الموسوعة الفقهية/ الجزء الثالث
*استئنافٌ
التّعريف
1 - من معاني الاستئناف لغةً : الابتداء والاستقبال ، وقد استأنف الشّيء أخذ أوّله وابتدأه . وبتتبّع استعمالات هذا المصطلح لدى الفقهاء ، يمكن الوصول إلى تعريفٍ بأنّه : البدء بالماهيّة الشّرعيّة من أوّلها ، بعد التّوقّف فيها وقطعها لمعنًى خاصٍّ . فالاستئناف لا يكون إلاّ بعد قطع الماهيّة الأولى ؛ لما جاء في ردّ المحتار : « قوله ( واستئنافه أفضل ) أي : بأن يعمل عملاً يقطع الصّلاة ثمّ يشرع بعد الوضوء ، شرنبلاليّةٌ عن الكافي ، وفي حاشية أبي السّعود عن شيخه : فلو لم يعمل ما يقطع الصّلاة ، بل ذهب على الفور فتوضّأ ، ثمّ كبّر ينوي الاستئناف ، لم يكن مستأنفاً بل بانياً . اهـ .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - البناء :
2 - من معاني البناء لغةً : أنّه ضدّ الهدم ، واصطلاحاً : يأتي بمعنى المضيّ في الماهيّة الشّرعيّة المبدوء بها إلى نهايتها ، بعد زوال العارض الّذي قطعها بسببه ، ومثاله : أن يسبق المصلّي حدثٌ ، بعد أن صلّى ركعةً ، فيتوضّأ ، ويبني على صلاته بإكمال ما بقي ، وذلك عند الحنفيّة . وفيه خلافٌ تفصيله في مباحث ( الصّلاة ) فالبناء مباينٌ للاستئناف .
ب - الاستقبال :
3 - الاستقبال لغةً : المواجهة ، أمّا شرعاً : فيأتي مرادفاً للاستئناف ، ومثاله قول الكاسانيّ : إذا أيست المعتدّة بالأقراء ، تنتقل عدّتها إلى الأشهر ، فتستقبل العدّة بها . ويأتي بمعنى الاتّجاه إلى القبلة أو غيرها .
ج - الابتداء :
4 - من معاني الابتداء لغةً : التّقديم ، والأخذ في الشّيء من أوّله ، ولا يخرج التعريف الاصطلاحيّ عن ذلك . فالفرق بينه وبين الاستئناف ، أنّ الابتداء أعمّ .
د - الإعادة :
5 - من معاني الإعادة لغةً : فعل الشّيء ثانيةً ، ومنه التّكرار . واصطلاحاً : عرّفها الغزاليّ عند كلامه عن إعادة الموقّت : بأنّها فعل الشّيء ثانياً في الوقت بعد فعله على نوعٍ من الخلل . وتفترق الإعادة عن الاستئناف بأنّها لا تكون إلاّ بعد فعل العمل الأوّل مع خللٍ ما ، أمّا الاستئناف فلا يكون إلاّ بعد قطع العمل قبل تمامه .
هـ : القضاء :
6 - القضاء لغةً : أداء الشّيء ، واصطلاحاً : عرّفه الغزاليّ : بأنّه فعل مثل ما فات وقته المحدّد ، فالفرق بينه وبين الاستئناف ، أنّ القضاء لا يكون إلاّ بعد الوقت ، ولا يكون إلاّ في الأفعال ذات الوقت المحدّد . أمّا الاستئناف فقد يكون في الوقت ، وقد يكون بعده ، وقد يكون في غير الوقت .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
7 - الاستئناف تعتريه بضعة أحكامٍ تكليفيّةٍ . فقد يكون واجباً اتّفاقاً ، وذلك كما لو تعمّد الحدث وهو في الصّلاة . وهو أيضاً واجبٌ عند المالكيّة ، إذا سبقه حدثٌ غير الرّعاف ، إذ لا بناء عندهم إلاّ في الرّعاف ؛ لأنّه رخصةٌ فيتوقّف فيها على مورد النّصّ . وقد يكون مستحبّاً ، كمن أحدث وهو يؤذّن ، واحتاج لفاصلٍ طويلٍ للتّطهّر ، فإنّ استئناف الأذان أولى . وقد يكون مكروهاً كما في الصّورة السّابقة إذا كان الفاصل للتّطهّر يسيراً ؛ لأنّ البناء هنا أولى ، لئلاّ يوهم التّلاعب إذا استأنف . وقد يكون الاستئناف مباحاً ، كالبيع الصّحيح والإجارة الصّحيحة - إذا جرت فيها الإقالة أو كان البيع فاسداً - فإنّه يصحّ استئناف العقد .
