أثر الأداء في العبادات :
25 - أداء العبادة على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها يستلزم الإجزاء وهذا باتّفاق على تفسير الإجزاء بمعنى الامتثال بالإتيان بالمأمور به . وأنّ ذلك يبرّئ الذّمّة بغير خلاف ، وعلى تفسير الإجزاء بمعنى إسقاط القضاء فالمختار أنّه يستلزمه ، خلافاً لعبد الجبّار المعتزليّ من أنّه لا يستلزمه . والفعل المؤدّى على وجهه المشروع يوصف بالصّحّة ، وإلاّ فبالفساد أو البطلان ، مع تفريق الحنفيّة بين الفاسد والباطل . والصّحّة أعمّ من الإجزاء ؛ لأنّها تكون صفةً للعبادات والمعاملات ، أمّا الإجزاء فلا يوصف به إلاّ العبادات . وإذا كانت العبادات المستجمعة شرائطها وأركانها تبرّئ الذّمّة بلا خلاف فإنّه قد اختلف في ترتّب الثّواب على هذه العبادة أو عدم ترتّبه ، فقيل : إنّه لا يلزم من إبراء الذّمّة ترتّب الثّواب على الفعل ، فإنّ اللّه قد يبرّئ الذّمّة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصّور ، وهذا هو معنى القبول ، وهذا بناءً على قاعدة أنّ القبول والثّواب غير الإجزاء وغير الفعل الصّحيح . وقيل : إنّه لم يكن في الشّرع واجب صحيح يجزئ إلاّ وهو مقبول مثاب عليه ، كما هو مقتضى قاعدة سعة الثّواب ، والآيات والأحاديث المتضمّنة لوعد المطيع بالثّواب .
أداء الشّهادة حكم أداء الشّهادة :
26 - أداء الشّهادة فرض كفاية ؛ لقول اللّه تعالى : { وأقيموا الشّهادة للّه } ، وقوله : { ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا } ، فإذا تحمّلها جماعة وقام بأدائها منهم من فيه كفاية سقط الأداء عن الباقين ، لأنّ المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم ، وإن امتنع الكلّ أثموا جميعاً لقول اللّه تعالى : { ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } ، ولأنّ الشّهادة أمانة فلزم الأداء عند الطّلب . وقد يكون أداء الشّهادة فرض عين إذا كان لا يوجد غيره ممّن يقع به الكفاية ، وتوقّف الحقّ على شهادته فإنّه يتعيّن عليه الأداء ؛ لأنّه لا يحصل المقصود إلاّ به . إلاّ أنّه إذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق العباد وأسبابها أي في محض حقّ الآدميّ ، وهو ما له إسقاطه كالدّين والقصاص فلا بدّ من طلب المشهود له لوجوب الأداء ، فإذا طلب وجب عليه الأداء ، حتّى لو امتنع بعد الطّلب يأثم ، ولا يجوز له أن يشهد قبل طلب المشهود له ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ يفشو الكذب حتّى يشهد الرّجل قبل أن يستشهد » . ولأنّ أداءها حقّ للمشهود له ، فلا يستوفى إلاّ برضاه ، وإذا لم يعلم ربّ الشّهادة بأنّ الشّاهد تحمّلها استحبّ لمن عنده الشّهادة إعلام ربّ الشّهادة بها . وإذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق اللّه تعالى ، وفيما سوى الحدود ، كالطّلاق والعتق وغيرها من أسباب الحرمات فيلزمه الأداء حسبةً للّه تعالى عند الحاجة إلى الأداء من غير طلب من أحد من العباد . وأمّا في أسباب الحدود من الزّنا والسّرقة وشرب الخمر فالسّتر أمر مندوب إليه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ستر مسلماً ستره اللّه في الدّنيا والآخرة » ، ولأنّه مأمور بدرء الحدّ . وصرّح الحنفيّة بأنّ الأولى السّتر إلاّ إذا كان الجاني متهتّكاً ، وبمثل ذلك قال المالكيّة .
