الألفاظ ذات الصّلة :
أ - التّخصيص :
2 - التّخصيص : قصر العامّ على بعض أفراده ، فهو يبيّن كون اللّفظ قاصراً عن البعض . وقال الغزاليّ : إنّ الاستثناء يفارق التّخصيص في أنّ الاستثناء يشترط اتّصاله ، وأنّه يتطرّق إلى الظّاهر والنّصّ جميعاً ، إذ يجوز أن يقول : له عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثةً ، كما يقول : اقتلوا المشركين إلاّ زيداً ، والتّخصيص لا يتطرّق إلى النّصّ أصلاً ، ومن الفرق بينهما أيضاً أنّ الاستثناء لا بدّ أن يكون بقولٍ ، ويكون التّخصيص بقولٍ أو قرينةٍ أو فعلٍ أو دليلٍ عقليٍّ . هذا وإنّ الفرق الأوّل الّذي ذكره الغزاليّ من اشتراط الاتّصال في الاستثناء ، وعدم اشتراطه في التّخصيص ، لا يجري عند الحنفيّة ، لقولهم بوجوب اتّصال المخصّصات أيضاً .
ب - النّسخ :
3 - النّسخ : رفع الشّارع حكماً من أحكامه بدليلٍ لاحقٍ ، والفرق بينه وبين الاستثناء : أنّ النّسخ رفعٌ لما دخل تحت اللّفظ ، والاستثناء يدخل على الكلام فيمنع أن يدخل تحت اللّفظ ما كان يدخل لولاه ، فالنّسخ قطعٌ ورفعٌ ، والاستثناء منعٌ أو إخراجٌ ، وأنّ الاستثناء متّصلٌ ، والنّسخ لا بدّ أن يكون منفصلاً .
ج - الشّرط :
4 - يشبه الاستثناء بإلاّ وأخواتها الشّرط ( التّعليق ) ، لاشتراكهما في منع الكلام من إثبات موجبه ، ويفترقان في أنّ الشّرط يمنع الكلّ ، والاستثناء يمنع البعض . ويشابه الاستثناء بالمشيئة الشّرط ، لاشتراكهما في منع الكلّ وذكر أداة التّعليق ، ولكنّه ليس على طريقه ؛ لأنّه منعٌ لا إلى غايةٍ ، والشّرط منعٌ إلى غاية تحقّقه ، كما في قولك . أكرم بني تميمٍ إن دخلوا داري . ومن هذه الحيثيّة لا يدخل الاستثناء بالمشيئة في بحث التّعليق والشّرط . ولا يورده الفقهاء في مباحث تعليق الطّلاق ، وإنّما في باب الاستثناء ، لمشاركته له في الاسم .
5 - القاعدة الأصيلة في الاستثناء : الاستثناء من النّفي إثباتٌ ، والاستثناء من الإثبات نفيٌ ، فنحو : ما قام أحدٌ إلاّ زيداً ، يدلّ على إثبات القيام لزيدٍ ، ونحو : قام القوم إلاّ زيداً ، يدلّ على نفي القيام عنه ، وفي هذا خلاف أبي حنيفة ومالكٍ . فأمّا أبو حنيفة فقد قيل : خلافه في المسألتين . وقيل : بل في الثّانية فقط ، فقد قال : إنّ المستثنى من حيث الحكم مسكوتٌ عنه غير محكومٍ عليه ، فزيدٌ في المثال المتقدّم غير محكومٍ بقيامه ولا بعدمه . وحاصل الخلاف في نحو : قام القوم إلاّ زيداً ، أنّ الجمهور يقولون : إنّ زيداً بالاستثناء دخل في عدم القيام . وعند الحنفيّة انتقل إلى عدم الحكم . وعند الفريقين هو مخرجٌ من الكلام الأوّل . وأمّا مالكٌ فيوافق الجمهور على أنّ الاستثناء من النّفي إثباتٌ في غير الأيمان ، أمّا في الأيمان فليس الاستثناء إثباتاً . فمن حلف : لا يلبس اليوم ثوباً إلاّ الكتّان ، يحنث عند الجمهور إذا قعد ذلك اليوم عاريّاً فلم يلبس شيئاً ؛ لأنّه لمّا كان النّفي إثباتاً فقد حلف أن يلبس الكتّان ، فإذا لم يلبسه وقعد عاريّاً حنث . أمّا عند مالكٍ فلا يحنث ، وهو أحد الوجهين عند الشّافعيّة ، ووجّه القرافيّ ذلك بأنّ ( إلاّ ) في هذا المثال ونحوها صفةٌ ، فهي بمعنى غير ، فيكون قد حلف على ألاّ يلبس ثياباً مغايرةً للكتّان . ووجّهه أيضاً بأنّ معنى الكلام : أنّ جميع الثّياب محلوفٌ عليها غير الكتّان .
أنواع الاستثناء :
6 - الاستثناء إمّا متّصلٌ وإمّا منفصلٌ . فالاستثناء المتّصل : ما كان فيه المستثنى بعض المستثنى منه نحو جاء القوم إلاّ زيداً . والاستثناء المنقطع : ( ويسمّى المنفصل أيضاً ) ما لم يكن فيه المستثنى بعض المستثنى منه ، مثل قوله تعالى : { ما لهم به من علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ } فإنّ اتّباع الظّنّ ليس علماً . ويتبيّن من هذا أنّ الاستثناء المنقطع لا إخراج به ، ولا يكون من المخصّصات ؛ لأنّ المستثنى لم يدخل أصلاً . هذا ولا بدّ للاستثناء المنقطع من المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه بوجهٍ من الوجوه ، فيما يتوهّم فيه الموافقة . والفائدة فيه دفع هذا التّوهّم ، وهو في ذلك شبيهٌ ب ( لكنّ ) ، فإنّه للاستدراك ، أي دفع التّوهّم من السّابق . وأشهر صور المخالفة : أن ينفي عن المستثنى الحكم الّذي ثبت للمستثنى منه ، نحو : جاءني المدرّسون إلاّ طالباً ، فقد نفينا المجيء عن الطّالب بعدما أثبتناه للمدرّسين . ولمّا كان الاستثناء المنقطع لا إخراج به ، فإنّه لا يكون استثناءً حقيقةً ، بل هو مجازٌ . قال المحلّيّ : هذا هو الأصحّ ، بدليل أنّه يتبادر إلى الذّهن المتّصل دون المنقطع . وعلى هذا جاء حدّ الاستثناء فيما سبق ، فقد عرّف بما لا يشمل المنقطع وفي المسألة أقوالٌ أخرى موطن تفصيلها كتب الأصول .
صيغة الاستثناء :
أ - ألفاظ الاستثناء :
7 - يذكر اللّغويّون والأصوليّون للاستثناء الحقيقيّ الألفاظ التّالية : إلاّ ، وغير ، وسوى ، وخلا ، وعدا ، وحاشا ، وبيد ، وليس ، ولا يكون .
ب - الاستثناء بالمشيئة ونحوها :
8 - شرع اللّه تبارك وتعالى هذا النّوع من الاستثناء ، فقد قال لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { ولا تقولنّ لشيءٍ إنّي فاعلٌ ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللّه } . قال القرطبيّ : عاتب اللّه تعالى نبيّه عليه الصلاة والسلام على قوله للكفّار حين سألوه عن الرّوح ، والفتية ، وذي القرنين : ( ائتوني غداً ) ولم يستثن في ذلك . فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوماً ، حتّى شقّ ذلك عليه ، وأرجف الكفّار به ، فنزلت عليه سورة الكهف ، وأمر في هذه الآية منها : ألاّ يقول في أمرٍ من الأمور : إنّي أفعل غداً كذا وكذا إلاّ أن يعلّق ذلك بمشيئة اللّه عزّ وجلّ ، حتّى لا يكون محقّقاً لحكم الخبر ، فإنّه إذا قال : لأفعلنّ ذلك ولم يفعل كان كاذباً ، وإذا قال لأفعلنّ ذلك إن شاء اللّه خرج عن أن يكون محقّقاً للمخبر عنه . قال القرطبيّ : وقال ابن عطيّة : في الكلام حذفٌ ، تقديره إلاّ أن تقول : إلاّ أن يشاء اللّه . أو : إلاّ أن تقول : إن شاء اللّه . وقال : والآية ليست في الأيمان ، وإنّما هي في سنّة الاستثناء في غير اليمين ، وأوضح كذلك أنّ آخر الآية ، وهو قوله تعالى : { واذكر ربّك إذا نسيت } . يدلّ - على أحد الأقوال في تفسيرها - أنّه إذا نسي الاستثناء بالمشيئة يقوله بعد ذلك إذا تذكّره . فعن الحسن أنّه قال : ما دام في مجلس الذّكر ، وعن ابن عبّاسٍ ومجاهدٍ : ولو بعد سنةٍ ، وعن ابن عبّاسٍ : سنتين . فيحمل على تدارك التّبرّك بالاستثناء . فأمّا الاستثناء المفيد حكماً - يعني في اليمين ونحوها - فلا يصحّ إلاّ متّصلاً . هذا ، وإنّ الاستثناء بالمشيئة ونحوها يدخل في كلام النّاس في الأخبار ، والأيمان ، والنّذور ، والطّلاق ، والعتاق ، والوعد ، والعقد ، وغير ذلك . ثمّ يكون له أثره في حلّ اليمين ونحوها .
