الرد على الموضوع

أسباب الخلاف الرّاجع إلى القواعد الأصوليّة :

19 - من العسر بمكان حصر الأسباب الّتي من هذا النّوع ، فكلّ قاعدة أصوليّة مختلف فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنيّة عليها .

الإنكار والمراعاة في المسائل الخلافيّة :

أوّلاً : الإنكار في المسائل الخلافيّة :

20 - ذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قاعدة : « لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجتمع عليه » . وقال إنّه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه : إحداها : أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ . ومن ثمّ وجب الحدّ على المرتهن بوطء الأمة المرهونة ولم ينظر للخلاف الشّاذّ في ذلك . الثّانية : أن يترافع فيه لحاكم ، فيحكم بعقيدته . إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده . الثّالثة : أن يكون للمنكر فيه حقّ ، كالزّوج المسلم يمنع زوجته الذّمّيّة من شرب الخمر بالرّغم من وجود خلاف في حقّه بمنعها وعدمه . وذكر ابن تيميّة أنّ للمجتهد أن يعتقد في الأمور المختلف فيها بين الحلّ والتّحريم أنّ مخالفه قد ارتكب ( الحرام ) في نحو ( لعن اللّه المحلّل والمحلّل له ) ولكن لا يلحقه الوعيد واللّعن إن كان قد اجتهد الاجتهاد المأذون فيه . بل هو معذور مثاب على اجتهاده . وكذلك من قلّده التّقليد السّائغ .

ثانياً : مراعاة الخلاف :

21 - يراد بمراعاة الخلاف أنّ من يعتقد جواز الشّيء يترك فعله إن كان غيره يعتقده حراماً . كذلك في جانب الوجوب يستحبّ لمن رأى إباحة الشّيء أن يفعله إن كان من الأئمّة من يرى وجوبه . كمن يعتقد عدم وجوب الوتر يستحبّ له المحافظة على عدم تركه ، خروجاً من خلاف من أوجبه . ولا يتأتّى ممّن اعتقد الوجوب مراعاة قول من يرى التّحريم ، ولا ممّن اعتقد التّحريم مراعاة قول من يرى الوجوب . حكم مراعاة الخلاف :

22 - ذكر السّيوطيّ من الشّافعيّة أنّ الخروج من الخلاف مستحبّ .

شروط الخروج من الخلاف :

23 - قال السّيوطيّ : لمراعاة الخلاف شروط : أحدها : أن لا توقع مراعاته في خلاف آخر . الثّاني : أن لا يخالف سنّةً ثابتةً ومن ثمّ سنّ رفع اليدين في الصّلاة . ولم يبال بقول من قال بإبطاله الصّلاة من الحنفيّة ؛ لأنّه ثابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية خمسين صحابيّاً . الثّالث : أن يقوى مدركه - أي دليله - بحيث لا يعدّ هفوةً . ومن ثمّ كان الصّوم في السّفر أفضل لمن قوي عليه ، ولم يبال بقول داود : إنّه لا يصحّ . وقال ابن حجر في هذا الشّرط الثّالث : أن يقوى مدركه بأن يقف الذّهن عنده ، لا بأن تنهض حجّته .

أمثلة على الخروج من الخلاف :

24 - جمع السّيوطيّ لذلك أمثلةً من فقه الشّافعيّة منها :

1 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالوجوب : استحباب الدّلك في الطّهارة ، واستيعاب الرّأس بالمسح ، والتّرتيب في قضاء الفوائت ، وترك الأداء خلف من يصلّي القضاء ، وترك القصر فيما دون ثلاث مراحل ، وترك الجمع ، وقطع المتيمّم الصّلاة إذا رأى الماء .

2 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالتّحريم : كراهة الحيل في باب الرّبا ، وكراهة نكاح المحلّل ، وكراهة مفارقة الإمام بلا عذر ، وكراهة صلاة المنفرد خلف الصّفّ . وذكر ابن عابدين من الحنفيّة أمثلةً منها : ندب الوضوء للخروج من خلاف العلماء ، كما في مسّ الذّكر أو المرأة . وذكر صاحب المغني من الحنابلة : استحباب السّجود على الأنف خروجاً من خلاف من أوجبه . وذكر الشّيخ عليش من المالكيّة : أنّه لا تكره البسملة في الفرض إذا قصد بها الخروج من خلاف من أوجبها .

