من له حقّ الإذن : إذن الشّارع :
7 - إذن الشّارع يكون إمّا بنصّ ، أو باجتهاد من الحاكم فيما يتعلّق بمصالح العباد ، مع مراعاة القواعد العامّة لمقاصد الشّريعة ، كجلب المصالح ودرء المفاسد . ووجوه الإذن من الشّارع متعدّدة الأسباب لتفرّع مناحي الشّريعة في الحفاظ على كيان الفرد والمجتمع .
8 - فالإذن من الشّارع قد يكون للتّوسعة والتّيسير على العباد في حياتهم ، كالبيع والشّراء والإجارة والرّهن ، كما جاء في قوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } ، وقوله تعالى : { فرهان مقبوضة } . . . إلخ . وكذلك الإذن بالتّمتّع بالطّيّبات ، كالمأكل والمشرب والمسكن والملبس ، كما جاء في قوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } . والإذن بالنّكاح للتّمتّع والتّناسل على ما جاء في قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النّساء } . ومن ذلك أيضاً الإذن بالصّيد إلاّ في حالة الإحرام والإذن بإحياء الموات ، والإذن بالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ وهكذا .
9 - وقد يكون إذن الشّارع بالانتفاع على وجه التّعبّد والقربة ، كالانتفاع بالمساجد والمقابر والرّباطات . والإذن في كلّ ما سبق يجب أن يقتصر فيه على الأصل الّذي ورد من الشّارع مقيّداً بعدم الضّرر بالغير ، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام . وقد وضع الفقهاء لكلّ هذه التّصرّفات قواعد وشرائط لا بدّ من مراعاتها ، ومخالفة ذلك تبطل التّصرّف .
10 - وقد يكون الإذن من الشّارع رفعاً للحرج ودفعاً للمشقّة ؛ لأنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه والنّصوص الدّالّة على ذلك كثيرة ، منها قوله تعالى : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ، وقوله : { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله : { يريد اللّه أن يخفّف عنكم } . كذلك ورد أنّ « الرّسول صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » ، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال في العبادة ويقول : « خذوا من الأعمال ما تطيقون فإنّ اللّه لن يملّ حتّى تملّوا » . وعلى هذا الأساس كان الإذن للمسافر والمريض بالفطر في رمضان . ولقد نقل عن مالك والشّافعيّ منع الصّوم إذا خاف التّلف به وأنّه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطّهارة عند خوف التّلف والانتقال إلى التّيمّم . والدّليل على المنع قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، وجاء في حديث النّاذر للصّيام قائماً في الشّمس حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين علم بذلك : « مروه فليستظلّ وليتكلّم وليتمّ صومه » . وكذلك كان الإذن بإباحة ما كان محرّماً لذاته وأذن به لعارض كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر لإزالة الغصّة وذلك إذا عرضت ضرورة وهي خشية الموت أو التّلف ، وكذلك الإذن بإباحة ما كان محرّماً لغيره كالإذن بنظر الأجنبيّة للزّواج وبنظر العورة إذا عرضت حاجة كالعلاج . وكلّ ما كان من هذا القبيل ممّا فيه مشقّة وحرج سواء أكانت المشقّة حاصلةً باختيار المكلّف كالنّاذر الصّيام قائماً في الشّمس ، أم كانت المشقّة تابعةً للفعل كالمريض غير القادر على الصّوم أو الصّلاة ، والحاجّ الّذي لا يقدر على الحجّ ماشياً أو راكباً إلاّ بمشقّة خارجة عن المعتاد ، فهذا هو الّذي ورد فيه اليسر ومشروعيّة الرّخص . ولقد وضع الفقهاء بعض القواعد العامّة لذلك ، كقولهم : الضّرورات تبيح المحظورات . المشقّة تجلب التّيسير . الضّرر يزال . أمّا إذا كانت المشقّة الدّاخلة على المكلّف ليست بسببه ، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه فلقد فهم من مجموع الشّريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعاً للمشقّة ، بل إنّ الشّارع أذن في التّحرّز منها عند توقّعها وإن لم تقع ، ومن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحرّ والبرد ، والإذن في التّداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التّوقّي من كلّ مؤذ آدميّاً كان أو غيره . ولذلك يقول الفقهاء : لا ضمان في قتل الصّائل على نفس أو طرف أو بضع أو مال .
