أنواعه
5 - أ - إحياء ليال مخصوصة ورد نصّ بإحيائها كالعشر الأواخر من رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجّة .
ب - إحياء ما بين المغرب والعشاء من كلّ ليلة ، وهذان النّوعان موضوع البحث .
الاجتماع لإحياء اللّيل :
6 - كره الحنفيّة والشّافعيّة الاجتماع لإحياء ليلة من اللّيالي في المساجد غير التّراويح ، ويرون أنّ من السّنّة إحياء النّاس اللّيل فرادى . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكره ذلك ، ويصحّ مع الكراهة . وأجاز الحنابلة إحياء اللّيل بصلاة قيام اللّيل جماعةً ، كما أجازوا صلاته منفرداً ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين ، ولكن كان أكثر تطوّعه منفرداً ، فصلّى بحذيفة مرّةً ، وبابن عبّاس مرّةً ، وبأنس وأمّه مرّةً . وفرّق المالكيّة في الاجتماع على إحياء اللّيل بقيامه بين الجماعة الكثيرة والجماعة القليلة ، وبين المكان المشتهر والمكان غير المشتهر ، فأجازوا - بلا كراهة - اجتماع العدد القليل عليه إن كان اجتماعهم في مكان غير مشتهر ، إلاّ أن تكون اللّيلة الّتي يجتمعون لإحيائها من اللّيالي الّتي صرّح ببدعة الجمع فيها ، كليلة النّصف من شعبان ، وليلة عاشوراء ، فيكره .
إحياء اللّيل كلّه :
7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بكراهة قيام اللّيل كلّه لحديث عائشة : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح » . رواه مسلم . واستثنوا إحياء ليال مخصوصة ، لحديث عائشة : « كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل كلّه » . متّفق عليه .
كيفيّته
8 - يكون إحياء اللّيل بكلّ عبادة ، كالصّلاة ، وقراءة القرآن والأحاديث ، وسماعها ، وبالتّسبيح والثّناء والصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ويصلّي في إحياء اللّيل ولو ركعتين . والتّفصيل في عدد ما يصلّي وكونه مثنى أو رباع ، موطنه " قيام اللّيل » . وكما يجوز له أن يحيي اللّيل بالصّلاة يجوز له أن يحييه بالدّعاء والاستغفار ، فيستحبّ لمن أحيا اللّيل أن يكثر من الدّعاء والاستغفار في ساعات اللّيل كلّها . وآكده النّصف الأخير ، وأفضله عند الأسحار . وكان أنس بن مالك يقول : أمرنا أن نستغفر بالسّحر سبعين مرّةً . وقال نافع : كان ابن عمر يحيي اللّيل ، ثمّ يقول : يا نافع ، أسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصّلاة . ثمّ يسأل ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر . وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السّحر في ناحية المسجد يقول : يا ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي ، فنظرت فإذا هو ابن مسعود .
إحياء اللّيالي الفاضلة :
9 - اللّيالي الفاضلة الّتي وردت الآثار بفضلها هي : ليلة الجمعة ، وليلتا العيدين ، وليالي رمضان ، ويخصّ منها ليالي العشر الأواخر منه ، ويخصّ منها ليلة القدر ، وليالي العشر الأول من ذي الحجّة ، وليلة نصف شعبان ، واللّيلة الأولى من رجب . وحكم إحياء هذه اللّيالي فيما يلي : إحياء ليلة الجمعة :
10 - نصّ الشّافعيّة على كراهة تخصيص ليلة الجمعة بقيام بصلاة ، لما رواه مسلم في صحيحه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين اللّيالي » . أمّا إحياؤها بغير صلاة فلا يكره ، لا سيّما الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك مطلوب فيها . ولا يكره إحياؤها مضمومةً إلى ما قبلها ، أو إلى ما بعدها ، أو إليهما ، قياساً على ما ذكروه في الصّوم . وظاهر كلام بعض الحنفيّة ندب إحيائها بغير الصّلاة ؛ لأنّ صاحب مراقي الفلاح ساق حديث : « خمس ليال لا يردّ فيهنّ الدّعاء : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد » . ولم يعلّق عليه .
إحياء ليلتي العيد
11 - يندب إحياء ليلتي العيدين ( الفطر ، والأضحى ) باتّفاق الفقهاء . لقوله عليه الصلاة والسلام : « من قام ليلتي العيد محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » . وذهب الحنفيّة اتّباعاً لابن عبّاس إلى أنّه يحصل له ثواب الإحياء بصلاة العشاء جماعةً ، والعزم على صلاة الصّبح جماعةً .