مراعاة الخلاف فيما بعد وقوع المختلف فيه :

25 - ذكر الشّاطبيّ نوعاً آخر من مراعاة الخلاف . وذلك فيما لو ارتكب المكلّف فعلاً مختلفاً في تحريمه وجوازه ، فقد ينظر المجتهد الّذي يرى تحريم هذا الفعل ، فيجيز ما وقع من الفساد " على وجه يليق بالعدل ، نظراً إلى أنّ ذلك الفعل وافق فيه المكلّف دليلاً على الجملة ، وإن كان مرجوحاً ، فهو راجح بالنّسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه ؛ لأنّ ذلك أولى من إزالتها ، مع دخول ضرر على الفاعل أشدّ من مقتضى النّهي » . وضرب مثلاً لذلك بالنّكاح بلا وليّ . ففي الحديث : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل باطل باطل » . فلو تزوّج رجل امرأةً بلا وليّ ، فإنّ هذا النّكاح يثبت به الميراث ، ويثبت به نسب الأولاد ، ولا يعامل معاملة الزّنا لثبوت الخلاف فيه ، وثبوت الميراث والنّسب تصحيح للمنهيّ عنه من وجه ، " وإجراؤهم النّكاح الفاسد مجرى الصّحيح في هذه الأحكام ، وفي حرمة المصاهرة ، وغير ذلك دليل على الحكم بصحّته على الجملة ، وإلاّ لكان في حكم الزّنا . وليس في حكمه بالاتّفاق » . وقد وجّهه بأنّ " العامل بالجهل مخطئاً له نظران : نظر من جهة مخالفته للأمر والنّهي . وهذا يقتضي الإبطال ، ونظر من جهة قصده الموافقة في الجملة ؛ لأنّه داخل مداخل أهل الإسلام ، ومحكوم له بأحكامهم ، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام ، بل يتلافى له حكم يصحّح ما أفسده بجهله أو خطئه . . . إلاّ أن يترجّح جانب الإبطال بالأمر الواضح » .

العمل في المسائل الخلافيّة المقلّد بين التّخيّر والتّحرّي :

26 - ذهب بعض الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العامّيّ إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فهو مخيّر يأخذ بأيّها شاء قال الشّوكانيّ : واستدلّوا بإجماع الصّحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل . وقيل : ليس هو على التّخيير ، بل لا بدّ من مرجّح . وبه قال الحنفيّة والمالكيّة وأكثر الشّافعيّة وأحمد في رواية وكثير من الفقهاء . ثمّ قد قيل : يأخذ بالأغلظ ، وقيل : بالأخفّ ، وقيل : بقول الأعلم . وقال الغزاليّ : يأخذ بقول أفضلهم عنده وأغلبهم صواباً في قلبه . وقد أيّد الشّاطبيّ القول الثّاني من أنّ المقلّد ليس على التّخيير . قال : ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف ؛ لأنّ كلّ واحد من المفتين متّبع لدليل عنده يقتضي ضدّ ما يقتضيه دليل صاحبه . فهما صاحبا دليلين متضادّين . فاتّباع أحدهما بالهوى اتّباع للهوى . فليس إلاّ التّرجيح بالأعلميّة ونحوها . فكما يجب على المجتهد التّرجيح ، أو التّوقّف ، فكذلك المقلّد . وأيضاً فإنّ ذلك يؤدّي إلى تتبّع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعيّ .

ما يصنع القاضي والمفتي في المسائل الخلافيّة :