إذن المالك :
11 - الملك - كما جاء في دستور العلماء - هو اتّصال شرعيّ بين الإنسان وبين شيء يكون سبباً لتصرّفه فيه ومانعاً من تصرّف غيره فيه . ويقول ابن نجيم : الملك قدرة يثبتها الشّارع ابتداءً على التّصرّف . والأصل أنّ كلّ مملوك لشخص لا يجوز تصرّف غيره فيه بدون إذنه إلاّ لحاجة ، كأن يحتاج المريض لدواء ، فإنّه يجوز للولد والوالد الشّراء من مال المريض ما يحتاج إليه المريض بدون إذنه . وإذن المالك لغيره فيما يملكه يكون على الوجوه الآتية :
أ - الإذن بالصّرف :
12 - يجوز للمالك أن يأذن لغيره بالتّصرّف فيما يملكه ، وذلك كما في الوكالة والقراض ( المضاربة ) فإنّ الوكيل وعامل القراض يتصرّفان في ملك غيرهما بإذن المالك على ما يقع عليه الإذن من تصرّفات ، ومن ذلك أيضاً الوصيّ وناظر الوقف ، ولذلك شروط مفصّلة في كتب الفقه في الوكالة والقراض والوصيّة والوقف .
ب - الإذن بانتقال الملك إلى الغير :
13 - كما في البيع والهبة والوقف بشروطه .
ج - الإذن بالاستهلاك :
14 - وذلك بأن يأذن المالك باستهلاك ما هو مملوك له من رقبة العين ، حيث يأذن لغيره بتناولها وأخذها وذلك كالطّعام الّذي يقدّم في الولائم والمنائح والضّيافات ، وما ينثر على النّاس في الأحفال من دراهم وورود ، ويشمل ذلك أيضاً الإذن بالاستهلاك ببدل كما في القرض .
د - الإذن بالانتفاع :
15 - وذلك كأن يأذن بعض النّاس لبعضهم بالانتفاع بالشّيء المملوك ، والإذن بالانتفاع لا يقتضي ملكيّة الآذن للعين بل يكفي كونه مالكاً للمنفعة ، والإذن بالانتفاع قد يكون بدون عوض كما في العاريّة ، وقد يكون بعوض كما في الإجارة . وقد يتنوّع الإذن بالانتفاع حسب كون الآذن مالكاً للعين ملكيّةً تامّةً أو مالكاً لمنفعتها فقط وقت الإذن ، فقد يكون الآذن مستأجراً ويأذن لغيره بالانتفاع في الجملة على تفصيل في المذاهب ، ومثل ذلك الإعارة والوصيّة بالمنفعة والوقف فيكون للمستعير والموقوف عليه والموصى له بالمنفعة - إذا كان في صيغها ما يفيد الإذن بذلك - حقّ الإذن للغير بالانتفاع . ومن ذلك أيضاً إذن الأفراد بعضهم لبعض بالانتفاع بالطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ . فالإذن في كلّ ذلك إذن بالانتفاع ، إلاّ أنّه يجب أن يراعى أن يكون الإذن لا معصية فيه كإعارة الجارية للوطء وأن يكون الانتفاع على الوجه الّذي أذن فيه المالك أو دونه في الضّرر وإلاّ كان متعدّياً .
إذن صاحب الحقّ :
16 - حقّ الإنسان هو ما تتعلّق به مصلحة خاصّة مقرّرة بمقتضى الشّريعة ، سواء أكان ماليّاً أم غير ماليّ . والأصل أنّ كلّ تصرّف إذا كان يمسّ حقّاً لغير من يباشره وجب لنفاذه الإذن فيه من صاحب هذا الحقّ . وصور ذلك كثيرة في مسائل الفقه ومنها الأمثلة الآتية :
17 - أ - من حقوق الزّوج على الزّوجة منعها من الخروج من منزلها ، وعلى ذلك فلا يجوز لها الخروج إلاّ بإذنه ، ويستثنى من ذلك الخروج لحقّ أقوى من حقّه كحقّ الشّرع ( مثل حجّة الفريضة ) ، أو للعلاج ، أو لزيارة أبويها على تفصيل في المذاهب .
18 - ب - للمرتهن حقّ حبس المرهون ، حتّى يستوفي دينه ، وعلى ذلك فلا يجوز للرّاهن بيع المرهون إلاّ بإذن المرتهن ، وإذا باعه فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه وذلك عند الحنفيّة وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح ( رهن ) .
19 - ج - للواهب قبل إقباض الهبة أو الإذن في الإقباض حقّ الملكيّة ، وعلى ذلك فلا يجوز للموهوب له قبض الهبة إلاّ بإذن الواهب ، فلو قبض بلا إذن أو إقباض لم يملكه ، وذلك عند الشّافعيّة ، خلافاً للمالكيّة على تفصيل للفقهاء في ذلك .
20 - د - للزّوجة حقّ في الوطء والاستمتاع ولذلك لا يجوز للزّوج أن يعزل عن الحرّة إلاّ بإذنها .
