الرد على الموضوع

اختطاط

التّعريف

1 - الاختطاط مصدر اختطّ . واختطاط الأرض هو أن يعلّم عليها علامةً بالخطّ ليعلم أنّه قد احتازها لينتفع بها . واختطّ فلان خطّةً إذا تحجّر موضعاً وخطّ عليه بجدار . وكلّ ما حظرته فقد خططت عليه . والخطّة : الأرض يختطّها الرّجل في أرض غير مملوكة ليتحجّرها ويبني فيها ، وذلك إذا أذن السّلطان لجماعة من المسلمين أن يختطّوا الدّور في موضع بعينه ، ويتّخذوا فيه مساكن لهم ، كما فعلوا بالكوفة والبصرة وبغداد ومعنى الاختطاط الوارد في اللّغة هو ما يعبّر عنه الفقهاء بالتّحجير أو الاحتجار بقصد إحياء الموات . وتفصيل أحكامه هناك ( ر : إحياء الموات ) . الحكم الإجماليّ :

2 - الاختطاط كما تبيّن يرادفه التّحجير عند الفقهاء ، والتّحجير لا يعتبر إحياءً ، إنّما هو شروع في الإحياء . ولذلك لا يثبت به الملك ، ولا يصحّ بيع المتحجّر من الموات ، وإنّما يكون المتحجّر أحقّ به من غيره ، فإذا لم يعمر كان غيره أحقّ به . وهذا في الجملة . وتفصيل ذلك في إحياء الموات .

اختطاف

التّعريف

1 - الاختطاف : أخذ الشّيء بسرعة واستلاب . ويقول بعض الفقهاء : الاختطاف هو الاختلاس ، والاختلاس هو أخذ الشّيء علانيةً بسرعة . والفرق بين الاختطاف والاغتصاب والسّرقة والحرابة والخيانة كالفرق بين الاختلاس وبين هذه المصطلحات ، ( ر : اختلاس ) . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :

2 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع على المختطف ؛ لأنّ الاختلاس والاختطاف واحد ، ولا قطع على المختلس ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع » . وقد فصّل الفقهاء أحكام الاختطاف في كتاب الحدود - باب حدّ السّرقة .

اختفاء

التّعريف

1 - الإخفاء لغةً السّتر والكتمان . وفي التّنزيل : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } . فهو متعدّ ، بخلاف الاختفاء بمعنى التّواري ، فإنّه لازم ومطاوع للإخفاء .

( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الإسرار :

2 - الإسرار لغةً واصطلاحاً هو الإخفاء . وقد يأتي بمعنى الإظهار أيضاً كما قال بعضهم في تفسير قوله تعالى : { وأسرّوا النّدامة } أي أظهروها ، فهو من الأضداد .

ب - النّجوى :

3 - النّجوى اسم للكلام الخفيّ الّذي تناجي به صاحبك ، كأنّك ترفعه عن غيره ، وذلك أنّ أصل الكلمة الرّفعة ، ومنه النّجوة من الأرض ، وسمّى اللّه تعالى تكليم موسى عليه السلام مناجاةً ، لأنّه كان كلاماً أخفاه عن غيره . والفرق بينها وبين الإخفاء أنّ النّجوى لا تكون إلاّ كلاماً ، أمّا الإخفاء فيكون للكلام والعمل كما هو واضح ، فالعلاقة بينهما العموم والخصوص .

( الحكم الإجماليّ )

يتعدّد الحكم الإجماليّ للإخفاء بحسب المواطن الّتي يكون فيها :

أ - إخفاء النّيّة :

4 - لم يؤثر عن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشروعيّة التّلفّظ بالنّيّة ، ولهذا استحبّ إخفاؤها ، لأنّ محلّها القلب ولأنّ حقيقتها القصد مطلقاً ، وخصّت في الشّرع بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل مقترنةً به ابتغاء رضاء اللّه تعالى وامتثال حكمه . وقيل : يستحبّ التّلفّظ بها باللّسان . لكن للنّيّة في الحجّ والعمرة حكم خاصّ فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة : يسنّ التّلفّظ بالنّيّة في الحجّ والعمرة . وقال الحنابلة وهو رأي للمالكيّة : يستحبّ النّطق بما جزم به ليزول الالتباس . وقال المالكيّة في رأي لهم : إنّ ترك التّلفّظ بها أفضل وفي رأي آخر كراهة التّلفّظ بها . وقيل يستحبّ التّلفّظ باللّسان . وتفصيله في مصطلح ( نيّة ) .