مواطن الاستئناف :
الاستئناف مصطلحٌ يرد في كثيرٍ من أبواب الفقه ، إلاّ أنّ استعماله في أبواب العبادات أكثر منه في غيرها ، وفيما يلي بعض الصّور .
الاستئناف في الوضوء :
8 - جاء في الفروع لابن مفلحٍ في معرض بيان أثر نسيان التّسمية على صحّة الوضوء : « وإن ذكر في بعضه ابتدأ ، وقيل بنى ، وعنه تستحبّ » أي أنّ المتوضّئ إذا ذكر التّسمية في أثناء الوضوء استأنف وضوءه وجوباً في قولٍ لدى الحنبليّة ، وفي قولٍ آخر لا يجب الاستئناف ، ويجوز البناء .
الاستئناف في الغسل :
9 - جاء في الفروع لابن مفلحٍ في الغسل : « وحيث فاتت الموالاة فيه أو في وضوءٍ ، وقلنا يجوز فلا بدّ للإتمام من نيّةٍ مستأنفةٍ ، بناءً على أنّ من شرط النّيّة الحكميّة : قرب الفعل منها ، كحالة الابتداء ... » .
الاستئناف في الأذان والإقامة :
10 - جاء في الدّرّ المختار في الأذان والإقامة : « إن تكلّم في الأذان أو الإقامة - ولو بردّ سلامٍ - استأنف » .
الاستئناف في الصّلاة :
11 - قال الزّيلعيّ : « ( وإن سبقه حدثٌ ) أي المصلّي ( توضّأ وبنى ) ، والقياس أن يستقبل ( يستأنف ) وهو قول الشّافعيّ ؛ لأنّ الحدث ينافيها ، والمشي والانحراف يفسدانها ، فأشبه الحدث العمد ، ولنا قوله عليه الصلاة والسلام : « من أصابه قيءٌ أو رعافٌ أو قلسٌ أو مذيٌ فلينصرف فليتوضّأ ، ثمّ ليبن على صلاته ، وهو في ذلك لا يتكلّم » . وقال عليه الصلاة والسلام : « إذا رعف أحدكم في صلاته أو قلس ، فلينصرف فليتوضّأ وليرجع فليتمّ صلاته ، على ما مضى منها ما لم يتكلّم » . والاستئناف أفضل تحرّزاً عن شبهة الخلاف . وهذا الحكم على سبيل الوجوب عند المالكيّة في غير الرّعاف ، إذ البناء رخصةٌ .
الاستئناف في التّيمّم :
12 - وقال الكاسانيّ : « وإن وجد الماء في الصّلاة ، فإن وجده قبل أن يقعد قدر التّشهّد الأخير انتقض تيمّمه ، وتوضّأ واستقبل ( استأنف ) الصّلاة عندنا ، وللشّافعيّ ثلاثة أقوالٍ : في قولٍ مثل قولنا ، وفي قولٍ يقرّب الماء منه حتّى يتوضّأ ويبني ، وفي قولٍ يمضي على صلاته وهو أظهر أقواله » .
الاستئناف في الكفّارات :
13 - ومن أمثلة الاستئناف في الكفّارات ما قال صاحب الدّرّ المختار في كفّارة اليمين : « ( والشّرط استمرار العجز إلى الفراغ من الصّوم ، فلو صام المعسر يومين ثمّ ) قبل فراغه ولو بساعةٍ ( أيسر ) ولو بموت مورّثه موسراً ( لا يجوز له الصّوم ) ، ويستأنف بالمال » ، والعجز المراد به هنا العجز عن الإطعام والكسوة والتّحرير ؛ لأنّ الصّوم لا يقبل هنا إلاّ بعد العجز عن تلك الثّلاثة .