27 - وإذا وجب أداء الشّهادة على إنسان ولكنّه عجز لبعد المسافة ، كأن دعي من مسافة القصر أو كان سيلحقه ضرر في بدنه أو ماله أو أهله فلا يلزمه الأداء لقول اللّه تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » . ولأنّه لا يلزمه أن يضرّ نفسه لنفع غيره . كذلك قال بعض الفقهاء : لا يجب الأداء إذا كان الحاكم غير عدل ، قال الإمام أحمد : كيف أشهد عند رجل ليس عدلاً ، لا أشهد .
كيفيّة أداء الشّهادة :
28 - يعتبر لفظ الشّهادة في أدائها عند جمهور الفقهاء ، فيقول : أشهد أنّه أقرّ بكذا ونحوه ؛ لأنّ الشّهادة مصدر شهد يشهد ، فلا بدّ من الإتيان بفعلها المشتقّ منها ؛ ولأنّ فيها معنًى لا يحصل في غيرها من الألفاظ ، ولو قال : أعلم أو أتيقّن أو أعرف لم يعتدّ به ولا تقبل شهادته ، إلاّ أنّ من المالكيّة من لم يشترط لأداء الشّهادة صيغةً مخصوصةً بل قالوا : المدار فيها على ما يدلّ على حصول علم الشّاهد بما شهد به كرأيت كذا أو سمعت كذا وهو الأظهر عندهم . ولتحمّل الشّهادة وأدائها شروط تفصيلها في مصطلح ( شهادة ) .
أداء الدّين مفهوم الدّين :
29 - الدّين هو الوصف الثّابت في الذّمّة ، أو هو اشتغال الذّمّة بمال وجب بسبب من الأسباب ، سواء أكان عقداً كالبيع والكفالة والصّلح والخلع ، أم تبعاً للعقد كالنّفقة ، أم بغير ذلك كالغصب والزّكاة وضمان المتلفات ، ويطلق على المال الواجب في الذّمّة مجازاً ، لأنّه يؤول إلى المال . حكم أداء الدّين :
30 - أداء الدّين على الوصف الّذي وجب فرض بالإجماع ؛ لقول اللّه تعالى : { فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته } . وهو يعتبر كما قال بعض الفقهاء من الحوائج الأصليّة . وإذا كان الدّين حالّاً فإنّه يجب أداؤه على الفور عند الطّلب ، ويقال له الدّين المعجّل وذلك متى كان قادراً على الأداء لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم » أمّا إذا كان الدّين مؤجّلاً فلا يجب أداؤه قبل حلول الأجل ، لكن لو أدّى قبله صحّ وسقط عن ذمّة المدين . وقد يصبح المؤجّل حالّاً فيجب أداؤه على الفور وذلك بالرّدّة أو بالموت أو بالتّفليس . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك تنظر في ( دين . أجل . إفلاس ) .
كيفيّة أداء الدّين :
31 - الأداء هو تسليم الحقّ لمستحقّه ، وتسليم الحقّ في الدّيون إنّما يكون بأمثالها ؛ لأنّه لا طريق لأداء الدّيون سوى هذا ، ولهذا كان للمقبوض في الصّرف والسّلم حكم عين الحقّ إذ لو لم يكن كذلك لصار استبدالاً ببدل الصّرف ورأس مال السّلم والمسلم فيه قبل القبض وهو حرام ، وكذا له حكم عين الحقّ في غير الصّرف والسّلم ، بدليل أنّه يجبر ربّ الدّين على القبض ، ولو كان غير حقّه لم يجبر عليه ، وفيما لا مثل له ممّا تعلّق بالذّمّة تجب القيمة كما في الغصب والمتلفات . وقيل إنّه في القرض إذا تعذّر المثل فإنّه يجب ردّ المثل في الخلقة والصّورة ؛ لحديث أبي رافع « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر » ؛ ولأنّ ما ثبت في الذّمّة بعقد السّلم ثبت بعقد القرض قياساً على ما له مثل . ويجوز الأداء بالأفضل إذا كان بدون شرط ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع إليه رافع فقال : لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً ، فقال : أعطه إيّاه ، إنّ خيار النّاس أحسنهم قضاءً » . ومن طولب بالأداء ببلد آخر فيما لا حمل له ولا مؤنة وجب الأداء .
