إذن متولّي الوقف :
29 - متولّي الوقف أو ناظر الوقف هو من يتولّى القيام بشئون الوقف وحفظه وعمارته وتنفيذ شرط الواقف ، ولا يتصرّف إلاّ بما فيه مصلحة الوقف ، ولا يجوز للموقوف عليهم أو لغيرهم إحداث شيء فيه ، من بناء أو غرس إلاّ بإذن ناظر الوقف - إذا رأى فيه مصلحةً ، ولا يحلّ للمتولّي الإذن إلاّ فيما يزيد الوقف به خيراً . كذلك من وظيفة النّاظر تحصيل الغلّة ، وقسمتها على مستحقّيها ، وتنزيل الطّلبة منازلهم ، ولا يجوز مثل ذلك للجابي ، ولا للعامل ولا للمدرّس إلاّ بإذن النّاظر . ومنافع الموقوف ملك للموقوف عليه ، يستوفيها بنفسه وبغيره ، بإعارة أو إجارة ، كما يقول الشّافعيّة ، ولكنّه لا يمكّن من ذلك إلاّ بإذن النّاظر ، مع تفصيل كثير للفقهاء في ذلك ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( وقف ) .
إذن المأذون له :
30 - غالباً ما يطلق الفقهاء لفظ المأذون له على العبد الّذي أذن له سيّده في التّجارة ، ولذلك يعقدون له باباً يسمّى باب المأذون . ولقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للعبد المأذون : هل يملك أن يأذن لغيره في التّجارة أم لا ؟ فعند الحنفيّة والمالكيّة يجوز أن يأذن العبد المأذون له لغيره في التّجارة ؛ لأنّ الإذن في التّجارة تجارة . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يرون أنّه لا يجوز له أن يأذن لغيره بالتّجارة بدون إذن سيّده ، فإذا أذن له سيّده بذلك جاز ، قال الشّافعيّة : وهذا في التّصرّف العامّ ، فإن أذن له في تصرّف خاصّ كشراء ثوب جاز .
31 - وممّا يدخل في ذلك أيضاً عامل القراض باعتباره مأذوناً من ربّ المال في التّجارة . ويرى جمهور الفقهاء أنّه لا يجوز لعامل المضاربة أن يضارب غيره إلاّ بإذن ربّ المال ، فإن أذن له جاز . ويرى الحنفيّة أنّ ربّ المال لو فوّض الأمر للعامل ، بأن قال له اعمل برأيك مثلاً ، فإنّه يجوز للعامل أن يضارب بدون إذن ربّ المال . أمّا إذا قيّده بشيء فلا يجوز له . والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز أن يقارض غيره ولو بالإذن ، لأنّ القراض على خلاف القياس . والرّأي الثّاني : يجوز بالإذن ، وقوّاه السّبكيّ ، وقال إنّه الّذي قطع به الجمهور . ومن ذلك أيضاً الوكيل والوصيّ والقاضي ، وتنظر في مصطلحاتها .
التّعارض في الإذن :
32 - إذا اجتمع اثنان أو أكثر ، ممّن لهم حقّ الإذن في تزويج المرأة مثلاً ، وكانوا في درجة واحدة ، كإخوة أو بنيهم أو أعمام ، وتشاحّوا فيما بينهم ، وطلب كلّ منهم أن يزوّج ، فعند الحنابلة والشّافعيّة يقرع بينهم ، قطعاً للنّزاع ، ولتساويهم في الحقّ وتعذّر الجمع بينهم ، فمن خرجت قرعته زوّج ، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه . وعند المالكيّة : ينظر الحاكم فيمن يراه أحسنهم رأياً من الأولياء ، وعند الحنفيّة : يكون لكلّ واحد منهم أن يزوّجها على حياله - رضي الآخر أو سخط - إذا كان التّزويج من كفء بمهر وافر . وهذا إذا اتّحد الخاطب ، أمّا إذا تعدّد الخاطب فإنّه يعتبر رضاها ، وتزوّج بمن عيّنته ، فإن لم تعيّن المرأة واحداً ورضيت بأيّ واحد منهم ، نظر الحاكم في تزويجها من الأصلح ، كما يقول المالكيّة والشّافعيّة فإن بادر أحدهم فزوّجها من كفء فإنّه يصحّ ؛ لأنّه لم يوجد ما يميّز أحدهم على غيره . ولو أذنت لهم في التّزويج ، فزوّجها أحد الأولياء المستوين في الدّرجة من واحد ، وزوّجها الآخر من غيره ، فإن عرف السّابق فهو الصّحيح والآخر باطل ، وإن وقع العقدان في زمن واحد ، أو جهل السّابق منهما فباطلان ، وهذا باتّفاق ، مع تفصيل في ذلك . ( ر : نكاح وليّ ) .