الاستئناف في العدّة :
14 - جاء في بدائع الصّنائع : « ... إذا طلّق امرأته ثمّ مات ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً انتقلت عدّتها إلى عدّة الوفاة ، سواءٌ طلّقها في حالة المرض أو الصّحّة ، وانهدمت عدّة الطّلاق ، وعليها أن تستأنف عدّة الوفاة في قولهم جميعاً » . وقال في الدّرّ المختار : « ( والصّغيرة ) لو حاضت بعد تمام الأشهر ( لا ) تستأنف ( إلاّ إذا حاضت في أثنائها ) فتستأنف بالحيض ( كما تستأنف ) العدّة ( بالشّهور من حاضت حيضةً ) أو اثنتين ( ثمّ أيست ) ، تحرّزاً عن الجمع بين الأصل والبدل » .
*أستارٌ
انظر : استتارٌ .
*استباقٌ
انظر : سباقٌ .
*استبدادٌ
التعريف
1 - الاستبداد في اللّغة : مصدر استبدّ ، يقال : استبدّ بالأمر ، إذا انفرد به من غير مشاركٍ له فيه . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن ذلك .
الألفاظ ذات الصّلة :
أ - الاستقلالٌ :
2 - من معاني الاستقلال : الاعتماد على النّفس ، والاستبداد بالأمر ، وهو بهذا المعنى يرادف الاستبداد ، غير أنّه يخالفه في غير ذلك من إطلاقاته اللّغويّة ، فيكون من القلّة ومن الارتفاع .
ب - المشورةٌ :
3 - الشّورى لغةً وشرعاً : عدم الاستئثار بالرّأي ، وهي ضدّ الاستبداد بالرّأي .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
4 - الاستبداد المفضي إلى الضّرر أو الظّلم ممنوعٌ ، كالاستبداد في احتكار الأقوات ، واستبداد أحد الرّعيّة فيما هو من اختصاص الإمام مثل الجهاد ، والاستبداد في إقامة الحدود بغير إذن الإمام . ولتفصيل ذلك يرجع إلى مصطلح ( احتكارٌ ، وحدودٌ ، وجهادٌ ) وإلى كتب الفقه في المواطن المبيّنة بالهوامش . أمّا ما كان لتحقيق واجبٍ لا يتمّ إلاّ به فهو جائزٌ ، كاستبداد المرأة بالخروج مع المحرم بغير إذن زوجها . لتحجّ الفريضة .
*استبدالٌ
انظر : إبدالٌ .
*استبراءٌ
التعريف
1 - الاستبراء لغةً : طلب البراءة ، وبرئ تطلق بإزاء ثلاث معانٍ : برئ إذا تخلّص ، وبرئ إذا تنزّه وتباعد ، وبرئ إذا أعذر وأنذر . أمّا الاستبراء فيقال : استبرأ الذّكر استنقاه ، أي استنظفه من البول . واستبرأ من بوله إذا استنزه .
وللاستبراء استعمالان شرعيّان : الأوّل : يتّصل بالطّهارة كشرطٍ لصحّتها ، فهو بهذا من مباحث العبادة ، وهو داخلٌ تحت قسم التّحسين . يقول الشّاطبيّ : ( وأمّا التّحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات . ففي العبادات كإزالة النّجاسة ) الثّاني : يتّصل بالاطمئنان على سلامة الأنساب ، وعدم اختلاطها ، فهو بهذا من مباحث النّكاح ، وهو داخلٌ تحت قسم الضّروريّ ، كما ذهب إليه الشّاطبيّ .
أوّلاً : الاستبراء في الطّهارة :
2 - عرّف ابن عرفة الاستبراء بالاستعمال الأوّل بقوله : ( إزالة ما بالمخرجين من الأذى ) ، فالاستبراء على هذا يكون من البول ، والغائط ، والمذي ، والودي ، والمنيّ . وهو ما يفهم من كلام الشّافعيّة والحنابلة . وعرّفه الحنفيّة : بأنّه طلب البراءة من الخارج ، وصرّحوا بأنّه لا يتصوّر في المرأة .
الألفاظ ذات الصّلة :
الاستنقاء ، والاستنجاء ، والاستنزاه ، والاستنثار .
أ - الاستنقاء :
3 - الاستنقاء : هو طلب النّقاوة ، وهو أن يدلّك المقعدة بالأحجار ، أو بالأصابع حالة الاستنجاء بالماء .
ب - الاستنجاء :
4 - الاستنجاء : هو استعمال الأحجار أو الماء .
ج - الاستنزاه :
5 - الاستنزاه : هو التّحفّظ من البول والتّوقّي منه .
د - الاستنثار :
6 - الاستنثار : قال النّوويّ في تهذيب الأسماء : استنثر الرّجل من بوله اجتذبه واستخرج بقيّته من الذّكر . فالصّلة بين هذه الألفاظ وبين الاستبراء ، هي أنّها كلّها تتعلّق بإنقاء المخرجين من الخارج منهما .
صفته : الحكم التّكليفيّ :
7 - ذهب الحنفيّة ، والمالكيّة ، وبعض الشّافعيّة ( منهم القاضي حسينٌ ) إلى أنّ الاستبراء فرضٌ ، وذهب جمهور الشّافعيّة ، والحنابلة إلى أنّه مستحبٌّ ؛ لأنّ الظّاهر من انقطاع البول عدم عوده . واستدلّ القائلون بالوجوب بحديث الدّارقطنيّ : « تنزّهوا من البول فإنّ عامّة عذاب القبر منه » ويحمل الحديث على ما إذا ظنّ أو تحقّق بمقتضى عادته أنّه إن لم يستبرئ خرج منه شيءٌ . ويقول ابن عابدين : وعبّر بعضهم بلفظ ينبغي ، وعليه فهو مندوبٌ كما صرّح به بعض الشّافعيّة ، ومحلّه إذا أمن خروج شيءٍ بعده ، فيندب ذلك مبالغةً في الاستبراء .
8 - ودليل الاستبراء حديثان : الدّليل الأوّل : الحديث الّذي أخرجه السّتّة عن ابن عبّاسٍ قال : « مرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحائطٍ أي بستانٍ من حيطان المدينة أو مكّة ، فسمع صوت إنسانين يعذّبان في قبورهما ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : يعذّبان وما يعذّبان في كبيرٍ ، ثمّ قال : بلى ، كان أحدهما لا يستتر من بوله ، وكان الآخر يمشي بالنّميمة ، ثمّ دعا بجريدةٍ فكسرها كسرتين ، فوضع على كلّ قبرٍ منهما كسرةً ، فقيل : له يا رسول اللّه ؛ لم فعلت هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : لعلّه يخفّف عنهما ما لم تيبسا » رواه البخاريّ . وعلّق ابن حجرٍ على الحديث بقوله : لا يستتر في أكثر الرّوايات بمثناتين من فوق : الأولى مفتوحةٌ والثّانية مكسورةٌ . وفي رواية ابن عساكر : يستبرئ بموحّدةٍ ساكنةٍ من الاستبراء ، ثمّ قال : وأمّا رواية الاستبراء فهي أبلغ في التّوقّي . الدّليل الثّاني : عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تنزّهوا من البول فإنّ عامّة عذاب القبر منه » .
حكمة تشريعه :
9 - يقول عليٌّ الأجهوريّ : إنّ الاستبراء معقول المعنى ، وليس من التّعبّد ؛ لأنّه بالاستبراء ينتهي خروج الحدث المنافي للوضوء . وبناءً على ذلك فجميع المذاهب تتّفق على أنّ المحدث إذا غلب على ظنّه عدم انقطاع الخارج فإنّه لا يصحّ وضوءه ؛ لأنّ الأحكام تبنى على غلبة الظّنّ اتّفاقاً .