إحياء ليالي رمضان
12 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ويخصّ منها العشر الأخير ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كان إذا كان العشر الأواخر طوى فراشه ، وأيقظ أهله ، وأحيا ليله » . وذلك طلباً لليلة القدر الّتي هي إحدى ليالي العشر الأخير من رمضان . قال صلى الله عليه وسلم : « اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر » . وكلّ هذا لا خلاف فيه .
إحياء ليلة النّصف من شعبان
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب إحياء ليلة النّصف من شعبان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا ، فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه . . . كذا . . . كذا . . . حتّى يطلع الفجر » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يطّلع ليلة النّصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلاّ لمشرك أو مشاحن » . وبيّن الغزاليّ في الإحياء كيفيّةً خاصّةً لإحيائها ، وقد أنكر الشّافعيّة تلك الكيفيّة واعتبروها بدعةً قبيحةً ، وقال الثّوريّ هذه الصّلاة بدعة موضوعة قبيحة منكرة .
الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان :
14 - جمهور الفقهاء على كراهة الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان ، نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة ، وصرّحوا بأنّ الاجتماع عليها بدعة وعلى الأئمّة المنع منه . وهو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة . وذهب الأوزاعيّ إلى كراهة الاجتماع لها في المساجد للصّلاة ؛ لأنّ الاجتماع على إحياء هذه اللّيلة لم ينقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه . وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها في جماعة .
إحياء ليالي العشر من ذي الحجّة :
15 - نصّ الحنفيّة والحنابلة على ندب إحياء اللّيالي العشر الأول من ذي الحجّة . لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » .
إحياء أوّل ليلة من رجب :
16 - ذكر بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة من جملة اللّيالي الّتي يستحبّ إحياؤها أوّل ليلة من رجب ، وعلّل ذلك بأنّ هذه اللّيلة من اللّيالي الخمس الّتي لا يردّ فيها الدّعاء ، وهي : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد .
إحياء ليلة النّصف من رجب :
17 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة النّصف من رجب .
إحياء ليلة عاشوراء :
18 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة عاشوراء .
إحياء ما بين المغرب والعشاء : مشروعيّته :
19 - الوقت الواقع بين المغرب والعشاء من الأوقات الفاضلة ، ولذلك شرع إحياؤه بالطّاعات ، من صلاة - وهي الأفضل - أو تلاوة قرآن ، أو ذكر للّه تعالى من تسبيح وتهليل ونحو ذلك . وقد كان يحييه عدد من الصّحابة والتّابعين وكثير من السّلف الصّالح . كما نقل إحياؤه عن الأئمّة الأربعة . وقد ورد في إحياء هذا الوقت طائفة من الأحاديث الشّريفة ، وإن كان كلّ حديث منها على حدة لا يخلو من مقال ، إلاّ أنّها بمجموعها تنهض دليلاً على مشروعيّتها ، منها :
1 - ما روته السّيّدة عائشة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صلّى بعد المغرب عشرين ركعةً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » .
2 - وعن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات كتب من الأوّابين » . حكمه :
20 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إحياء ما بين المغرب والعشاء مستحبّ . وهو عند الشّافعيّة والمالكيّة مستحبّ استحباباً مؤكّداً . وكلام الحنابلة يفيده . عدد ركعاته :
21 - اختلف في عدد ركعات إحياء ما بين العشاءين تبعاً لما ورد من الأحاديث فيها . فذهب جماعة إلى أنّ إحياء ما بين العشاءين ، يكون بستّ ركعات ، وبه أخذ أبو حنيفة ، وهو الرّاجح من مذهب الحنابلة . واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر السّابق . وفي رواية عند الحنابلة أنّها أربع ركعات ، وفي رواية ثالثة أنّها عشرون ركعةً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أقلّها ركعتان وأكثرها عشرون ركعةً . وذلك جمعاً بين الأحاديث الواردة في عدد ركعاتها . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا حدّ لأكثرها ولكن الأولى أن تكون ستّ ركعات . وتسمّى هذه الصّلاة بصلاة الأوّابين ، للحديث السّابق . وتسمّى صلاة الغفلة . وتسميتها بصلاة الأوّابين لا تعارض ما في الصّحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال " ، لأنّه لا مانع أن تكون كلّ من الصّلاتين صلاة الأوّابين .
صلاة الرّغائب :
22 - ورد خبر بشأن فضل صلاة تسمّى صلاة الرّغائب في أوّل ليلة جمعة من رجب ، بين العشاءين . وممّن ذكره الغزاليّ في الإحياء . وقد قال عنه الحافظ العراقيّ : إنّه موضوع . وقد نبّه الحجّاويّ في الإقناع على أنّ تلك الصّلاة بدعة لا أصل لها .
إحياء الموات
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، والموات : الأرض الّتي خلت من العمارة والسّكّان . وهي تسمية بالمصدر . وقيل : الموات الأرض الّتي لا مالك لها ، ولا ينتفع بها أحد . وإحياء الموات في الاصطلاح هو كما قال الأتقانيّ شارح الهداية : التّسبّب للحياة النّامية ببناء أو غرس أو كرب ( حراثة ) أو سقي . وعرّفه ابن عرفة بأنّه لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها . وعرّفه الشّافعيّة بأنّه عمارة الأرض الخربة الّتي لا مالك لها ، ولا ينتفع بها أحد . وعرّفه الحنابلة بأنّه عمارة ما لم يجر عليه ملك لأحد ، ولم يوجد فيه أثر عمارة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - من الألفاظ ذات الصّلة : التّحجير أو الاحتجار ، والحوز ، والارتفاق ، والاختصاص ، والإقطاع ، والحمى .
أ - التّحجير :
3 - التّحجير أو الاحتجار لغةً واصطلاحاً : منع الغير من الإحياء بوضع علامة ، كحجر أو غيره ، على الجوانب الأربعة وهو يفيد الاختصاص لا التّمليك .
ب - الحوز والحيازة :
4 - الحوز والحيازة لغةً الضّمّ والجمع . وكلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه . والمراد من الحيازة اصطلاحاً وضع اليد على الشّيء المحوز . وهي لا تفيد الملك عند الجمهور خلافاً لبعض المالكيّة . وتفصيله في مصطلح : « حيازة » .
ج - الارتفاق :
5 - الارتفاق بالشّيء لغةً الانتفاع به . وهو في الاصطلاح لا يخرج - في الجملة - عن المعنى اللّغويّ ، على خلاف فيما يرتفق به . وموضعه مصطلح : ( ارتفاق ) .
د - الاختصاص :
6 - الاختصاص بالشّيء في اللّغة : كونه لشخص دون غيره . وهو في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك . والاختصاص أحد الطّرق المؤدّية إلى إحياء الموات .
هـ - الإقطاع :
7 - الإقطاع في اللّغة والاصطلاح : جعل الإمام غلّة أرض رزقاً للجند أو غيرهم . ونصّ الحنابلة وغيرهم على أنّ للإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون أحقّ به كالمتحجّر الشّارع في الإحياء . وهو نوع من أنواع الاختصاص . وتفصيله في مصطلح ( إقطاع ) .
صفة الإحياء ( حكمه التّكليفيّ ) :
8 - حكمه الجواز ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له » . على أنّ الشّافعيّة ذهبوا إلى أنّه مستحبّ ، للحديث الّذي رواه النّسائيّ : « من أحيا أرضاً ميّتةً فله فيها أجر » . وحكمة مشروعيّته أنّه سبب لزيادة الأقوات والخصب للأحياء .
أثر الإحياء
( حكمه الوضعيّ )
9 - ذهب الجمهور إلى أنّ المحيي يملك ما أحياه إذا توافرت الشّروط ، وذلك للحديث السّابق ، خلافاً لبعض الحنفيّة ، كالفقيه أبي القاسم أحمد البلخيّ ، إذ قالوا : إنّه يثبت ملك الاستغلال لا ملك الرّقبة ، قياساً على السّبق للانتفاع بالمرافق العامّة ، كالمجالس ، وخلافاً لبعض الحنابلة الّذين ذهبوا إلى أنّ الذّمّيّ لا يملك الإحياء في دار الإسلام ، إنّما يملك الانتفاع .
أقسام الموات :
10 - الموات قسمان : أصليّ وهو ما لم يعمر قطّ ، وطارئ : وهو ما خرب بعد عمارته . الأراضي الّتي كانت جزائر وأنهاراً :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأنهار والجزائر ونحوهما إذا انحسر عنها الماء فصارت أرضاً يابسةً ترجع إلى ما كانت عليه . فإن كانت مملوكةً لأحد أو وقفاً أو مسجداً عادت إلى المالك أو الوقف أو المسجد ، ولا يجوز إحياؤها ، لكن قيّد المالكيّة ذلك بما إذا كان المالك ملك الأرض بالشّراء ، فإن كان ملكها بالإحياء جاز للغير إحياؤها . واختلفوا فيما إذا لم تكن مملوكةً لأحد أو لم يعرف للأرض مالك : فذهب الحنفيّة إلى أنّ النّهر إذا كان بعيداً ، بحيث لا يعود إليه الماء ، تكون أرضه مواتاً يجوز إحياؤها . وكذلك الحكم إذا كان النّهر قريباً في ظاهر الرّواية ، وهو الصّحيح ؛ لأنّ الموات اسم لما لا ينتفع به ، فإذا لم يكن ملكاً لأحد ، ولا حقّاً خاصّاً له ، لم يكن منتفعاً به ، فكان مواتاً ، بعيداً عن البلد ، أو قريباً منها . وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى - وهو قول الطّحاويّ الّذي اعتمده شمس الأئمّة - لا يكون مواتاً إذا كان قريباً ، وذلك لأنّ ما يكون قريباً من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه ، فيدار الحكم عليه . وعند محمّد يعتبر حقيقة الانتفاع ، حتّى لا يجوز إحياء ما ينتفع به أهل القرية وإن كان بعيداً ، ويجوز إحياء ما لا ينتفعون به وإن كان قريباً من العامر .
12 - واختلفوا في حدّ القرب والبعد . وأصحّ ما قيل فيه أن يقوم الرّجل على طرف عمران القرية ، فينادي بأعلى صوته ، فأيّ موضع ينتهي إليه صوته يكون من فناء العمران ؛ لأنّ أهل القرية يحتاجون إلى ذلك الموضع لرعي المواشي أو غيره ، وما وراء ذلك يكون من الموات . ورأى سحنون من المالكيّة ومن وافقه كمطرّف وأصبغ مثل ظاهر الرّواية في مذهب الحنفيّة ، غير أنّه لم يقيّد بجواز عود المياه ، لأنّ الأنهار الّتي لم ينشئها النّاس ليست ملكاً لأحد ، وإنّما هي طريق للمسلمين لا يستحقّها من كان يلي النّهر من جهتيه . وعند غيرهم أنّ باطن النّهر إذا يبس يكون ملكاً لصاحبي الأرض الّتي بجنب النّهر ، لكلّ واحد منهما ما يجاور أرضه مناصفةً . والحكم كذلك إذا مال النّهر عن مجراه إلى الأرض المجاورة له . ويستخلص من نصوص المالكيّة أنّهم لا يفرّقون في الحكم بين النّهر القريب والبعيد . وعند الشّافعيّة والحنابلة أنّ ما نضب عنه الماء من الأنهار والجزائر لا يجوز إحياؤه برغم أنّه لم يكن مملوكاً من قبل . وصرّح الشّافعيّة بأنّه ليس للسّلطان إعطاؤه لأحد . قالوا : « ولو ركب الأرض ماء أو رمل أو طين فهي على ما كانت عليه من ملك أو وقف . فإن لم يعرف مالك للأرض وانحسر ماء النّهر عن جانب منه لم يخرج عن كونه من حقوق المسلمين العامّة ، وليس للسّلطان إقطاعه - أي إعطاؤه - لأحد ، كالنّهر وحريمه . ولو زرعه أحد لزمه أجرته لصالح المسلمين ، ويسقط عنه قدر حصّته إن كانت له في مصالح المسلمين . نعم للإمام دفعه لمن يرتفق به بما لا يضرّ المسلمين . ومثله ما ينحسر عنه الماء من الجزائر في البحر . ويجوز زرعه ونحوه لمن لم يقصد إحياءه . ولا يجوز فيه البناء ولا الغراس ولا ما يضرّ المسلمين . وكلّ هذا إذا رجي عود مالك الأرض ، فإن لم يرج عوده كانت لبيت المال فللإمام إقطاعها رقبةً أو منفعةً إن لم يكن في تصرّفه جور ، لكن المقطع يستحقّ الانتفاع بها مدّة الإقطاع خاصّةً » .
13 - وفي المغني : وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالإحياء . قال أحمد في رواية العبّاس بن موسى : إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها ، لأنّ فيه ضرراً ، وهو أنّ الماء يرجع . يعني أنّه يرجع إلى ذلك المكان . فإذا وجده مبنيّاً رجع إلى الجانب الآخر فأضرّ بأهله ؛ ولأنّ الجزائر منبت الكلأ والحطب فجرت مجرى المعادن الظّاهرة . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا حمى في الأراك » . وقال أحمد في رواية حرب : يروى عن عمر أنّه أباح الجزائر . يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النّبات . وقال : « إذا نضب الفرات عن شيء ، ثمّ نبت عن نبات ، فجاء رجل يمنع النّاس منه فليس له ذلك ، فأمّا إن غلب الماء على ملك إنسان ثمّ عاد فنضب عنه فله أخذه ، فلا يزول ملكه بغلبة الماء عليه . وإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره رجل عمارةً لا تردّ الماء ، مثل أن يجعله مزرعةً ، فهو أحقّ به من غيره ؛ لأنّه متحجّر لما ليس لمسلم فيه حقّ ، فأشبه التّحجّر في الموات » .