21 - هـ - للمرأة حقّ في أمر نفسها عند إنكاحها ، ولذلك تستأذن عند إنكاحها على الوجوب بالإجماع إن كانت ثيّباً ، وعلى الاختلاف بين الفقهاء بين الوجوب والاستحباب إن كانت بكراً . 22 ولصاحب البيت حقّ في عدم دخول أحد إلاّ بإذنه ، وعلى ذلك فلا يجوز لأحد دخول بيت إلاّ بإذن من ساكنه لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا } ، أي تستأذنوا . والصّور من هذا النّوع كثيرة تنظر في مواضعها .
إذن القاضي :
23 - القضاء من الولايات العامّة ، والغرض منه إقامة العدل وإيصال الحقّ إلى مستحقّه ، ولمّا كانت تصرّفات النّاس بعضهم مع بعض قد يشوبها الجور وعدم الإنصاف ممّا يكون محلّ نزاع بينهم كان لا بدّ لنفاذ هذه التّصرّفات من إذن القاضي تحقيقاً للعدل ومنعاً للتّنازع ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
24 - تجب النّفقة على الزّوج لزوجته ، فإذا أعسر الزّوج بالنّفقة فعند الحنفيّة لا يفرّق بينهما ، بل يفرض القاضي لها النّفقة ، ثمّ يأمرها بالاستدانة ، فإذا استدانت بأمر القاضي صارت ديناً على الزّوج ويطالب بها ، أمّا لو استدانت بغير أمر القاضي فتكون المطالبة عليها وينظر التّفصيل في مصطلحي ( نفقة وإعسار ) .
25 - تجب الزّكاة في مال الصّغير عند المالكيّة ، فإذا كان للصّغير وصيّ فقد قال متأخّرو المذهب : لا يزكّي عنه الوصيّ إلاّ بإذن من الحاكم ، خروجاً من الخلاف وخاصّةً إذا كان هناك حاكم حنفيّ يرى عدم وجوب الزّكاة في مال المحجور عليه ، كذلك قال الإمام مالك : إذا وجد الوصيّ في التّركة خمراً فلا يريقها إلاّ بعد مطالعة السّلطان لئلاّ ، يكون مذهبه جواز تخليلها .
26 - يقول الحنابلة : من غاب وله وديعة أو نحوها وأولاد فإنّ الإنفاق عليهم لا يكون إلاّ بإذن الحاكم أمّا الإنفاق على اللّقيط فلا يشترط فيه إذن الحاكم وإن كان الأولى إذنه احتياطاً . ( ر : وديعة - نفقة ) . والصّور من هذا النّوع كثيرة وتنظر في مواضعها .
إذن الوليّ
27 - الوليّ هو من له ولاية التّصرّف على غيره ، في النّفس أو في المال ؛ لصغر أو سفه أو رقّ أو غير ذلك ويظلّ الحجر قائماً إلى أن يزول سببه . ولمّا كان المحجور عليهم قد يعود تصرّفهم بالضّرر عليهم ، أو على السّيّد بالنّسبة للعبد ، كان لا بدّ من نظر الوليّ وإذنه منعاً للضّرر . وفي الجملة فإنّ تصرّفات السّفيه والمميّز والعبد في المال والنّكاح لا بدّ فيها من إذن الوليّ عند جمهور الفقهاء ، وعند أبي حنيفة لا حجر على السّفيه والصّغير عند الشّافعيّة ، وفي رأي للحنابلة ، لا يجوز تصرّفه ولو بالإذن ؛ لأنّه يشترط البلوغ لصحّة عقدي النّكاح والبيع ، وكذلك السّفيه في الأصحّ عند الشّافعيّة ، وفي رأي للحنابلة لا يصحّ تصرّفه في المال ولو أذن له المولى لأنّ الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرّفه ، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه ، وقيل يصحّ بالإذن ، أمّا نكاحه فيصحّ . أمّا غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن ، وقد اختلف الفقهاء إذا تصرّف المميّز والسّفيه والعبد بدون إذن الوليّ بين الإجازة والرّدّ والبطلان .
28 - والمرأة وإن كانت رشيدةً لا بدّ من إذن الوليّ عند نكاحها - بكراً كانت أو ثيّباً - عند جمهور الفقهاء ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أيّما امرأة نكحت بدون إذن وليّها فنكاحها باطل » . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - في ظاهر الرّواية - ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها وليّ - بكراً كانت أو ثيّباً ؛ لأنّها تصرّفت في خالص حقّها ، وهي من أهله ؛ لكونها عاقلةً مميّزةً ، ولها اختيار الأزواج ، وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة .