تعارض الاختيار الصّحيح مع الاختيار الفاسد
6 - إذا تعارض الاختيار الفاسد والاختيار الصّحيح ، وجب ترجيح الاختيار الصّحيح على الاختيار الفاسد إن أمكن نسبة الفعل إلى الاختيار الصّحيح . وإن لم يمكن نسبته إلى الاختيار الصّحيح بقي منسوباً إلى الاختيار الفاسد ، كما هو الحال في الإكراه على الأقوال وعلى الأفعال الّتي لا يصلح أن يكون فيها الإنسان آلةً لغيره ، كالأكل والوطء ونحوهما . ومحلّ تفصيل ذلك بحث ( إكراه ) .
المخيّر
7 - التّخيير إمّا أن يكون صادراً عن الشّارع ، كتخيير المستنجي بين استعمال الماء أو الحجارة ونحوها للاستنجاء ، وتخيير الحانث في التّكفير عن يمينه بين ما تضمّنته الآية من خصال . وإمّا أن يكون صادراً عن غيره كتخيير الشّريك شريكه بين شراء حصّته من الدّكّان أو بيع حصّته له ، أو بيع الدّكّان كاملاً لشخص ثالث . ولا يملك التّخيير إلاّ صاحب الحقّ أو من ينوب عنه شرعاً . وسيأتي الكلام على ذلك مفصّلاً في مصطلح ( تخيير ) إن شاء اللّه تعالى .
ما يرد عليه الاختيار
8 - أ - الحقوق على نوعين ، حقوق اللّه تعالى ، وحقوق العباد . أمّا ما يتعلّق بحقوق اللّه تعالى من الواجب المعيّن كالصّلاة ومن المحرّم كالزّنى ، فلا اختيار للعبد فيها من النّاحية التّكليفيّة . أمّا ما يتعلّق بحقوق العباد كالدّين ، والهبة ، والرّدّ بالعيب ، والأخذ بالشّفعة ، ونحو ذلك ، فإنّ له فيه اختياراً . قال الشّاطبيّ : « ما كان من حقوق اللّه فلا خيرة فيه للمكلّف على حال ، وأمّا ما كان من حقّ العبد في نفسه فله فيه الخيرة " ، من حيث جعل اللّه له ذلك لا من جهة أنّه مستقلّ بالاختيار .
ب - والتّخيير قد يرد على شيئين كلاهما حلال ، وفي هذه الحالة يجوز أن يرد الاختيار على أيّ الشّيئين يريده المخيّر ( بكسر الياء ) . وقد يرد على شيئين كلاهما محرّم ، فإذا ما أكره المخيّر ( بفتح الياء ) على اختيار واحد منهما لزمه اختيار ما كان أخفّ ضرراً ؛ لأنّه يرتكب أخفّ الضّررين لاتّقاء أشدّهما . وقد يرد على شيئين أحدهما حلال والآخر حرام ، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يرد الاختيار على غير الحلال .
اشتراط الاختيار لترتيب الثّواب والعقاب
9 - الاختيار شرط لترتّب الثّواب والعقاب في الآخرة ، وهو شرط لترتّب العقوبة على الفعل في الدّنيا ، ومحلّ بحث ذلك كلّه مصطلح ( إكراه ) .
حكمة مشروعيّة الاختيار
10 - شرع الاختيار لتحقيق مصالح العباد الّتي هي غاية من غايات الشّريعة ، وهذه المصلحة قد تكون مصلحةً فرديّةً للمختار نفسه أو غيره عندما يكون محلّ الاختيار قاصراً عليه لا يتعدّاه إلى غيره . وقد تكون المصلحة الّتي يجب توخّيها في الاختيار مصلحةً جماعيّةً .
مواطن البحث
11 - اختيار المستنجي بين استعمال الماء وغيره من أدوات التّطهير ، ذكره الفقهاء في كتاب الطّهارة ، باب الاستنجاء . واختيار المنفرد بين الجهر والإسرار في الصّلوات الجهريّة ، ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة . واختيار من رخّص له في الجمع بين الصّلاتين بين الجمع وعدمه ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة ، باب صلاة المسافر . واختيار الّذي قرأ آية السّجدة في الصّلاة بين السّجود حالاً والإرجاء ، ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة باب سجود التّلاوة . واختيار الحاجّ بين الإفراد والتّمتّع والقران ، واختياره في فدية حلق الشّعر بين الصّيام والصّدقة والنّسك ، واختياره بين الحلق والتّقصير في التّحلّل من الإحرام ، واختياره بين التّعجّل في يومين - من أيّام منًى - وبين التّأخّر ، ذكر الفقهاء ذلك كلّه في كتاب الحجّ . واختيار دافع الزّكاة - عند البعض - إن لم يجد السّنّ المطلوبة في زكاة الإبل أن يدفع السّنّ الأدنى مع دفع الفرق - وهو عشرة دراهم - أو يدفع السّنّ الأعلى مع أخذ الفرق . كما نصّوا على ذلك في كتاب الزّكاة . واختيار المسافر بين الصّوم والفطر ، عند البعض ، كما ذكروا ذلك في كتاب الصّيام . - واختيار الحانث بين الإعتاق والكسوة والإطعام في الكفّارة كما نصّوا على ذلك في كتاب الأيمان . واختيار الزّوج في الطّلاق الرّجعيّ بين إرجاع زوجته أو بتّ طلاقها ، واختيار الزّوجة الّتي خيّرت بين إيقاع الطّلاق وعدمه كما هو منصوص عليه في كتاب الطّلاق من كتب الفقه . واختيار الصّغير عند انتهاء مدّة الحضانة أحد والديه ليكون معه - عند البعض - كما هو منصوص عليه في كتاب الحضانة من كتب الفقه . واختيار صاحب الحقّ بين مطالبة الأصيل أو الوكيل ، أو مطالبة أيّ الكفيلين شاء كما هو مذكور في كتاب الوكالة ، وفي كتاب الكفالة من كتب الفقه . واختيار الصّغيرة المتزوّجة حين بلوغها بين البقاء على النّكاح أو فسخه ، كما هو مذكور في خيار البلوغ من كتب الفقه . واختيار الأمة المتزوّجة إذا عتقت بين البقاء على النّكاح أو فسخه كما هو مذكور في خيار العتق من كتب الفقه . والاختيار يبحث أيضاً " في العيب وفي تفرّق الصّفقة وغيرها من الخيارات العقديّة . واختيار من له الشّفعة بين الأخذ بالشّفعة والتّرك كما هو مذكور في كتاب الشّفعة من كتب الفقه . واختيار الإمام في الأراضي المفتوحة عنوةً بين قسمتها ووقفها كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد باب الغنائم . واختيار الإمام بين التّنفيل وعدمه في الجهاد كما هو مذكور في بابه . واختيار الإمام بين الإجابة إلى الهدنة وعدمها كما هو مذكور في كتاب الجهاد من كتب الفقه . واختيار القاضي العقوبة الرّادعة في التّعزير كما هو مذكور في باب التّعزير من كتب الفقه .
اختيال
التّعريف
1 - الاختيال في اللّغة يطلق بمعنى الكبر ، كما يطلق بمعنى العجب ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذين الإطلاقين .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الكبر :
2 - من المعلوم أنّ الكبر ينقسم إلى باطن ، وظاهر فالباطن هو خلق في النّفس ، والظّاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح . واسم الكبر بالخلق الباطن أحقّ ، وأمّا الأعمال فإنّها ثمرات لذلك الخلق . وخلق الكبر موجب للأعمال ، ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال : تكبّر ، وإذا لم يظهر يقال : في نفسه كبر ، فالأصل هو الخلق الّذي في النّفس ، وهو الاسترواح والرّكون إلى رؤية النّفس فوق المتكبّر عليه . ولهذا فإنّ الكبر يستدعي متكبّراً عليه ؛ لأنّه لا يتصوّر أن يكون متكبّر ، إلاّ أن يكون مع غيره ، وهو يرى نفسه فوق هذا الغير في صفات الكمال ، فعندئذ يكون متكبّراً ، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبّراً ، فإنّه قد يستعظم نفسه ، ولكنّه يرى غيره أعظم من نفسه ، أو مثل نفسه ، فلا يتكبّر عليه . ولا يكفي أن يستحقر غيره . فإنّه مع ذلك لو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبّر . بل ينبغي ليكون متكبّراً أن يرى لنفسه مرتبةً ولغيره مرتبةً ، ثمّ يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثّلاثة يحصل فيه خلق الكبر . بل إنّ هذه العقيدة تنفخ فيه ، فيحصل في قلبه اعتداد ، وهزّة ، وفرح ، وركون إلى ما اعتقده ، وعزّ في نفسه بسبب ذلك ، فتلك العزّة ، والهزّة ، والرّكون إلى العقيدة هو خلق الكبر .
ب - العجب :
3 - العجب في اللّغة هو : الزّهوّ ، يقال رجل معجب : يعني مزهوّ بما يكون منه حسناً أو قبيحاً . وأصل العجب عند العلماء هو حمد النّفس ، ونسيان النّعمة ، وهو نظر العبد إلى نفسه ، وأفعاله ، وينسى أنّ ذلك إنّما هو منّة من اللّه تعالى عليه ، فيحسن حال نفسه عنده ، ويقلّ شكره ، وينسب إلى نفسه شيئاً هو من غيرها ، وهي مطبوعة على خلافه . ح - التّبختر :
4 - التّبختر مشية خاصّة ، وهي مشية المتكبّر المعجب بنفسه . والتّبختر آفة من الآفات المهلكة ؛ لأنّه مظهر من مظاهر العجب والكبر .
5 - وهذه الألفاظ المتشابهة يفرّق بينها بأنّ الكبر يكون بالمنزلة ، والعجب يكون بالفضيلة ، فالمتكبّر يجلّ نفسه ، والمعجب يستكثر فضله . والكبر يستلزم متكبّراً عليه ؛ لأنّه لا يتحقّق إلاّ بذلك ، أمّا العجب فلا يستلزمه ؛ لأنّ العجب صفة نفسيّة ، فقد يعجب الشّخص بلبسه أو مشيته أو علمه . . . إلخ . كما أنّ العجب قد يحدث بأسباب الكبر كالعلم ، والعمل ، والنّسب ، والجمال ، والمال . . . إلخ ، وقد يحدث بغير أسباب الكبر كعجبه برأيه الخطأ الّذي يزيّن له بجهله . والاختيال أحد مظاهر الكبر ، سواء في المشي ، أو الرّكوب ، أو اللّباس ، أو البنيان . وقد يكون مظهراً لإعجاب المرء بنفسه ، ذلك أنّ من أسباب العجب الجمال ، والمال . واللّباس والرّكوب والمشي من الجمال والزّينة . وكذلك فإنّ العجب آفة نفسيّة تحتاج إلى إظهار آثارها ، ولهذا فقد يظهر العجب في صورة اختيال في المشي أو اللّباس . . إلخ . أمّا التّبختر فهو مظهر من مظاهر الكبر ، والعجب ، والاختيال ، وهو خاصّ بالمشي ، يقال : فلان يمشي البختري ، أي مشيةً حسنةً . فأهل هذا الخلق ملازمون للفخر ، والخيلاء . فالمرح مختال في مشيته . صفة الاختيال ( حكمه التّكليفيّ ) :
6 - الأصل في الاختيال أنّه حرام ، وهو من الكبائر ، لنهي اللّه ورسوله ( ص ) عنه ، وسيأتي دليل كلّ مظهر من مظاهر الاختيال عند بيانه . ومظاهر الاختيال كثيرة ، منها الاختيال في المشي والرّكوب ، ومنها الاختيال في اللّباس ، ومنها الاختيال في البنيان .
أ - الاختيال في المشي :
7 - الاختيال في المشي يحدث بتجاوز الإنسان حدّ القصد والاعتدال في مشيته . والقصد في المشي يكون بين الإسراع والبطء . والمعنى أنّ الإنسان لا يسرع في مشيته بأن يثب وثب الشّطّار ، لقوله عليه السلام : « سرعة المشي مذهب بهاء المؤمن » كما أنّه لا يبطئ في مشيته بحيث يدبّ على الأرض دبيب المتماوتين المتثاقلين . ولهذا أمر اللّه بالقصد في المشي ، فقال تعالى : { واقصد في مشيك } ، كما امتدح اللّه تعالى من يقتصد في مشيته ولا يتجاوز الاعتدال بقوله : { وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } . ومن ثمّ إذا تجاوز الإنسان حدّ الاعتدال والقصد في المشي يكون قد وقع في المحظور ، وهو الاختيال . والأصل في تحريم الاختيال في المشي وأنّه من الكبائر قوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً . كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروهاً } . والمراد بالمرح المنهيّ عنه في الآية الكريمة هو الخيلاء في المشي . والمعنى أنّ اللّه نهى عن الخيلاء وأمر بالتّواضع . وقد استدلّ العلماء بالآية على ذمّ الاختيال . ووجه الاستدلال أنّ اللّه تعالى قد أعقب النّهي عن المرح بأنّ ذلك عمل سيّئ مكروه ، في : { كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروهاً } فهذا يدلّ على حظره وتحريمه ، كما أنّه قرنه بالزّنا والقتل وسائر الكبائر ، فدلّ على أنّه من جملة هذه الكبائر . ومن معاني المرح : الكبر ، وتجاوز الإنسان قدره ، وذلك مذموم ، ومن أدلّة تحريمه أيضاً ما روي أنّه عليه السلام قال : « من تعظّم في نفسه ، واختال في مشيته ، لقي اللّه وهو عليه غضبان » .
ب - الاختيال في اللّباس :
8 - الاختيال في اللّباس يحدث بسبب تجاوز حدّ الاعتدال والقصد فيه ، مع عدم وجود الدّاعية إلى ذلك . والنّيّة والقصد هما الأصل في ذلك . وحدّ الاعتدال والقصد في اللّباس يكون باتّباع ما ورد في صفة اللّباس من آثار صحيحة ، واجتناب ما ورد النّهي عنه . وللعرف مدخل في ذلك ، ما لم يلغه الشّرع . وفي المواهب : ما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شكّ في تحريمه ، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ، ما لم يصل إلى جرّ الذّيل الممنوع منه . ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة في اللّباس لمثل لابسه في الطّول والسّعة .
ما يحلّ من ثياب الزّينة ولا يعتبر اختيالاً :
9 - الأصل في لبس الثّياب الجميلة للتّزيّن بها الإباحة ، لقوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } ، ولما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، فقال رجل : يا رسول اللّه إنّ الرّجل منّا يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنةً قال عليه الصلاة والسلام : إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحقّ ، وغمط النّاس » رواه مسلم . وبطر الحقّ هو دفعه وإنكاره ترفّعاً وتجبّراً ، قاله النّوويّ . وفي القاموس : بطر الحقّ أن يتكبّر عنده فلا يقبله ، والغمط والغمص بمعنًى واحد . وقيل غمص النّاس احتقارهم . والحديث يدلّ على أنّ محبّة لبس الثّوب الحسن ، والنّعل الحسنة ، وتخيّر اللّباس الجميل ، ليس من الكبر في شيء ، قال الشّوكانيّ : وهذا ممّا لا خلاف فيه فيما أعلم . وفي سبل السّلام قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » ، وفيه دليل على أنّ اللّه إذا أنعم على عبد نعمةً فإنّه يحبّ أن يرى أثرها عليه في مأكله ، وملبسه ، فإنّه شكر للنّعمة ؛ ولأنّه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده ليتصدّق عليه ؛ ولأنّ بذاذة الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ، ولذا قيل : ولسان حالي بالشّكاية ينطق وقيل : وكفاك شاهد منظري عن مخبري ، وقد يكون التّزيّن باللّباس واجباً . كتوقّف تنفيذ الواجب عليه ، في نحو ولاة الأمور وغيرهم ، فإنّ الهيئة الرّثّة لا تحصل معها مصالح العامّة من ولاة الأمور . وقد يكون مندوباً ، كما في الصّلوات . قال اللّه تعالى : { خذوا زينتكم عند كلّ مسجد } ، وفي الجماعات ؛ لحديث : « إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » ، وحديث « إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » . رواه مسلم ، وكما في الحروب لإرهاب العدوّ ، وفي المرأة لزوجها ، وفي العلماء لتعظيم العلم في نفوس النّاس ، وقد قال عمر بن الخطّاب : أحبّ أن أنظر إلى قارئ القرآن أبيض الثّياب . وقد يكون حراماً إذا كان وسيلةً لمحرّم ، كمن يتزيّن للنّساء الأجنبيّات ، وكمن تتزيّن للرّجال الأجانب .
إطالة المرأة ثيابها :
10 - شرع للنّساء إسبال الإزار والثّياب وكلّ ما يستر جميع أبدانهنّ . يدلّ على ذلك حديث « أمّ سلمة أنّها قالت حين ذكر الإزار فالمرأة يا رسول اللّه . قال : ترخيه شبراً . قالت أمّ سلمة : إذن ينكشف عنها . قال : فذراعاً ، لا تزد عليه » ، إذ به يحصل أمن الانكشاف . والحاصل أنّ لها حالة استحباب ، وهو قدر شبر ، وحالة جواز ، بقدر الذّراع . قال الإمام الزّرقانيّ : ويؤخذ من ذلك أنّ للمرأة أن تسبل إزارها ، أي تجرّه على الأرض ذراعاً . والمراد ذراع اليد - وهو شبران - لما روى ابن ماجه عن ابن عمر ، قال : « رخّص صلى الله عليه وسلم لأمّهات المؤمنين شبراً ، ثمّ استزدنه فزادهنّ شبراً » . فدلّ على أنّ الذّراع المأذون فيه شبران . وإنّما جاز ذلك لأنّ المرأة كلّها عورة إلاّ وجهها وكفّيها .
ج - الاختيال في الرّكوب :
11 - قد يكون في استعمال المركوب واقتنائه خيلاء ، وقد يكون تحدّثاً بنعمة اللّه وإظهاراً لها ، مثلها مثل الثّياب الجميلة . ولهذا وجب على كلّ مسلم يتّخذ مركوباً للزّينة ألاّ يكون قاصداً به الخيلاء . والأصل في إباحة اتّخاذ المركوب الجميل للزّينة إذا لم يكن بغرض الخيلاء قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون } ، وقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } . وهذا الجمال والتّزيّن ، وإن كان من متاع الدّنيا ، فقد أذن اللّه سبحانه وتعالى لعباده فيه .
د - الاختيال في البنيان :
12 - يباح للمسلم أن يتّخذ له داراً يسكنها يدفع بها الحرّ والبرد والمطر ويدفع بها الأذى والأعين ، وينبغي ألاّ يقصد بها الاختيال أو تؤدّي إليه .
هـ - الاختيال لإرهاب العدوّ :
13 - من الاختيال ما يكون محموداً يحبّه اللّه تعالى ، وهو الاختيال لإرهاب العدوّ الكافر وإغاظته في الملبس والمشي والرّكوب .
إخدام
التّعريف
1 - الإخدام لغةً : إعطاء خادم . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى . الحكم الإجماليّ :
2 - إعطاء الخادم إمّا أن يكون من الزّوج إلى زوجته ممّن يخدم مثلها أو غير ذلك . فجمهور الفقهاء يرون أنّه يجب الإخدام على الزّوج لزوجته إن كانت ممّن يخدم مثلها ، والإنفاق على خادمها الّذي معها لحصول المقصود بذلك .
