57 - أوّلاً : لو وضع القباء ونحوه عليه من غير لبس أكمامه فهو محظور كاللّبس ، عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبسه للمحرم . رواه ابن المنذر ، ورواه النّجاد عن عليّ ، ولأنّه عادة لبسه كالقميص . وفصّل الحنفيّة فقالوا : لو ألقى القباء أو العباء ونحوهما على منكبيه من غير إدخال يديه أو إحداهما في كمّيه ولم يزرّه جاز مع الكراهة ، ولا فداء عليه ، وهو قول الخرقيّ من الحنابلة فإن زرّه أو أدخل يديه أو إحداهما في كمّيه فهو محظور ، حكمه حكم اللّبس في الجزاء . ووجهه : أنّ القباء لا يحيط بالبدن ، فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه ، إذا لم يدخل يديه كمّيه ، كالقميص يتّشح به . 58 - ثانياً : من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به ، ولا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة . وفصّل الحنفيّة : فأجازوا لبس السّراويل إذا كان غير قابل لأن يشقّ ويؤتزر به ، وإلاّ يفتق ما حول السّراويل ما خلا موضع التّكّة ويتّزر به . ولو لبسه كما هو فعليه دم ، إلاّ إذا كان ضيّقاً غير قابل لذلك فيكون عليه فدية يتخيّر فيها . وعند المالكيّة قولان : قول بجواز لبس السّراويل إذا عدم الإزار ، ويفتدي ، وقول : لا يجوز ولو عدم الإزار ، وهو المعتمد .
لبس الخفّين ونحوهما :
59 - ثالثاً : من لم يجد النّعلين يقطع الخفّين أسفل من الكعبين ويلبسهما ، كما نصّ الحديث . وهو قول المذاهب الثّلاثة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وقول عروة بن الزّبير والثّوريّ وإسحاق بن راهويه وابن المنذر ، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب ، وعبد اللّه بن عمر ، والنّخعيّ . وقال الإمام أحمد : وهو المعتمد في المذهب : لا يقطع الخفّين ، ويلبسهما كما هما . وهو قول عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح ، بل قال الحنابلة : « حرم قطعهما " على المحرم . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر السّابق في محظورات الإحرام . واستدلّ الحنابلة بحديث ابن عبّاس ، وقالوا : « إنّ زيادة القطع - أي في حديث ابن عمر - اختلف فيها ، فإن صحّت فهي بالمدينة ، لرواية أحمد عنه : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر " فذكره ، وخبر ابن عبّاس بعرفات ، فلو كان القطع واجباً لبيّنه للجمع العظيم الّذي لم يحضر أكثرهم ذلك بالمدينة . وقد فسّر الجمهور الكعب الّذي يقطع الخفّ أسفل منه بأنّهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم . وفسّره الحنفيّة بالمفصل الّذي في وسط القدم عند معقد الشّراك . ووجهه أنّه : « لمّا كان الكعب يطلق عليه وعلى النّاتئ حمل عليه احتياطاً » . 60 - رابعاً : ألحق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالخفّين كلّ ما ستر شيئاً من القدمين ستر إحاطة ، فلم يجيزوا لبس الخفّين المقطوعين أسفل من الكعبين إلاّ عند فقد النّعلين . ولو وجد النّعلين لم يجز له لبسهما ، ووجب عليه خلعهما إن كان قد لبسهما . وإن لبسهما لعذر كالمرض لم يأثم وعليه الفداء . وأمّا الحنفيّة فإنّهم قالوا : كلّ ما كان غير ساتر للكعبين ، اللّذين في ظاهر القدمين فهو جائز للمحرم .
تقلّد السّلاح :
61 - خامساً : حظر المالكيّة والحنابلة على المحرم تقلّد السّيف بدون حاجة ، ومثله الأسلحة المعاصرة . وأوجب عليه المالكيّة الفداء إذا تقلّده لغير حاجة ، وقالوا : هذا إذا كانت علاقته غير عريضة ، ولا متعدّدةً ، وإلاّ فالفدية لازمة على كلّ حال ، لكن لا يأثم في حال العذر . وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة تقلّد السّيف مطلقاً ، لم يقيّدوه بالحاجة ، وكأنّهم لاحظوا أنّه ليس من اللّبس المعتاد المحظور على المحرم .
