ن - شهر شعبان :
61 - اختصّ شعبان باستحباب الصّيام فيه ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها : « ما رأيت رسول اللّه استكمل صيام شهر قطّ إلاّ شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان » . واختصّ آخره بكراهة الصّيام فيه . قال صلى الله عليه وسلم : « لا يتقدّمنّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلاّ أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه » .
س - وقت صلاة الجمعة :
62 - اختصّ وقت صلاة الجمعة بتحريم البيع والشّراء فيه لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع } .
ع - أوقات أخرى :
63 - وقت طلوع الشّمس ، ووقت استوائها ، ووقت غروبها وبعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر : اختصّت هذه الأوقات بمنع الصّلاة فيها ، على اختلاف بين الفقهاء وتفصيل في صحّة الصّلاة منها مع الكراهة أو عدم الصّحّة في الثّلاثة الأولى منها دون غيرها .
اختصاص الأماكن
أ - الكعبة المشرّفة :
64 - اختصّت الكعبة المشرّفة بما يلي : أوّلاً - افتراض إحيائها بالحجّ والعمرة ، وتفصيله في " إحياء البيت الحرام » . ثانياً - تكون تحيّتها بالطّواف عند البعض من الشّافعيّة ، وقال غيرهم كالحنفيّة والحنابلة : الطّواف هو تحيّة المسجد الحرام . ثالثاً - المصلّون حولها يجوز أن يتقدّم منهم المأموم على الإمام ، إن لم يكن في جانبه ، على أنّ المالكيّة أجازوا تقدّم المأموم على الإمام مطلقاً ، وكرهوه لغير ضرورة . وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة . رابعاً - اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة في جوف الكعبة وعلى ظهرها ، فلم يجزها ابن جرير الطّبريّ ، ومنع الإمام أحمد الفرض ، وأجاز النّفل ، ومنع الإمام مالك الفرائض والسّنن وأجاز التّطوّع ، وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة الفرائض والنّوافل جميعاً ، وتفصيل ذلك سيأتي في الصّلاة . فإن صلّى في جوف الكعبة أو على ظهرها اتّجه إلى أيّ جهة شاء . خامساً - افتراض التّوجّه إليها في الصّلاة بالإجماع فإنّها قبلة المسلمين في صلاتهم ، وتفصيله في " استقبال » . سادساً - كراهة استقبالها في بول أو غائط ( أي حين التّخلّي ) . وذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذلك والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرّقوا أو غرّبوا » وتفصيله في مصطلح « قضاء الحاجة » .
ب - حرم مكّة :
65 - اختصّ حرم مكّة المكرّمة بما يلي : أوّلاً : عدم جواز دخول الكفّار إليه عند الجمهور لقوله تعالى : { إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وقد أجلاهم عمر عنه ، وأجاز الحنفيّة لهم دخوله دون الإقامة فيه كالحجاز . ثانياً : اختلف الفقهاء في جواز دخوله بغير إحرام على تفصيل في مصطلح ( إحرام ) . ثالثاً : إنّ الصّلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في ثوابها لا في إسقاط الفرائض ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ المسجد الحرام » وحرم مكّة كمسجدها في مضاعفة الثّواب . رابعاً : عدم كراهة الصّلاة فيه في الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة ؛ لحديث جبير بن مطعم « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار » . خامساً : تحريم صيده ، فمن صاد فعليه الجزاء ، كما هو مفصّل في بحث " إحرام » . سادساً : تحريم القتال فيه ، وسفك الدّماء ، وحمل السّلاح وكذلك إقامة الحدود ، على من ارتكب موجباتها خارج الحرم عند الحنفيّة والحنابلة ، خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة الّذين أجازوا إقامتها فيه مطلقاً . أمّا من ارتكب ذلك داخل الحرم فيجوز إقامة الحدود عليه اتّفاقاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً » وقوله صلوات اللّه وسلامه عليه : « لا يحلّ لأحدكم أن يحمل السّلاح بمكّة » . سابعاً : تغليظ دية الجناية فيه ، فقد قضى عمر بن الخطّاب ، فيمن قتل في الحرم ، بالدّية وثلث الدّية ، وقال بعضهم : لا تغلّظ ، كما هو مفصّل في مصطلح ( دية ) . ثامناً : قطع أشجاره : ولا يجوز قطع شيء من أشجار حرم مكّة بالاتّفاق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرةً » . تاسعاً : اختلف الفقهاء في لقطة الحرم ، فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهي إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّها كلقطة الحلّ ، وظاهر كلام أحمد وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّ من التقط لقطةً من الحرم كان عليه أن يعرّفها أبداً حتّى يأتي صاحبها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . عاشراً : لا يصحّ ذبح الهدي إلاّ فيه ، كما هو مبيّن في الحجّ ، ولا يجوز إخراج شيء من ترابه .