ما يقوم مقام الأداء
32 - إذا أدّى المدين ما عليه بالصّفة الواجبة سقط عنه الدّين ، وبرئت ذمّته ، ويقوم مقام الأداء في إسقاط الدّين وبراءة الذّمّة إبراء صاحب الدّين للمدين ممّا عليه أو هبته له أو تصدّقه به عليه ، كذلك يقوم مقام الأداء من حيث الجملة الحوالة بالدّين أو المقاصّة ، أو انقضاء المدّة أو الصّلح أو تعجيز العبد نفسه في بدل الكتابة ، وذلك كلّه بالشّروط الخاصّة الّتي ذكرها الفقهاء لكلّ حالة من ضرورة القبول أو عدمه ، وفيما يجوز فيه من الدّيون وما لا يجوز وغير ذلك من الشّروط . وينظر التّفصيل في ذلك في ( إبراء ، دين ، حوالة ، هبة ، إلخ ) .
الامتناع عن الأداء :
33 - من كان عليه دين وكان موسراً فإنّه يجب عليه أداؤه ، فإن ماطل ولم يؤدّ ألزمه الحاكم بالأداء بعد طلب الغرماء ، فإن امتنع حبسه لظلمه بتأخير الحقّ من غير ضرورة ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » ، والحبس عقوبة ، فإن لم يؤدّ وكان له مال ظاهر باعه الحاكم عليه ؛ لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله وقضى ديونه » . وكذلك روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه باع مال أسيفع وقسمه بين غرمائه .
34 - وإن كان للمدين مال ولكنّه لا يفي بديونه وطلب الغرماء الحجر عليه لزم القاضي إجابتهم ، وله منعه من التّصرّف حتّى لا يضرّ بالغرماء ، ويبيع ماله إن امتنع هو عن بيعها ، ويقسمها بين الغرماء بالحصص . وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة وأبي يوسف ومحمّد ، وخالف أبو حنيفة فقال : لا يحجر على المدين ، لأنّ الحجر فيه إهدار لآدميّته ، وإنّما يحبسه القاضي إذا كان له مال حتّى يبيع ويوفّي دينه ، إلاّ إن كان ماله دراهم أو دنانير ، والدّين مثله ، فإنّ القاضي يقضي الدّين منه بغير أمره ؛ لأنّ ربّ الدّين له أخذه بغير أمره فالقاضي يعينه عليه .
35 - وإن كان المدين معسراً وثبت ذلك خلّى سبيله ، ووجب إنظاره ؛ لقول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .
36 - والمدين المعسر يجب عليه التّكسّب لوفاء ما عليه ، ولكنّه لا يجبر على التّكسّب ولا على قبول الهدايا والصّدقات ، لكن ما يجدّ له من مال من كسبه فإنّ حقّ الغرماء يتعلّق به .
37 - والغارم إن استدان لنفسه في غير معصية يؤدّي دينه من الزّكاة ؛ لأنّه من مصارفها .
38 - هذا بالنّسبة للحيّ ، أمّا من مات وعليه دين فإنّ الدّين يتعلّق بالتّركة ، ويجب الأداء منها قبل تنفيذ الوصايا وأخذ الورثة نصيبهم ؛ لأنّ الدّين مستحقّ عليه ؛ ولأنّ فراغ ذمّته من أهمّ حوائجه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الدّين حائل بينه وبين الجنّة » وأداء الفرض أولى من التّبرّعات ، وقد قدّمه اللّه تعالى على القسمة في قوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } . فتجب المبادرة بأداء دينه تعجيلاً للخير لحديث : « نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه » . وما مرّ إنّما هو بالنّسبة لديون الآدميّ . أمّا ديون اللّه تعالى كالزّكاة والكفّارات والنّذور فقد سبق بيانه . ( ف / 14 ، 16 )
أداء القراءة معنى الأداء في القراءة
39 - الأداء عند القرّاء يطلق على أخذ القرآن عن المشايخ . والفرق بينه وبين التّلاوة والقراءة ، أنّ التّلاوة هي قراءة القرآن متتابعاً كالأوراد والأحزاب ، والأداء هو الأخذ عن المشايخ ، والقراءة تطلق على الأداء والتّلاوة فهي أعمّ منهما . والأداء الحسن في القراءة هو تصحيح الألفاظ وإقامة الحروف على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة المتّصلة بالرّسول ( صلى الله عليه وسلم ) الّتي لا تجوز مخالفتها ، ولا العدول عنها إلى غيرها ، ولذلك فإنّ من اللّحن الخفيّ ما يختصّ بمعرفته علماء القراءة وأئمّة الأداء الّذين تلقّوا من أقوال العلماء ، وضبطوا عن ألفاظ أهل الأداء الّذين ترتضى تلاوتهم ، ويوثق بعربيّتهم ، ولم يخرجوا عن القواعد الصّحيحة فأعطوا كلّ حرف حقّه من التّجويد والإتقان . حكم حسن الأداء في القراءة :
40 - قال الشّيخ الإمام أبو عبد اللّه بن نصر عليّ بن محمّد الشّيرازيّ في كتابه ( الموضّح في وجوه القراءات ) : إنّ حسن الأداء فرض في القراءة ، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته صيانةً للقرآن عن أن يجد اللّحن والتّغيير إليه سبيلاً . وقد اختلف العلماء في الحالات الّتي يجب فيها حسن الأداء ، فذهب بعضهم إلى أنّ ذلك مقصور على ما يلزم المكلّف قراءته في المفترضات ، فإنّ تجويد اللّفظ وتقويم الحروف واجب فيه فحسب . وذهب آخرون إلى أنّ ذلك واجب على كلّ من قرأ شيئاً من القرآن كيفما كان ، لأنّه لا رخصة في تغيير النّطق بالقرآن واتّخاذ اللّحن إليه سبيلاً إلاّ عند الضّرورة وقد قال اللّه تعالى : { قرآناً عربيّاً غير ذي عوج } وينظر التّفصيل في مصطلحي " تجويد ، تلاوة » .
أداة
انظر : آلة .
أدب
التّعريف
1 - أصل معنى كلمة " أدب " في اللّغة : « الجمع " ، ومنه : الأدب بمعنى الظّرف وحسن التّناول . سمّي أدباً ؛ لأنّه يأدب - أي يجمع - النّاس إلى المحامد . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عند الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ، فللأدب عند الفقهاء والأصوليّين عدّة إطلاقات : أ - قال الكمال بن الهمام : الأدب : الخصال الحميدة ، ولذلك بوّبوا فقالوا : « أدب القاضي " ، وتكلّموا في هذا الباب عمّا ينبغي للقاضي أن يفعله وما ينبغي أن ينتهي عنه . وكذلك قالوا : « آداب الاستنجاء " ، " وآداب الصّلاة » . وعرّفه بعضهم بقوله : الأدب : وضع الأشياء موضعها .
ب - كما يطلق الفقهاء والأصوليّون لفظ « أدب " أيضاً أصالةً على المندوب ، ويعبّرون عن ذلك بتعبيرات متعدّدة منها : النّفل ، والمستحبّ ، والتّطوّع ، وما فعله خير من تركه ، وما يمدح به المكلّف ولا يذمّ على تركه ، والمطلوب فعله شرعاً من غير ذمّ على تركه ، وكلّها متقاربة .
ج - وقد يطلق بعض الفقهاء كلمة " آداب " على كلّ ما هو مطلوب سواء أكان مندوباً أم واجباً . ولذلك بوّبوا فقالوا : « آداب الخلاء والاستنجاء " وأتوا في هذا الباب بما هو مندوب وما هو واجب ، وقالوا : إنّ المراد بكلمة " آداب " هو كلّ ما هو مطلوب .
د - ويطلق الفقهاء أحياناً ( الأدب ) على الزّجر والتّأديب بمعنى التّعزير . ( ر : تعزير ) .
حكمه
2 - الأدب في الجملة هو مرتبة من مراتب الحكم التّكليفيّ ، وهو غالباً يرادف المندوب ، وفاعله يستحقّ الثّواب بفعله ، ولا يستحقّ اللّوم على تركه .
( مواطن البحث )
3 - لقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه ، فذكروا في كلّ باب ما يخصّه من الآداب ، ففي الاستنجاء ذكروا آداب الاستنجاء ، وفي الطّهارة بأقسامها ذكروا آدابها ، وفي القضاء ذكروا آداب القضاء ، بل صنّف بعضهم كتباً خاصّةً في الآداب الشّرعيّة ، كالآداب الشّرعيّة لابن مفلح ، وأدب الدّنيا والدّين للماورديّ ، وغيرهما .
ادّخار
التّعريف
1 - أصل كلمة " ادّخار " في اللّغة هو " اذتخار " فقلب كلّ من الذّال والتّاء دالاً مع الإدغام فتحوّلت الكلمة إلى ( ادّخار ) . ومعنى ادّخر الشّيء : خبّأه لوقت الحاجة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الاكتناز :
2 - الاكتناز لغةً : إحراز المال في وعاء أو دفنه ، وشرعاً : هو المال الّذي لم تؤدّ زكاته ولو لم يكن مدفوناً . فالادّخار أعمّ في اللّغة والشّرع من الاكتناز .
ب - الاحتكار :
3 - الاحتكار لغةً : حبس الشّيء انتظاراً لغلائه . وشرعاً : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء . فالادّخار أعمّ من الاحتكار ؛ لأنّه يكون فيما يضرّ حبسه وما لا يضرّ .
ادّخار الدّولة الأموال من غير الضّروريّات :
4 - الأموال إمّا أن تكون بيد الدّولة ، أو بيد الأفراد . فإن كانت بيد الدّولة ، وقد فاضت عن مصارف بيت المال ، ففي جواز ادّخار الدّولة لها اتّجاهات : الاتّجاه الأوّل : لا يجوز للدّولة ادّخار شيء من الأموال ، بل عليها تفريقها على من يعمّ به صلاح المسلمين ، ولا تدّخرها ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو قول للحنابلة . وقد استدلّوا على ذلك بفعل الخلفاء الرّاشدين وبمبادئ الشّريعة ، أمّا فعل الخلفاء الرّاشدين : فقد روي ذلك عن عمر وعليّ وصنيعهما ببيت المال ، قال عمر بن الخطّاب لعبد اللّه بن أرقم : « اقسم بيت مال المسلمين في كلّ شهر مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ جمعة مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ يوم مرّةً " ، ثمّ قال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين لو أبقيت في بيت المال بقيّةً تعدّها لنائبة أو صوت مستغيث ، فقال عمر للرّجل الّذي كلّمه : جرى الشّيطان على لسانك ، لقّنني اللّه حجّتها ووقاني شرّها ، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طاعة اللّه ورسوله . وكان عليّ بن أبي طالب كما كان عمر ، فقد ورد أنّ عليّاً رضي الله عنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرّات ، ثمّ آتاه مال من أصبهان ، فقال : اغدوا إلى عطاء رابع ، إنّي لست بخازن . وأمّا مبادئ الشّريعة ، فإنّها تفرض على أغنياء المسلمين القيام برفع النّوائب عند نزولها . الاتّجاه الثّاني : أنّ على الدّولة ادّخار هذا الفائض عن مصارف بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث ، لأنّ ذلك تقتضيه مصلحة المسلمين من سرعة التّصرّف لرفع النّائبات عنهم . وإلى هذا ذهب الحنفيّة ، وهو قول للحنابلة . الاتّجاه الثّالث : وهو للمالكيّة ، فإنّهم قالوا : إذا استوت الحاجة في كلّ البلدان فإنّ الإمام يبدأ بمن جبي فيهم المال حتّى يغنوا غنى سنة ، ثمّ ينقل ما فضل لغيرهم ويوقف لنوائب المسلمين ، فإن كان غير فقراء البلد أكثر حاجةً فإنّ الإمام يصرف القليل لأهل البلد الّذي جبي فيهم المال ثمّ ينقل الأكثر لغيرهم .
ادّخار الأفراد :
5 - الأموال في يد الأفراد إمّا أن تكون أقلّ من النّصاب أو أكثر ، فإن كانت أكثر من النّصاب فإمّا أن تكون قد أدّيت زكاتها أو لم تؤدّ ، فإن أدّيت زكاتها فإمّا أن تكون زائدةً عن حاجاته الأصليّة أو غير زائدة عن حاجاته الأصليّة .
6 - فإن كانت الأموال الّتي بيد الفرد دون . النّصاب حلّ ادّخارها ؛ لأنّ ما دون النّصاب قليل ، والمرء لا يستغني عن ادّخار القليل ولا تقوم حاجاته بغيره .
