الوصيّة :
7 - اختلف الفقهاء في وصيّة المسلم أو الذّمّيّ للحربيّ ، فرأى الحنابلة جوازها مطلقاً . وللشّافعيّة قولان أصحّهما الصّحّة . وهي المذهب . وللمالكيّة قولان ، وعدم الصّحّة هو المعتمد . ومنعها الحنفيّة إذا كان الموصي في دار الإسلام والموصى له حربيّ في دار الحرب . فإن كان الموصي والموصى له في دار الحرب فقد اختلف قول الحنفيّة في ذلك . ووجهة من منع الوصيّة لهم أنّ التّبرّع لهم بتمليكهم المال إعانة لهم على حرب المسلمين . وأيضاً نحن قد أمرنا بقتل الحربيّ وأخذ ماله ، فلا معنى للوصيّة له . ومن أجل هذا صرّح الحنفيّة بعدم جواز هذه الوصيّة ولو أجازها الورثة ، ولو جاء الحربيّ لدار الإسلام لأخذ وصيّته لم يكن له ذلك . والّذين أجازوها نظروا إلى أنّ الوصيّة تمليك ، ولا يمتنع التّمليك للحربيّ ، قياساً له على البيع . أمّا الحربيّ المستأمن في دار الإسلام ، لو أوصى له مسلم أو ذمّيّ صحّت الوصيّة له على ظاهر الرّواية عند الحنفيّة . وروي أنّها لا تجوز ؛ لأنّ المستأمن على قصد الرّجوع ، ويمكّن منه ، ولا يمكّن من زيادة المقام على السّنة إلاّ بجزية . ولو أوصى المستأمن لمسلم أو ذمّيّ فقد صرّح الحنفيّة بجوازه - وهو ما يقتضيه كلام غيرهم - لأنّ المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام . ويقول الحنفيّة : إنّ المستأمن لو أوصى لمسلم أو ذمّيّ بكلّ ماله ، ولم يكن معه من ورثته بدار الإسلام أحد جاز ، ولا عبرة بورثته الّذين في دار الحرب ؛ لأنّهم أموات في حقّنا ؛ ولأنّه لا عصمة لأنفسهم ولا لأموالهم ، فلأن لا يكون لحقّهم الّذي في مال مورّثهم عصمة أولى . فإن كان أحد من ورثته معه وقف الجواز على إجازتهم .
القصاص :
8 - إذا قتل الذّمّيّ مستأمناً وجب عليه القصاص وكذلك إذا قتل المستأمن ذمّيّاً . وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة ، إلاّ أنّ الحنفيّة استثنوا حالة كون القاتل ذمّيّاً والمقتول مستأمناً ، فلا قصاص عندهم ، قال صاحب البدائع : لأنّ عصمة المستأمن لم تثبت مطلقاً ، بل موقوتة إلى غاية مقامه بدار الإسلام ؛ لأنّ المستأمن من أهل دار الحرب وإنّما دخل دار الإسلام لا بقصد الإقامة بل لحاجة يقضيها ثمّ يعود إلى وطنه . فكان في عصمته شبهة الإباحة . وروي عن أبي يوسف أنّه قال : يقتل به قصاصاً لقيام العصمة وقت القتل . ولا يقتل الذّمّيّ بالحربيّ اتّفاقاً ؛ لأنّه لا عصمة له أصلاً ، ولا خلاف في ذلك ، كما في المغني . ولم يصرّحوا بحكم المستأمن إذا قتل حربيّاً ، والظّاهر أنّه لا يقتل به ؛ لأنّ الحربيّ لا عصمة له أصلاً .
العقل ( حمل الدّية ) :
9 - عند الشّافعيّة : يعقل الذّمّيّ اليهوديّ أو المعاهد أو المستأمن عن النّصرانيّ المعاهد أو المستأمن ، وبالعكس ، في الأظهر عندهم . أمّا الحربيّ فلا يعقل عن نحو ذمّيّ ، وعكسه ؛ لانقطاع النّصرة بينهما ؛ لاختلاف الدّار . والمقدّم عند الحنابلة أنّ الذّمّيّ لا يعقل عن الحربيّ ، كما لا يعقل الحربيّ عن الذّمّيّ . والقول الآخر : إن توارثا تعاقلا وإلاّ فلا . والظّاهر أنّ الحربيّ في كلامهم هذا شامل للمستأمن . ولم نجد في كلام كلّ من الحنفيّة والمالكيّة تعرّضاً لهذه المسألة .
حدّ القذف :
10 - لا حدّ على المسلم أو الذّمّيّ إذا قذف حربيّاً ولو مستأمناً ، باتّفاق المذاهب الأربعة ؛ لعدم إحصان المقذوف ، بسبب كفره . أمّا لو قذف المستأمن مسلماً فعليه الحدّ ؛ لأنّه بدخوله دار الإسلام بالأمان التزم إيفاء حقوق العباد ، وحدّ القذف حقّ للعبد ، وهذا ما اتّفق عليه الفقهاء عند الحنفيّة والمالكيّة - ما عدا أشهب - وعند الشّافعيّة والحنابلة . وفي المدوّنة : إذا قذف الحربيّ في دار الحرب مسلماً بالزّنا ثمّ أسلم ودخل دار الإسلام فإنّه لا حدّ عليه .
اختلاف الدّين
1 - اختلاف الدّين يستتبع أحكاماً شرعيّةً معيّنةً ، كامتناع التّوارث . واختلاف الدّين الّذي يستتبع تلك الأحكام إمّا أن يكون اختلافاً بالإسلام والكفر ، فهذا يستتبع أحكام اختلاف الدّين اتّفاقاً ، وإمّا أن يكون الشّخصان كافرين ، إلاّ أنّ كلّاً منهما يتبع غير ملّة صاحبه ، كأن يكون أحدهما يهوديّاً والآخر مجوسيّاً . وفي هذا النّوع اختلاف يتبيّن ممّا يلي :
ومن أهمّ الأحكام الّتي تبنى على اختلاف الدّين :
أ - التّوارث :
2 - اختلاف الدّين أحد موانع التّوارث ، لبناء التّوارث على النّصرة ، فلا يرث الكافر المسلم اتّفاقاً . إلاّ أنّ أحمد يرى توريث الكافر بالولاء من عتيقه المسلم . وروي مثله عن عليّ وعمر بن عبد العزيز . ولو أسلم الكافر قبل قسمة التّركة ورث عند أحمد ترغيباً له في الإسلام . وفي ميراث المسلم من المرتدّ خلاف . ولا يرث المسلم كافراً ، عند الجمهور ، وروي توريثه عن بعض الصّحابة ، لما في الحديث « الإسلام يعلو ولا يعلى » والحديث الآخر « الإسلام يزيد ولا ينقص » . وأمّا توارث أهل الكفر فيما بينهم ، فعند الإمامين أبي حنيفة والشّافعيّ وفي رواية عن أحمد : يثبت التّوارث بينهم وإن اختلفت مللهم ؛ لقول اللّه تعالى : { والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ولأنّ الكفّار على اختلاف مللهم كالنّفس الواحدة في معاداة المسلمين . وعند مالك : هم ثلاث ملل : فاليهود ملّة ، والنّصارى ملّة ، ومن عداهم ملّة . وعند أحمد في رواية عنه : هم ملل شتّى ؛ لقول اللّه تعالى : { لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } ولحديث : « لا يتوارث أهل ملّتين شتّى » .
ب - النّكاح :
3 - لا يتزوّج كافر مسلمةً ، ولا يتزوّج مسلم كافرةً إلاّ أن تكون من أهل الكتاب . وإن أسلم أحد الزّوجين الكافرين فرّق بينهما إن كان لا يحلّ ابتداءً النّكاح بينهما . وتفصيل ذلك موطنه ( النّكاح ) .
ج - ولاية التّزويج .