ستر الرّأس والاستظلال :
62 - سادساً : اتّفق العلماء على تحريم ستر المحرم رأسه أو بعضه ، أخذاً من تحريم لبس العمائم والبرانس ثمّ اختلفوا في ضابط هذا السّتر . فعند الحنفيّة والحنابلة يحرم ستره بما يقصد به التّغطية عادةً . وعند المالكيّة يحرم ستر المحرم رأسه بكلّ ما يعدّ ساتراً مطلقاً . وقريب منهم مذهب الشّافعيّة ، غير أنّهم قالوا : يحرم ما يعدّ ساتراً عرفاً ، فإن لم يكن ساتراً عرفاً فيحرم إن قصد به السّتر . يحرم ستر بعض الرّأس كذلك بما يعدّ ساتراً ، أو يقصد به السّتر ، على الخلاف الّذي ذكرناه . فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة ، ولا سير ، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به . وقد ضبطه المالكيّة بما يبلغ مساحة درهم فأكثر . وجعل الحنفيّة فيما كان أقلّ من ربع الرّأس الكراهة وصدقةً بشرط الدّوام الّذي سيأتي . واتّفقوا على جواز نحو خيط ، ويحرم عند المالكيّة وضع اليد على الرّأس ، لأنّها ساتر مطلقاً ، وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها ستر الرّأس ، وإلاّ فلا . ولا يحرم عند الحنفيّة والحنابلة . 63 - وأمّا وضع حمل على الرّأس : فيحرم عند الحنفيّة والحنابلة إن كان ممّا يقصد به التّغطية بحسب العادة ، كما لو حمل على رأسه ثياباً ، فإنّه يكون تغطيةً ، وإن كان ممّا لا يقصد به تغطية الرّأس عادةً لا يحرم ، كحمل طبق أو قفّة ، أو طاسة قصد بها السّتر ؛ لأنّها ليست ممّا يقصد به السّتر غالباً ، فصار كوضع اليد . وهذا متّفق مع الشّافعيّة ، لكن عند الشّافعيّة إذا حمل ما لا يعتبر ساتراً كالقفّة وقصد به السّتر حرم ولزمه الفداء . وأمّا المالكيّة فقالوا : يجوز للمحرم أن يحمل على رأسه ما لا بدّ منه من خرجه وجرابه ، وغيره ، والحال أنّه لا يجد من يحمل خرجه مثلاً لا بأجرة ولا بغيرها . فإن حمل لغيره أو للتّجارة ، فالفدية ، وقال أشهب : إلاّ أن يكون عيشه ذلك . أي إلاّ أن يكون ما ذكر من الحمل للغير أو التّجارة لعيشه . وهو معتمد في المذهب المالكيّ . 64 - والتّظلّل بما لا يلامس الرّأس ، وهو ثابت في أصل تابع له ، جائز اتّفاقاً ، كسقف الخيمة ، والبيت ، من داخلهما ، أو التّظلّل بظلّهما من الخارج ، ومثل مظلّة المحمل إذا كانت ثابتةً عليه من الأصل . وعلى ذلك يجوز ركوب السّيّارات المسقفة اتّفاقاً ؛ لأنّ سقوفها من أصل صناعتها ، فصارت كالبيت والخيمة . وإن لم يكن المظلّ ثابتاً في أصل يتبعه فجائز كذلك مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وقول عند الحنابلة . وقال المالكيّة : لا يجوز التّظلّل بما لا يثبت في المحمل . ونحو هذا قول عند الحنابلة ، واختاره الخرقيّ ، وضبطه عندهم في هذا القول : « أنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً ، فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه " وفي التّظلّل بنحو ثوب يجعل على عصاً أو على أعواد ( مظلّة أو بشيء يرفعه على رأسه من الشّمس أو الرّيح ) ، أقوال ثلاثة أقربها الجواز ، للحديث الآتي في دليل الجمهور . ويجوز الاتّقاء بذلك من المطر . وأمّا البناء والخباء ونحوهما فيجوز الاتّقاء به من الحرّ والبرد والمطر . وأجاز التّظلّل بذلك الحنابلة ، وكذا الحنفيّة والشّافعيّة ، لما عرفت من أصل مذهبهم . واستدلّوا بحديث أمّ الحصين قالت : « حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ ، حتّى رمى جمرة العقبة » . أخرجه مسلم . ولأنّ ما حلّ للحلال - كما في المغني - حلّ للمحرم إلاّ ما قام على تحريمه دليل .
ستر الوجه
65 - سابعاً : يحظر على المحرم ستر وجهه عند الحنفيّة والمالكيّة وليس بمحظور عند الشّافعيّة والحنابلة وعزاه النّوويّ في المجموع إلى الجمهور . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » أخرجه مسلم . وجه الاستدلال أنّه : « أفاد أنّ للإحرام أثراً في عدم تغطية الوجه » . واستدلّوا أيضاً من المعقول بأنّ المرأة لا تغطّي وجهها ، مع أنّ في الكشف فتنةً ، فالرّجل بطريق الأولى . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما ورد من الآثار عن بعض الصّحابة بإباحة تغطية المحرم وجهه ، من فعلهم أو قولهم . روي ذلك عن عثمان بن عفّان ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وابن الزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر . وروى القاسم وطاوس والثّوريّ من غير الصّحابة . لبس القفّازين :
66 - ثامناً : يحرم على الرّجل لبس القفّازين ، باتّفاق العلماء ، كما نصّ على ذلك النّوويّ ، وهو كذلك في مصادر المذاهب .
ب - محظورات الإحرام من الملبس في حقّ النّساء :
ينحصر محظور الإحرام من الملبس في حقّ النّساء في أمرين فقط ، هما الوجه واليدان ، نفصّل بحثهما فيما يلي : ستر الوجه :
67 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على المرأة في الإحرام ستر وجهها ، لا خلاف بينهم في ذلك . والدّليل عليه من النّقل ما سبق في الحديث : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . وضابط السّاتر هنا عند المذاهب هو كما مرّ في ستر الرّأس للرّجل . وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرّجال جاز لها ذلك اتّفاقاً بين العلماء ، إلاّ إذا خشيت الفتنة أو ظنّت فإنّه يكون واجباً . والدّليل على هذا الاستثناء حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان الرّكبان يمرّون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه » أخرجه أبو داود . وعن فاطمة بنت المنذر قالت : كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق . أخرجه مالك والحاكم . ومرادها من هذا ستر الوجه بغير النّقاب على معنى التّستّر . وقد اشترط الحنفيّة والشّافعيّة - وهو قول عند الحنابلة - ألاّ يلامس السّاتر الوجه ، كأن تضع على رأسها تحت السّاتر خشبةً أو شيئاً يبعد السّاتر عن ملامسة وجهها " لأنّه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " كما في الهداية . وأجاز لها المالكيّة أن تستر وجهها إذا قصدت السّتر عن أعين النّاس ، بثوب تسدله من فوق رأسها دون ربط ، ولا غرز بإبرة أو نحوها ممّا يغرز به . ومثل ذلك عند الحنابلة ، لكن عبّروا بقولهم : « إن احتاجت إلى ستره " ؛ لأنّ العلّة في السّتر المحرّم أنّه ممّا يربط ، وهذا لا يربط ، كما تشير عبارة المالكيّة .
لبس القفّازين :
68 - يحظر على المرأة المحرمة لبس القفّازين عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة . وذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يجوز لها اللّبس بكفّيها ، كالقفّاز وغيره ، ويقتصر إحرامها على وجهها فقط . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر بزيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . واستدلّ الحنفيّة بحديث ابن عمر قال : « إحرام المرأة في وجهها » ، وبما ورد من آثار عن الصّحابة . وكان سعد بن أبي وقّاص يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات . ورخّص فيه عليّ وعائشة . وهو قول عطاء وسفيان والثّوريّ . يجوز للمحرمة تغطية يدها فقط من غير شدّ ، وأن تدخل يديها في أكمامها وفي قميصها .