كيفيّة الاستبراء :
10 - الاستبراء إمّا أن يكون من الغائط ، وإمّا أن يكون من البول ، فإذا كان من الغائط فإنّه يكفيه أن يحسّ من نفسه أنّه لم يبق شيءٌ في المخرج ممّا هو بصدد الخروج . وأمّا إذا كان من البول ، فهو إمّا من المرأة ، وإمّا من الرّجل ، فأمّا المرأة فإنّه لا استبراء عليها عند الحنفيّة ، ولكن إذا فرغت تنتظر قليلاً ثمّ تستنجي ، وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ المرأة تستبرئ بعصر عانتها . وأمّا الرّجل فاستبراؤه يحصل بأيّ أمرٍ اعتاده دون أن يجرّه ذلك إلى الوسوسة .
آداب الاستبراء :
11 - للاستبراء آدابٌ منها : أن يطرد الوسواس عن نفسه . قال الغزاليّ : ولا يكثر التّفكّر في الاستبراء ، فيتوسوس ويشقّ عليه الأمر . ومن وسائل طرد الوسواس النّضح ، وهو رشّ الماء ، واختلف في موضع النّضح ، فحكى النّوويّ أنّه نضح الفرج بماءٍ قليلٍ بعد الوضوء لدفع الوسواس . وقيل : هو أن ينضح ثوبه بالماء ، بعد الفراغ من الاستنجاء ؛ لدفع الوسواس أيضاً . قال الغزاليّ : وما يحسّ به من بللٍ ، فليقدّر أنّه بقيّة الماء ، فإن كان يؤذيه فليرشّ عليه الماء حتّى يقوى في نفسه ذلك ، ولا يسلّط عليه الشّيطان بالوسواس ، وفي الخبر أنّه صلى الله عليه وسلم فعله . وهذا الحديث أخرجه النّسائيّ عن الحكم عن أبيه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كان إذا توضّأ أخذ حفنةً من ماءٍ فقال بها هكذا » وفي روايةٍ أخرى عن الحكم بن سفيان قال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم توضّأ ونضح فرجه » قال أحمد : فنضح فرجه ، علّق عليه السّنديّ فقال : وقيل : نضح أي استنجى بالماء ، وعلى هذا فمعنى إذا توضّأ أراد أن يتوضّأ ، وقيل : رشّ الفرج بالماء بعد الاستنجاء ليدفع به وسوسة الشّيطان ، وعليه الجمهور وكأنّه يؤخّره أحياناً إلى الفراغ من الوضوء .
ثانياً : الاستبراء في النّسب :
12 - معنى الاستبراء في النّسب ، طلب براءة المرأة من الحبل ، يقال : استبرأت المرأة : طلبت براءتها من الحبل . وعرّفه ابن عرفة بما توضيحه : ترك السّيّد جاريته مدّةً مقدّرةً شرعاً يستدلّ بها على براءة الرّحم .
13 - ويكون تارةً بحيضها ، إذ الحيض دليلٌ على براءة الرّحم ، وقد يكون بانتظارها مدّةً من الزّمن توجب الاطمئنان بعدم الحمل ، وقد يكون بوضع الحمل الّذي علق بها ، حيّاً أو ميّتاً ، تامّ الخلقة أو غير تامٍّ .
الألفاظ ذات الصّلة :
العدّة :
14 - العدّة تربّصٌ يلزم المرأة عند زوال النّكاح ، فتشترك العدّة والاستبراء في أنّ كلاًّ منهما مدّةٌ تتربّص فيها المرأة لتحلّ للاستمتاع بها .
15 - ومع هذا فهما يفترقان في النّواحي التّالية :
( أ ) يقول القرافيّ : إنّ العدّة تجب ولو تيقّنّا براءة الرّحم ، كمن طلّقها زوجها بعد أن غاب عنها عشر سنواتٍ ، وكذا إذا توفّي عنها ، وكذا الصّغيرة في المهد إذا توفّي عنها زوجها ، أمّا الاستبراء فليس كذلك . والعدّة واجبةٌ على كلّ حالٍ لتغليب جانب التّعبّد فيها .
( ب ) اعتبر القرء الواحد كافياً في الاستبراء ولم يعتبر كافياً في العدّة .
( ج ) القرء في الاستبراء هو الحيض ، وأمّا القرء في العدّة فمختلفٌ فيه بين الحيض والطّهر .
( د ) الوطء في العدّة يوجب تحريم المدخول بها تحريماً مؤبّداً عند بعض العلماء ، أمّا وطء المملوكة في مدّة الاستبراء ، فالاتّفاق على أنّه لا يحرم تحريماً مؤبّداً .
استبراء الحرّة :
16 - اتّفق الفقهاء على الاستبراء في الحرّة ، على خلافٍ بينهم في الوجوب والنّدب ، وفي الأحوال الّتي يطلب فيها . ففي المزنيّ بها ، استبراءٌ على سبيل الوجوب عند المالكيّة ، وهو ما نقل عن محمّد بن الحسن ، ونقل عنه الاستحباب ، كالمنقول عن أبي حنيفة وأبي يوسف . وصرّح الشّافعيّة : بأنّه إن علّق طلاق امرأته على وجود حملٍ بها فتستبرأ ندباً ، أمّا إن علّقه على أنّها حائلٌ ( غير حاملٍ ) فتستبرأ وجوباً . وصرّح الحنابلة بطلب الاستبراء في صورةٍ من الميراث ، فيما إذا مات ولد الزّوجة من غير زوجٍ سابقٍ ، ولم يكن لهذا الولد أصلٌ أو فرعٌ وارثٌ ، فإنّه تستبرأ زوجته لتبيّن حملها من عدمه لمعرفة ميراث الحمل . كما اتّفق الفقهاء على وجوب استبراء الحرّة الّتي وجب عليها إقامة الحدّ أو القصاص ، نظراً لحقّ الحمل في الحياة . ودليل ذلك خبر الغامديّة المعروف .
17 - ومن المسائل الّتي صرّح المالكيّة فيها بوجوب استبراء الحرّة ما يأتي :
( أ ) إذا ظهر حملٌ بالمعقود عليها عقداً صحيحاً ، ولم تعلم خلوةٌ ، وأنكر الوطء ، ونفى الحمل بلعانٍ ، فتستبرأ بوضع الحمل .
( ب ) إذا وطئت الزّوجة الحرّة بزناً . وبمثل ذلك قال الحنفيّة .
( ج ) إذا وطئت بشبهةٍ بأن اعتقد المستمتع بها أنّها زوجته .
( د ) الوطء بنكاحٍ فاسدٍ مجمعٍ على فساده لا يدرأ الحدّ ، كمحرّمٍ بنسبٍ أو رضاعٍ .
( هـ ) إذا غصبها غاصبٌ وغاب عليها ( أي مكثت عنده مدّةً وخلا بها ) ولو ادّعى أنّه لم يطأها وصدّقته ؛ وذلك لاتّهامه بتخفيف عقوبته ، واتّهامها بحفظ شرفها ظاهراً ؛ ولأنّ ذلك حقّ اللّه ؛ ولأنّ الغيبة مظنّة الوطء .
حكمة تشريع الاستبراء :
18 - إنّ حكمة مشروعيّة الاستبراء ، سواءٌ أكان في الحرائر أم الإماء هي : تعرّف براءة الرّحم احتياطاً لمنع اختلاط الأنساب . وحفظ النّسب من أهمّ مقاصد الشّريعة الإسلاميّة .
استبراء الأمة :
يكون استبراء الأمة واجباً ، ويكون مستحبّاً ، فيكون واجباً في الصّور الآتية :
( أ ) عند حصول الملك للّتي يقصد وطؤها :
19 - إذا حصل الملك للأمة الّتي يقصد وطؤها بسببٍ من أسباب الملك ، فاستبراؤها واجبٌ . وهذا القدر متّفقٌ عليه بين المذاهب إجمالاً ، وذلك للحديث الّذي رواه أبو سعيدٍ الخدريّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في سبي أوطاسٍ : لا توطأ حاملٌ حتّى تضع ، ولا غير ذات حملٍ حتّى تحيض » ومن القياس ما يقوله السّرخسيّ : والمعنى في المسبيّة حدوث ملك الحلّ فيها لمن وقعت في سهمه بسبب ملك الرّقبة ، ويتعدّى الحكم إلى المشتراة أو الموهوبة . والحكمة صيانة ماء نفسه عن الخلط . وبعد الاتّفاق في الأصل اختلفوا في التّفصيل : فالمالكيّة اشترطوا لتحقّق وجوب الاستبراء شروطاً خلاصتها :
أوّلاً : ألاّ يتيقّن براءة رحمها من الحمل ، وهذا الشّرط قال به أيضاً ابن سريجٍ ، وابن تيميّة ، وابن القيّم ، ورجّحه جماعةٌ من المتأخّرين كما روي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة . وذهب أبو حنيفة وجمهور الشّافعيّة وأحمد في أكثر الرّوايات عنه إلى أنّه لا بدّ من الاستبراء ، لوجود العلّة ، وهي ملك حلٍّ بسبب ملك الرّقبة .
ثانياً : ألاّ يكون وطؤها مباحاً لمن انتقل ملكها إليه قبل الانتقال ، كما لو اشترى السّيّد زوجته الّتي عقد عليها قبل الشّراء ، فإنّه غير مطالبٍ بأن يستبرئها على سبيل الوجوب . والإباحة هي الإباحة المعتدّ بها المطابقة للواقع ، أمّا إذا كشف الغيب عن عدم حلّيّةٌ وطئه فلا بدّ من استبرائها ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة والحنابلة .
ثالثاً : ألاّ يحرم عليه الاستمتاع بها بعد ملكها ، فإن حرّمت في المستقبل لم يجب استبراؤها ، وذلك كمن اشترى أخت زوجته ، أو متزوّجةً بغيره ، دخل بها أم لم يدخل .
ب - قصد تزويج الأمة :
20 - يجب على السّيّد أن يستبرئ أمته إذا أراد تزويجها وذلك إذا وطئها ، أو إذا زنت عنده إذا اشتراها ممّن لم ينف وطأه لها ، وفي غير هذه لا يجب عليه أن يستبرئها . وفصّل الحنفيّة ، والشّافعيّة بين الزّنا وبين الوطء ، فإذا وطئها السّيّد وجب استبراؤها ، وإذا زنت عنده لم يلزم باستبرائها قبل التّزويج .
ج - زوال الملك بالموت أو العتق :
21 - إذا مات السّيّد يجب على وارثه أن يستبرئ الأمة الّتي ورثها عنه ، ولا يحلّ له أن يستمتع بها إلاّ بعد استبرائها ، سواءٌ أكان سيّدها حاضراً ، أم غائباً يمكنه الوصول إليها ، أقرّ بوطئها أم لا ، وكذلك إذا كانت متزوّجةً وانقضت عدّتها ومات السّيّد بعد انقضاء العدّة ، وذلك لأنّها حلّت للسّيّد زمناً . أمّا لو لم تنقض العدّة ، أو كانت وقت الموت ذات زوجٍ فلا يجب الاستبراء ، كما لا يجب الاستبراء إذا كان السّيّد غائباً عنها غيبةً لا يمكنه الوصول إليها ، وامتدّ غيابه بمقدار الاستبراء فأكثر . وأمّا أمّ الولد فلا بدّ لها أن تستأنف الاستبراء بعد العتق . وفي مذهب الشّافعيّ : أنّ السّيّد إذا زال فراشه عن الأمة الّتي كان يطؤها فالاستبراء واجبٌ ، استولدها أو لم يستولدها ، وسواءٌ في ذلك زال فراشه بعتقٍ أم موتٍ ، وسواءٌ مضت عليها مدّة الاستبراء أم لم تمض .