الهوامّ والحشرات
92 - د - لا تدخل الهوامّ والحشرات في تحريم الصّيد عند أصحاب المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند الحنفيّة : فلأنّها ليست ممتنعةً ، وقد ذكروا في تعريف الصّيد أنّه الممتنع . وعلى ذلك فلا جزاء في قتلها عند الحنفيّة ، لكن لا يحلّ عندهم قتل ما لا يؤذي ، وإن لم يجب فيه الجزاء . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تدخل في الصّيد ، لكونهم اشترطوا فيه أن يكون مأكولاً . وهذه غير مأكولة ، وقد عرفت تفصيل حكمها عندهم في المسألة السّابقة . وأمّا المالكيّة فقالوا : يحظر قتل ما لا يؤذي من الحشرات بالإحرام والحرم ، وفيه الجزاء عندهم . لكن قالوا في الوزغ : لا يجوز للمحرم قتله ، ويجوز للحلال قتله في الحرم ، " إذ لو تركها الحلال بالحرم لكثرت في البيوت وحصل منها الضّرر » .
الجماع ودواعيه :
93 - يحرم على المحرم باتّفاق العلماء وإجماع الأمّة الجماع ودواعيه الفعليّة أو القوليّة وقضاء الشّهوة بأيّ طريق . والجماع أشدّ المحظورات حظراً ؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النّسك . والدّليل على تحريم ذلك النّصّ القرآنيّ : { فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . فسّر الرّفث بأنّه ما قيل عند النّساء من ذكر الجماع وقول الفحش . وثبت ذلك عن ابن عبّاس فتكون الآية دليلاً على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النّصّ ، أي من باب الأولى ؛ لأنّه إذا حرم ما دون الجماع ، كان تحريمه معلوماً بطريق الأولى . وفسّر الرّفث أيضاً بذكر إتيان النّساء ، الرّجال والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم . ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التّابعين . فتدلّ الآية على حرمة الجماع لدخوله في عمومها . كما فسّر بالجماع أيضاً ، ونسب ذلك إلى جماعة من السّلف منهم ابن عبّاس وابن عمر ، فتكون الآية نصّاً فيه .
الفسوق والجدال :
94 - الفسوق : هو الخروج عن الطّاعة . وهو حرام في كلّ حال ، وفي حال الإحرام آكد وأغلظ ، لذلك نصّ عليه في الكتاب الكريم : { ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . وقد اختار جمهور المفسّرين والمحقّقون أنّ المراد به في الآية إتيان معاصي اللّه تعالى . وهذا هو المراد والصّواب ، لما هو معلوم من استعمال القرآن والسّنّة والشّرع لكلمة الفسق بمعنى الخروج عن الطّاعة . والجدال : المخاصمة . وقد قال جمهور المفسّرين المتقدّمين : أن تماري صاحبك حتّى تغضبه . وهذا يقتضي النّهي عن كلّ مساوئ الأخلاق والمعاملات . لكن ما يحتاج إليه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يدخل في حظر الجدال .
الفصل السّادس مكروهات الإحرام
95 - وهي أمور يكون فاعلها مسيئاً ، لكن لا يلزمه جزاء لو فعلها . وفي بيانها تنبيه هامّ ، وإزاحة لما قد يقع من اشتباه .
96 - فمنها غسل الرّأس والجسد واللّحية بالسّدر ونحوه ، عند الحنفيّة ؛ لأنّه يقتل الهوامّ ويليّن الشّعر .
97 - ومشط الرّأس بقوّة ، وحكّه ، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً ، وذلك لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّعر أو نتفه . أمّا لو فعل ذلك برفق فإنّه مباح ، لذلك قالوا : يحكّ ببطون أنامله . قال النّوويّ : « وأمّا حكّ المحرم رأسه فلا أعلم خلافاً في إباحته بل هو جائز » . 98 - والتّزيّن ، صرّح بكراهته الحنفيّة وعبارات غيرهم تدلّ عليه . قال الحنفيّة في الاكتحال بكحل غير مطيّب لقصد الزّينة إنّه مكروه ، فإن اكتحل لا لقصد الزّينة بكحل غير مطيّب بل للتّداوي أو لتقوية الباصرة فمباح . أمّا المالكيّة فالاكتحال بغير مطيّب محظور عندهم ، وفيه الفداء ، إلاّ لضرورة فلا فداء فيه . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة الاكتحال بما لا طيب فيه ، إن لم يكن فيه زينة ، غير مكروه ، كالكحل الأبيض ، وإن كان فيه زينة كالإثمد فإنّه يكره ، لكن لا يلزم فيه فدية . فإن اكتحل بما فيه زينة لحاجة كالرّمد فلا كراهة . أمّا الاكتحال بكحل مطيّب فإنّه محظور اتّفاقاً على الرّجال والنّساء .
ما يباح في الإحرام
99 - الأمور الّتي تباح في الإحرام كلّ ما ليس محظوراً ولا مكروهاً ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة . ونذكر منها ما يلي :
100 - الاغتسال بالماء القراح ، وماء الصّابون ونحوه .
101 - ولبس الخاتم جائز عند الحنفيّة أو الشّافعيّة والحنابلة للرّجال والنّساء . ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل المحرم لبس الخاتم ، وفيه الفداء . وأمّا المرأة : فيجوز لها لبس المحيط لسائر أعضائها ، ما عدا الوجه والكفّين عند الثّلاثة ، وما عدا الوجه فقط عند الحنفيّة . وشدّ الهميان والمنطقة جائز عند الحنفيّة بإطلاق وكذا الشّافعيّة . وقيّد المالكيّة والحنابلة إباحة شدّهما بالحاجة لنفقته .
102 - والنّظر في المرآة مباح عند الحنفيّة والشّافعيّة مطلقاً . وعند الحنابلة جائز لحاجة لا لزينة ، وأمّا المالكيّة فيكره عندهم النّظر في المرآة ، خيفة أن يرى شعثاً فيزيله .
103 - والسّواك نصّ على إباحته الحنفيّة وليس هو محلّ خلاف .
104 - ونزع الظّفر المكسور مباح باتّفاق الأئمّة ، وصرّح الشّافعيّة بألاّ يجاوز القسم المكسور ، وهذا لا يختلف فيه .
105 - والفصد والحجامة بلا نزع شعر جائزة عند فقهاء المذاهب الأربعة . ومثلهما الختان . لكن تحفّظ المالكيّة بالنّسبة للفصد ، فقالوا : يجوز الفصد لحاجة إن لم يعصب العضو المفصود ، وإن لم يكن له حاجة للفصد فهو مكروه ، وإن عصبه ففيه الفدية .
106 - والارتداء والاتّزار بمخيط أو محيط أي أن يجعل الثّوب المخيط أو المحيط رداءً أو إزاراً ، دون لبس . وكذا إلقاؤه على جسمه كلّ ذلك مباح عندهم جميعاً .
107 - وذبح الإبل والبقر والحيوانات الأهليّة مباح وذلك لأنّها لا تدخل في تحريم الصّيد ولا محرّمات الإحرام باتّفاقهم .
الفصل السّابع
في سنن الإحرام
وهي أمور يثاب فاعلها ، ويكون تاركها مسيئاً ولا يلزمه بالتّرك شيء .
وجملة ذلك أربعة :
أوّلاً : الاغتسال :
108 - وهو سنّة عند الأئمّة الأربعة لما ورد فيه من الأحاديث ، كحديث زيد بن ثابت : « أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله واغتسل » . أخرجه التّرمذيّ وحسّنه . وقد اتّفقوا على أنّ هذا الغسل سنّة لكلّ محرم صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، ويطلب أيضاً من المرأة الحائض والنّفساء في حال الحيض والنّفاس . فعن ابن عبّاس مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ النّفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلّها ، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر » أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه واللّفظ للتّرمذيّ . ووقت هذا الاغتسال موسّع عند الحنفيّة في الأظهر من مذهبهم . وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة . وثمرة الخلاف أنّه لو اغتسل ثمّ أحدث ثمّ توضّأ ينال فضيلة السّنّة ، ولا يضرّه ذلك . وألحق الشّافعيّة هذا الغسل بغسل الجمعة ، فدلّ على أنّه موسّع ، كما هو حكم غسل الجمعة . أمّا المالكيّة فقيّدوا سنّيّة الغسل بأن يكون متّصلاً بالإحرام .
ثانياً : التّطيّب
109 - وهو من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً للإحرام ، عند الجمهور ، وكرهه مالك . التّطيّب في البدن :
110 - ودليل سنّيّته ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » . متّفق عليه . وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » . متّفق عليه . والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لتصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة فحظروا بقاء جرم الطّيب ولم يجوّزوا بقاء رائحته . التّطيّب في ثوب الإحرام :
111 - أمّا تطييب الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور وأجازه الشّافعيّ في القول المعتمد . فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن . لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام . أو سقط عنه . فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه . وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّطيّب في الثّوب للإحرام ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّباً لأنّه بذلك يكون مستعملاً للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب إزالته ، سواء في ذلك بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب الّذي تطيّب به قبل الإحرام فإنّ الفدية تكون واجبةً ، وأمّا إن كان الباقي في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ، ولا فدية . وأمّا اللّون ففيه قولان عند المالكيّة . وهذا كلّه في الأثر اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية . استدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة ، فقال : يا رسول اللّه : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . متّفق عليه . فاستدلالهم بهذا الحديث لحظر الطّيب في الإحرام في البدن والثّوب .
ثالثاً : صلاة الإحرام
112 - يسنّ للمحرم أن يصلّي ركعتين قبل الإحرام باتّفاق الأئمّة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين » . أخرجه مسلم . ولا يصلّيهما في الوقت المكروه ، اتّفاقاً بين الأئمّة ، إلاّ من أحرم بالحرم عند الشّافعيّة ، فإنّه يصلّيهما ولو في الوقت المكروه عندهم . وتجزئ الصّلاة المكتوبة عن سنّة الإحرام اتّفاقاً كذلك ، كما في تحيّة المسجد .
رابعاً : التّلبية :
113 - التّلبية سنّة في الإحرام متّفق على سنّيّتها إجمالاً ، فيما عدا الخلاف في حكم قرنها بالنّيّة هل هي فرض في الإحرام مع النّيّة ، أو واجب أو سنّة ؟ ( ف . . . ) فاتّفقوا فيما عدا ذلك على سنّيّتها للمحرم ، وعلى استحباب الإكثار منها ، وسنّيّة رفع الصّوت بها . 114 - والأفضل أن يلبّي عقب صلاة الإحرام ناوياً الحجّ أو العمرة ، على ما قاله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وهو قول عند الشّافعيّة ، وفي قول - وهو الأصحّ - يلبّي إذا ركب . ولا خلاف في جواز ذلك كلّه لورود الرّواية به . عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته قائمةً » متّفق عليه . 115 - وأمّا انتهاء التّلبية : فهو للحاجّ ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويقطعها عند الطّواف والسّعي للاشتغال بالأذكار والأدعية الواردة فيها . وأمّا المالكيّة فعندهم قولان : الأوّل : يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة ، فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ، ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاّها . الثّاني : يستمرّ في التّلبية حتّى الابتداء بالطّواف والشّروع فيه .
116 - وأمّا تلبية إحرام العمرة فالجمهور أنّها تنتهي ببدء الطّواف باستلام الرّكن . وقال المالكيّة : المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى الحرم ، لا إلى رؤية بيوت مكّة ، والمعتمر من الجعرانة والتّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة ، لقرب المسافة . يدلّ للجمهور حديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحّحه . واستدلّ مالك بما رواه عن نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال : وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم .
كيفيّة الإحرام المستحبّة :
117 - من أراد أن يحرم بحجّ أو عمرة أو بهما معاً يستحبّ له إزالة التّفث عن جسمه ، وأن يتزيّن على الصّورة المألوفة الّتي لا تتنافى مع الشّريعة وآدابها ، وأن يغتسل بنيّة الإحرام ، وإذا كان جنباً فيكفيه غسل واحد بنيّة إزالة الجنابة والإحرام ، وأن يتطيّب . والأولى أن يتطيّب بطيب لا يبقى جرمه ، على التّفصيل والخلاف السّابق ، ثمّ يلبس ثوبين نظيفين جديدين أو غسيلين ، على ألاّ يكونا مصبوغين بصبغ له رائحة . وأمّا المرأة فتلبس ما يستر عورتها إلاّ وجهها وكفّيها . ثمّ يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام . فإذا أتمّهما نوى بقلبه وقال بلسانه : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي ، وتقبّله منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان يريد العمرة فيقول : اللّهمّ إنّي أريد العمرة ، فيسّرها لي ، وتقبّلها منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان قارناً فيستحبّ أن يقدّم ذكر العمرة على ذكر الحجّ حتّى لا يشتبه أنّه أدخل العمرة على الحجّ . ويقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ والعمرة . . . إلخ ، ويلبّي . فيصير بذلك محرماً ، وتجري عليه . أحكام الإحرام الّتي تقدّم بيانها . وإذا كان يؤدّي الحجّ والعمرة عن غيره فلا بدّ أن يعيّن ذلك بقلبه ولسانه . ويسنّ له الإكثار من التّلبية . وأفضل صيغها الصّيغة المأثورة : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك » . ويستحبّ ألاّ ينقص منها . قال الطّحاويّ والقرطبيّ : « أجمع العلماء على هذه التّلبية » . وأمّا الزّيادة على التّلبية ، فإن كانت من المأثور فمستحبّ . وما ليس مرويّاً فجائز أو حسن ، على تفصيل يذكر في موضع آخر ( ر : تلبية )
موجب الإحرام :
118 - إذا أحرم شخص بنسك وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً في الأصل . ويلزمه جميع ما يجب على المحرم فعله . ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بعد أداء هذا النّسك ، على التّفصيل المتقدّم . ويتّصل بهذا بيان أحكام ما يبطل الحجّ وما يفسده وما يمنع المضيّ فيه . 119 - أمّا ما يبطله فهو الرّدّة ، فإذا ارتدّ بطل نسكه ولا يمضي فيه . 120 - أمّا ما يفسد النّسك فهو الجماع ، وعليه أن يمضي في نسكه ثمّ القضاء من قابل إن كان حجّاً على ما يأتي بيانه . وإن كان عمرةً فعليه أن يمضي أيضاً فيها ثمّ يقضيها ولو في عامه على التّفصيل . 121 - أمّا ما يمنع الاستمرار في النّسك ، وهو الإحصار والفوات ، فإنّ أحكام ذلك ترد في موضع آخر ( ر : إحصار . فوات ) .
الفصل الثّامن
التّحلّل من الإحرام
المراد بالتّحلّل هنا الخروج من الإحرام وحلّ ما كان محظوراً عليه وهو محرم .
وهو قسمان : تحلّل أصغر ، وتحلّل أكبر .
التّحلّل الأصغر
122 - يكون التّحلّل الأصغر بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويحلّ بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء بالإجماع ، والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة . والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن السّيّدة « عائشة رضي الله عنها أنّها ضمّخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة » . وقد جاء في بعض الأحاديث : أنّه « إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب » ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب . وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد كذلك فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة .
التّحلّل الأكبر :
123 - هو التّحلّل الّذي تحلّ به جميع محظورات الإحرام دون استثناء . ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة من منتصف ليلة النّحر ، وذلك تابع لاختلافهم فيما يحصل به التّحلّل الأكبر . أمّا نهاية وقته فبحسب ما يتحلّل به ، فهو لا ينتهي إلاّ بفعل ما يتحلّل به عند الحنفيّة والمالكيّة ؛ لأنّه لا يفوت ، كما ستعلم ، وهو الطّواف . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فكذلك إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق ، أو السّعي . أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ، ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق ، فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك . وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكن الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
ما يحصل به التّحلّل الأكبر :
124 - يحصل التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة والمالكيّة بطواف الإفاضة ، بشرط الحلق هنا باتّفاق الطّرفين . فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند المذهبين . زاد المالكيّة : أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة . وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ؛ لأنّه واجب مستقلّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة يحصل التّحلّل الأكبر باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرناها : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك . وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي ، محلّ اتّفاق العلماء ، وبه تحلّ جميع محظورات الإحرام بالإجماع . 125 - ثمّ إذا حصل التّحلّل الأكبر في اليوم الأوّل لجوازه مثلاً فلا يعني انتهاء كلّ أعمال الحجّ ، بل يجب عليه الإتيان بها ، وإن كان حلالاً ، وقد ضربوا لهذا مثلاً لطيفاً يبيّن حسن موقع هذه الأعمال بعد التّحلّلين ، نحو قول الرّمليّ : « ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحجّ ، وهو الرّمي والمبيت ، مع أنّه غير محرم ، كما يخرج بالتّسليمة الأولى من صلاته ، ويطلب منه الثّانية . "
التّحلّل من إحرام العمرة :
126 - اتّفقوا على أنّ للعمرة تحلّلاً واحداً يحلّ به للمحرم جميع محظورات الإحرام . ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب على اختلافهم في حكمه في مناسك العمرة .
ما يرفع الإحرام
127 - يرفع الإحرام ، بتحويله عمّا نواه المحرم ، أمران :
1 - فسخ الإحرام .
2 - رفض الإحرام .
ذهب الحنابلة خلافاً للجمهور إلى أنّ من كان مفرداً أو قارناً ( إذا لم يكن قد ساق الهدي ) يستحبّ له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيّته بالحجّ ، وينوي عمرةً مفردةً ، ثمّ يهلّ بالحجّ . وهذا مبنيّ عندهم على أفضليّة التّمتّع . واستدلّ الحنابلة بما روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكّة قال للنّاس : من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة ، وليقصّر ، وليحلل ، ثمّ ليهلّ بالحجّ ، وليهد » . أخرجه البخاريّ ومسلم . واستدلّ الجمهور على منع فسخ الحجّ بأدلّة منها قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقد أمر اللّه تعالى بإكمال أفعال الحجّ وأفعال العمرة لمن شرع في أيّ منهما ، والفسخ ضدّ الإتمام ، فلا يكون مشروعاً ، ومنها الأحاديث الّتي شرع بها الإفراد والقران ، وقد سبق ذكرها .
رفض الإحرام
128 - رفض الإحرام : هو ترك المضيّ في النّسك بزعم التّحلّل منه قبل إتمامه . ورفض الإحرام لغو باتّفاق العلماء ، ولا يبطل به الإحرام ، ولا يخرج به عن أحكامه .
ما يبطل الإحرام :
129 - يبطل الإحرام بأمر واحد فقط ، متّفق عليه بين الجميع : هو الرّدّة عن الإسلام ، عياذاً باللّه تعالى وذلك لأنّهم اتّفقوا على كون الإسلام شرطاً لصحّة النّسك . ويتفرّع على بطلان الإحرام أنّه لا يمضي في متابعة أعمال ما أحرم به ، خلافاً للفاسد . وأمّا إذا أسلم وتاب عن ردّته فلا يمضي أيضاً ؛ لبطلان إحرامه . الفصل التّاسع
أحكام خاصّة في الإحرام
130 - وهي أحكام مستثناة من عموم أحكام الإحرام العامّة ، بسبب وضع خاصّ لبعض الأشخاص ، أو بسبب طروء بعض الطّوارئ ، كما في السّرد التّالي : أ - إحرام المرأة .
ب - إحرام الصّبيّ .
ج - إحرام العبد والأمة .
د - إحرام المغمى عليه .
هـ - نسيان ما أحرم به . وقد تقدّم بعض ذلك ، وندرس ما بقي منها ، كلّاً منها وحده . إحرام الصّبيّ مشروعيّة حجّ الصّبيّ وصحّة إحرامه :
131 - اتّفق العلماء على صحّة حجّ الصّبيّ ، وعمرته ، وأنّ ما يؤدّيه من عبادة أو من حجّ أو من عمرة يكون تطوّعاً ، فإذا بلغ وجب عليه حجّة فرض الإسلام . وإذا كان أداء الصّبيّ للنّسك صحيحاً كان إحرامه صحيحاً قطعاً . صفة إحرام الصّبيّ :
132 - ينقسم الصّبيّ بالنّسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين : صبيّ مميّز ، وصبيّ غير مميّز . وضابط المميّز : هو الّذي يفهم الخطاب ويردّ الجواب ، دون اعتبار للسّنّ . 133 - أمّا الصّبيّ المميّز : فعند الحنفيّة والمالكيّة ينعقد إحرامه بنفسه ، ولا تصحّ النّيابة عنه في الإحرام ، لعدم جواز النّيابة عند عدم الضّرورة . ولا تتوقّف صحّة إحرامه على إذن الوليّ ، بل يصحّ إحرامه بإذن الوليّ ، وبغير إذن الوليّ ، لكن إذا أحرم بغير إذن الوليّ فقد صرّح المالكيّة أنّ للوليّ تحليله ، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة . فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد بلوغه . فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله ، أمّا إذا أراد الوليّ الرّجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطّاب : « الظّاهر أنّ له الرّجوع ، لا سيّما إذا كان لمصلحته » . ولم يصرّح بذلك الحنفيّة . ولعلّه يدخل في الإحصار بمنع السّلطان عندهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينعقد إحرامه إلاّ بإذن وليّه ، بل قال الشّافعيّة : يصحّ إحرام وليّه عنه ، على الأصحّ عندهم في المسألتين . أمّا عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليّه لعدم الدّليل . ويفعل الصّبيّ الصّغير المميّز كلّ ما يستطيع أن يفعله بنفسه ، فإن قدر على الطّواف علّمه فطاف ، وإلاّ طيف به ، وكذلك السّعي وسائر المناسك . ولا تجوز النّيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه ، وكلّ ما لا يقدر الصّبيّ على أدائه ينوب عنه وليّه في أدائه . 134 - وأمّا الصّبيّ غير المميّز - ومثله المجنون جنوناً مطبقاً - فيحرم عنه وليّه ، بأن يقول : نويت إدخال هذا الصّبيّ في حرمات الحجّ ، مثلاً . وليس المراد أنّ الوليّ يحرم في نفسه ويقصد النّيابة عن الصّبيّ . ولا ينعقد إحرام الصّبيّ غير المميّز بنفسه اتّفاقاً . 135 - ويؤدّي الوليّ بالصّبيّ غير المميّز المناسك ، فيجرّده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً ، ويكشف وجه الأنثى وكفّيها كالكبيرة على ما سبق فيه ويطوف به ويسعى ، ويقف به بعرفة والمزدلفة ، ويرمي عنه ، ويجنّبه محظورات الإحرام ، وهكذا . لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف ، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما الوليّ عنه ، وهو ظاهر كلام الحنابلة . إلاّ أنّ المالكيّة خفّفوا في الإحرام والتّجرّد من الثّياب ، فقالوا : « يحرم الوليّ بالصّغير غير المميّز ، ويجرّده من ثيابه قرب مكّة ، لخوف المشقّة وحصول الضّرر . فإن كانت المشقّة أو الضّرر يتحقّق بتجريده قرب مكّة أحرم بغير تجريده ، كما هو الظّاهر من كلامهم - ويفدي » .
بلوغ الصّبيّ في أثناء النّسك :
136 - إن بلغ الصّبيّ الحلم بعدما أحرم ، فمضى في نسكه على إحرامه الأوّل ، لم يجزه حجّه عن فرض الإسلام عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الحنفيّة : لو جدّد الصّبيّ الإحرام قبل الوقوف بعرفة ، ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام ؛ لأنّ إحرام الصّبيّ غير لازم لعدم أهليّته للّزوم عليه . وقال المالكيّة لا يرتفض إحرامه السّابق ، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه ، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض ، لأنّه اختلّ شرط الوقوع فرضاً ، وهو ثبوت الحرّيّة والتّكليف ، وقت الإحرام . وهذا لم يكن مكلّفاً وقت الإحرام ، فلا يقع نسكه هذا إلاّ نفلاً . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن بلغ الصّبيّ في أثناء الحجّ ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين : الأوّل : أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف ، أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ ، فهذا لا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . الثّاني : أن يبلغ في حال الوقوف ، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة ، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف ، أي قبل طلوع فجر يوم النّحر ، فهذا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . لكن يجب عليه إعادة السّعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ ، ولا دم عليه . أمّا في العمرة : فالطّواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحجّ ، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام ، عند من يقول بوجوبها .
إحرام المغمى عليه
137 - للمغمى عليه حالان : أن يغمى عليه قبل الإحرام ، أو يغمى عليه بعد الإحرام .
أوّلاً : من أغمي عليه قبل الإحرام :
138 - في المذاهب الثّلاثة المالكيّ والشّافعيّ والحنبليّ : لا إحرام له ، ولا يحرم عنه أحد من رفقته ولا غيرهم ، سواء أمرهم بذلك قبل أن يغمى عليه أو لم يأمرهم ، ولو خيف فوات الحجّ عليه ؛ لأنّ الإغماء مظنّة عدم الطّول ، ويرجى زواله عن قرب غالباً . وذهب الحنفيّة إلى جواز الإحرام عن المغمى عليه ، على تفصيل بين الإمام وصاحبيه :
أ - من توجّه إلى البيت الحرام يريد الحجّ فأغمي عليه قبل الإحرام ، أو نام وهو مريض فنوى عنه ولبّى أحد رفقته ، وكذا من غير رفقته وكان قد أمرهم بالإحرام عنه قبل الإغماء ، صحّ الإحرام عنه ، ويصير المغمى عليه محرماً بنيّة رفيقه وتلبيته عنه اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة . ويجزيه عن حجّة الإسلام .
ب - إن أحرم عنه بعض رفقته أو غيرهم بلا أمر سابق على الإغماء صحّ كذلك عند الإمام أبي حنيفة ، ولم يصحّ عند صاحبيه أبي يوسف ومحمّد .
فروع
139 - أ - إن أفاق المغمى عليه بعدما أحرم عنه غيره ، فهو عند الحنفيّة محرم يتابع النّسك . وعند غيرهم لا عبرة بإحرام غيره عنه ، فإن كان بحيث يدرك الوقوف بعرفة أحرم بالحجّ ، وأدّى المناسك ، وإلاّ فإنّه يحرم بعمرة . ولا ينطبق عليه حكم الفوات عند الثّلاثة ؛ لأنّه لم يكن محرماً .
140 - ب - لا يجب على من أحرم عن المغمى عليه تجريده من المخيط وإلباسه غير المخيط لصحّة الإحرام ؛ لأنّ ذلك ليس هو الإحرام ، بل كفّ عن بعض محظورات الإحرام . حتّى إذا أفاق وجب عليه أفعال النّسك ، والكفّ عن المحظورات .
141 - ج - لو ارتكب المغمى عليه الّذي أحرم عنه غيره محظوراً من محرّمات الإحرام لزمه موجبه ، أي كفّارته ، وإن كان غير قاصد للمحظور . ولا يلزم الرّفيق الّذي أحرم عنه ؛ لأنّ هذا الرّفيق أحرم عن نفسه بطريق الأصالة ، وعن المغمى عليه بطريق النّيابة ، كالوليّ يحرم عن الصّغير . فينتقل إحرامه إليه ، فيصير محرماً كما لو نوى هو ولبّى ، ولذا لو ارتكب هو أيضاً - أي الوليّ - محظوراً لزمه جزاء واحد لإحرام نفسه ، ولا شيء عليه من جهة إهلاله عن غيره عند الحنفيّة كما سبق .
142 - د - إذا لم يفق المغمى عليه فهل يشهد به رفقته المشاهد ، على أساس الإحرام عنه الّذي قال به الحنفيّة ؟ هناك قولان عند الحنفيّة : قيل : لا يجب على الرّفقاء أن يشهدوا به المشاهد ، كالطّواف والوقوف والرّمي والوقوف بمزدلفة ، بل مباشرتهم عنه تجزيه ، لكن إحضاره أولى ، على ما صرّح به بعض أصحاب هذا القول . وهذا الأصحّ على ما أفاد في ردّ المحتار المعتمد في الفتوى في مذهب الحنفيّة ، لكن لا بدّ للإجزاء عنه من نيّة الوقوف عنه ، والطّواف عنه بعد طواف النّائب عن نفسه ، وهكذا .
ثانياً : من أغمي عليه بعد إحرامه بنفسه :
143 - الإغماء بعد الإحرام لا يؤثّر في صحّته ، باتّفاق الأئمّة . وعلى ذلك فهذا حمله متعيّن على رفقائه ، ولا سيّما للوقوف بعرفة ، فإنّه يصحّ ولو كان نائماً أو مغمًى عليه ، على تفصيل في أداء المناسك له يطلب في موضعه من مصطلح « حجّ " ومصطلح « عمرة » .
نسيان ما أحرم به
144 - من أحرم بشيء معيّن ، مثل حجّ ، أو عمرة ، أو قران ، ثمّ نسي ما أحرم به ، لزمه حجّ وعمرة . ويعمل عمل القران في المذاهب الثّلاثة : الحنفيّ والمالكيّ والشّافعيّ . وذهب الحنابلة إلى أنّه يصرف إحرامه إلى أيّ نسك شاء ، ويندب صرفه إلى العمرة خاصّةً .
الفصل العاشر
في كفّارات محظورات الإحرام
تعريفها :
145 - المراد بالكفّارة هنا : الجزاء الّذي يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام . وهذه الأجزية أنواع :
1 - الفدية : حيث أطلقت فالمراد الفدية المخيّرة الّتي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
2 - الهدي : وربّما عبّر عنه بالدّم . وكلّ موضع أطلق فيه الدّم أو الهدي تجزئ فيه الشّاة ، إلاّ من جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ( أي من الإبل ) اتّفاقاً . أمّا من جامع قبل الوقوف فإنّه يفسد حجّه اتّفاقاً وعليه بدنة عند الثّلاثة ، وقال الحنفيّة : عليه شاة ، ويمضي في حجّه ، ويقضيه .
3 - الصّدقة : حيث أطلق وجوب " صدقة " عند الحنفيّة من غير بيان مقدارها فإنّه يجب نصف صاع من برّ ( قمح ) أو صاع من شعير أو تمر .
4 - الصّيام : يجب الصّيام على التّخيير في الفدية ، وهو ثلاثة أيّام . ويجب في مقابلة الإطعام .
5 - الضّمان بالمثل : في جزاء الصّيد ، على ما سيأتي .
146 - يستوي إحرام العمرة مع إحرام الحجّ في عقوبة الجناية عليه . إلاّ من جامع في العمرة قبل أداء ركنها ، فتفسد اتّفاقاً كما ذكرنا ، وعليه شاة عند الحنفيّة والحنابلة ، وقال الشّافعيّة والمالكيّة : عليه بدنة . المبحث الأوّل في كفّارة محظورات التّرفّه .
147 - يتناول هذا البحث كفّارة محظورات اللّبس ، وتغطية الرّأس ، والادّهان ، والتّطيّب ، وحلق الشّعر أو إزالته أو قطعة من الرّأس أو غيره ، وقلم الظّفر . أصل كفّارة محظورات التّرفّه .
148 - اتّفقوا على أنّ من فعل من المحظورات شيئاً لعذر مرض أو دفع أذًى فإنّ عليه الفدية ، يتخيّر فيها : إمّا أن يذبح هدياً ، أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام ، لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له حين رأى هوامّ رأسه : « أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكةً » متّفق عليه . 149 - وأمّا العامد الّذي لا عذر له فقد اختلفوا فيه : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتخيّر ، كالمعذور ، وعليه إثم ما فعله . واستدلّوا بالآية . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العامد لا يتخيّر ، بل يجب عليه الدّم عيناً أو الصّدقة عيناً ، حسب جنايته . واستدلّوا على ذلك بالأدلّة السّابقة . وجه الاستدلال : أنّ التّخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذًى ، وغير المعذور جنايته أغلظ ، فتتغلّظ عقوبته ، وذلك بنفي التّخيير في حقّه . 150 - وأمّا المعذور بغير الأذى والمرض : كالنّاسي والجاهل بالحكم والمكره والنّائم والمغمى عليه ، فحكمه عند الحنفيّة المالكيّة حكم العامد ، على ما سبق . ووجه حكمه هذا : أنّ الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه ، كما وجّهه الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّمييز بين جناية فيها إتلاف ، وهي هنا الحلق أو قصّ الشّعر أو قلم الظّفر ، وجناية ليس فيها إتلاف ، وهي : اللّبس وتغطية الرّأس ، والادّهان والتّطيّب . فأوجبوا الفدية في الإتلاف ؛ لأنّه يستوي عمده وسهوه ، ولم يوجبوا فديةً في غير الإتلاف ، بل أسقطوا الكفّارة عن صاحب أيّ عذر من هذه الأعذار .