المحرّمات المتعلّقة ببدن المحرم
69 - ضابط هذه المحظورات كلّ شيء يرجع إلى تطييب الجسم ، أو إزالة الشّعث ، أو قضاء التّفث . والدّليل على تحريمها قوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تلبسوا شيئاً من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » . أخرجه السّتّة .
فتحرم الأشياء الآتية :
أ - حلق الرّأس .
ب - إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم .
ج - قصّ الظّفر .
د - الأدهان .
هـ - التّطيّب .
تفصيل أحكام هذه المحظورات
حلق الرّأس :
70 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره . وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك . والتّقصير كالحلق في ذلك كلّه . وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه . وكذلك إزالة الشّعر عن الرّأس بأيّ شيء كالنّتف ، والحرق ، أو استعمال النّورة لإزالته . ومثلها أيّ علاج مزيل للشّعر . وذلك كلّه ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما . فإذا فرغا لا يدخلان في الحظر . ويسوغ لهما أن يحلق أحدهما للآخر ، باتّفاق المذاهب على ذلك كلّه . والدّليل هو ما سبق من نصّ الآية ، وهي وإن ذكرت الحلق فإنّ غيره ممّا ذكرنا مثله في التّرفّه ، فيقاس عليه ، ويأخذ حكمه . واختلفوا في حلق المحرم للحلال . فحظره الحنفيّة . وهو قول للمالكيّة . وأجازه المالكيّة في قول آخر والشّافعيّة والحنابلة . استدلّ الثّلاثة بأنّ المحرم حلق شعراً لا حرمة له من حيث الإحرام ، فلا يمنع ، ولا جزاء عليه . واستدلّ الحنفيّة : بأنّ المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره ، لقوله عزّ وجلّ : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . والإنسان لا يحلق رأس نفسه عادةً ، إلاّ أنّه لمّا حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى . وسواء كان المحلوق حلالاً أو حراماً ، لما قلنا . إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم :
71 - يحظر إزالة الشّعر وذلك قياساً على شعر الرّأس ، بجامع التّرفّه في كلّ منهما .
الادّهان :
73 - الدّهن مادّة دسمة من أصل حيوانيّ أو نباتيّ . وقد اختلفوا في الدّهن غير المطيّب : فالجمهور - عدا الإمام أحمد - على تفصيل بينهم - ذهبوا إلى حظر استعمال الدّهن ولو كان غير مطيّب ، كالزّيت ، لما فيه من التّرفّه والتّزيين ، وتحسين الشّعر ، وذلك ينافي الشّأن الّذي يجب أن يكون عليه المحرم من الشّعث والغبار افتقاراً وتذلّلاً للّه تعالى . وقد أوردوا في الدّهن وأشباهه الاستدلال بحديث ابن عمر ، قال : « قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاجّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّعث التّفل » . أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه .
والشّعث : بكسر العين الوصف ، وبفتحها المصدر ، ومعناه انتشار الشّعر وتغبّره لقلّة التّعهّد . والتّفل : من التّفل ، وهو ترك الطّيب حتّى يوجد منه رائحة كريهة . فشمل بذلك ترك الدّهن . فقال الحنفيّة والمالكيّة يحظر على المحرم استعمال الدّهن في رأسه ولحيته وعامّة بدنه لما ذكرنا من عموم الاستدلال فيما سبق . وقال الشّافعيّة يحظر دهن شعر الرّأس للرّجل والمرأة واللّحية وما ألحق بهما كالشّارب والعنفقة فقط ، حتّى لو كان أصلع جاز دهن رأسه ، أمّا إذا كانا محلوقين فيحظر دهنهما ؛ لأنّه يزيّنهما إذا نبتا . ويباح له دهن ما عدا الرّأس واللّحية وما ألحق بهما ، ولا يحظر ، ظاهراً كان أو باطناً ، ويباح سائر شعور بدنه ، ويباح له أكل الدّهن من غير أن يصيب اللّحية أو الشّارب أو العنفقة . واستدلّوا بأنّه ليس في الدّهن طيب ولا تزيين ، فلا يحرم إلاّ فيما ذكرنا ؛ لأنّه به يحصل التّزيين . وإنّ الّذي جاء به الشّرع استعمال الطّيب ، وهذا ليس منه ، فلا يثبت تحريمه . وقال الحنابلة - على المعتمد عندهم من إباحته في كلّ البدن : « إنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولا دليل فيه من نصّ ولا إجماع . ولا يصحّ قياسه على الطّيب ، فإنّ الطّيب يوجب الفدية وإن لم يزل شيئاً ، ويستوي فيه الرّأس وغيره ، والدّهن بخلافه » .