ب - إخفاء الصّدقة والزّكاة :

5 - نقل الطّبريّ وغيره الإجماع على أنّ الإخفاء في صدقة التّطوّع أفضل ، والإعلان في صدقة الفرض أفضل ، لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » . وقال ابن عطيّة : يشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض ( الزّكاة ) أفضل ، فقد كثر المانع لها ، وصار إخراجها عرضةً للرّياء . وقيل : إن كان المتصدّق ممّن يقتدى به ويتبع ، وسلم قصده ، فالإظهار أولى . وتفصيله في مصطلح ( صدقة ) .

ج - اختفاء الهلال :

6 - إذا اختفى الهلال ، وغمّ على النّاس ، في شعبان أو رمضان ، وجب أن يكمل النّاس عدّة الشّهر ثلاثين يوماً ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين » . وتفصيله في مصطلح : ( صوم ) .

د - إخفاء الإيمان :

7 - في اعتبار إيمان من أخفى إيمانه وصدّق بقلبه رأيان : الأوّل : من صدّق بقلبه بما علم مجيء الرّسول به وأخفى إيمانه ولم يتلفّظ به ، اعتبر مؤمناً . الثّاني : اعتبر البعض أنّ التّلفّظ بالشّهادتين شرط للإيمان أو شطر منه .

هـ - إخفاء الذّكر :

8 - اختلف السّلف في الذّكر الخفيّ والذّكر باللّسان من حيث الأفضليّة بينهما ، فقال عزّ الدّين بن عبد السّلام وابن حجر الهيتميّ : ذكر القلب أفضل من ذكر اللّسان ، وذهب القاضي عياض والبلقينيّ إلى ترجيح عمل اللّسان . وتفصيله في مصطلح ( ذكر ) .

اختلاس

التّعريف

1 - الاختلاس والخلس في اللّغة : أخذ الشّيء مخادعةً عن غفلة . قيل الاختلاس أسرع من الخلس ، وقيل الاختلاس هو الاستلاب . ويزيد استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ أنّه : أخذ الشّيء بحضرة صاحبه جهراً مع الهرب به سواء جاء المختلس جهاراً أو سرّاً ، مثل أن يمدّ يده إلى منديل إنسان فيأخذه .

الألفاظ ذات الصّلة :

2 - أ - الغصب أو الاغتصاب : هو أخذ الشّيء قهراً وعدواناً .

ب - السّرقة : هي أخذ النّصاب من حرزه على استخفاء .

ج - الحرابة : هي الاستيلاء على الشّيء مع تعذّر الغوث .

د - الخيانة : هي جحد ما اؤتمن عليه .

هـ - الانتهاب : هو أخذ الشّيء قهراً ، فالانتهاب ليس فيه استخفاء مطلقاً ، في حين أنّ الاختلاس يستخفى في أوّله .

الحكم الإجماليّ :

3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع في الاختلاس ؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع » ، ولأنّه يأخذ المال على وجه يمكن انتزاعه منه بالاستغاثة بالنّاس وبالسّلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع .

مواطن البحث :

4 - يفصّل الفقهاء أحكام الاختلاس في السّرقة عند الحديث عن الأمور الّتي فيها قطع وما لا قطع فيه ، وفي الغصب عند الحديث عمّا يغايره من أنواع أخذ الحقوق من الغير .

اختلاط

التّعريف

1 - الاختلاط ضمّ الشّيء إلى الشّيء ، وقد يمكن التّمييز بينهما كما في الحيوانات ، وقد لا يمكن كما في المائعات فيكون مزجاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى . الألفاظ ذات الصّلة :

2 - الامتزاج هو انضمام شيء إلى شيء بحيث لا يمكن التّمييز بينهما ، ويختلف عنه الاختلاط بأنّه أعمّ ؛ لشموله ما يمكن التّمييز فيه وما لا يمكن . الحكم الإجماليّ :

3 - يختلف الحكم بحسب المسائل الّتي يجري فيها الاختلاط ، فقد يكون أثر الاختلاط هو الحرمة . وذلك تبعاً لقاعدة : إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ، كما لو اختلطت المساليخ المذكّاة بمساليخ الميتة دون تمييز ، فإنّه لم يجز تناول شيء منها ، ولا بالتّحرّي إلاّ عند المخمصة . ويجوز التّحرّي إذا كانت الغلبة للمذكّاة كما يقول الحنفيّة . وكذلك لو اختلطت زوجته بغيرها فليس له الوطء ولا بالتّحرّي ، ومثل ذلك من طلّق إحدى زوجتيه مبهماً ، يحرم عليه الوطء قبل التّعيين . وقد يكون أثر الاختلاط هو الاجتهاد والتّحرّي غالباً فالأواني إذا كان بعضها طاهراً وبعضها نجساً ولم تتميّز ، وكذلك الثّياب إذا اختلط الطّاهر بالنّجس فإنّه يتحرّى للطّهارة واللّبس . وهذا عند الجمهور وبعض الفقهاء يقول عدم التّحرّي وهم الحنابلة إلاّ بعضهم . وقد يكون أثر الاختلاط هو الضّمان . ومن ذلك ما إذا خلط المودع الوديعة بماله ولم تتميّز فإنّه يضمن لأنّ الخلط إتلاف . وقد يعتبر الاختلاط إبطالاً لبعض العقود كالوصيّة ، فمن وصّى بشيء معيّن خلطه بغيره على وجه لا يتميّز منه كان رجوعاً في الوصيّة . ومن صور الاختلاط :

اختلاط الرّجال بالنّساء :

4 - يختلف حكم اختلاط الرّجال بالنّساء بحسب موافقته لقواعد الشّريعة أو عدم موافقته ، فيحرم . الاختلاط إذا كان فيه : أ - الخلوة بالأجنبيّة ، والنّظر بشهوة إليها .

ب - تبذّل المرأة وعدم احتشامها .

ج - عبث ولهو وملامسة للأبدان كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد ، فالاختلاط الّذي يكون فيه مثل هذه الأمور حرام ، لمخالفته لقواعد الشّريعة . قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم } . . . { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ } . وقال تعالى عن النّساء : { ولا يبدين زينتهنّ } وقال : { إذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب } . ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يخلونّ رجل بامرأة فإنّ ثالثهما الشّيطان » « وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفّيه » . كذلك اتّفق الفقهاء على حرمة لمس الأجنبيّة ، إلاّ إذا كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بالمصافحة . ويقول ابن فرحون : في الأعراس الّتي يمتزج فيها الرّجال والنّساء ، لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إذا كان فيه ما حرّمه الشّارع ؛ لأنّ بحضورهنّ هذه المواضع تسقط عدالتهنّ . ويستثنى من الاختلاط المحرّم ما يقوم به الطّبيب من نظر ولمس ؛ لأنّ ذلك موضع ضرورة ، والضّرورات تبيح المحظورات .

5 - ويجوز الاختلاط إذا كانت هناك حاجة مشروعة مع مراعاة قواعد الشّريعة ولذلك جاز خروج المرأة لصلاة الجماع وصلاة العيد ، وأجاز البعض خروجها لفريضة الحجّ مع رفقة مأمونة من الرّجال . كذلك يجوز للمرأة معاملة الرّجال ببيع أو شراء أو إجارة أو غير ذلك . ولقد سئل الإمام مالك عن المرأة العزبة الكبيرة تلجأ إلى الرّجل ، فيقوم لها بحوائجها ، ويناولها الحاجة ، هل ترى ذلك له حسناً ؟ قال : لا بأس به ، وليدخل معه غيره أحبّ إليّ ، ولو تركها النّاس لضاعت ، قال ابن رشد : هذا على ما قال إذا غضّ بصره عمّا لا يحلّ له النّظر إليه .