27 - يجب عند الشّافعيّة والحنابلة وهو قول للمالكيّة أن يكون القاضي مجتهداً . وقد صرّح صاحب المغني من الحنابلة أنّ القاضي لا يحكم بتقليد غيره مطلقاً سواء أظهر له الحقّ فخالفه فيه غيره ، أم لم يظهر له شيء ، وسواء أضاق الوقت أم لم يضق . وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتّقليد . وعند الشّافعيّة إن تعذّر هذا الشّرط فولّى سلطان أو من له شوكة مقلّداً نفذ قضاؤه للضّرورة . والمعتمد عند المالكيّة جواز كون القاضي مقلّداً . والاجتهاد عند الحنفيّة شرط أولويّة فقط . فعلى قول من اشترط الاجتهاد ، فإنّ القاضي في المسائل المختلف فيها ممّا ليس فيه نصّ ولا إجماع لا يحكم إلاّ بما ترجّح عنده حسب أصول الاجتهاد . وعلى قول من يجيز كون القاضي مقلّداً ، ذهب المالكيّة إلى أنّه يحكم المقلّد بقول مقلّده أي بالرّاجح من مذهبه سواء أكان قوله - يعني إمام المذهب - أم قول أصحابه ، لا بالضّعيف ، ولا بقول غيره من المذاهب ، وإلاّ نقض حكمه ، إلاّ أن يكون للضّعيف مدرك ترجّح عنده وكان من أهل التّرجيح ، وكذلك المفتي . ويجوز للإنسان أن يعمل بالضّعيف لأمر اقتضى ذلك عنده . وقيل : بل يقلّد قول الغير إذا كان راجحاً في مذهب ذلك الغير ، قال الصّاويّ : وهو المعتمد لجواز التّقليد ولو لم تكن ضرورة . أمّا الحنفيّة فلهم في المسائل الخلافيّة تفصيل : ففي الفتاوى الهنديّة : يحكم القاضي بما في كتاب اللّه ، فإن لم يجد فبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فبما ورد عن الصّحابة ، فإن اختلفت أقوالهم يجتهد في ذلك . فيرجّح قول بعضهم على بعض باجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد ، وليس له أن يخالفهم جميعاً . وإن اجتمعوا على قول واحد ، وخالفهم واحد من التّابعين لا يعتبر خلافه إلاّ إن كان ممّن أدرك عهدهم وزاحمهم في الفتيا كشريح والشّعبيّ . فإن لم يأت عن الصّحابة شيء فبإجماع التّابعين . فإن كان بينهم خلاف رجح قول بعضهم على بعض فقضى به . فإن لم يجئ عنهم شيء اجتهد إن كان من أهل الاجتهاد . وإذا اختلف أبو حنيفة وأصحابه ، قال ابن المبارك : يأخذ بقول أبي حنيفة لأنّه كان من التّابعين . ولو اختلف المتأخّرون فيه يختار واحداً من ذلك . ولو أنّ قاضياً استفتي في حادثة وأفتى ، ورأيه بخلاف رأي المفتي ، فإنّه يعمل برأي نفسه إن كان من أهل الرّأي . فإن ترك رأيه وقضى برأي المفتي لم يجز عند أبي يوسف ومحمّد . أمّا عند أبي حنيفة فإنّه ينفذ لمصادفته فصلاً مجتهداً فيه . أمّا إن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل الأصحاب ، وحفظها على الإحكام والإتقان ، عمل بقول من يعتقد قوله حقّاً على التّقليد .

ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم :

28 - إذا حكم القاضي في واقعة من الوقائع بحكم مختلف فيه ممّا يسوغ فيه الخلاف لعدم مخالفته لنصّ أو إجماع ، فإنّ النّزاع يرتفع بالحكم فيما يختصّ بتلك الواقعة ، ويعود الحكم في تلك الواقعة كالمجمع عليه ، فليس لأحد نقضه حتّى ولا القاضي الّذي قضى به نفسه . كما لو حكم بلزوم الوقف . أمّا في غير تلك الواقعة فإنّ الخلاف لا يرتفع بالقضاء ، وهذه إحدى القواعد الفقهيّة المشهورة ، وتعنون عادةً بعنوان ( الاجتهاد لا ينقض بمثله ) وعلّتها أنّه يؤدّي إلى أن لا يستقرّ حكم ، وفيه مشقّة شديدة ، فلو نقض لنقض النّقض أيضاً . ولأنّه ليس الثّاني بأقوى من الأوّل . وقد ترجّح الأوّل باتّصال القضاء به ، فلا ينقض بما هو دونه . وهذه المسألة إجماعيّة . وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل ، وخالفه فيها بعده عمر رضي الله عنه ولم ينقض حكمه ، وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة ، ثمّ حكم في واقعة أخرى بالمشاركة ، وقال : تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي . ومن هذه القضيّة يتبيّن أنّ القاضي لا ينقض الماضي ، وأمّا في المستقبل فيجوز أن يحكم فيه بما يخالف ما مضى . ومن شرط نفاذ الحكم في المسائل الخلافيّة أن يكون في حادثة ودعوى صحيحة وإلاّ كان فتوى لا حكماً .