هـ - التّطيّب :
74 - الطّيب عند الحنفيّة : ما له رائحة مستلذّة ويتّخذ منه الطّيب . وعند الشّافعيّة : ما يقصد منه رائحته غالباً ، ولو مع غيره . ويشترط في الطّيب الّذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطّيب ، واتّخاذ الطّيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . وعند الحنابلة : ما تطيب رائحته ويتّخذ للشّمّ . وقسّمه المالكيّة إلى قسمين : مذكّر ومؤنّث . فالمذكّر : هو ما يخفى أثره أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين : كالرّيحان ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعتصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه مسّاً شديداً ، كالمسك ، والكافور ، والزّعفران . فالمؤنّث يكره شمّه ، واستصحابه ، ومكث في المكان الّذي هو فيه ، ويحرم منه . والمذكّر يكره شمّه ، وأمّا مسّه من غير شمّ واستصحابه ومكث بمكان هو فيه فهو جائز . تفصيل أحكام التّطيّب للمحرم : تطييب الثّوب :
75 - وهو أصل في الباب ، للتّنصيص عليه في الحديث السّابق ، ومن هنا قالوا : المحرم ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره ، أو ردائه ، وجميع ثيابه ، وفراشه ، ونعله حتّى لو علق بنعله طيب وجب أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوباً مسّه الورس أو الزّعفران ، أو نحوهما من صبغ له طيب . كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحته ، أو شدّه بطرف ثوبه ، كالمسك ، بخلاف شدّ عود أو صندل . أمّا الثّوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام فلا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة لبسه . ويجوز عند الشّافعيّة والحنابلة تطييب ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام . ولا يضرّ بقاء الرّائحة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن ، لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه .
تطييب البدن :
76 - يحظر على المحرم استعمال الطّيب في بدنه ، وعليه الفدية ، ولو للتّداوي . ولا يخضّب رأسه أو لحيته أو شيئاً من جسمه ، ولا يغسله بما فيه طيب ، ومنه عند الحنفيّة الخطميّ والحنّاء ، على ما مرّ من الخلاف فيهما . 77 - وأكل الطّيب الخالص أو شربه لا يحلّ للمحرم اتّفاقاً بين الأئمّة . أمّا إذا خلط الطّيب بطعام قبل الطّبخ ، وطبخه معه ، فلا شيء عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعام مطبوخ بعد طبخه فإنّه يجوز للمحرم أكله . أمّا إذا خلطه بطعام غير مطبوخ : فإن كان الطّعام أكثر فلا شيء ، ولا فدية إن لم توجد الرّائحة ، وإن وجدت معه الرّائحة الطّيّبة يكره أكله عند الحنفيّة . وإن كان الطّيب أكثر وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر . وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعام خلط بطيب من غير أن يطبخ الطّيب معه فهو محظور في كلّ الصّور ، وفيه الفداء . أمّا إن خلط الطّيب بمشروب ، كماء الورد وغيره ، وجب فيه الجزاء ، قليلاً كان الطّيب أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا خلط الطّيب بغيره من طعام أو شراب ، ولم يظهر له ريح ولا طعم ، فلا حرمة ولا فدية ، وإلاّ فهو حرام وفيه الفدية .