( مواطن البحث )
3 - يذكر الفقهاء الإخدام في مواضع عدّة : فإخدام الزّوج زوجته يذكر في أبواب النّفقات ، وإخدام المفلس لزمانته - أي إن كان مريضاً مزمناً ، ويحتاج فضلاً عن النّفقة إلى الخادم ، أو إن اقتضى ذلك منصبه - يبحث في التّفليس ، عند الحديث عمّا يفعل بمال المحجور عليه للفلس ، وإخدام المحبوس في التّفليس عند الحديث عن حبس الفلس ليقرّ بما عليه ، أو بمال ثبت كتمانه .
إخراج
التّعريف
1 - الإخراج لغةً الدّفع من الدّاخل . وهو أيضاً الإبعاد والتّنحية . وهو عند الفقهاء كذلك .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : التّخارج :
2 - يفرّق الفقهاء بين الإخراج والتّخارج ، فيجعلون بينهما عموماً وخصوصاً فيخصّون التّخارج بتصالح الورثة على إخراج بعضهم من الميراث بشيء معلوم من التّركة . الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
3 - ما يكون به الإخراج : يتبيّن من استقراء كلام الفقهاء أنّهم يعتبرون إخراج كلّ شيء بحسبه : أ - فالإخراج للإنسان القائم من الدّار يكون بإخراج قدميه عند البعض ، وعند البعض الآخر يكون بإخراج إحدى قدميه إن كان يعتمد عليها ، وإن كان قاعداً يكون بإخراج رجليه وبدنه ، وإن كان مستلقياً يكون بإخراج أكثر بدنه ، كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان عند كلامهم على اليمين على الدّخول والخروج .
ب - والإخراج من المدينة يكون بمجاوزة عمرانها ببدنه .
ج - والإخراج من الدّار المسكونة يكون بإخراج السّاكن بنفسه ومتاعه وعياله .
د - وإخراج الزّكاة والكفّارات يكون بتمليكها للفقير عند البعض ، حتّى لو تلفت قبل ذلك وجب عليه إخراجها ثانيةً . وعند البعض الآخر يكون إخراجها بالعزل دون اشتراط التّمليك ، حتّى لو تلفت بعد العزل بغير تعدّ لم يكلّف المزكّي إخراجها ثانيةً ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الزّكاة ، وفي كتاب الكفّارات .
هـ - وإخراج المسروق من الحرز يكون بإخراجه ظاهراً - أي مظهراً - عند الحنفيّة ، ولا يشترط ظهوره عند غيرهم ، فمن ابتلع جوهرةً وخرج بها لا يقطع عند الحنفيّة ، ويقطع عند غيرهم ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب السّرقة . وذهب جمهور الفقهاء خلافاً للحنفيّة إلى أنّ الإخراج ينسب إلى الفاعل إذا كان ابتداء الإخراج منه ، ولا يضرّ انقطاعه بعد ذلك ، ولذلك قالوا في إخراج المسروق من الحرز وإلقائه بعيداً ثمّ أخذه إيّاه إنّه يقطع ، كما فسّر الفقهاء ذلك في باب السّرقة عند كلامهم على شروط الإخراج من الحرز .
الحكم التّكليفيّ للإخراج :
4 - يتبيّن من استقراء الأحكام المتّصلة بالإخراج أنّه لا ينتظمه حكم واحد ، بل يكون حكمه حسب أحواله . فأحياناً يكون الإخراج واجباً - أي فرضاً - كإخراج الزّكاة ، والكفّارات وما قام الدّليل على فرضيّته - كما هو مذكور في كتاب الزّكاة وكتاب الكفّارات من كتب الفقه ، وإخراج من استحقّ الحدّ من المسجد لإقامة الحدّ عليه ، كما هو مذكور في كتاب الحدود من كتب الفقه ، وكإخراج المحترفين في المسجد منه . وأحياناً يكون حراماً كإخراج المعتدّة من بيتها بغير حقّ ، كما هو مذكور في كتاب العدّة من كتب الفقه ، وفي شرح قوله تعالى { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } من كتب التّفسير ، وكإخراج المتاع من الحرز بنيّة السّرقة ، كما هو مذكور في حدّ السّرقة من كتب الفقه .
إخلاف
التّعريف
1 - من معاني الإخلاف في اللّغة عدم الوفاء بالعهد قال الزّجّاج : والعقود أوكد من العهود ، إذ العهد إلزام ، والعقود إلزام على سبيل الإحكام والاستيثاق ، من عقد الشّيء بغيره : وصله به كما يعقد الحبل بالحبل . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ المذكور .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : الكذب 2 - من الفقهاء من سوّى بين الكذب والإخلاف ، ومنهم من فرّق بينهما فجعل الكذب في الماضي والحاضر ، وإخلاف الوعد في المستقبل . ما يقع فيه الإخلاف :
3 - يقع الإخلاف في الوعد وفي العهد ومن الفقهاء من جعل الوعد والعهد واحداً ، ومنهم من جعل الوعد غير العهد ، فخصّ العهد بما أوجبه اللّه تعالى أو حرّمه ، وجعل الوعد فيما عدا ذلك .
الحكم التّكليفيّ للإخلاف :
4 - على التّفرقة بين العهد والوعد يكون إخلاف العهد حراماً أمّا الإخلاف بالوعد فقد قال النّوويّ : وقد أجمع العلماء على أنّ من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهيّ عنه فينبغي أن يفي بوعده وهل ذلك واجب أم مستحبّ ؟ فيه خلاف بينهم . ذهب الشّافعيّ وأبو حنيفة والجمهور إلى أنّه مستحبّ ، فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة ، ولكن لا يأثم . وذهب جماعة إلى أنّه واجب ، قال الإمام أبو بكر بن العربيّ المالكيّ : أجلّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز . قال : وذهبت المالكيّة مذهباً ثالثاً أنّه إن ارتبط الوعد بسبب كقوله : تزوّج ولك كذا ، أو احلف أنّك لا تشتمني ولك كذا ، أو نحو ذلك ، وجب الوفاء ، وإن كان وعداً مطلقاً لم يجب . واستدلّ من لم يوجبه بأنّه في معنى الهبة ، والهبة لا تلزم إلاّ بالقبض عند الجمهور ، وعند المالكيّة : تلزم قبل القبض . هذا ، وإنّ من وعد وفي نيّته الإخلاف فهو آثم قطعاً ، ويصدق عليه أنّه على شعبة من النّفاق ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .
آثار الإخلاف
أ - إخلاف الوعد :
5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الوعد لا يلزم قضاءً إلاّ إذا كان معلّقاً . أمّا المالكيّة ففي رواية عندهم أنّ الوعد بالعقد ملزم للواعد قضاءً إذا دخل الموعود تحت التزام ماليّ بناءً على ذلك الوعد ، كما إذا قال له : اهدم دارك وأنا أسلّفك ما تبني به . فإذا ما أخلف وعده - ضمن الشّروط الّتي اشترطها الحنفيّة أو المالكيّة - أجبر على التّنفيذ . وأمّا الحنابلة فقد صرّح الرّحيبانيّ منهم بأنّه لا يلزم الوفاء بالوعد حكماً ( وفسّره بقوله : أي في الظّاهر ) . وهو الصّحيح عندهم . ومقتضى حكم الشّافعيّة بكراهة الإخلاف عدم إجبار المخلف على التّنفيذ .
ب - إخلاف الشّرط : الأصل في الشّرط أن يكون ملزماً ، فإذا أخلفه ، اعتبر إخلافه إخلالاً بالعقد أو مثبتاً خياراً ، عدا بعض الشّروط الّتي لا يضرّ الإخلال بها في النّكاح خاصّةً ؛ لأنّها تعتبر ملغاةً منذ اشتراطها عند البعض ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح .