لإساءته هذه . كما أنّ للمذاهب الأخرى تفصيلاً بحسب آرائهم في مسائل من الإحرام وأوجه الإحرام . والتّفصيل عند الحنفيّة : أنّ المحرم إمّا أن يكون مكّيّاً أو آفاقيّاً . وأمّا بالنّسبة لحال إضافة الإحرام بالحجّ إلى العمرة فعلى وجوه .

24 - الوجه الأوّل : أن يدخل الحجّ على العمرة قبل أن يطوف للعمرة : أ - إن كان آفاقيّاً صحّ ذلك ، بلا كراهة ، وكان قارناً ، باتّفاق المذاهب . بل هو مستحبّ ، على ما صرّح به الحنفيّة ، لحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، على ما حقّقه ابن حزم وغيره ، وتبعه النّوويّ وغيره . وممّا يدلّ على جواز ذلك « حديث عائشة في حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه قولها : وكنت ممّن أهلّ بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكّة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهّلي بالحجّ . . . » . متّفق عليه . وعلّل المالكيّة صحّة إرداف الحجّ على العمرة بقولهم : « لقوّته وضعفها » .

ب - وإن كان مكّيّاً ( أو ميقاتيّاً ) فترتفض عمرته اتّفاقاً عند الحنفيّة ، وعليه دم الرّفض ؛ لأنّ الجمع بين النّسكين غير مشروع للمكّيّ عندهم ، " والنّزوع عن المعصية لازم " ويرفض العمرة هنا ؛ لأنّها أقلّ عملاً ، والحجّ أكثر عملاً . فكانت العمرة أخفّ مؤنةً من الحجّة ، فكان رفضها أيسر ، ولأنّ المعصية حصلت بسببها ؛ لأنّها هي الّتي دخلت في وقت الحجّ ، فكانت أولى بالرّفض . ويمضي حجّته . وعليه دم لرفض عمرته . وعليه قضاء العمرة » . أمّا غير الحنفيّة فحكم الآفاقيّ والمكّيّ عندهم سواء في صحّة الإحرامين وصيرورته قارناً ، تبعاً لمذهبهم في تجويز القران للمكّيّ على تفصيل يأتي . ( ف 30 ) لكن شرط المالكيّة والشّافعيّة أن تكون العمرة صحيحةً . وهذا شرط لصحّة الإرداف في جميع صوره عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة شرط لصحّة القران فقط وزاد الشّافعيّة اشتراط أن يكون إدخال الحجّ عليها في أشهر الحجّ .

25 - الوجه الثّاني : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن طاف شيئاً قليلاً ، على ألاّ يتجاوز أقلّ أشواط طواف العمرة ، أي ثلاثة أشواط فما دون ذلك . فمذهب الحنفيّة في ذلك : أ - إذا كان آفاقيّاً كان قارناً .

ب - وإن كان مكّيّاً ( أي ميقاتيّاً ) : وجب عليه رفض أحد النّسكين ، على التّحقيق في عبارات فقهاء الحنفيّة ، وإنّما اختلفوا في أيّ الرّفضين أولى : قال أبو حنيفة : يرفض الحجّ . وعليه لرفضه دم . وعليه حجّة وعمرة ؛ لأنّه مثل فائت الحجّ ، وحكم فائت الحجّ أنّه يتحلّل بعمرة ، ثمّ يأتي بالحجّ من قابل حتّى لو حجّ في سنته سقطت العمرة ؛ لأنّه حينئذ ليس في معنى فائت الحجّ ، بل كالمحصر ، إذا تحلّل ثمّ حجّ من تلك السّنة ، فإنّه حينئذ لا تجب عليه عمرة ، بخلاف ما إذا تحوّلت السّنة ، فإنّه تجب عليه العمرة مع حجّته . وقال أبو يوسف ومحمّد : رفض العمرة أحبّ إلينا ، ويقضيها دون عمرة أخرى ، وعليه دم للرّفض . وكذلك هو الحكم عند أبي حنيفة لو اختار هذا المحرم رفض العمرة . استدلّ أبو حنيفة على استحباب رفض الحجّ بأنّ " إحرام العمرة قد تأكّد بأداء شيء من أعمالها ، وإحرام الحجّ لم يتأكّد ، ورفض غير المتأكّد أيسر . ولأنّ في رفض العمرة - والحالة هذه - إبطال العمل ، وفي رفض الحجّ امتناع عنه " والامتناع أولى من الإبطال ، واستدلّ الصّاحبان على أنّ رفض العمرة أولى : « بأنّها أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً ، وأيسر قضاءً ، لكونها غير مؤقّتة » . وقال المالكيّة والحنابلة : يصحّ هذا الإرداف . ويصير قارناً ، ويتابع على ذلك . وتندرج العمرة في الحجّ . أمّا الشّافعيّة - وهو قول أشهب من المالكيّة - فقالوا : يصحّ إدخال الحجّة على العمرة قبل الشّروع في الطّواف ، فلو شرع في الطّواف ولو بخطوة فإنّه لا يصحّ إحرامه بالحجّ . واستدلّوا على ذلك : بأنّه " لاتّصال إحرامها بمقصوده ، وهو أعظم أفعالها ، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها » . لكن الشّافعيّة قرّروا أنّه " لو استلم الحجر بنيّة الطّواف فالأوجه جواز الإدخال ، إذ الاستلام مقدّمة الطّواف لا بعضه » .

26 - الوجه الثّالث : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن يطوف أكثر أشواط طواف العمرة . فهذا حكمه عند الحنفيّة حكم ما لو أكمل الطّواف الآتي في الوجه الرّابع التّالي ؛ لأنّ للأكثر حكم الكلّ عندهم . وعند الجمهور حكمه حكم الوجه الثّاني السّابق .


اكتب معهد الماهر
أعلى