شمّ الطّيب :
78 - شمّ الطّيب دون مسّ يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، ولا جزاء فيه عندهم . أمّا الحنابلة فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب ، ويجب فيه الفداء ، كالمسك والكافور ، ونحوهما ممّا يتطيّب بشمّه .
الصّيد وما يتعلّق به
79 - تعريف الصّيد لغةً : الصّيد لغةً : مصدر بمعنى ، الاصطياد ، والقنص ، وبمعنى المصيد ، وكلّ من المعنيين داخل فيما يحظر بالإحرام . تعريف الصّيد اصطلاحاً :
80 - الصّيد عند الحنفيّة هو الحيوان البرّيّ الممتنع عن أخذه بقوائمه ، أو جناحيه ، المتوحّش في أصل الخلقة . وعند المالكيّة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش في أصل الخلقة . وعند الشّافعيّة والحنابلة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش المأكول اللّحم .
أدلّة تحريم الصّيد :
81 - وقد ثبت تحريم الصّيد على المحرم بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } . وقال عزّ من قائل : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . وكلّ منهما نصّ قاطع في الموضوع . وأمّا السّنّة فمنها حديث أبي قتادة « حين أحرم أصحابه ولم يحرم ، ورأى حمار وحش . وفي الحديث فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثمّ ركبت ، فسقط منّي سوطي ، فقلت لأصحابي - وكانوا محرمين - ناولوني السّوط . فقالوا : واللّه لا نعينك عليه بشيء ، فنزلت ، فتناولته ثمّ ركبت . وفي رواية أخرى : فنزلوا ، فأكلوا من لحمها ، وقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان ، فلمّا أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول اللّه إنّا كنّا أحرمنا ، وقد كان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً ، فنزلنا ، فأكلنا من لحمها ، ثمّ قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ، ؟ فحملنا ما بقي من لحمها . قال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » متّفق عليه . وأمّا الإجماع فقد حكاه النّوويّ وابن قدامة كما ذكر ابن قدامة إجماع أهل العلم على وجوب الجزاء بقتله .
إباحة صيد البحر :
82 - وأمّا صيد البحر : فحلال للحلال وللمحرم بالنّصّ ، والإجماع : أمّا النّصّ فقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والإجماع حكاه النّوويّ وأبو بكر الجصّاص .
أحكام تحريم الصّيد على المحرم :
83 - يشمل تحريم الصّيد على المحرم أموراً نصنّفها فيما يلي : تحريم قتل الصّيد ، لصريح النّصوص الواردة في ذلك . وتحريم إيذاء الصّيد ، أو الاستيلاء عليه . ومن ذلك : كسر قوائم الصّيد ، أو كسر جناحه ، أو شيّ بيضه أو كسره ، أو نتف ريشه ، أو جزّ شعره ، أو تنفير الصّيد ، أو أخذه ، أو دوام إمساكه ، أو التّسبّب في ذلك كلّه أو في شيء منه بدليل الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والآية تفيد تحريم سائر أفعالنا في الصّيد في حال الإحرام » . والدّليل من القياس : « أنّ ما منع من إتلافه لحقّ الغير منع من إتلاف أجزائه ، كالآدميّ ، فإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء . . . » . وللقياس على حظر تنفير صيد الحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » فإذا حرم تنفير صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام .
84 - وتحرم المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه : مثل الدّلالة عليه ، أو الإشارة ، أو إعارة سكّين ، أو مناولة سوط . وكذا يحرم الأمر بقتل الصّيد اتّفاقاً في ذلك . والدّليل عليه حديث أبي قتادة السّابق .
تحريم تملّك الصّيد
85 - يحرم تملّك الصّيد ابتداءً ، بأيّ طريق من طرق التّملّك ، فلا يجوز بيعه ، أو شراؤه ، أو قبوله هبةً ، أو وصيّةً ، أو صدقةً ، أو إقالةً . والدّليل على تحريم ذلك الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . قال في فتح القدير : « أضاف التّحريم إلى العين ، فيكون ساقط التّقوّم في حقّه ، كالخمر . وأنت علمت أنّ إضافة التّحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات » . ويستدلّ أيضاً من السّنّة بحديث الصّعب بن جثّامة « أنّه أهدى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمار وحش ، فردّه عليه ، فلمّا رأى ما في وجهه قال : إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم » . متّفق عليه . ويستدلّ بإجماع العلماء .
تحريم الانتفاع بشيء من الصّيد
86 - يحرم على المحرم أكل لحمه ، وحلبه ، وأكل بيضه ، وشيّه . وذلك لعموم الأدلّة الّتي سبقت في تحريم تملّك الصّيد ؛ ولأنّ الانتفاع فرع من الملك ، فإذا حرّم الملك لم يبق محلّ لأثره . 87 - إذا صاد الحلال صيداً فهل يحلّ للمحرم أكله ؟ في المسألة مذاهب : المذهب الأوّل : لا يحلّ للمحرم الصّيد أصلاً ، سواء أمر به أم لا ، وسواء أعان على صيده أم لا ، وسواء أصاده الحلال له أم لم يصده له . وهذا قول طائفة من أهل العلم ، منهم من الصّحابة : عليّ وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم . وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثّوريّ . المذهب الثّاني : ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله فلا يجوز للمحرم أكله ، فأمّا ما لم يصده من أجل المحرم بل صاده لنفسه أو لحلال آخر فلا يحرم على المحرم أكله . وهذا مذهب الجمهور ، المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة . وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأبي ثور . وقال ابن عبد البرّ : وهو الصّحيح عن عثمان في هذا الباب . إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : ما صيد للمحرم هو ميتة على كلّ أحد ، المحرم المذبوح له وغيره ، وعلى المحرم الجزاء إن علم أنّه صيد لمحرم ولو غيره ، وأكل . وإن لم يعلم وأكل منه فلا جزاء عليه . ووافقهم الحنابلة في لزوم الجزاء ، وفصّلوا فأوجبوه كاملاً إن أكله كلّه ، وقسطه إن أكل بعضه ، لكنّهم لم يجعلوه حراماً إلاّ على من ذبح له . وقال الشّافعيّة - على ما هو الأصحّ الجديد في المذهب - لا جزاء في الأكل . ولم يعمّموا الحرمة على غير من صيد له الصّيد . المذهب الثّالث : يحلّ للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصّيد ، ما لم يأمر به ، أو تكون منه إعانة عليه أو إشارة أو دلالة ، وهو مذهب الحنفيّة . وقال ابن المنذر : « كان عمر بن الخطّاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير يقولون : للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وروي ذلك عن الزّبير بن العوّام ، وبه قال أصحاب الرّأي » . استدلّ أصحاب المذهب الأوّل القائلون بتحريم أكل لحم الصّيد على المحرم مطلقاً بإطلاق الكتاب والسّنّة فيما سبق . واستدلّ الجمهور أصحاب المذهب الثّاني بأنّ ما صاده الحلال يحلّ أكله للمحرم بشرط ألاّ يكون صيد لأجله بأدلّة من السّنّة منها : حديث أبي قتادة السّابق فقد أحلّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحرمين أكل ما صاده الحلال . واستدلّ الجمهور أيضاً بحديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « صيد البرّ لكم حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم . وقد تكلّم في سنده ، لكن رجّح النّوويّ صحّته . واستدلّ أصحاب المذهب الثّالث الحنفيّة ومن معهم - القائلون : يحلّ للمحرم أن يأكل من صيد صاده الحلال ، وذبحه ، ما لم يكن من المحرم دلالة ولا أمر للحلال به ، وإن صاده الحلال لأجل المحرم - بأدلّة كثيرة من السّنّة والآثار . منها حديث أبي قتادة السّابق ، في صيده حمار وحش وهو حلال وأكل منه الصّحابة وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه . وجه دلالة الحديث : « أنّهم لمّا سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحلّه لهم حتّى سألهم عن موانع الحلّ ، أكانت موجودةً أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا إذن » . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التّفحّص عن الموانع ، ليجيب بالحكم عند خلوّه منها . وهذا المعنى كالصّريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعاً ، فيعارض حديث جابر ، ويقدّم عليه ، لقوّة ثبوته .