ارتفاع الخلاف بتصرّف الإمام أو نائبه :

29 - إذا تصرّف الإمام أو نائبه بما تختلف فيه الاجتهادات طبقاً لأحد الأقوال المعتبرة ، فلا ينقض ما فعله كذلك ، ويصير كالمتّفق عليه ( أي بالنّسبة لما مضى . وأمّا في المستقبل فله أن يتصرّف تصرّفاً مغايراً إذا تغيّر وجه المصلحة في رأيه ) . وقد قرّر أبو بكر رضي الله عنه العطاء بالسّويّة ، ولمّا جاء عمر رضي الله عنه فاضل بين النّاس بحسب سابقتهم وقربهم من النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وذكر الفقهاء أنّ للإمام أن ينقض حمى من قبله من الأئمّة ؛ لأنّه يتبع المصلحة ، والمصلحة قد تتغيّر . قال ابن نجيم : « إذا رأى الإمام شيئاً ثمّ مات أو عزل فللثّاني تغييره حيث كان من الأمور العامّة . ويستثنى هذا من قاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأنّ هذا حكم يدور مع المصلحة ، فإذا رآها الثّاني وجب اتّباعها » . وقال ابن تيميّة : إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد الّتي شاع فيها النّزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم أو غيره ، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوّابه من ذلك . ومع هذا يذكر ابن تيميّة أنّ الواحد من العلماء والأمراء ليس معصوماً ، ولهذا يسوغ لنا أن نبيّن الحقّ الّذي يجب اتّباعه ، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء .

الصّلاة خلف المخالف في أحكامها :

30 - ورد عن الأئمّة ما يدلّ على أنّ المصلّي يأتمّ بمن يخالف اجتهاده في أحكام الصّلاة ، ولو كان يرى أنّ مثل ذلك مفسد للصّلاة ، أو غيره أولى منه . لأنّه لمّا كان الإمام مجتهداً اجتهاداً سائغاً ، أو مقلّداً تقليداً سائغاً ، فإنّ الانفراد عنه نوع من الفرقة ، واختلاف الظّواهر تؤدّي إلى اختلاف البواطن . وممّا ورد من ذلك : أ - كان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج الدّم . ورأى أبو يوسف هارون الرّشيد احتجم ولم يتوضّأ - أفتاه مالك بذلك - فصلّى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصّلاة .

ب - الشّافعيّ رضي الله عنه ترك القنوت في الصّبح لمّا صلّى مع جماعة من الحنفيّة في مسجدهم بضواحي بغداد . فقال الحنفيّة : فعل ذلك أدباً مع الإمام ، وقال الشّافعيّة بل تغيّر اجتهاده في ذلك الوقت .

ج - كان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والفصد . فسئل عمّن رأى الإمام قد احتجم ثمّ قام إلى الصّلاة ولم يتوضّأ أيصلّي خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلّي خلف مالك وسعيد بن المسيّب ؟ إلاّ أنّ بعض المتأخّرين الفقهاء مالوا إلى التّشدّد في ذلك .

مراعاة الإمام للمصلّين خلفه إن كانوا يخالفونه في أحكام الصّلاة :

31 - تقدّم ذكر مراعاة الخلاف وشروطها ، وأنّها مستحبّة . ومراعاة إمام الصّلاة أن يأتي بما يعتقده المأموم شرطاً أو ركناً أو واجباً ، ولو لم يعتقده الإمام كذلك . وكذلك فيما يعتقده المأموم من سنّة الصّلاة . ولا تتأتّى المراعاة ، على ما صرّح به بعض الحنفيّة ، فيما هو سنّة عند المأموم ومكروه عند الإمام ، كرفع اليدين في الانتقالات ، وجهر البسملة . فهذا وأمثاله لا يمكن الخروج فيه من عهدة الخلاف " فكلّهم يتبع مذهبه " ولكن قال ابن تيميّة : « إن كان الخلاف في الأفضل فقد استحبّ الأئمّة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف للمأمومين . فإذا لم يمكنه نقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقتهم أرجح » .