4 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر أحد موانع ولاية التّزويج باتّفاق المذاهب الأربعة . فلا يلي كافر تزويج مسلمة ، ولا مسلم تزويج كافرة ، لقول اللّه تعالى : { والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض } وقوله : { إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا } . واستثنوا جميعاً تزويج المسلم أمته الكافرة ؛ لأنّه إنّما يزوّجها بالملك لا بالولاية ، وتزويج السّلطان المسلم أو نائبه المرأة الكافرة إن تعذّر وليّها الخاصّ . وعند المالكيّة : إن زوّج المسلم ابنته الكافرة لكافر ، يترك فلا يتعرّض له ، وقد ظلم نفسه . أمّا إن اختلف الدّين بغير الإسلام والكفر ، كتزويج اليهوديّ مولّيته النّصرانيّة ، وعكسه ، فقد صرّح الشّافعيّة بجواز ذلك . ولم يصرّح به غيرهم ، وعند الحنابلة يتخرّج على الرّوايتين في التّوريث ، والمقدّم منعه .
د - الولاية على المال :
5 - لا تثبت هذه الولاية لغير المسلم على المسلم ، لقول اللّه تعالى . { ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } صرّح بذلك الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولم يصرّحوا بمنع ولاية المسلم على الكافر ، إلاّ أنّهم صرّحوا بولاية القاضي المسلم على المحجور عليه الذّمّيّ . ولم يتعرّض المالكيّة لهذه المسألة وإن صرّحوا في الوصيّ خاصّةً أنّ من شرطه الإسلام .
هـ - الحضانة :
6 - للفقهاء في أثر اختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة ثلاث اتّجاهات : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحضانة لا تثبت للكافر على المسلم ولو كان الكافر أمّاً ، وتثبت للمسلم على الكافر . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا أثر لاختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة حتّى ولو كان الحاضن كافراً مجوسيّاً أو غيره ، وكان المحضون مسلماً . وسواء أكان الحاضن ، ذكراً أو أنثى . فإن خيف على المحضون من الحاضن فساد ، كأن يغذّيه بلحم خنزير أو خمر ، ضمّ إلى مسلم ليكون رقيباً عليه ، ولا ينزع منه . وذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين حضانة النّساء وحضانة الرّجال ، فلا يشترط عندهم اتّحاد الدّين بين المرأة الحاضنة وبين المحضون . كذا في بدائع الصّنائع نقلاً عن الأصل . وعلّله بأنّ الشّفقة على المحضون المطلوبة لا تختلف في الحاضنة باختلاف الدّين . قال : وكان الرّازيّ من الحنفيّة يقول بالنّسبة لحضانة الأمّ إذا كانت كتابيّةً وولدها مسلم : إنّها أحقّ بالصّغير والصّغيرة حتّى يعقلا . فإذا عقلا سقط حقّها لأنّها تعوّدهما أخلاق الكفرة . وقيّده في النّهر بسبع سنين . وإن خيف منها أن يألف الكفر ينزع منها وإن لم يعقل . أمّا حضانة الرّجل فيمنع استحقاقها عند الحنفيّة اختلاف الدّين ، فلا حقّ للعصبة في حضانة الصّبيّ إلاّ أن يكون على دينه ، لأنّ هذا الحقّ لا يثبت إلاّ للعصبة ، واختلاف الدّين يمنع التّعصيب ، فلو كان للصّبيّ اليهوديّ أخوان أحدهما مسلم والآخر يهوديّ فحضانته لأخيه اليهوديّ لأنّه عصبته .
و - تبعيّة الولد في الدّين :
7 - أوّلاً : إذا اختلف دين الوالدين بأن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً فإنّ ولدهما الصّغير ، أو الكبير الّذي بلغ مجنوناً ، يكون مسلماً تبعاً لخيرهما ديناً . هذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . واشترط الحنفيّة أن يكون الولد وخير أبويه متحدّي الدّار حقيقةً وحكماً كأن يكون خير الأبوين مع الولد في دار الإسلام أو دار الحرب ، أو حكماً فقط بأن كان الصّغير في دارنا والأب في دار الحرب . فإن اختلفت الدّار حقيقةً وحكماً بأن كان الأب في دارنا والولد في دار الحرب لم يتبعه . أمّا عند المالكيّة فإنّ الولد غير المميّز يتبع في الإسلام أباه فقط لا أمّه ولا جدّه .
8 - ثانياً : إذا اختلف دين الوالدين ولم يكن أحدهما مسلماً ، فإنّ الولد غير المميّز يتبع خيرهما ديناً عند الحنفيّة . ومقتضى قول المالكيّة أنّ الولد تبع لأبيه في الدّين دون أمّه ، واضح . وعند الشّافعيّة إذا لم يكن أحدهما مسلماً واختلفت ملّتهما فإنّ الولد يتخيّر بعد بلوغه حتّى لو كان أحد الأبوين نصرانيّاً والآخر يهوديّاً وكان لهما ولدان فاختار أحدهما اليهوديّة والآخر النّصرانيّة حصل التّوارث بينهم . ولم يعثر للحنابلة على نصّ في هذه المسألة .
ز - النّفقة :
9 - لا يمنع اختلاف الدّين وجوب نفقة الزّوجيّة اتّفاقاً ، وكذلك نفقة المماليك . أمّا النّفقة على الأقارب فيمنعها اختلاف الدّين . فلا يجب على الشّخص نفقة قريبه إن لم يكن دينهما واحداً . ولم يختلف في هذا في غير عمودي النّسب .
10 - أمّا عمودا النّسب ، وهما الأصول والفروع ففيهما اتّجاهان : الأوّل : تجب النّفقة لهم سواء اتّفق الدّين أم اختلف وهذا مذهب جمهور العلماء : الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية مرجوحة عند الحنابلة ، إلاّ أنّ المالكيّة يقصرون نفقة الأصول والفروع على الوالدين والولد ، ولا يوجبونها للأجداد والجدّات وولد البنين . واستثنى ابن الهمام الحربيّين منهم فلا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين ؛ لأنّا نهينا عن البرّ في حقّ من يقاتلنا في الدّين . ودليل هذا الاتّجاه أنّ هذا القريب يعتق على قريبه فيجب عليه نفقته ، وأنّ وجوب النّفقة هنا بحقّ الجزئيّة والبعضيّة بين الوالد والولد ، ولا يختلف ذلك باختلاف الدّين ، وجزء المرء في معنى نفسه . والاتّجاه الثّاني : لا تجب نفقتهم مع اختلاف الدّين . وهو مذهب الحنابلة . ودليله أنّها مواساة تجب على سبيل البرّ والصّلة ، فلم تجب مع اختلاف الدّين كنفقة غير عمودي النّسب ؛ ولأنّهما غير متوارثين ، فلم يجب لأحدهما نفقة على الآخر .
ح - العقل ( حمل الدّية ) :
11 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر يمنع العقل ، فلا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر ، باتّفاق المذاهب الأربعة ، حتّى لقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ بيت مال المسلمين يعقل عن المسلم إن عجزت عاقلته ، ولا يعقل عن كافر ذمّيّ أو معاهد ، أو مرتدّ ؛ لاختلاف الدّين . ثمّ قد صرّح المالكيّة والحنابلة أنّه لا يعقل يهوديّ عن نصرانيّ ، ولا نصرانيّ عن يهوديّ . وخالفهم الحنفيّة والشّافعيّة ، فالكفّار عندهم يتعاقلون وإن اختلفت مللهم . قال صاحب الدّرّ : لأنّ الكفر ملّة واحدة ، وفي نهاية المحتاج اشتراط اتّحاد الدّار .
ط - الوصيّة :
12 - يتّفق الحنفيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة على صحّة الوصيّة إذا صدرت من مسلم لذمّيّ ، أو من ذمّيّ لمسلم ، واحتجّ لذلك بقول اللّه تعالى : { لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين } ، ولأنّ الكفر لا ينافي أهليّة التّملّك ، فكما يصحّ بيع الكافر وهبته فكذلك الوصيّة . ورأى بعض الشّافعيّة أنّها إنّما تصحّ للذّمّيّ إذا كان معيّناً ، كما لو قال : أوصيت لفلان . أمّا لو قال : أوصيت لليهود أو للنّصارى أو حتّى لو قال : أوصيت لفلان الكافر فلا تصحّ ؛ لأنّه جعل الكفر حاملاً على الوصيّة . أمّا المالكيّة فيوافقون من سواهم على صحّة وصيّة الذّمّيّ لمسلم . أمّا وصيّة المسلم لذمّيّ فيرى ابن القاسم وأشهب الجواز إذا كانت على وجه الصّلة ، بأن كانت لأجل قرابة ، وإلاّ كرهت . إذ لا يوصي للكافر ويدع المسلم إلاّ مسلم مريض الإيمان . وصرّح الحنفيّة كما في الطّحاويّ على الدّرّ ، وغيره ، بأنّ الكافر إذا أوصى لكافر من ملّة أخرى جاز ، اعتباراً للإرث ، إذ الكفر كلّه ملّة واحدة .
ي - الشّركة :
13 - لا يمنع اختلاف الدّين قيام الشّركة بين المسلم والكافر . واشترط المالكيّة والحنابلة ألاّ ينفرد الكافر بالتّصرّف لأنّه يعمل بالرّبا ولا يحترز ممّا يحترز منه المسلم . قال الحنابلة : وما يشتريه الكتابيّ أو يبيعه من الخمر بمال الشّركة أو المضاربة فإنّه يقع فاسداً وعليه ضمانه . وقال المالكيّة : شركة الذّمّيّ لمسلم صحيحة بقيد حضور المسلم لتصرّف الكافر . وأمّا عند غيبته عنه وقت البيع والشّراء فلا يجوز ، ويصحّ بعد الوقوع . وبعد ذلك إن حصل للمسلم شكّ في عمل الذّمّيّ بالرّبا استحبّ له التّصدّق بالرّبح فقط لقوله تعالى : { فلكم رءوس أموالكم } وإن شكّ في عمله بالخمر استحبّ له التّصدّق بالرّبح ورأس المال جميعاً لوجوب إراقة الخمر على المسلم . وإن تحقّق وجب التّصدّق . وذكر الحنابلة أنّ الذّمّيّ المجوسيّ تكره مشاركته أصلاً وتصحّ بالقيود السّابقة . والشّافعيّة يعمّمون الكراهة في مشاركة كلّ كافر . أمّا الحنفيّة فإنّهم اشترطوا في المفاوضة خاصّةً التّساوي في الدّين ، فتصحّ بين مسلمين ، وبين نصرانيّين ولا تصحّ بين مسلم ونصرانيّ ؛ لأنّ من شرطها التّساوي في التّصرّف " لأنّ الكافر إذا اشترى خمراً أو خنزيراً لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالةً من جهته فيفوت شرط التّساوي في التّصرّف » . وأجازها أبو يوسف مع الكراهة ، وعلّل الكراهة بأنّ الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود . وأمّا بين كافرين مختلفي الملّة كيهوديّ ونصرانيّ فتصحّ عند الحنفيّة وأمّا شركة العنان فتصحّ بين المسلم والكافر أيضاً . وفي البدائع أنّ شركة المضاربة تصحّ بينهما أيضاً ولم يتعرّضوا لاختلاف الدّين في شركة الوجوه وشركة الأعمال .
ك - حدّ القذف :
14 - إذا قذف الذّمّيّ بالزّنا مسلماً أو مسلمةً فعليه حدّ القذف ، إذا تمّت شروطه ، باتّفاق المذاهب . وإذا قذف المسلم أو المسلمة كافراً ، ذمّيّاً أو غيره ، فلا حدّ عليه اتّفاقاً كذلك ؛ لأنّ إحصان المقذوف شرط إقامة الحدّ ، والإحصان شرطه الإسلام . وفي هذه الحالة يعزّر القاذف لأجل الفرية . وخالف سعيد بن المسيّب وابن أبي ليلى فيمن قذف ذمّيّةً لها ولد مسلم ، فقالا : يحدّ لذلك .
اختلاف المطالع
انظر : مطالع .
اختلال
التّعريف
1 - الاختلال لغةً مصدر اختلّ . وأصله يكون من الخلل ، وهو الفساد والوهن في الرّأي والأمر ، كأنّه ترك منه موضع لم يبرم ولا أحكم . ومن هنا فإنّ الاختلال إمّا حسّيّ وإمّا معنويّ . فالحسّيّ نحو اختلال الجدار والبناء . والمعنويّ بمعنى الفقر والحاجة . والاختلال في اصطلاح الفقهاء لا يبعد عن المعنى اللّغويّ المذكور ، إذ يأتي بمعنى مداخلة الوهن والنّقص للشّيء أو الأمر . ومنه " اختلال العقل " ، وهو العته الّذي يختلط معه كلام صاحبه فيشبه مرّةً كلام العقلاء ، ومرّةً كلام المجانين ، " واختلال العبادة أو العقد " بفقد شرط أو ركن أو فسادهما ، " واختلال الرّضا " بالإكراه أو تفريق الصّفقة أو غيرهما ، " واختلال الضّبط " لدى الرّاوي الّذي يتبيّن بمخالفته روايات الثّقات .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - أ - الإخلال : هو فعل الشّخص إذا أوقع الخلل بشيء ما ، والاختلال مطاوعة ، " والإخلال " بالعهد والعقد عدم الوفاء بهما ، وإخلال التّصرّف بالنّظام العام أو الآداب كونه مخالفاً لهما .
ب - الفساد والبطلان : الاختلال أعمّ من الفساد والبطلان ، إذ يدخل فيه اختلال العبادة أو العقد أو غيرهما بنقص بعض المكمّلات الّتي لا يقتضي نقصها بطلاناً ولا فساداً ، كترك إزالة النّجاسة نسياناً بالنّسبة إلى الصّلاة ، وترك المبيت بمنًى للحاجّ ، وترك الإشهاد على البيع ، أو بفعل مخالف لمقتضى الكمال في العبادة أو التّصرّف ، كالحركة اليسيرة في الصّلاة ، وكإيقاع البيع بعد نداء الجمعة عند من لا يبطله بذلك . فإنّ كلّ ذلك لا يقتضي فساداً ولا بطلاناً ، ولا تخرج به العبادة أو التّصرّف عن الصّحّة ، ولكن تفقد بعض الكمال .
( الحكم الإجماليّ )
يتعرّض الفقهاء للاختلال في مواضع كثيرة من كلامهم ، ومن أبرزها ما يلي :
3 - أ - قسّم الشّاطبيّ وغيره التّكاليف الشّرعيّة ثلاثة أقسام : الضّروريّات ، والحاجيّات ، والتّحسينات ( أو التّكميليّات ) ، ثمّ قعّد الشّاطبيّ لتأثير اختلال كلّ منها فيما سواه ممّا له ارتباط به خمس قواعد :
1 - أنّ الضّروريّ أصل لما سواه من الحاجيّ والتّكميليّ .
2 - أنّ اختلال الضّروريّ يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق .
3 - أنّه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضّروريّ .
4 - أنّه قد يلزم من اختلال التّحسينيّ بإطلاق ، أو الحاجيّ بإطلاق ، اختلال الضّروريّ بوجه ما .
5 - أنّه ينبغي المحافظة على الحاجيّ والتّحسينيّ والضّروريّ . ثمّ أطال في بيان ذلك فليرجع إليه من شاء .
ب - الاختلال في العبادات :
4 - الخلل في العبادة إمّا أن يكون بترك شرط فيها أو ركن أو واجب أو مستحبّ ، أو بارتكاب محظور فيها أو مكروه . وقد يترك ذلك ، أو يفعل عمداً أو خطأً أو نسياناً . ثمّ قد يؤدّي بعض ذلك إلى بطلان العبادة أو فسادها . وقد يمكن تدارك المتروك أحياناً أو يجبر بنحو سجود سهو أو فدية أو قضاء أو غيرهما . وينظر تفصيل كلّ ذلك في مواضعه ( ر : استدراك . بطلان . سهو . فدية . فساد . . إلخ ) .
ج - اختلال العقود :
5 - اختلال العقد إن كان بخلل في ركن العقد فإنّه يمنع انعقاده . فبيع الصّبيّ غير المميّز وبيع المجنون وشراؤهما باطل . وإن كان بخلل في غير الرّكن بل في بعض أوصافه الخارجة ، كما إذا كان المبيع مجهولاً ، أو كان الخلل في أوصاف الثّمن ، فإنّ ذلك لا يوجب البطلان بل قد يوجب الفساد . وهذا مذهب الحنفيّة . وقد يختلّ تنفيذ العقد نتيجةً لحادث لا مجال معه لتنفيذ العقد على الصّورة الّتي تمّ التّعاقد عليها ، كما في حالة تفرّق الصّفقة بهلاك بعض المبيع أو استحقاقه . وهذا يؤدّي إلى تعيّب رضا الطّرف الآخر ، فيوجب الخيار . وكذلك قد يختلّ رضا أحد العاقدين بوجود العيب في المبيع أو الثّمن المعيّن ، فيثبت الخيار ، جبراً لذلك . قال الكاسانيّ : « لأنّ السّلامة لمّا كانت مرغوبةً للمشتري ، ولم تحصل ، فقد اختلّ رضاه . وهذا يوجب الخيار ؛ لأنّ الرّضا شرط صحّة البيع ؛ لقول اللّه تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض منكم } فامتناع الرّضا يمنع صحّة البيع ، واختلاله يوجب الخيار فيه ، إثباتاً للحكم على قدر الدّليل » . وللتّوسّع في ذلك ( ر : خيار ) .
اختيار
التّعريف
1 - الاختيار لغةً : تفضيل الشّيء على غيره . واصطلاحاً : القصد إلى أمر متردّد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الخيار :
2 - الخيار حقّ ينشأ بتخويل من الشّارع ، كخيار البلوغ ، أو من العاقد ، كخيار الشّرط . فالفرق بينه وبين الاختيار أنّ بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فكلّ خيار يعقبه اختيار ، وليس كلّ اختيار يكون مبنيّاً على خيار .
ب - الإرادة :
3 - الإرادة لغةً : المشيئة ، وفي استعمال الفقهاء هي " القصد " ، أي اعتزام الفعل والاتّجاه إليه ، فيقولون في طلاق الكناية مثلاً : إن أراد به الطّلاق وقع طلاقاً ، وإن لم يرد به طلاقاً لم يقع طلاقاً . ويقولون في العقود : يشترط لصحّتها تلاقي الإرادتين . ويقولون في الأيمان : يسأل الحالف عن مراده . . . وهكذا . ومن هنا يتبيّن أنّ كلّ اختيار لا بدّ أن يشتمل على إرادة ، وليس من الضّروريّ أن يكون في كلّ إرادة اختيار .
ج - الرّضا :
4 - يفرّق الحنفيّة دون غيرهم بين الاختيار والرّضا . وإذا كان الاختيار كما تقدّم ترجيح أحد الجانبين على الآخر ، فإنّ الرّضا . هو الانشراح النّفسيّ ، ولا تلازم بينهما بوجه عامّ ، فقد يختار المرء أمراً لا يرضاه . ويظهر هذا التّفريق عندهم - أي الحنفيّة - في مسائل الإكراه ، فالإكراه غير الملجئ - كالضّرب المحتمل ، والقيد ، ونحوهما - يفسد الرّضا ولكنّه لا يفسد الاختيار ، أمّا الإكراه الملجئ فإنّه يعدم الرّضا ويفسد الاختيار .
شروط الاختيار
5 - لكي يكون الاختيار صحيحاً لا بدّ أن يكون من له الاختيار مكلّفاً ، وأن يكون في قصده مستبدّاً ، أي : لا سلطان لأحد عليه . وعلى هذا فإنّ الاختيار يكون فاسداً إذا اختلّ شرط من شروط التّكليف ، بأن كان من له الاختيار مجنوناً ، أو صغيراً غير مميّز ، أو كان اختياره مبنيّاً على اختيار غيره ، فإذا اضطرّ إلى مباشرة أمر بالإكراه الملجئ ، كان قصده بالمباشرة دفع الإكراه حقيقةً ، فيصير الاختيار فاسداً ؛ لابتنائه على اختيار المكره - بالكسر - وإن لم ينعدم أصلاً .