33 - وفي الوصيّة لو أوصي لاثنين معاً فهما وصيّان ، ولا يجوز لواحد منهما الانفراد بالتّصرّف ، فإن اختلف الوصيّان في أمر ، كبيع وشراء ، نظر الحاكم فيما فيه الأصلح ، كما يقول المالكيّة . وعند الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - لا ينفرد أحد الوصيّين بالتّصرّف إلاّ إذا كانا من جهة قاضيين من بلدتين ، فإنّه حينئذ يجوز أن ينفرد أحدهما بالتّصرّف . وقال أبو يوسف يجوز أن ينفرد كلّ واحد منهما بالتّصرّف في جميع الأمور .
بم يكون الإذن ؟
34 - للتّعبير عن الإذن وسائل متعدّدة ، ومن ذلك اللّفظ الصّريح الدّالّ على الإذن ، كقول الأب لولده المميّز : أذنت لك في التّجارة ، أو اشتر لي ثوباً وبعه ، أو اتّجر في كذا .
35 - وقد يكون الإذن بالإشارة أو الكتابة أو الرّسالة وذلك كإذن المرأة في إنكاحها إذا كانت خرساء ، أو إذن الوليّ بالإشارة إذا كان أخرس ، فإنّ الإذن هنا يصحّ بالإشارة إذا كانت الإشارة معهودةً مفهومةً ، وكذلك الدّعوة إلى الوليمة بكتاب أو رسول تعتبر إذناً في الدّخول والأكل ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإنّ ذلك له إذن » وكما يكون الإذن مباشرةً ممّن يملكه فإنّه يكون بالإنابة منه . كذلك التّوكيل بالكتابة والرّسالة يعتبر إذناً .
36 - وقد يعتبر السّكوت إذناً في بعض التّصرّفات . والأصل أنّ السّكوت لا يعتبر إذناً ، وذلك لقاعدة : « لا ينسب لساكت قول » ولكن خرج عن هذه القاعدة بعض الصّور الّتي يعتبر السّكوت فيها إذناً ، ومن ذلك سكوت البكر عند وليّها ، فإنّ سكوتها يعتبر إذناً ، وذلك بمقتضى الحديث : « استأمروا النّساء في أبضاعهنّ فإنّ البكر تستحي فتسكت فهو إذنها » وهذا باتّفاق الفقهاء سواء أكان الاستئذان مستحبّاً أم واجباً .
37 - وقد اختلف الفقهاء في سكوت الوليّ عند رؤيته مولّيه يبيع ويشتري فسكت هل يعتبر سكوته إذناً أم لا ؟ فعند الحنفيّة وفي قول للمالكيّة يعتبر إذناً ، وعند الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ، وفي قول للمالكيّة لا يعتبر إذناً ؛ لأنّ ما يكون الإذن فيه شرطاً لا يعتبر فيه السّكوت ، كمن يبيع مال غيره وصاحبه ساكت فلا يعتبر إذناً ؛ ولأنّ السّكوت يحتمل الرّضا ويحتمل السّخط ، فلا يصلح دليل الإذن عند الاحتمال .
38 - وقد يكون الإذن بطريق الدّلالة ، وذلك كتقديم الطّعام للضّيوف ، فإنّه قرينة تدلّ على الإذن وكشراء السّيّد لعبده بضاعةً ووضعها في حانوته ، وأمره بالجلوس فيه ، وكبناء السّقايات والخانات للمسلمين وأبناء السّبيل .