ج - مسجد مكّة :
66 - يختصّ مسجد مكّة المكرّمة بما يختصّ به حرمها لأنّه جزء من حرمها ، ويزيد عليه ما يلي : أوّلاً : جواز قصده بالزّيارة وشدّ الرّحال إليه لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول ، والمسجد الأقصى » ثانياً : تقدّم المأموم فيه على الإمام - وقد تقدّم فيما تختصّ به الكعبة المشرّفة ، كما اختصّت مواطن بأعمال في الحجّ تتعيّن وجوباً أو ندباً ، كعرفة ، ومنًى ، ومزدلفة ، والمواقيت المكانيّة للإحرام . وتفصيله في مصطلحي : ( الحجّ - والإحرام ) .
د - المدينة المنوّرة :
67 - أوّلاً : المدينة المنوّرة حرم ، ما بين عير إلى ثور ، لا يحلّ صيدها ولا يعضد شجرها ، كما ذهب إلى ذلك الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، والزّهريّ وغيرهم لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لها ، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة ، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة » . خالف في ذلك الحنفيّة وسفيان الثّوريّ وعبد اللّه بن المبارك ، فقالوا : ليس للمدينة المنوّرة حرم ، ولا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها ، وما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحديثه المتقدّم تحريمها ، ولكنّه أراد بقاء زينتها ليألفها النّاس ، لما رواه الطّحاويّ والبزّار من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تهدموا الآطام فإنّها زينة المدينة » ، ولما رواه مسلم من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يا أبا عمير ما فعل النّغير ؟ » والنّغير صيد . ثانياً : يمنع الذّمّيّ من الاستيطان بها ولا يمنع من دخولها . ثالثاً : قدّم الإمام مالك العمل بما أجمع عليه فقهاء المدينة المنوّرة في عصره على خبر الواحد . رابعاً : الإقامة في المدينة المنوّرة أحبّ من الإقامة في غيرها ولو كانت مكّة ؛ لأنّها مهاجر المسلمين ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون ، فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشّام فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون » . خامساً : يستحبّ للمؤمن الانقطاع بها ليحصّل الموت فيها ، فقد كان عمر بن الخطّاب يدعو اللّه ويقول : اللّهمّ ارزقني شهادةً في سبيلك ، واجعل موتي في بلد رسولك ، وذلك لما رواه التّرمذيّ عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإنّي أشفع لمن يموت بها » .
هـ - مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم :
68 - يختصّ مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الصّلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام ، لما في الصّحيحين من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام » . ويختصّ بجواز شدّ الرّحال إليه ، وقد تقدّم حديث : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاث مساجد » وذكر منها مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
و - مسجد قباء :
69 - يختصّ مسجد قباء بأنّ من أتاه فصلّى فيه كانت له كعمرة ، لما رواه النّسائيّ عن سهل بن حنيف قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من خرج حتّى يأتي هذا المسجد - مسجد قباء - فصلّى فيه كان له عدل عمرة » وفي سنن التّرمذيّ عن أسيد بن ظهير أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلاة في مسجد قباء كعمرة » ولذلك استحبّ إتيان هذا المسجد والصّلاة فيه .