7 - وإن كانت أكثر من النّصاب ، وصاحبها لا يؤدّي زكاتها ، فهو ادّخار حرام ، وهو اكتناز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض ، وأيّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض . وروي نحوه عن عبد اللّه بن عبّاس وجابر بن عبد اللّه ، وأبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً . واكتناز المال حرام بنصّ القرآن الكريم حيث قال اللّه تعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
8 - وإن كانت الأموال المدّخرة أكثر من النّصاب ، وصاحبها يؤدّي زكاتها ، وهي فائضة عن حاجاته الأصليّة ، فقد وقع الخلاف في حكم ادّخارها : فذهب جمهور العلماء من الصّحابة وغيرهم إلى جوازه ، ومنهم عمر وابنه وابن عبّاس وجابر . ويستدلّ لما ذهبوا إليه بآيات المواريث ؛ لأنّ اللّه جعل في تركة المتوفّي أنصباء لورثته ، وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك المتوفّون أموالاً مدّخرةً ، كما يستدلّ لهم بحديث سعد بن أبي وقّاص المشهور « إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس في أيديهم » . وهذا نصّ في أنّ ادّخار شيء للورثة بعد أداء الحقوق الماليّة الواجبة من زكاة وغيرها خير من عدم التّرك . وذهب أبو ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه إلى أنّ ادّخار المال الزّائد عن حاجة صاحبه - من نفقته ونفقة عياله - هو ادّخار حرام وإن كان يؤدّي زكاته وكان رضي الله عنه يفتي بذلك ، ويحثّ النّاس عليه ، فنهاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما - وكان أميراً على الشّام - عن ذلك ؛ لأنّه خاف أن يضرّه النّاس في هذا ، فلم يترك دعوة النّاس إلى ذلك ، فشكاه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة المنوّرة ، وأنزله الرّبذة ، فبقي فيها إلى أن توفّاه اللّه تعالى . وكان أبو ذرّ رضي الله عنه يحتجّ لما ذهب إليه بجملة من الأدلّة ، منها قوله تعالى في سورة التّوبة : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم } ، ويقول : إنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة . ويحتجّ بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عليّ رضي الله عنه أنّه مات رجل من أهل الصّفّة ، وترك دينارين ، أو درهمين ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كيّتان ، صلّوا على صاحبكم » وبما رواه ابن أبي حاتم عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلاّ جعل اللّه بكلّ قيراط صفحةً من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه » . وعن ثوبان قال : « كنّا في سفر ونحن نسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال المهاجرون : لوددنا أنّا علمنا أيّ المال نتّخذه ، إذ نزل في الذّهب والفضّة ما نزل ، فقال عمر : إن شئتم سألت رسول اللّه عن ذلك ، فقالوا : أجل ، فانطلق ، فتبعته أوضع على بعيري ، فقال يا رسول اللّه : إنّ المهاجرين لمّا أنزل اللّه في الذّهب والفضّة ما أنزل قالوا : وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير نتّخذه ، قال : نعم ، فيتّخذ أحدكم لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وزوجةً تعين أحدكم على إيمانه » .
9 - وذهب البعض إلى أنّ ادّخار الأموال يكون حراماً وإن أدّى المدّخر زكاتها إذا لم يؤدّ صاحبها الحقوق العارضة فيها ، كإطعام الجائع ، وفكّ الأسير وتجهيز الغازي ونحو ذلك . وذهب عليّ بن أبي طالب إلى أنّه لا يحلّ لرجل أن يدّخر أربعة آلاف درهم فما فوق وإن أدّى زكاتها ، وكان رضي الله عنه يقول : « أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز » . وكأنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى أنّ القيام بالحاجات الأصليّة للمرء لا يتطلّب أكثر من أربعة آلاف درهم في أحسن الأحوال ، فإن حبس الشّخص مبلغاً أكبر من هذا فقد حبس خيره عن النّاس ، وعن الفقراء بشكل خاصّ ، وهو أمر لا يجوز ، فقد كان رضي الله عنه يقول : « إنّ اللّه فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم ، وإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء ، وحقّ على اللّه أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذّبهم عليه .