الاختلاف بين المتعاقدين :

32 - قد يتنازع شخصان في إثبات حقّ من الحقوق للّه تعالى ، أو لأحدهما قبل الآخر ، ناشئ عن عقد من العقود ، كالبيع أو الإجارة أو النّكاح ، أو في فسخ من الفسوخ ، كالإقالة والطّلاق ، أو غير ذلك من التّصرّفات . والطّريق إلى رفع ذلك الاختلاف الادّعاء به لدى القضاء ليفصل في شأنه ، ويحكم بأداء الحقّ لصاحبه ، بالطّريقة الصّحيحة شرعاً . وكلّ نوع من أنواع التّصرّفات تقع فيه اختلافات تخصّه . ويذكر الفقهاء هذه الاختلافات ، وطريق الحكم في كلّ منها ، في أثناء عرضهم للعقد أو الفسخ . وتذكر القاعدة العامّة لذلك في باب ( الدّعوى ) .

اختلاف الشّهود :

33 - إذا اختلف شاهدا البيع أو شهود الزّنا أو نحو ذلك فإنّ اختلافهم يمنع من كمال الشّهادة ، والحكم بموجبها ، في بعض الأحوال . وفي ذلك اختلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( شهادة ) .

اختلاف الحديث وسائر الأدلّة :

34 - إذا اختلفت الأدلّة وجب الجمع بينها إن أمكن ، وإلاّ يرجّح بينها ، فإن لم يمكن التّرجيح يعتبر المتأخّر منهما ناسخاً للمتقدّم ، وينظر ذلك في باب التّرجيح بين الأدلّة من الملحق الأصوليّ .

اختلاف الدّار

التّعريف

1 - الدّار لغةً : المحلّ . وتجمع العرصة والبناء ، وتطلق أيضاً على البلدة . واختلاف الدّارين عند الفقهاء بمعنى اختلاف الدّولتين اللّتين ينتسب إليهما الشّخصان . فإن كان اختلاف الدّارين بين مسلمين لم يؤثّر ذلك شيئاً ؛ لأنّ ديار الإسلام كلّها دار واحدة . قال السّرخسيّ : « أهل العدل مع أهل العدل يتوارثون فيما بينهم ؛ لأنّ دار الإسلام دار أحكام ، فباختلاف المنعة والملك لا تتباين الدّار فيما بين المسلمين ؛ لأنّ حكم الإسلام يجمعهم » . وهذا الّذي قاله السّرخسيّ في حقّ المسلمين لم ينقل فيه خلاف ، إلاّ ما قال العتّابيّ : إنّ من أسلم ولم يهاجر إلينا لا يرث من المسلم الأصليّ سواء كان في دارنا ، أو كان مستأمناً بدار الحرب . قال ابن عابدين : وقول العتّابيّ مدفوع بأنّ هذا كان في ابتداء الإسلام حين كانت الهجرة فريضةً . فقد نفى اللّه تعالى الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال : { والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا } ، فلمّا كانت الولاية بينهما منتفيةً كان الميراث منتفياً ؛ لأنّ الميراث على الولاية . فأمّا اليوم فإنّ حكم الهجرة قد نسخ . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح » . قال السّرخسيّ : « فأمّا دار الحرب فليست بدار أحكام ، ولكن دار قهر . فباختلاف المنعة والملك تختلف الدّار فيما بينهم ، وبتباين الدّار ينقطع التّوارث . وكذلك إذا خرجوا إلينا بأمان ، لأنّهم من دار الحرب وإن كانوا مستأمنين فينا ، فيجعل كلّ واحد في الحكم كأنّه في منعة ملكه الّذي خرج منه بأمان » . أمّا أهل الذّمّة فإنّهم من أهل دار الإسلام ، ولذا فهم مخالفون في الدّار لأهل الحرب . أمّا الحربيّون فيما بينهم فإنّ دورهم قد تتّفق وقد تختلف . قال ابن عابدين شارحاً معنى اختلاف الدّارين : « اختلافهما باختلاف المنعة أي العسكر ، واختلاف الملك ، كأن يكون أحد الملكين في الهند ، وله دار ومنعة ، والآخر في التّرك ، وله دار ومنعة أخرى ، وانقطعت العصمة بينهم حتّى يستحلّ كلّ منهم قتال الآخر . فهاتان الدّاران مختلفتان ، فتنقطع باختلافهما الوراثة ؛ لأنّها تنبني على العصمة والولاية . أمّا إن كان بينهما تناصر وتعاون على أعدائهما كانت الدّار والوراثة ثابتةً » : ( وانظر : دار الإسلام ودار الكفر ) . ودار الإسلام مخالف لدار الحرب ولو كان بينهما تناصر وتعاون .

أنواع اختلاف الدّارين :

2 - عند الحنفيّة : قد تختلف الدّاران حقيقةً فقط ، أو حكماً فقط ، أو حقيقةً وحكماً : فاختلافهما حقيقةً فقط ، كمستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم ، فإنّ الدّار وإن اختلفت حقيقةً لكن المستأمن من أهل الحرب حكماً . فهما متّحدان حكماً . وأمّا اختلافهما حكماً فكمستأمن وذمّيّ في دارنا ، فإنّهما وإن كانا في دار واحدة حقيقةً إلاّ أنّهما في دارين حكماً ؛ لأنّ المستأمن من أهل الحرب حكماً ، لتمكّنه من الرّجوع إلى دار الحرب . وأمّا اختلافهما حقيقةً وحكماً فكالحربيّ في دارهم والذّمّيّ في دارنا . وكالحربيّين في دارين مختلفتين . هذا وإنّ اختلاف الدّارين بين كافر وكافر يستتبع في الفقه الإسلاميّ أحكاماً مختلفةً نعرض جملةً منها فيما يلي : التّوارث :

3 - اختلاف الدّارين حكماً فقط ، أو حكماً وحقيقةً ، أحد موانع التّوارث عند الحنفيّة ، فلا يرث الذّمّيّ حربيّاً ولا مستأمناً ، ولا الحربيّ والمستأمن ذمّيّاً ولو اتّفق دينهما ، ولا يرث الحربيّ حربيّاً إن اختلفت داراهما . ويثبت التّوارث بين مستأمنين في دارنا إن كانا من دار واحدة ، كما يثبت بين مستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم لاتّحاد الدّار بينهما حكماً . ومذهب الشّافعيّة قريب من مذهب الحنفيّة ، فلا توارث عندهم بين ذمّيّ وحربيّ ، أمّا المستأمن والمعاهد فهما على الأصحّ عند الشّافعيّ في حكم أهل الذّمّة ، للقرب بينهم ولعصمتهم بالعهد والأمان ، كالذّمّيّ ، فيرثان الذّمّيّ ويرثهما ، ولا توارث بين أحدهما وبين الحربيّين . وفي قول آخر : المستأمن والمعاهد كالحربيّ . أمّا مذهب الحنابلة ، ومثله مذهب المالكيّة - فيما نقله صاحب العذب الفائض ولم نجدهم صرّحوا به فيما اطّلعت عليه من كلامهم - فلا يمنع اختلاف الدّارين التّوارث ما دامت الملل متّفقةً . وعند الحنابلة قول آخر هو للقاضي أبي يعلى : إنّ الحربيّ لا يرث ذمّيّاً ، ولا الذّمّيّ حربيّاً ، فأمّا المستأمن فيرثه أهل دار الحرب وأهل دار الإسلام ، ويرث أهل الحرب بعضهم بعضاً سواء اتّفقت ديارهم أو اختلفت .

دين الولد :

4 - بيان من يتبعه الولد في دينه يذكر في موضع آخر ( ر : اختلاف الدّين ) ، وقد اشترط الحنفيّة في تبعيّة الولد لخير والديه في الدّين أن تتّحد الدّار بين التّابع والمتبوع ، وإلاّ فلا تبعيّة . فلو كان الولد في دار الحرب ، ووالده في دار الإسلام ، فأسلم الوالد ، لا يتبعه الولد ، ولا يكون مسلماً ؛ لأنّه لا يمكن جعل الوالد من أهل دار الحرب ، بخلاف ما إذا كان الوالد في دار الحرب فأسلم ، وولده في دار الإسلام ، فإنّه يتبعه ؛ لأنّ الوالد المسلم من أهل دار الإسلام حكماً .

الفرقة بين الزّوجين :

5 - يرى المالكيّة والشّافعيّ والحنابلة أنّ الفرقة لا تقع بين الزّوجين لمجرّد اختلافهما داراً . ويرى الحنفيّة أنّ اختلاف داري الزّوجين حقيقةً وحكماً موجب للفرقة بينهما . فلو تزوّج حربيّ حربيّةً ثمّ دخل أحدهما دار الإسلام فأسلم أو عقد الذّمّة ، وترك زوجه الآخر في دار الحرب ، انفسخ نكاحه لاختلاف الدّارين حقيقةً وحكماً . بخلاف ما لو دخل أحدهما مستأمناً فإنّ نكاحه لا ينفسخ . ولو تزوّج مسلم حربيّةً في دار الحرب ثمّ خرج عنها وحده بانت . ويقتضي مذهب أبي حنيفة - كما قال ابن قدامة - أنّ أحد الزّوجين الذّمّيّين إذا دخل دار الحرب ناقضاً للعهد ، وترك زوجه الآخر في دار الإسلام ، ينفسخ نكاحهما ؛ لأنّ الدّارين اختلفتا بهما فعلاً وحكماً ، فوجب أن تقع الفرقة بينهما ، كما لو أسلمت في دار الإسلام قبل الدّخول . واحتجّ الحنفيّة بأنّه مع تباين الدّارين حقيقةً وحكماً لا تنتظم المصالح ، والنّكاح شرع لمصالحه لا لعينه ، فلا يبقى عند عدمها ، كالمحرميّة إذا اعترضت عليه . وهذا لأنّ أهل الحرب كالموتى - أي بالنّسبة إلى أهل دار الإسلام - فلا يشرع النّكاح بين الحيّ والميّت . واحتجّ الجمهور بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على زوجها بالنّكاح الأوّل ، وكانت قد أسلمت قبله بسنتين ، وقيل بستّ سنين ، وهاجرت وبقي هو بمكّة . وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة عام الفتح ، وفرّا هما وغيرهما دون أن يسلموا ، ثمّ أسلموا فأقرّوا على أنكحتهم .

النّفقة :

6 - لا يمنع اختلاف الدّار وجوب نفقة الزّوجة عند أحد ممّن أثبت النّكاح مع اختلاف الدّارين . أمّا نفقة الأقارب فعند الحنفيّة يمنع اختلاف الدّارين وجوب نفقة القرابة على الأصول والفروع والحواشي . قال الزّيلعيّ : لا يجب على المسلم نفقة أبويه الحربيّين ، ولا يجبر الحربيّ على نفقة أبيه المسلم أو الذّمّيّ ؛ لأنّ الاستحقاق بطريق الصّلة ، ولا تستحقّ الصّلة للحربيّ أو الذّمّيّ للنّهي عن برّهم . وفي الفتاوى الهنديّة : لا يجبر أحدهما على النّفقة ولو كان الحربيّ مستأمناً بدار الإسلام . وصرّح بعضهم بأن لا نفقة بين الحربيّ الّذي أسلم بدار الحرب ولم يهاجر ، وبين قريبه المسلم بدار الإسلام ؛ لاختلاف الدّارين . وهذا الّذي نقلناه من مذهب الحنفيّة خالف في بعضه صاحب البدائع ، فرأى أنّ نفقة الأصول والفروع خاصّةً لا يمنع وجوبها اختلاف الدّارين . قال : لأنّ وجوب نفقة غير الأصول والفروع بطريق الصّلة ، ولا تجب الصّلة مع اختلاف الدّارين ، وتجب في قرابة الولادة ؛ ولأنّ وجوب النّفقة هناك بحقّ الوراثة ، ولا وراثة - أي عندهم - مع اختلاف الدّارين ، والوجوب في قرابة الولادة بحقّ الولادة ، وهو لا يختلف . والظّاهر أنّ مذهب الشّافعيّة وجوب النّفقة بين الذّمّيّ والمستأمن في قرابة الأصول والفروع ، وكذا بين المسلم والمستأمن . أمّا الحربيّ غير المستأمن فلا تجب النّفقة بينه وبين قريبه المسلم أو الذّمّيّ لعدم عصمته . وأمّا قرابة ما عدا الأصول والفروع فلا يجب بها نفقة عند الشّافعيّة أصلاً . وظاهر مذهب الحنابلة أنّ اختلاف الدّار لا يمنع وجوب نفقة الأقارب إذا تحقّقت شروطها . ولم يتّضح لنا قول المالكيّة في هذه المسألة .


اكتب معهد الماهر
أعلى