تقييد الإذن بالسّلامة :
39 - من القواعد الفقهيّة أنّ المتولّد من مأذون فيه لا أثر له ، أي لا يكون مضموناً ، ويستثنى من هذه القاعدة ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة . ويقسم الحنفيّة الحقوق الّتي تثبت للمأذون إلى قسمين : حقوق واجبة ، سواء أكانت بإيجاب الشّارع ، كحقّ الإمام في إقامة الحدّ ، وفي القصاص والتّعزير ، أم كانت واجبةً بإيجاب العقد ، كعمل الفصّاد والحجّام والختّان . وهذه الحقوق لا يشترط فيها سلامة العاقبة إلاّ بالتّجاوز عن الحدّ المعتاد . حقوق مباحة ، كحقّ الوليّ في التّأديب عند أبي حنيفة ، وحقّ الزّوج في التّعزير فيما يباح له ، وحقّ الانتفاع بالطّريق العامّ ، وهذه الحقوق تتقيّد بوصف السّلامة . وبالنّظر في ذلك عند بقيّة الفقهاء يتبيّن أنّهم يسايرون الحنفيّة في هذا المعنى ، إلاّ أنّ الفقهاء جميعاً - ومنهم الحنفيّة - يختلفون في تحديد الحقوق الّتي تتقيّد بوصف السّلامة ، والّتي لا تتقيّد بها ، تبعاً لاختلاف وجهتهم في تعليل الفعل ، حتّى بين فقهاء المذهب الواحد نجد ذلك في الفعل الواحد كالخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه في اقتصاص الإنسان لنفسه . وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً - ما لا يتقيّد بوصف السّلامة :
أ - الحقوق الواجبة بإيجاب الشّارع ومن أمثلتها :
40 - إذا أقام الإمام الحدّ ، فجلد شارب الخمر ، أو قطع يد السّارق ، فمات المحدود فلا ضمان لأنّ الحدود إذا أتي بها على الوجه المشروع فلا ضمان فيما تلف بها ؛ لأنّ الإمام فعل ذلك بأمر اللّه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يؤاخذ . وكذلك إذا اقتصّ من الجاني فيما دون النّفس دون تجاوز ، فسرت الجراحة ، فمات فلا ضمان ؛ لأنّه بفعل مأذون فيه ، فلا يتقيّد بوصف السّلامة . وهذا باتّفاق الفقهاء .
41 - وإذا عزّر الإمام فيما شرع فيه التّعزير ، فمات المعزّر لم يجب ضمانه ؛ لأنّه فعل ما فعل بأمر الشّرع ، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة . وفي قول للمالكيّة إنّه لا يضمن إن ظنّ السّلامة ، أمّا عند الشّافعيّة فإنّه يضمن ؛ لأنّ تعزير الإمام عندهم مشروط بسلامة العاقبة .
42 - وإذا اقتصّ المجنيّ عليه بنفسه ، فقطع يد القاطع ، فسرت الجراحة ، فمات فلا ضمان ؛ لأنّه قطع مستحقّ مقدّر فلا تضمن سرايته كقطع السّارق ، وهذا عند جميع الفقهاء ، ما عدا أبا حنيفة ، فإنّه يضمن عنده ، وتكون الدّية على عاقلته ؛ لأنّ القطع ليس بمستحقّ على من له القصاص ، بل هو مخيّر فيه والعفو أولى ، وعند المالكيّة والحنابلة يؤدّب لافتياته على الإمام ، ولا ضمان عليه .
ب - الحقوق الواجبة بإيجاب العقد ومن أمثلتها :
43 - الحجّام والفصّاد والختّان والطّبيب لا ضمان عليهم فيما يتلف بفعلهم ، إذا كان ذلك بالإذن ولم يجاوزوا الموضع المعتاد ، وكانت لهم بصنعتهم بصارة ومعرفة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ . 44 - وفي عقد الإجارة يد المستأجر يد أمانة ، ولا يضمن المستأجر ما تلف بالاستعمال المأذون فيه ، وأمّا لو فرّط أو جاوز ما أذن له فيه ، بأن ضرب الدّابّة أو كبحها فوق العادة فتلفت ضمن ، وهذا باتّفاق .