إذن الإمام في الإحياء :
14 - فقهاء المذاهب مختلفون في أرض الموات هل هي مباحة فيملك كلّ من يحقّ له الإحياء أن يحييها بلا إذن من الإمام ، أم هي ملك للمسلمين فيحتاج إحياؤها إلى إذن ؟ ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّ الإحياء لا يشترط فيه إذن الإمام ، فمن أحيا أرضاً مواتاً بلا إذن من الإمام ملكها . وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّه يشترط إذن الإمام ، سواء أكانت الأرض الموات قريبةً من العمران أم بعيدةً . واشترط المالكيّة إذن الإمام في القريب قولاً واحداً . ولهم في البعيد طريقان : طريق اللّخميّ وابن رشد أنّه لا يفتقر لإذن الإمام ، والطّريق الآخر أنّه يحتاج للإذن . والمفهوم من نصوص المالكيّة أنّ العبرة بما يحتاجه النّاس وما لا يحتاجونه ، فما احتاجوه فلا بدّ فيه من الإذن ، وما لا فلا . احتجّ الجمهور بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً فهي له » ؛ ولأنّ هذه عين مباحة فلا يفتقر ملكها إلى إذن الإمام كأخذ الحشيش ، والحطب . واحتجّ أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه » ، وبأنّ هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة ثمّ صارت في أيدي المسلمين ، فصارت فيئاً ، ولا يختصّ بالفيء أحد دون رأي الإمام ، كالغنائم ؛ ولأنّ إذن الإمام يقطع المشاحّة . والخلاف بين الإمام وصاحبيه في حكم استئذان الإمام في تركه من المحيي المسلم جهلاً . أمّا إن تركه متعمّداً تهاوناً بالإمام ، كان له أن يستردّ الأرض منه زجراً له . وكلّ هذا في المحيي المسلم في بلاد الإسلام .
15 - أمّا بالنّسبة لإحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام فقال الحنابلة : الذّمّيّ كالمسلم في الإحياء بالنّسبة لإذن الإمام . وقال المالكيّة : الذّمّيّ كالمسلم فيه إلاّ في الإحياء في جزيرة العرب فلا بدّ فيه من الإذن . واشترط الحنفيّة في إحياء الذّمّيّ إذن الإمام اتّفاقاً بين أبي حنيفة وصاحبيه حسبما ورد في شرح الدّرّ . ومنعوا الإحياء للمستأمن في جميع الأحوال . ولم يجوّز الشّافعيّة إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام مطلقاً .
ما يجوز إحياؤه وما لا يجوز :
16 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ ما كان مملوكاً لأحد أو حقّاً خاصّاً له أو ما كان داخل البلد لا يكون مواتاً أصلاً فلا يجوز إحياؤه . ومثله ما كان خارج البلد من مرافقها محتطباً لأهلها أو مرعًى لمواشيهم ، حتّى لا يملك الإمام إقطاعها . وكذلك أرض الملح والقار ونحوهما ، ممّا لا يستغني المسلمون عنه ، ولا يجوز إحياء ما يضيق على وارد أو يضرّ بماء بئر . ونصّ الشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، والحنابلة ، على أنّه لا يجوز إحياء في عرفة ولا المزدلفة ولا منًى ، لتعلّق حقّ الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنًى بالمسلمين ، ولما فيه من التّضييق في أداء المناسك ، واستواء النّاس في الانتفاع بهذه المحالّ . وقال الزّركشيّ من الشّافعيّة : وينبغي إلحاق المحصّب بذلك لأنّه يسنّ للحجيج المبيت به . وقال الوليّ العراقيّ : ليس المحصّب من مناسك الحجّ . فمن أحيا شيئاً منه ملكه .
17 - وأجمع الفقهاء أيضاً على أنّ الأرض المحجّرة لا يجوز إحياؤها ؛ لأنّ من حجّرها أولى بالانتفاع بها من غيره . فإن أهملها فلفقهاء المذاهب تفصيلات : فالحنفيّة وضعوا مدّةً قصوى للاختصاص الحاصل بالتّحجير هي ثلاث سنوات ، فإن لم يقم بإحيائها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره . والتّقدير بذلك مرويّ عن عمر ، فإنّه قال : ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ . وذهب المالكيّة إلى أنّ من أهمل الأرض الّتي حجّرها بأن لم يعمل فيها ، مع قوّته على العمل من ذلك الحين إلى ثلاث سنوات ، فإنّها تؤخذ منه ، عملاً بالأثر السّابق ، ولم يعتبروا التّحجّر إحياءً إلاّ إذا جرى العرف باعتباره كذلك . وذهب الحنابلة في أحد وجهين عندهم إلى أنّ التّحجير بلا عمل لا يفيد ، وأنّ الحقّ لمن أحيا تلك الأرض ؛ لأنّ الإحياء أقوى من التّحجير . وذهب الشّافعيّة ، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة إلى أنّه إذا أهمل المتحجّر إحياء الأرض مدّةً غير طويلة عرفاً ، وجاء من يحييها ، فإنّ الحقّ للمتحجّر ؛ لأنّ مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام : « من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحد » - وقوله : « في غير حقّ مسلم فهي له » أنّها لا تكون له إذا كان فيها حقّ . وكذلك قوله : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به » . وروى سعيد بن منصور في سننه أنّ عمر رضي الله عنه قال : من كانت له أرض - يعني من تحجّر أرضاً - فعطّلها ثلاث سنين ، فجاء قوم فعمروها ، فهم أحقّ بها وهذا يدلّ على أنّ من عمّرها قبل ثلاث سنين لا يملكها ؛ لأنّ الثّاني أحيا في حقّ غيره ، فلم يملكه ، كما لو أحيا ما يتعلّق به مصالح ملك غيره ؛ ولأنّ حقّ المتحجّر أسبق ، فكان أولى ، كحقّ الشّفيع ، يقدّم على شراء المشتري . فإن مضت مدّة طويلة على الإهمال بحسب العرف بلا عذر أنذره الإمام ؛ لأنّه ضيّق على النّاس في حقّ مشترك بينهم ، فلم يمكّن من ذلك ، كما لو وقف في طريق ضيّق أو شرعة ماء أو معدن ، لا ينتفع ، ولا يدع غيره ينتفع . فإن استمهل بعذر أمهله الإمام والإمهال لعذر يكون الشّهر والشّهرين ونحو ذلك . فإن أحيا غيره في مدّة المهلة فللحنابلة فيه الوجهان السّابقان . وإن انقضت المدّة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه ؛ لأنّ المدّة ضربت له لينقطع حقّه بمضيّها .
حريم العامر والآبار والأنهار وغيرها :
18 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز إحياء حريم المعمور ، وأنّه لا يملك بالإحياء . وكذلك حريم البئر المحفورة في الموات وحريم النّهر . والمراد بحريم المعمور ما تمسّ الحاجة إليه لتمام الانتفاع به ، وهو ملك لمالك المعمور ، بمعنى أنّ له أن يمنع غيره من إحيائه بجعله داراً مثلاً ، وليس له منع المرور فيه ، ولا المنع من رعي كلأ فيه ، والاستقاء من ماء فيه ، ونحو ذلك . والدّار المحفوفة بدور لا حريم لها . وحريم البئر ما لو حفر فيه نقص ماؤها ، أو خيف انهيارها . ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها .
19 - واختلف الفقهاء في مقدار حريم البئر والعين والنّهر والشّجر . فقال الحنفيّة : إنّ حريم بئر العطن ( وهي الّتي يستقى منها للمواشي ) أربعون ذراعاً . قيل : الأربعون من الجوانب الأربع من كلّ جانب عشرة . والصّحيح أنّ المراد أربعون ذراعاً من كلّ جانب . وأمّا حريم البئر النّاضح ( وهي أن يحمل البعير الماء من نهر أو بئر لسقي الزّرع ) فهو ستّون ذراعاً في قول أبي يوسف ومحمّد . وقال أبو حنيفة : لا أعرف إلاّ أنّه أربعون ذراعاً . وبه يفتى . ومن أحيا نهراً في أرض موات فقال بعضهم : إنّ عند أبي حنيفة لا يستحقّ له حريماً ، وعندهما يستحقّ . والصّحيح أنّه يستحقّ له حريماً بالإجماع . وذكر في النّوازل : وحريم النّهر من كلّ جانب نصفه عند أبي يوسف . وقال محمّد من كلّ جانب بمقدار عرض النّهر . والفتوى على قول أبي يوسف . ومن أخرج قناةً في أرض موات استحقّ الحريم بالإجماع . وحريمها عند محمّد حريم البئر . إلاّ أنّ المشايخ زادوا على هذا فقالوا : القناة في الموضع الّذي يظهر فيه الماء على وجه الأرض منزلة العين الفوّارة ، حريمها خمسمائة ذراع بالإجماع . أمّا في الموضع الّذي لا يقع الماء على الأرض فحريمها مثل النّهر . وقالوا : إنّ حريم الشّجرة خمسة أذرع . المالكيّة والشّافعيّة متّفقون على أنّ البئر ليس لها حريم مقدّر ، فقد قال المالكيّة : « أمّا البئر فليس لها حريم محدود لاختلاف الأرض بالرّخاوة والصّلابة ، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها . وهو مقدار ما لا يضرّ بمائها ، ولا يضيّق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورود . ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر بئراً في ذلك الحريم . وقالوا : إنّ للنّخلة حريماً ، وهو قدر ما يرى أنّ فيه مصلحتها ، ويترك ما أضرّ بها ، ويسأل عن ذلك أهل العلم . وقد قالوا : من اثني عشر ذراعاً من نواحيها كلّها إلى عشرة أذرع ، وذلك حسن . ويسأل عن الكرم أيضاً وعن كلّ شجرة أهل العلم به ، فيكون لكلّ شجرة بقدر مصلحتها » . وقال الشّافعيّة : إنّ حريم البئر المحفورة في الموات ( هي ما كانت مطويّةً ، وينبع الماء منها ) : موقف النّازح منها ، والحوض الّذي يصبّ فيه النّازح الماء ، وموضع الدّولاب ( وهو ما يستقي به النّازح ، وما يستقي به بالدّابّة ) والموضع الّذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزّرع من حوض ونحوه ، ومتردّد الدّابّة ، والموضع الّذي يطرح فيه ما يخرج من الحوض ونحوه ، كلّ ذلك غير محدّد ، وإنّما هو بحسب الحاجة . وحريم آبار القناة ( وهي المحفورة من غير طيّ ليجتمع الماء فيها ويؤخذ لنحو المزارع ) : ما لو حفر فيه نقص ماؤها ، أو خيف سقوطها . ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها . ومذهب الحنابلة كمذهب الجمهور في أنّه لا يجوز إحياء حريم البئر والنّهر والعين ، غير أنّهم انفردوا بأنّه بحفر بئر يملك حريمها . أمّا تقدير الحنابلة للحريم من كلّ جانب في بئر قديمة فهو خمسون ذراعاً وفي غيرها خمس وعشرون . وحريم عين وقناة خمسمائة ذراع ، ونهر من جانبيه : ما يحتاج إليه لطرح كرايته ( أي ما يلقى من النّهر طلباً لسرعة جريه ) ، وحريم شجرة : قدر مدّ أغصانها ، وحريم أرض تزرع : ما يحتاج إليه لسقيها وربط دوابّها وطرح سبخها ونحوه .
إحياء الموات المقطّع :
20 - يقال في اللّغة : أقطع الإمام الجند البلد إقطاعاً أي جعل لهم غلّتها رزقاً ، واصطلاحاً إعطاء موات الأرض لمن يحييها ، وذلك جائز لما روى وائل بن حجر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً ، فأرسل معه معاوية : أن أعطها إيّاه ، أو أعلمها إيّاه » . ولا بدّ قبل بيان حكم هذا الإحياء من بيان حكم الإقطاع ؛ لأنّه إمّا أن يكون بصيغته إقطاع تمليك ، أو إقطاع إرفاق ( انتفاع ) . فإن كان إقطاع إرفاق فالكلّ مجمع على أنّه لا يفيد بذاته تمليكاً للرّقبة ، إن كان إقطاع تمليك فإنّه يمتنع به إقدام غير المقطع على إحيائه ؛ لأنّه ملك رقبته بالإقطاع نفسه ، خلافاً للحنابلة ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ إقطاع الموات مطلقاً لا يفيد تملّكاً ، لكنّه يصير أحقّ به من غيره . أمّا إذا كان الإقطاع مطلقاً ، أو مشكوكاً فيه ، فإنّه يحمل على إقطاع الإرفاق ؛ لأنّه المحقّق .