ز - المسجد الأقصى :
70 - يختصّ المسجد الأقصى بجواز شدّ الرّحال إليه ، وقد تقدّم . واختلفوا في كراهة التّوجّه إلى بيت المقدس في البول والغائط ، فكرهه بعضهم ؛ لأنّ بيت المقدس كان قبلةً ، وأباحه آخرون ، وقد ذكر ذلك الفقهاء عند حديثهم عن آداب الاستنجاء في كتاب الطّهارة .
ح - بئر زمزم :
71 - اختصّ ماء زمزم عن غيره من المياه بأنّ لشربه آداباً خاصّةً ، ولا يجوز استعماله في مواضع الامتهان كإزالة النّجاسة الحقيقيّة ، على خلاف وتفصيل سبق في مصطلح « آبار » ( ف 33 - 35 ) ( في الجزء الأوّل ) .
الاختصاص بالولاية أو الملك
72 - المخصّص إمّا أن يكون الشّرع ، وقد سبق بيانه ، أو الشّخص بملك أو ولاية . وهذا الأخير يشترط فيه ما يلي :
شروط الشّخص المخصّص :
73 - أ - أن يكون أهلاً للتّصرّف .
ب - أن يكون ذا ولاية ، سواء أكانت ولايةً عامّةً كالأمير والقاضي ونحوهما ، أم ولايةً خاصّةً كالأب ونحوه .
ج - أن يكون ذا ملك ، إذ لصاحب الملك أن يختصّ بملكه من يشاء بشروطه .
اختصاص ذي الولاية :
74 - إذا كان المخصّص صاحب الولاية فإنّه يشترط في الاختصاص أن يكون محقّقاً لمصلحة المولى عليه ، ومن هنا قالوا : تصرّف ذي الولاية منوط بالمصلحة ؛ لأنّ الولاية أمانة ، قال صلى الله عليه وسلم : « إنّها أمانة ، وأنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الّذي عليه فيها » . وقال ابن تيميّة في السّياسة الشّرعيّة : « إنّ وصيّ اليتيم وناظر الوقف عليه أن يتصرّف له بالأصلح فالأصلح » . ومن ذلك اختصاص بعض القضاة بالقضاء في بلد معيّن ، أو في جانب معيّن من بلد دون الجوانب الأخرى ، أو في مذهب معيّن ، أو النّظر في نوع من الدّعاوى دون الأنواع الأخرى كالمناكحات أو الحدود أو المظالم ونحو ذلك ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب القضاء ، وفي كتب الأحكام السّلطانيّة . ويجب مراعاة المصلحة في اختصاص الرّجال ، في الولايات أو منح الأموال ونحوها ، كالحمى ، وهو في حقيقته اختصاص أرض معيّنة لترعى فيها أنعام الصّدقة ، أو خيل الجهاد ، واختصاص بعض الأراضي بإقطاعها للإحياء ، واختصاص بعض المرافق العامّة بإقطاعها إقطاع إرفاق كالطّرقات ومقاعد الأسواق ونحو ذلك . واختصاص بعض الموادّ الضّروريّة برفع العشور عنها ، أو تخفيض العشور عنها ؛ ليكثر جلبها إلى أسواق المسلمين ، فقد كان عمر رضي الله عنه يأخذ من النّبط من الحنطة والزّيت نصف العشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة المنوّرة ويأخذ من القطنيّة - الحمّص والعدس - العشر .
( اختصاص المالك ) :
75 - أمّا إذا كان المخصّص صاحب ملك ، فإنّه يشترط لاختصاصه بعض ملكه بشيء من التّصرّفات دون بعض ألاّ ينشأ عن اختصاصه هذا ضرر أو مفسدة ولذلك منع من الوصيّة بأكثر من الثّلث لما فيه من الإضرار بالورثة ، ومنع من إعطاء بعض أولاده عطيّته لغير سبب مشروع دون باقيهم لما فيه من إيغار صدور بعضهم على بعض .