صيد الحرم :
88 - المراد بالحرم هنا مكّة والمنطقة المحرّمة المحيطة بها . وللحرم أحكام خاصّة ، منها تحريم صيده على الحلال كما يحرم على المحرم أيضاً ، وذلك باتّفاق العلماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . متّفق عليه . فقرّر العلماء من تحريم الصّيد على الحلال في الحرم أحكاماً نحو تحريم الصّيد على المحرم ، وتفرّعت لذلك فروع في المذاهب لا نطيل ببسطها ( ر : حرم . )
ما يستثنى من تحريم قتل الصّيد :
89 - أ - اتّفق على جواز قتل الحيوانات التّالية في الحلّ والحرم ، للمحرم وغيره ، سواء ابتدأت بأذًى أو لا ، ولا جزاء على من قتلها - وهي : الغراب ، والحدأة ، والذّئب ، والحيّة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، لما ورد من الأحاديث في إباحة قتلها : روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » . متّفق عليه . وقد ورد ذكر الغراب في الحديث مطلقاً ، ومقيّداً ، ففسّروه بالغراب الأبقع الّذي يأكل الجيف . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : « اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ من ذلك ، ويقال له : غراب الزّرع » . ا هـ . يعني أنّه لا يدخل في إباحة قتل الصّيد ، بل يحرم صيده . إلاّ أنّ المالكيّة فصلّوا فقالوا : يجوز قتل الفأرة والحيّة والعقرب مطلقاً ، صغيرةً أو كبيرةً ، بدأت بالأذيّة أم لا . وأمّا الغراب والحدأة ففي قتل صغيرهما - وهو ما لم يصل لحدّ الإيذاء - خلاف عند المالكيّة : قول بالجواز نظراً للفظ « غراب " الواقع في الحديث ، فإنّه مطلق يصدق على الكبير والصّغير : وقول بالمنع نظراً للعلّة في جواز القتل ، وهي الإيذاء ، وذلك منتف في الصّغير . وعلى القول بالمنع ، فلا جزاء فيه ، مراعاةً للقول الآخر . ثمّ قرّر المالكيّة شرطاً لجواز قتل ما يقبل التّذكية ، كالغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والذّئب ، وهو أن يكون قتلها بغير نيّة الذّكاة ، بل لدفع شرّها ، فإن قتل بقصد الذّكاة ، فلا يجوز ، وفيه الجزاء . 90 - ب - يجوز قتل كلّ مؤذ بطبعه ممّا لم تنصّ عليه الأحاديث ، مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، وسائر السّباع . بل صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه مستحبّ بإطلاق دون اشتراط شيء . وكذا الحكم عندهم فيما سبق استحباب قتل تلك المؤذيات . وأمّا المالكيّة فعندهم التّفصيل السّابق بالنّسبة للكبار والصّغار ، واشتراط عدم قصد الذّكاة بقتلها . واشترطوا في الطّير الّذي لم ينصّ عليه أن يخاف منه على نفس أو مال ، ولا يندفع إلاّ بقتله . وأمّا الحنفيّة فقالوا : السّباع ونحوها كالبازي والصّقر ، معلّماً وغير معلّم ، صيود لا يحلّ قتلها . إلاّ إذا صالت على المحرم ، فإن صالت جاز له قتلها ولا جزاء عليه . وفي رواية عندهم جواز قتلها مطلقاً . استدلّ الجمهور على تعميم الحكم في كلّ مؤذ بأدلّة : منها : حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقتل المحرم السّبع العادي ، والكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة والغراب . » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه . وقال التّرمذيّ : هذا حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم ، قالوا : « المحرم يقتل السّبع العادي » . واستدلّوا بما ورد في الأحاديث المتّفق عليها من الأمر بقتل " الكلب العقور » . قال الإمام مالك : « إنّ كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، والذّئب ، فهو الكلب العقور » .
91 - ج - ألحق الشّافعيّة والحنابلة بما يقتل في الحرم والإحرام كلّ ما لا يؤكل لحمه .