الحمى :
21 - الحمى لغةً : ما منع النّاس عنه ، واصطلاحاً : أن يمنع الإمام موضعاً لا يقع فيه التّضييق على النّاس للحاجة العامّة لذلك ، لماشية الصّدقة ، والخيل الّتي يحمل عليها . وقد كان للرّسول صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه وللمسلمين ، لقوله في الخبر : { لا حمى إلاّ للّه ولرسوله } ، لكنّه لم يحم لنفسه شيئاً ، وإنّما حمى للمسلمين ، فقد روى ابن عمر ، قال : « حمى النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّقيع لخيل المسلمين » . وأمّا سائر أئمّة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئاً ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصّدقة ، وضوالّ النّاس ، على وجه لا يتضرّر به من سواه من النّاس . وهذا مذهب الأئمّة أبي حنيفة ومالك وأحمد والشّافعيّ في صحيح قوليه . وقال في الآخر : ليس لغير النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحمي ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا حمى إلاّ للّه ورسوله » . واستدلّ الجمهور بأنّ عمر وعثمان حميا ، واشتهر ذلك في الصّحابة ، فلم ينكر عليهما ، فكان إجماعاً . وما حماه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه ، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه . وإن زالت الحاجة إليه ، ودعت حاجة لنقضه ، فالأظهر عند الشّافعيّة جواز نقضه . وعند الحنابلة وجهان . واستظهر الحطّاب من المالكيّة جواز نقضه إن لم يقم الدّليل على إرادة الاستمرار . وما حماه غيره من الأئمّة فغيره هو أو غيره من الأئمّة جاز ، وإن أحياه إنسان ملكه في أحد الوجهين للحنابلة ؛ لأنّ حمى الأئمّة اجتهاد ، وملك الأرض بالإحياء نصّ ، والنّصّ يقدّم على الاجتهاد . والوجه الآخر للحنابلة : لا يملكه ؛ لأنّ اجتهاد الإمام لا يجوز نقضه ، كما لا يجوز نقض حكمه . ومذهب الشّافعيّ ، كذلك .
من يحقّ له الإحياء
أ - في بلاد الإسلام :
22 - والمراد بها كما بيّن القليوبيّ : ما بناه المسلمون ، كبغداد والبصرة ، أو أسلم أهله عليه ، كالمدينة واليمن ، أو فتح عنوةً ، كخيبر ومصر وسواد العراق ، أو صلحاً والأرض لنا وهم يدفعون الجزية . والحكم في هذه البلاد أنّ عمارتها فيء ، ومواتها متحجّر لأهل الفيء . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المسلم البالغ العاقل الحرّ له الحقّ في أن يحيي الأرض الموات الّتي في بلاد الإسلام على نحو ما سبق . واختلفوا فيما وراء ذلك ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الذّمّيّ كالمسلم في حقّ الإحياء في بلاد الإسلام ، لكنّ مطرّفاً وابن الماجشون من المالكيّة منعا من إحيائه في جزيرة العرب ( مكّة والمدينة والحجاز كلّه والنّجود واليمن ) . وقال غيرهما : لو قيل إنّ حكم الذّمّيّين في ذلك حكم المسلمين لم يبعد ، كما كان لهم ذلك فيما بعد من العمران . وجاء في شرح الهداية : « أنّ الذّمّيّ يملك بالإحياء كما يملكه المسلم " من غير تقييد بإذن الإمام في ذلك عند الصّاحبين اللّذين لا يشترطان إذن الإمام للمسلم . وعلّل الشّارح ذلك بأنّ الإحياء سبب الملك ، فيستوي في ذلك المسلم والذّمّيّ كما في سائر أسباب الملك . والاستواء في السّبب يوجب الاستواء في الحكم ، لكن الّذي في شرح الدّرّ كما سبق أنّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه في اشتراط إذن الإمام في الإحياء إنّما هو بالنّسبة للمسلم ، أمّا بالنّسبة للذّمّيّ فيشترط الإذن اتّفاقاً عند الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة إلى عدم جواز إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام ، فقد نصّوا على أنّ الأرض الّتي لم تعمّر قطّ إن كانت ببلاد الإسلام فللمسلم تملّكها بالإحياء ، أذن فيه الإمام أم لا ، وليس ذلك لذمّيّ وإن أذن الإمام ، فغير الذّمّيّ من الكفّار أولى بالمنع ، فلا عبرة بإحيائه ، وللمسلم أن يأخذه منه ويملكه ، فإن كان له عين فيه كزرع ردّه المسلم إليه ، فإن أعرض عنه فهو لبيت المال ، وليس لأحد التّصرّف فيه ، ولا أجرة عليه مدّة إحيائه لأنّه ليس ملكاً لأحد . وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ الصّبيّ المسلم ، ولو غير مميّز يملك ما أحياه ، وأنّه يجوز للعبد أن يحيي ، لكن ما يحييه يملكه سيّده . ولم يذكروا شيئاً عن إحياء المجنون . وباقي المذاهب لم يستدلّ على أحكام إحياء المذكورين عندهم ، ولكن الحديث : « من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له » يدلّ بعمومه على أنّ الصّغير والمجنون يملكان ما يحييانه .