اختضاب
التّعريف
1 - الاختضاب لغةً : استعمال الخضاب . والخضاب هو ما يغيّر به لون الشّيء من حنّاء وكتم ونحوهما . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الصّبغ والصّباغ :
2 - الصّبغ ما يصطبغ به من الإدام ، ومنه قوله تعالى : { وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن وصبغ للآكلين } . قال المفسّرون : المراد بالصّبغ في الآية الزّيت ؛ لأنّه يلوّن الحبّ إذا غمس فيه ، والمراد أنّه إدام يصبغ به .
ب - التّطريف :
3 - التّطريف لغةً : خضب أطراف الأصابع ، يقال : طرفت الجارية بنانها إذا خضّبت أطراف أصابعها بالحنّاء ، وهي مطرّفة .
ج - النّقش :
4 - النّقش لغةً . النّمنمة ، يقال : نقشه ينقشه نقشاً وانتقشه : نمنمه فهو منقوش . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - يختلف حكم الخضاب تبعاً للونه ، وللمختضب ، رجلاً كان أو امرأةً . وسيأتي . المفاضلة بين الاختضاب وعدمه :
6 - نقل الشّوكانيّ عن القاضي عياض قوله : اختلف السّلف من الصّحابة والتّابعين في الاختضاب ، وفي جنسه ، فقال بعضهم : ترك الاختضاب أفضل ، استبقاءً للشّيب ، وروى حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّهي عن تغيير الشّيب . وقال بعضهم : الاختضاب أفضل لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « غيّروا الشّيب ، ولا تشبّهوا باليهود » . وفي رواية زيادة « والنّصارى » ، ولقوله : « إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم » فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ العلّة في الصّباغ وتغيير الشّيب هي مخالفة اليهود والنّصارى . وبهذا يتأكّد استحباب الاختضاب . وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها . واختضب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك . ثمّ قد كان أكثرهم يختضب بالصّفرة ، منهم ابن عمر وأبو هريرة ، واختضب جماعة منهم بالحنّاء والكتم ، وبعضهم بالزّعفران ، واختضب جماعة بالسّواد ، منهم عثمان بن عفّان والحسن والحسين وعقبة بن عامر وغيرهم . ونقل الشّوكانيّ عن الطّبريّ قوله : الصّواب أنّ الأحاديث الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتغيير الشّيب وبالنّهي عنه كلّها صحيحة ، وليس فيها تناقض . بل الأمر بالتّغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة ، والنّهي لمن له شمط فقط ، واختلاف السّلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك ، مع أنّ الأمر والنّهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض .
7 - وقد جاءت أحاديث في صحيح البخاريّ تدلّ على اختضاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت أحاديث تنفي اختضابه ، فمن الأولى : ما ورد عن عثمان بن عبد اللّه بن موهب قال : « دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر رسول اللّه فإذا هو مخضوب » . ومنها ما ورد أنّ ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصّفرة حتّى تملأ ثيابه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ، ولم يكن شيء أحبّ إليه منها ، وكان يصبغ بها ثيابه حتّى عمامته . ومن الثّانية قول أنس رضي الله عنه : « ما خضّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنّه لم يبلغ منه الشّيب إلاّ قليلاً ، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت » . ومنها قول أبي جحيفة رضي الله عنه : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء » يعني عنفقته . وقال الشّوكانيّ : « لو فرض عدم ثبوت اختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان قادحاً في سنّيّة الاختضاب ، لورود الإرشاد إليها قولاً في الأحاديث الصّحيحة » . وقال الطّبريّ في الجمع بين الأحاديث المثبتة لاختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأحاديث النّافية لاختضابه : « من جزم بأنّه خضّب فقد حكى ما شاهد ، وكان ذلك في بعض الأحيان ، ومن نفى ذلك فهو محمول على الأكثر الغالب من حاله " صلى الله عليه وسلم .
بم يكون الاختضاب ؟
8 - كون الاختضاب بالحنّاء ، وبالحنّاء مع الكتم ، وبالورس والزّعفران ، والسّواد ، بغير ذلك . أوّلاً - الاختضاب بغير السّواد الاختضاب بالحنّاء والكتم :
9 - يستحبّ الاختضاب بالحنّاء والكتم ، لحديث : « غيّروا الشّيب » ، فهو أمر ، وهو للاستحباب ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم » ، فإنّه يدلّ على أنّ الحنّاء والكتم من أحسن الصّباغات الّتي يغيّر بها الشّيب . وأنّ الصّبغ غير مقصور عليهما ، بل يشاركهما غيرهما من الصّباغات في أصل الحسن لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال : اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم ، واختضب عمر بالحنّاء بحتاً .
الاختضاب بالورس والزّعفران
10 - الاختضاب بالورس والزّعفران يشارك الاختضاب بالحنّاء والكتم في أصل الاستحباب . وقد اختضب بهما جماعة من الصّحابة . روى أبو مالك الأشجعيّ ، عن أبيه ، قال : « كان خضابنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الورس والزّعفران » ، وقال الحكم بن عمرو الغفاريّ : دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر ، وأنا مخضوب بالحنّاء ، وأخي مخضوب بالصّفرة ، فقال عمر : هذا خضاب الإسلام . وقال لأخي رافع : هذا خضاب الإيمان .
الاختضاب بالسّواد
11 - اختلف الفقهاء في حكم الاختضاب بالسّواد : فالحنابلة والمالكيّة والحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - يقولون : بكراهة الاختضاب بالسّواد في غير الحرب . أمّا في الحرب فهو جائز إجماعاً ، بل هو مرغّب فيه ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم شأن أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه لمّا جيء إليه عام الفتح ، ورأسه يشتعل شيباً : اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيّره ، وجنّبوه السّواد » . وقال الحافظ في الفتح : إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد للمجاهدين ، ومنهم من رخّص فيه مطلقاً ، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء ، وقد استدلّ المجوّزون للاختضاب بالسّواد بأدلّة : منها : قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد ، أرغب لنسائكم فيكم ، وأهيب لكم في صدور أعدائكم » . ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يأمر بالخضاب بالسّواد ، ويقول : هو تسكين للزّوجة ، وأهيب للعدوّ . ومنها أنّ جماعةً من الصّحابة اختضبوا بالسّواد ، ولم ينقل الإنكار عليهم من أحد ، منهم عثمان وعبد اللّه بن جعفر والحسن والحسين . وكان ممّن يختضب بالسّواد ويقول به محمّد بن إسحاق صاحب المغازي ، وابن أبي عاصم ، وابن الجوزيّ . ومنها ما ورد عن ابن شهاب قال : « كنّا نختضب بالسّواد إذ كان الوجه جديداً ( شباباً ) فلمّا نفض الوجه والأسنان ( كبرنا ) تركناه » . وللحنفيّة رأي آخر بالجواز ، ولو في غير الحرب ، وهذا هو مذهب أبي يوسف . وقال الشّافعيّة بتحريم الاختضاب بالسّواد لغير المجاهدين ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد ، لا يريحون رائحة الجنّة » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « في شأن أبي قحافة : وجنّبوه السّواد » ، فالأمر عندهم للتّحريم ، وسواء فيه عندهم الرّجل والمرأة .
اختضاب الأنثى
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغيير الشّيب بالحنّاء أو نحوه مستحبّ للمرأة كما هو مستحبّ للرّجل ، للأخبار الصّحيحة في ذلك . وتختصّ المرأة المزوّجة ، والمملوكة باستحباب خضب كفّيها وقدميها بالحنّاء أو نحوه في كلّ وقت عدا وقت الإحرام ؛ لأنّ الاختضاب زينة ، والزّينة مطلوبة من الزّوجة لزوجها ومن المملوكة لسيّدها ، على أن يكون الاختضاب تعميماً ، لا تطريفاً ولا نقشاً ؛ لأنّ ذلك غير مستحبّ . ويجوز لها - بإذن زوجها أو سيّدها تحمير الوجنة ، وتطريف الأصابع بالحنّاء مع السّواد . وفي استحباب خضب المرأة المزوّجة لكفّيها ما ورد عن « ابن ضمرة بن سعيد عن جدّته عن امرأة من نسائه قال : وقد كانت صلّت القبلتين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قالت : دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : اختضبي ، تترك إحداكنّ الخضاب حتّى تكون يدها كيد الرّجل ؟ » قال : فما تركت الخضاب حتّى لقيت اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت لتختضب وإنّها لابنة ثمانين . أمّا المرأة غير المزوّجة وغير المملوكة فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : كراهة اختضابها في كفّيها وقدميها لعدم الحاجة مع خوف الفتنة ، وحرمة تحمير وجنتيها وحرمة تطريف أصابعها بالحنّاء مع السّواد . . ويرى الحنابلة جواز الاختضاب للأيّم ، لما ورد عن جابر مرفوعاً : « يا معشر النّساء اختضبن ، فإنّ المرأة تختضب لزوجها ، وإنّ الأيّم تختضب تعرّض للرّزق من اللّه عزّ وجلّ » أي لتخطب وتتزوّج .
وضوء المختضب وغسله :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ وجود مادّة على أعضاء الوضوء أو الغسل تمنع وصول الماء إلى البشرة - حائل بين صحّة الوضوء وصحّة الغسل . والمختضب وضوءه وغسله صحيحان ؛ لأنّ الخضاب بعد إزالة مادّته بالغسل يكون مجرّد لون ، واللّون وحده لا يحول بين البشرة ووصول الماء إليها ، ومن ثمّ فهو لا يؤثّر في صحّة الوضوء أو الغسل .
الاختضاب للتّداوي :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز الاختضاب للتّداوي ، لخبر سلمى - مولاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم - « أنّه كان إذا اشتكى أحد رأسه قال : اذهب فاحتجم ، وإذا اشتكى رجله قال : اذهب فاخضبها بالحنّاء » ، وفي لفظ لأحمد : قالت : « كنت أخدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة إلاّ أمرني أن أضع عليها الحنّاء » .
الاختضاب بالمتنجّس وبعين النّجاسة
15 - يرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ما خضّب أو صبغ بمتنجّس يطهر بغسله ثلاثاً فلو اختضب الرّجل أو اختضبت المرأة بالحنّاء المتنجّس وغسل كلّ ثلاثاً طهر . أمّا إذا كان الاختضاب بعين النّجاسة فلا يطهر إلاّ بزوال عينه وطعمه وريحه وخروج الماء صافياً ، ويعفى عن بقاء اللّون ؛ لأنّ الأثر الّذي يشقّ زواله لا يضرّ بقاؤه . ومن هذا القبيل المصبوغ بالدّم ( فهو نجس ) ، والمصبوغ بالدّودة غير المائيّة الّتي لها دم سائل فإنّها ميتة يتجمّد الدّم فيها وهو نجس .
الاختضاب بالوشم :
16 - الوشم هو غرز الجلد بالإبرة حتّى يخرج الدّم ثمّ يذرّ عليه كحل أو نيلة ليخضرّ أو يزرقّ وهو حرام مطلقاً لخبر الصّحيحين : « لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنّامصة والمتنمّصة » ؛ ولأنّه إذا غرز محلّ الوشم بإبرة ثمّ حشي بكحل أو نيلة ليخضرّ تنجّس الكحل بالدّم فإذا جمد الدّم والتأم الجرح بقي محلّه أخضر ، فإذا غسل ثلاثاً طهر . ويرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوشم كالاختضاب أو الصّبغ بالمتنجّس ، فإذا غسل ثلاثاً طهر ؛ لأنّه أثر يشقّ زواله إذ لا يزول إلاّ بسلخ الجلد أو جرحه .
الاختضاب بالبياض
17 - يكره خضب اللّحية السّوداء بالبياض كالكبريت ونحوه إظهاراً لكبر السّنّ ترفّعاً على الشّباب من أقرانه ، وتوصّلاً إلى التّوقير والاحترام من إخوانه ، وأمثال ذلك من الأغراض الفاسدة . ويفهم من هذا أنّه إذا كان لغرض صحيح فهو جائز .
اختضاب الحائض :
18 - جمهور الفقهاء على جواز اختضاب الحائض لما ورد « أنّ امرأةً سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت : تختضب الحائض ؟ فقالت : قد كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه » ، ولما ورد أنّ نساء ابن عمر كنّ يختضبن وهنّ حيّض . وقد قال ابن رشد : لا إشكال في جواز اختضاب الحائض والجنب لأنّ صبغ الخضاب الّذي يحصل في يديها لا يمنع من رفع حدث الجنابة والحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت . ولا وجه للقول بالكراهة .
اختضاب المرأة المحدّة
19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة المحدّة على زوجها يحرم عليها أن تختضب مدّة عدّتها ؛ لما ورد من حديث لأمّ سلمة قالت : « دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين توفّي أبو سلمة فقال لي : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب . قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » .
خضاب رأس المولود :
20 - اتّفق الفقهاء - مالك والشّافعيّ - وأحمد والزّهريّ وابن المنذر على كراهة تلطيخ رأس الصّبيّ بدم العقيقة ؛ لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ، وأميطوا عنه الأذى » ، فهذا يقتضي ألاّ يمسّ بدم لأنّه أذًى ، ولما روي عن يزيد بن عبد المزنيّ عن أبيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « يعقّ عن الغلام ولا يمسّ رأسه بدم » ولأنّ هذا تنجيس له فلا يشرع . واتّفقوا على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ( أي الطّيب ) ، لقول بريدة : كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها ، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفران ، ولقول عائشة رضي الله عنها « : كانوا في الجاهليّة إذا عقّوا عن الصّبيّ خضّبوا قطنةً بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا مكان الدّم خلوقاً » زاد أبو الشّيخ « : ونهى أن يمسّ رأس المولود بدم » . أمّا الحنفيّة فإنّ العقيقة عندهم غير مطلوبة .
اختضاب الرّجل والخنثى :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للرّجل أن يختضب في رأسه ولحيته لتغيير الشّيب بالحنّاء ونحوه للأحاديث الواردة في ذلك ، وجوّزوا له أن يختضب في جميع أجزاء بدنه ما عدا الكفّين والقدمين ، فلا يجوز له أن يختضب فيهما إلاّ لعذر ؛ لأنّ في اختضابه فيهما تشبّهاً بالنّساء ، والتّشبّه بالنّساء محظور شرعاً . وقال أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة بحرمته . وقال بعض الحنابلة وصاحب المحيط من الحنفيّة بكراهته وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء » . وحكم الخنثى المشكل كحكم الرّجل في هذا .
اختضاب المحرم
22 - ذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم الاختضاب بالحنّاء في أيّ جزء من البدن ما عدا الرّأس ؛ لأنّ ستر الرّأس في الإحرام بأيّ ساتر ممنوع . وقد ذكر القاضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « إحرام الرّجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها » . ولا بأس باختضاب المرأة بالحنّاء ونحوه ، لما روي عن عكرمة أنّه قال : « كانت عائشة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحنّاء وهنّ حرم » . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام في جميع أجزاء جسده ، ما عدا اليدين والرّجلين فيحرم خضبهما بغير حاجة . وكرهوا للمرأة الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام ، إلاّ إذا كانت معتدّةً من وفاة فيحرم عليها ذلك ، كما يحرم عليها الاختضاب إذا كان نقشاً ، ولو كانت غير معتدّة . وقال الأحناف والمالكيّة : لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحنّاء ونحوه في أيّ جزء من البدن سواء أكان رجلاً أم امرأةً ؛ لأنّه طيب والمحرم ممنوع من الطّيب ، وقد روي « أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأمّ سلمة : لا تطيّبي وأنت محرمة ولا تمسّي الحنّاء فإنّه طيب » .