ثانياً - ما يتقيّد بوصف السّلامة :
45 - وهو الحقوق المباحة ومن أمثلتها : ضرب الزّوجة للنّشوز ، فيه الضّمان فيما ينشأ منه من تلف عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولا ضمان فيه عند الحنابلة والمالكيّة إن ظنّ السّلامة . 46 - والانتفاع بالطّريق العامّة من سير وسوق مأذون فيه لكلّ النّاس بشرط سلامة العاقبة ، فما لم تسلم عاقبته لم يكن مأذوناً فيه ، فالمتولّد منه يكون مضموناً ، إلاّ إذا كان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، وعلى ذلك فالرّاكب إذا وطئت دابّته رجلاً فهو ضامن لما أصابت يدها أو رجلها أو رأسها أو صدمت ؛ لأنّ هذه أفعال يمكن الاحتزاز عنها . ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها ؛ لأنّه لا يمكن الاحتزاز عنه ، ولو وقّفها في الطّريق فهو ضامن للنّفحة أيضاً ؛ لأنّ المأذون فيه شرعاً هو المرور ، وليس الوقوف إلاّ ما قاله بعض الحنابلة والمالكيّة من أنّ وقوف الدّابّة في الطّريق الواسع لغير شيء لا ضمان فيه . ولو وقّفها أمام باب المسجد فهو كالطّريق ، فيضمن ولو خصّص الإمام للمسلمين موقفاً فلا ضمان إلاّ إذا كان راكباً . ولو كان سائراً أو سائقاً أو قائداً في مواضع أذن الإمام للنّاس فيها بالوقوف ضمن ، لأنّ أثر الإذن في سقوط ضمان الوقوف ، لا في السّير والسّوق ، وهذا عند جميع الفقهاء . 47 - ومن حفر بئراً في طريق العامّة ، فإن لم تكن لمصلحة ففيها الضّمان بما تلف منها ، وإن كانت لمصلحة المسلمين ، فوقع فيها إنسان ومات فإن كان الحفر بإذن السّلطان فلا ضمان ، وإن كان بغير إذنه يضمن ؛ لأنّ أمر العامّة إلى الإمام ، فلا بدّ من إذنه ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة عدا أبي يوسف فعنده لا يضمن ؛ لأنّ ما كان من مصالح المسلمين كان الإذن فيه ثابتاً دلالةً ، وهو أيضاً رأي للشّافعيّة ، ولم يقيّد المالكيّة ذلك بالإذن . ومن حفر في ملكه أو في موات فلا ضمان عليه اتّفاقاً . ويرى أبو حنيفة أنّ الواقع في الحفر لو مات جوعاً أو غمّاً فلا ضمان على الحافر ويوافقه أبو يوسف في الموت جوعاً أمّا إن مات غمّاً فالضّمان على الحافر . 48 - ومن أخرج جناحاً إلى طريق المسلمين ، أو نصب ميزاباً أو بنى دكّاناً أو وضع حجراً أو خشبةً أو قشر بطّيخ أو صبّ ماءً ، فزلق به إنسان فما نشأ من ذلك فهو مضمون على فاعله ، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة . وعند المالكيّة يضمن فيما وضعه في الطّريق ، كقشر البطّيخ أو صبّ الماء ، أمّا من وضع ميزاباً للمطر ، ونصبه على الشّارع ، ثمّ بعد مدّة سقط على رأس إنسان فقتله ، أو على مال فأتلفه فلا ضمان ، لأنّه فعل مأذون فيه . 49 - ومن بنى جداراً مائلاً إلى الشّارع فتلف به شيء ففيه الضّمان ، وإن بناه مستوياً أو مائلاً إلى ملكه فسقط فلا ضمان ، وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطّريق ، أو إلى ملك إنسان فإن لم يمكن نقضه ولا فرّط في ترك نقضه لعجزه فلا ضمان ، فإن أمكنه وطولب بذلك ولم يفعل ضمن ، وإن لم يطالب لم يضمن .
أثر الإذن في دخول البيوت :
50 - لا يجوز لأحد دخول دار غيره بدون إذنه ولذلك وجب الاستئذان عند إرادة الدّخول لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } ، فإن أذن له دخل وإن لم يؤذن له رجع . وللإذن في دخول البيوت أثر في حدّ السّرقة ، إذ يعتبر الإذن بالدّخول شبهة دارئة للحدّ ؛ لأنّ الدّار قد خرجت من أن تكون حرزاً بالإذن ، ولأنّه لمّا أذن له بالدّخول فقد صار في حكم أهل الدّار ، فإذا أخذ شيئاً فهو خائن لا سارق ، إلاّ أنّ الفقهاء يختلفون في تحديد ما يعتبر سرقةً وما لا يعتبر ، على تفصيل موطنه مصطلح ( سرقة ) .
51 - وكذلك للإذن في دخول البيوت أثر في الجناية والضّمان ، ومن ذلك من دخل دار غيره بإذنه فعقره كلبه ، فعند الحنابلة والمالكيّة وفي القول الثّاني للشّافعيّة فيه الضّمان على صاحبه ، لأنّه تسبّب في إتلافه بعدم كفّ الكلب عنه خلافاً للحنفيّة وقول للشّافعيّة . وكذلك من حفر بئراً في داره ، ودخل الدّار رجل بإذن صاحب الدّار ، فوقع فيها ، فلا ضمان على صاحب الدّار عند المالكيّة والحنفيّة ، وعند الحنابلة والشّافعيّة إن كانت البئر مكشوفةً والدّاخل بصير يبصرها فلا ضمان ، وإن كان الدّاخل أعمى ، أو كانت البئر في ظلمة لا يبصرها ، فعلى صاحب الدّار الضّمان عند الحنابلة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، وفي القول الثّاني للشّافعيّة لا ضمان . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( جناية ) .
أثر الإذن في العقود :
52 - الأصل أنّ المأذون له في التّصرّفات ينفذ تصرّفه فيما له فيه نفع ، كالصّبيّ المأذون عند من يجيز تصرّف الصّبيّ . أمّا التّصرّفات الضّارّة فلا تصحّ ولو بالإذن ، ولذلك لا يصحّ تبرّعه . والصّبيّ المميّز المأذون له يملك ما يملكه البالغ لكن يشترط لصحّة الإذن أن يعقل أنّ البيع سالب للملك عن البائع ، والشّراء جالب له ، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش . 53 - والإذن في العقود يفيد ثبوت ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن ، وذلك كالوكالة والشّركة والقراض ( المضاربة ) ، فإنّه بمقتضى هذه العقود يثبت لكلّ من الوكيل وعامل القراض والشّريك ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن ، كالوكالة في عقد البيع أو في عقد النّكاح وهكذا ، ولا يجوز له مباشرة أيّ عقد يخالف نصّ الإذن . وأمّا حقوق ما يباشرونه من عقود مأذون فيها فبالنّسبة للشّريك ترجع إليهما ، وبالنّسبة لعامل المضاربة ترجع إلى ربّ المال . أمّا بالنّسبة للوكيل فقد اختلف الفقهاء في ذلك : فعند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة تكون العهدة على الموكّل ، ويرجع بالحقوق إليه ، وكذلك الحكم عند المالكيّة بالنّسبة للوكيل الخاصّ . أمّا الوكيل المفوّض عندهم فالطّلب عليه . ويقول الحنفيّة : كلّ عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكّل ، ويكتفي الوكيل فيه بالإضافة إلى نفسه فحقوقه راجعة إلى العاقد ، كالبياعات والأشرية والإجارات ، فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وهي عليه أيضاً ، ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك والمالك كالأجنبيّ ، حتّى لا يملك الموكّل مطالبة المشتري من الوكيل بالثّمن ، وإذا استحقّ المبيع في يد المشتري يرجع بالثّمن على الوكيل . وكلّ عقد يحتاج فيه الوكيل إلى إضافته إلى الموكّل فحقوقه ترجع إلى الموكّل ، كالنّكاح والطّلاق والعتاق على مال والخلع ، فحقوق هذه العقود تكون للموكّل وهي عليه أيضاً ، والوكيل فيها سفير ومعبّر محض ، حتّى إنّ وكيل الزّوج في النّكاح لا يطالب بالمهر وإنّما يطالب به الزّوج إلاّ إذا ضمن المهر فحينئذ يطالب به لكلّ بحكم الضّمان . 54 - وقد يقوم إذن الشّارع مقام إذن المالك فيصحّ العقد وإن لم يأذن المالك ، وذلك كمن توجّه عليه دين وامتنع من الوفاء والبيع ، فإن شاء القاضي باع ماله بغير إذنه لوفاء دينه ، وإن شاء عزّره وحبسه إلى أن يبيعه . 55 - أمّا التّصرّف في مال الغير بدون إذنه ، وذلك كالفضوليّ يبيع مال غيره بغير إذنه فإنّه يتوقّف على الإجازة عند غير الشّافعيّة ، والإجازة اللاّحقة كالوكالة السّابقة ، والوكالة إذن ، وعند الشّافعيّة وفي رأي للحنابلة البيع باطل . 56 - وإذن المالك في العقود الّتي يباشرها بنفسه قد يفيد تمليك العين ، سواء أكان على سبيل البدل كما في القرض ، أم بدون عوض كما في الهبة والوصيّة بالعين . وقد يفيد تمليك المنفعة أو الانتفاع كالإجارة والإعارة أو تمليك الانتفاع بالبضع كما في عقد النّكاح وقد سبق بيان ذلك .
أثر الإذن في الاستهلاك :
57 - الإذن قد يرد على استهلاك رقبة الشّيء ومنافعه ، وهو من الشّارع يفيد التّملّك بالاستيلاء الحقيقيّ ، وذلك كالإذن بصيد البحر وصيد البرّ في غير الحرم ، ومن ذلك الماء والكلأ والنّار وهي المشتركات الثّلاث الّتي نصّ عليها الحديث : « المسلمون شركاء في ثلاث ، في الماء والكلأ والنّار » . أمّا الإذن بالاستهلاك من العباد بعضهم لبعض فإنّه يختلف أثره . فقد يفيد التّمليك على سبيل العوض كما في قرض الخبز والدّراهم والدّنانير . وقد يفيد الإذن التّمليك من غير عوض كما في هبة المأكول والمشروب والدّراهم والدّنانير . وقد لا يكون الإذن بالاستهلاك تمليكاً ، وإنّما يكون طريقاً إليه ، وذلك كما في الولائم والمنائح والضّيافات .
أثر الإذن في الجنايات :
58 - الأصل أنّ الدّماء لا تجري فيها الإباحة ، ولا تستباح بالإذن وإنّما يكون الإذن - إذا كان معتبراً - شبهةً تسقط القصاص ، ومن ذلك من قال لغيره : اقتلني فقتله ، فإنّ القود يسقط لشبهة الإذن ، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر ، وهو قول للمالكيّة ، وفي قول آخر للمالكيّة أنّه يقتل وفي قول ثالث أنّه يضرب مائةً ويحبس عاماً . واختلف في وجوب الدّية ، فتجب عند الحنفيّة وهو قول للمالكيّة والشّافعيّة . وكذلك من قال لغيره : اقطع يديّ فقطع يده فلا ضمان فيه ، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، ورجّحه البلقينيّ ، وقال المالكيّة أيضاً : يعاقب ولا قصاص عليه ، وتنظر التّفصيلات في مصطلح : ( جناية ) . 59 - ومن أمر إنساناً بقتل غيره فإن كان بلا إكراه ففيه القصاص على المأمور واختلف في الآمر . أمّا إذا كان الأمر بإكراه ملجئ فإنّ القصاص على الآمر ، واختلف في المأمور ، فعند الحنابلة والمالكيّة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة وقول زفر من الحنفيّة ، أنّه يقتل لمباشرته القتل ، وقال أبو يوسف : لا قصاص على واحد منهما ، والمذهب أنّ المأمور لا يقتل . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ( ر : إكراه - قتل - جناية ) . 60 - ولا قصاص على من قتل غيره دفاعاً عن نفسه أو عرضه أو ماله ؛ لأنّ الدّفاع عن ذلك مأذون فيه لكن ذلك مشروط بما إذا كان الدّفع لا يتأتّى إلاّ بالقتل .
أثر الإذن في الانتفاع :
61 - الانتفاع إذا كان بإذن من الشّارع فإنّه قد يفيد التّمليك بالاستيلاء الحقيقيّ كما في تملّك الحيوان المباح بالصّيد ، وكما في تملّك الأرض الموات بالإحياء . وقد يفيد اختصاصاً لمن سبق ، كالسّبق إلى مقاعد المساجد للصّلاة والاعتكاف ، والسّبق إلى المدارس والرّبط ومقاعد الأسواق . وقد يفيد ثبوت حقّ الانتفاع المجرّد ، كالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ ، والانتفاع بذلك مشروط بسلامة العاقبة . 62 - وإذا كان الانتفاع بإذن من العباد بعضهم لبعض ، فإن كان الإذن بدون عقد كإذن صاحب الطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ لغيره بالانتفاع فإنّه لا يفيد تمليكاً ، وإنّما يترتّب عليه الضّمان بسوء الاستعمال . 63 - أمّا إذا كان منشأ الانتفاع عن عقد كالإجارة والإعارة ، فإنّ الفقهاء يتّفقون على أنّ عقد الإجارة يفيد ملك المنفعة ، فيكون للمستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه ، ويكون له أن يؤجّر فيملك المنفعة لغيره . أمّا عقد الإعارة فإنّهم يختلفون في إفادته ملك المنفعة . فعند الحنابلة والشّافعيّة على الصّحيح لا تفيد ذلك إلاّ بإذن من المالك ، وعلى ذلك فلا يجوز للمستعير أن يعير غيره وإنّما يستوفي المنفعة بنفسه ، وعند الحنفيّة والمالكيّة تفيد الإعارة ملك المنفعة فيجوز للمستعير أن يعير غيره . 64 - ويترتّب الضّمان على الانتفاع النّاشئ عن مثل هذه العقود بمجاوزة الانتفاع المأذون فيه أو بالتّفريط . على تفصيل في ذلك ، يرجع إليه في مصطلح : ( ضمان ) .
انتهاء الإذن :
65 - الإذن إذا كان من الشّارع فليس فيه إنهاء له ولا يتصوّر ذلك ؛ لأنّ إذن الشّارع في الأموال المباحة يفيد تملّكها ملكيّةً مستقرّةً بالاستيلاء . أمّا إذن العباد بعضهم لبعض ، فإن كان إذناً بالانتفاع ، وكان منشأ الانتفاع عقداً لازماً كالإجارة فإنّه ينتهي بانتهاء المدّة ، أو بانتهاء العمل وفق الإذن الصّادر له ومدّة قيام الإذن . وإن كان منشأ الانتفاع عقداً جائزاً كالإعارة فإنّ الإذن ينتهي برجوع المعير في أيّ وقت شاء سواء أكانت العاريّة مطلقةً أم مؤقّتةً ؛ لأنّها إباحة ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة يقولون : إن كانت الإعارة مؤقّتةً وفي الأرض غرس أو بناء فلا يجوز رجوعه قبل الوقت . ويقول الحنابلة والشّافعيّة : إن أعاره أرضاً للزّراعة فعليه الإبقاء إلى الحصاد . وإن أعاره أرضاً ليدفن فيها فلا يرجع حتّى يندرس أثر المدفون ، أمّا المالكيّة فعندهم لا يجوز الرّجوع في العاريّة المؤقّتة قبل انتهاء وقتها ، وإن كانت مطلقةً لزمه أن يتركه مدّةً معتادةً ينتفع بها في مثلها . وإن كان إذناً بالتّصرّف كالوكالة والشّركة والمضاربة فإنّ الإذن ينتهي بالعزل ، لكن بشرط أن يعلم المأذون بذلك ، وأن لا يتعلّق بالوكالة حقّ للغير . وينتهي الإذن كذلك بالموت ، وبالجنون المطبق وبالحجر على الموكّل ، وبهلاك ما وكّل فيه ، وبتصرّف الموكّل بنفسه فيما وكّل فيه ، وباللّحاق بدار الحرب مرتدّاً . ومثل ذلك ناظر الوقف والوصيّ فإنّهما ينعزلان بالرّجوع وبالخيانة وبالعجز .
الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء الثاني