مواطن البحث :

6 - الأشياء الّتي يتمّ فيها الاختلاط تشمل مواطن متعدّدةً في كثير من المسائل الفقهيّة ولكلّ مسألة حكمها بحسب أثر الاختلاط فيها ومن هذه المواطن : اختلاط المغصوب بغيره في باب الغصب . واختلاط موتى المسلمين بغيرهم في باب الجنائز . واختلاط الحادث بالموجود في بيع الثّمار . واختلاط الماشية الّتي تجب فيها الزّكاة في باب الزّكاة . واختلاط المحلوف عليه في باب الإيمان . واختلاط النّجس بالطّاهر في المائعات ، وغير ذلك . وفي الموضوع فروع متعدّدة . ( ر : نظر - خلوة - محرم - أجنبيّ ) .

اختلاف

التّعريف

1 - الاختلاف لغةً : مصدر اختلف . والاختلاف نقيض الاتّفاق . جاء في اللّسان ما مفاده : اختلف الأمران لم يتّفقا . وكلّ ما لم يتساو فقد اختلف . والخلاف : المضادّة ، وخالفه إلى الشّيء عصاه إليه ، أو قصده بعد أن نهاه عنه . ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللّغويّ وكذلك الخلاف . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الخلاف :

2 - جاء في فتح القدير والدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين ، ونقله التّهانويّ عن بعض أصحاب الحواشي ، التّفريق بين ( الاختلاف ) ( والخلاف ) بأنّ الأوّل يستعمل في قول بني على دليل ، والثّاني فيما لا دليل عليه . وأيّده التّهانويّ بأنّ القول المرجوح في مقابلة الرّاجح يقال له خلاف ، لا اختلاف . قال : والحاصل منه ثبوت الضّعف في جانب المخالف في ( الخلاف ) ، كمخالفة الإجماع ، وعدم ضعف جانبه في ( الاختلاف ) . وقد وقع في كلام بعض الأصوليّين والفقهاء عدم اعتبار هذا الفرق ، بل يستعملون أحياناً اللّفظين بمعنًى واحد ، فكلّ أمرين خالف أحدهما الآخر خلافاً ، فقد اختلفا اختلافاً . وقد يقال : إنّ الخلاف أعمّ مطلقاً من الاختلاف . وينفرد الخلاف في مخالفة الإجماع ونحوه . هذا ويستعمل الفقهاء ( التّنازع ) أحيانا بمعنى الاختلاف .

ب - الفرقة ، والتّفرّق :

3 - ( الافتراق ) ( والتّفرّق ) ( والفرقة ) بمعنى أن يكون كلّ مجموعة من النّاس وحدهم . ففي القاموس : الفريق القطيع من الغنم ، والفريقة قطعة من الغنم تتفرّق عنها فتذهب تحت اللّيل عن جماعتها . فهذه الألفاظ أخصّ من الاختلاف .

الاختلاف في الأمور الاجتهاديّة ( علم الخلاف )

حقيقة الاختلاف وأنواعه :

4 - على المجتهد تحقيق موضع الاختلاف ، فإنّ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ ، كما أنّ نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصحّ فليس كلّ تعارض بين قولين يعتبر اختلافاً حقيقاً بينهما ، فإنّ الاختلاف إمّا أن يكون اختلافاً في العبارة ، أو اختلاف تنوّع ، أو اختلاف تضادّ . وهذا الأخير هو الاختلاف الحقيقيّ .

5 - أمّا الاختلاف في العبارة فأن يعبّر كلّ من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه . مثال ذلك تفسير الصّراط المستقيم . قال بعضهم : هو القرآن ، وقال بعضهم : هو الإسلام . فهذان القولان متّفقان ، لأنّ دين الإسلام هو اتّباع القرآن الكريم . وكذلك قول من قال : هو السّنّة والجماعة .

6 - وأمّا اختلاف التّنويع ، فأن يذكر كلّ من المختلفين من الاسم العامّ بعض أنواعه على سبيل التّمثيل وتنبيه المستمع ، لا على سبيل الحدّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه . مثال ذلك تفسير قوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قال بعضهم : السّابق الّذي يصلّي أوّل الوقت ، والمقتصد في أثنائه ، والظّالم لنفسه الّذي يؤخّر العصر إلى الاصفرار . وقيل : السّابق المحسن بالصّدقة ، والمقتصد بالبيع ، والظّالم بأكل الرّبا . واختلاف التّنوّع في الأحكام الشّرعيّة قد يكون في الوجوب تارةً وفي الاستحباب أخرى : فالأوّل مثل أن يجب على قوم الجهاد ، وعلى قوم الصّدقة ، وعلى قوم تعليم العلم . وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثّل . وفي فروض الكفايات ، ولها تنوّع يخصّها ، وهو أنّها تتعيّن على من لم يقم بها غيره : فقد تتعيّن في وقت ، أو مكان ، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء . قال ابن تيميّة : وكذلك كلّ تنوّع في الواجبات يقع مثله في المستحبّات .

7 - وقد نظر الشّاطبيّ في المسألة ، وحصر الخلاف غير الحقيقيّ في عشرة أنواع . منها : ما تقدّم من الاختلاف في العبارة . ومنها : أن لا يتوارد الخلاف على محلّ واحد . ومنها : اختلاف أقوال الإمام الواحد ، بناءً على تغيّر الاجتهاد ، والرّجوع عمّا أفتى به أوّلاً . ومنها : أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ، بأن يكون كلّ من العملين جائزاً ، كاختلاف القرّاء في وجوه القراءات ، فإنّهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على إجازته والإقرار بصحّته ، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف ، فإنّ المرويّات على الصّحّة لا خلاف فيها ، إذ الكلّ متواتر . وهذه الأنواع السّابقة تقع في تفسير القرآن ، وفي اختلافهم في شرح السّنّة ، وكذلك في فتاوى الأئمّة وكلامهم في مسائل العلم . وهي أنواع - وإن سمّيت خلافاً - إلاّ أنّها ترجع إلى الوفاق . الحكم التّكليفيّ للاختلاف بحسب أنواعه : أمور الدّين الّتي يمكن أن يقع فيها الخلاف إمّا أصول الدّين أو فروعه ، وكلّ منهما إمّا أن يثبت بالأدلّة القاطعة أو لا . فهي أربعة أنواع :

8 - النّوع الأوّل : أصول الدّين الّتي تثبت بالأدلّة القاطعة ، كوجود اللّه تعالى ووحدانيّته ، وملائكته وكتبه ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والبعث بعد الموت ونحو ذلك . فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف ، من أصاب الحقّ فيها فهو مصيب ، ومن أخطأه فهو كافر .

9 - النّوع الثّاني : بعض مسائل أصول الدّين ، مثل مسألة رؤية اللّه في الآخرة ، وخلق القرآن ، وخروج الموحّدين من النّار ، وما يشابه ذلك ، فقيل يكفر المخالف ، ومن القائلين بذلك الشّافعيّ . فمن أصحابه من حمله على ظاهره . ومنهم من حمله على كفران النّعم . وشرط عدم التّكفير أن يكون المخالف مصدّقاً بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم . والتّكذيب المكفّر أن ينفي وجود ما أخبر به الرّسول ويزعم أنّ ما قاله كذب محض أراد به صرف النّاس عن شيء يريده ، كذا قال الغزاليّ .

10 - النّوع الثّالث : الفروع المعلومة من الدّين بالضّرورة كفرضيّة الصّلوات الخمس ، وحرمة الزّنا ، فهذا ليس موضعاً للخلاف . ومن خالف فيه فقد كفر .

11 - النّوع الرّابع : الفروع الاجتهاديّة الّتي قد تخفى أدلّتها . فهذه الخلاف فيها واقع في الأمّة . ويعذر المخالف فيها ؛ لخفاء الأدلّة أو تعارضها ، أو الاختلاف في ثبوتها . وهذا النّوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا : في المسألة خلاف . وهو موضوع هذا البحث على أنّه الخلاف المعتدّ به في الأمور الفقهيّة . فأمّا إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطّلع عليه المجتهد فخالفه ، فإنّه معذور بعد بذل الجهد ، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدّليل الصّحيح الّذي تبيّن أنّه لم يطّلع عليه . فهذا النّوع لا يصحّ اعتماده خلافاً في المسائل الشّرعيّة ، لأنّه اجتهاد لم يصادف محلّاً ، وإنّما يعدّ في مسائل الخلاف الأقوال الصّادرة عن أدلّة معتبرة في الشّريعة . أدلّة جواز الاختلاف في المسائل الفرعيّة :

12 - أوّلاً : ما وقع من الصّحابة في غزوة بني قريظة : روى البخاريّ عن ابن عمر قال : « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : لا يصلّينّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطّريق . فقال بعضهم : لا نصلّي حتّى نأتيها . وقال بعضهم : بل نصلّي ، لم يرد منّا ذلك ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف واحداً منهم » . ثانياً : اتّفاق الصّحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كلّ فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم ، كمسائل في العبادات والنّكاح والمواريث والعطاء والسّياسة وغير ذلك .

الاختلاف فيما لا فائدة فيه

13 - قال ابن تيميّة : قد يقع الاختلاف في ألفاظ من تفسير القرآن ما لا مستند له من النّقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم أو بنقل لا يمكن تمييز الصّحيح منه من الضّعيف ، ودون استدلال مستقيم . وهذا النّوع من الاختلاف لا فائدة من البحث عنه ، والكلام فيه من فضول الكلام . وأمّا ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإنّ اللّه نصب على الحقّ فيه دليلاً . فمثال ما لا فائدة فيه اختلافهم في أصحاب الكهف ، وفي البعض الّذي ضرب به موسى من البقرة ، ومقدار سفينة نوح ، ونحو ذلك . فهذه الأمور طريق العلم بها النّقل . فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً ، كاسم صاحب موسى أنّه الخضر ، فهذا معلوم ، وما لم يكن كذلك بل كان ممّا ينقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلاّ بحجّة .

الاختلاف الجائز هل هو نوع من الوفاق :

14 - يرى الشّاطبيّ أنّ ما يعتدّ به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق . فإنّ الاختلاف في بعض المسائل الفقهيّة راجع إمّا إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين ، وإمّا إلى خفاء بعض الأدلّة ، أو إلى عدم الاطّلاع على الدّليل . وهذا الثّاني ليس في الحقيقة خلافاً ، إذ لو فرضنا اطّلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله ، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي . أمّا الأوّل فإنّ تردّده بين الطّرفين تحرّ لقصد الشّارع المبهم بينهما من كلّ واحد من المجتهدين ، واتّباع للدّليل المرشد إلى تعرّف قصده . وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكلّ واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه ، ولوافق صاحبه . وسواء قلنا بالتّخطئة أو بالتّصويب ، إذ لا يصحّ للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيباً أيضاً . فالإصابة على قول المصوّبة إضافيّة . فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار . فهم في الحقيقة متّفقون لا مختلفون . ومن هنا يظهر وجه التّحابّ والتّآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ؛ لأنّهم مجتمعون على طلب قصد الشّارع ، فلم يصيروا شيعاً ، ولا تفرّقوا فرقاً . هذا وقد سلك الشّعرانيّ مسلكاً آخر في إرجاع مسائل الخلاف إلى الوفاق ، بأن يحمل كلّ قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلّفين . فمن قال من الأئمّة : بأنّ الأمر في باب من أبواب العبادة للوجوب ، وخالفه غيره فقال : إنّه للنّدب ، وكذلك اختلافهم في النّهي بأنّه للكراهة أو للتّحريم ، فلكلّ من المرتبتين رجال ، فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتّشديد الوارد في الشّريعة صريحاً أو ضمناً . ومن ضعف منهم خوطب بالرّخصة . فالمرتبتان عنده على التّرتيب الوجوبيّ لا التّخيير .

الاختلاف الفقهيّ هل هو رحمة :

15 - المشهور أنّ اختلاف مجتهدي الأمّة في الفروع رحمة لها وسعة . والّذين صرّحوا بذلك احتجّوا بما رواه ابن عبّاس مرفوعاً « مهما أوتيتم من كتاب اللّه فالعمل به لا عذر لأحد في تركه . فإن لم يكن في كتاب اللّه فسنّة منّي ماضية . فإن لم تكن سنّة منّي فما قال أصحابي . إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء ، فأيّما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة » . وفي الحديث أيضاً « وجعل اختلاف أمّتي رحمةً وكان فيمن كان قبلنا عذاباً » . واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التّابعين من مثل قول القاسم بن محمّد : لقد نفع اللّه باختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنّه في سعة ، ورأى أنّ خيراً منه قد عمله . وعن عمر بن عبد العزيز : ما أحبّ أنّ أصحاب رسول اللّه لم يختلفوا ؛ لأنّه لو كان قولاً واحداً كان النّاس في ضيق ، وأنّهم أئمّة يقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة . وعن يحيى بن سعيد أنّه قال : اختلاف أهل العلم توسعة ، وما برح المفتون يختلفون ، فيحلّل هذا ويحرّم هذا ، فلا يعيب هذا على هذا ، ولا هذا على هذا . وقال ابن عابدين : الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف - من آثار الرّحمة فإنّ اختلافهم توسعة للنّاس . قال : فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرّحمة أوفر . وهذه القاعدة ليست متّفقاً عليها ، فقد روى ابن وهب عن مالك أنّه قال . ليس في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سعة ، وإنّما الحقّ في واحد . وقال المزنيّ صاحب الشّافعيّ : ذمّ اللّه الاختلاف وأمر بالرّجوع عنده إلى الكتاب والسّنّة . وتوسّط ابن تيميّة بين الاتّجاهين ، فرأى أنّ الاختلاف قد يكون رحمةً ، وقد يكون عذاباً . قال : النّزاع في الأحكام قد يكون رحمةً إذا لم يفض إلى شرّ عظيم من خفاء الحكم . والحقّ في نفس الأمر واحد ، وقد يكون خفاؤه على المكلّف - لما في ظهوره من الشّدّة عليه - من رحمة اللّه به ، فيكون من باب { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطّعام والثّياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً ، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كلّه حلالاً لا شيء عليه فيه بحال ، بخلاف ما إذا علم . فخفاء العلم بما يوجب الشّدّة قد يكون رحمةً ، كما أنّ خفاء العلم بما يوجب الرّخصة قد يكون عقوبةً ، كما أنّ رفع الشّكّ قد يكون رحمةً وقد يكون عقوبةً . والرّخصة رحمة . وقد يكون مكروه النّفس أنفع كما في الجهاد .

أسباب اختلاف الفقهاء :

16 - الاختلاف إمّا أن يكون ناشئاً عن هوًى ، أو عن الاجتهاد المأذون فيه . فأمّا ما كان ناشئاً عن هوًى فهو موضع الذّمّ ، إذ أنّ الفقيه تابع لما تدلّ عليه الأدلّة الشّرعيّة فإن صرف الأدلّة إلى ما تهواه نفسه فقد جعل الأدلّة تابعةً لهواه . وذكر الشّاطبيّ أنّ الخلاف النّاشئ عن الهوى هو الخلاف حقيقةً . وإذا دخل الهوى أدّى إلى اتّباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظّهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدّى إلى الفرقة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتّفاقها . فأقوال أهل الأهواء غير معتدّ بها في الخلاف المقرّر في الشّرع وإنّما يذكرها بعض النّاس ليردّوا عليها ويبيّنوا فسادها ، كما فعلوا بأقوال اليهود والنّصارى ليوضّحوا ما فيها .

17 - أمّا النّوع الثّاني وهو الاختلاف النّاشئ عن الاجتهاد المأذون فيه فله أسباب مختلفة ، يتعرّض لها الأصوليّون لماماً . وقد أفردها بالتّأليف قديماً وحاول الوصول إلى حصر لها ابن السّيّد البطليوسيّ في كتابه " الإنصاف في أسباب الخلاف " وابن رشد في مقدّمة " بداية المجتهد " وابن حزم في " الإحكام " والدّهلويّ في " الإنصاف " وغيرهم . ويرجع الاختلاف إمّا إلى الدّليل نفسه ، وإمّا إلى القواعد الأصوليّة المتعلّقة به .

أسباب الخلاف الرّاجع إلى الدّليل :

18 - ممّا ذكره ابن السّيّد من ذلك :

1 - الإجمال في الألفاظ واحتمالها للتّأويلات .

2 - دوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه .

3 - دورانه بين العموم والخصوص ، نحو { لا إكراه في الدّين } اختلف فيه هل هو عامّ أو خاصّ بأهل الكتاب الّذين قبلوا الجزية .

4 - اختلاف القراءات بالنّسبة إلى القرآن العظيم ، واختلاف الرّواية بالنّسبة إلى الحديث النّبويّ .

5 - دعوى النّسخ وعدمه .

6 - عدم اطّلاع الفقيه على الحديث الوارد أو نسيانه له .


اكتب معهد الماهر
أعلى