استثناء عددين بينهما حرف الشّكّ :
9 - إذا قال : له عليّ ألف درهمٍ إلاّ مائة درهمٍ أو خمسين درهماً ، فقد اختلف في الحاصل على قولين : الأوّل : وهو الأصحّ عند الحنفيّة : يلزمه تسعمائةٍ ؛ ووجهه أنّه لمّا كان الاستثناء تكلّماً بالباقي بعد الثّنيا شككنا في المتكلّم به ، والأصل عدم شغل الذّمم ، فثبت الأقلّ . والثّاني : وهو ظاهر مذهب الشّافعيّ ، وروايةٌ عند الحنفيّة : أنّ الاستثناء « خروجٌ بعد دخولٍ » . يلزمه تسعمائةٍ وخمسون ؛ فإنّه لمّا دخل الألف صار الشّكّ في المخرج ، فيخرج الأقلّ . وتفصيل ذلك في الإقرار والملحق الأصوليّ .
الاستثناء بعد جملٍ متعاطفةٍ :
10 - إذا ورد الاستثناء بإلاّ ونحوها بعد جملٍ متعاطفةٍ بالواو فعند الحنفيّة والفخر الرّازيّ من الشّافعيّة : الظّاهر أنّه يتعلّق بالجملة الأخيرة فقط . وعند جمهور الشّافعيّة ومن وافقهم : الظّاهر أنّه يعود إلى الكلّ . وقال الباقلاّنيّ بالتّوقّف في عوده إلى ما عدا الأخير . وقال الغزاليّ بالتّوقّف مطلقاً . وقال أبو الحسين المعتزليّ : إن ظهر الإضراب عن الأولى ، كما لو اختلف بالإنشائيّة والخبريّة ، أو الأمريّة والنّهييّة ، أو لم يكن اشتراكٌ في الغرض المسوق له الكلام ، فإنّه يعود للأخيرة فقط ، وإلاّ فللجميع . والنّزاع كما ترى في الظّهور . ولا تتأتّى دعوى النّصوصيّة في واحدٍ من الاحتمالات المذكورة . ولم ينازع أحدٌ أيضاً في إمكان عود الاستثناء إلى الأخيرة وحدها ، وإمكان عوده إلى الكلّ ، فقد ثبت ذلك في اللّغة ، هذا إذا كان العطف بالواو ، أمّا إذا كان العطف بالفاء أو ثمّ فالخلاف قائمٌ أيضاً ، لكن ذهب بعض الشّافعيّة - كإمام الحرمين والآمديّ - إلى أنّه يعود حينئذٍ إلى الأخير . واحتجّ الحنفيّة بأنّ حكم الجملة الأولى ، ظاهرٌ في الثّبوت عموماً ، ورفعه عن البعض بالاستثناء مشكوكٌ فيه لجواز كونه للأخيرة فقط ، فلا يرفع حكم الأولى ؛ لأنّ الظّاهر لا يعارضه المشكوك . بخلاف الأخيرة ، فإنّ حكمها غير ظاهرٍ ؛ لأنّ الرّفع ظاهرٌ فيها فيما لا صارف له ، فيتعلّق بها . واحتجّوا ثانياً بأنّ الاتّصال من شرط الاستثناء ، والاتّصال ثابتٌ في الجملة الأخيرة ، أمّا فيما قبلها فإنّها متّصلةٌ بالعطف ، إلاّ أنّ الاتّصال بالعطف فقط ضعيفٌ ، فلا يعتبر إلاّ بدليلٍ آخر موجبٍ لاعتبار هذا الاتّصال . والشّافعيّة ومن معهم احتجّوا بالقياس على الشّرط ، فإنّه إذا تعقّب جملاً رجع إليها اتّفاقاً . واحتجّوا أيضاً بأنّ العطف يجعل المتعدّد كالمفرد ، فالمتعلّق بالواحد هو المتعلّق بالكلّ . وبأنّ الغرض من الاستثناء قد يتعلّق بالكلّ ، فإمّا أن يكرّر الاستثناء بعد كلّ جملةٍ ، وإمّا أن يؤتى به بعد واحدةٍ فقط ، أو يؤتى به بعد الجميع . فالتّكرار مستهجنٌ ، فبطل الأوّل وفي الثّاني ترجيحٌ من غير مرجّحٍ ، فبقي الوجه الثّالث ، فيلزم الظّهور فيه .
11 - وممّا اختلف فيه بناءً على هذه القاعدة قول اللّه تبارك وتعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون إلاّ الّذين تابوا } ... قال الحنفيّة : الّذين تابوا من القاذفين لا تقبل شهادتهم ، والاستثناء عائدٌ على الحكم بفسقهم . وقال الشّافعيّة ومن وافقهم : تقبل شهادتهم ؛ لأنّ الاستثناء يعود على الجمل الثّلاث . أمّا الجلد فاتّفق على عدم سقوطه بالتّوبة لأجل الدّليل المانع من تعلّق الاستثناء بقوله تعالى : { فاجلدوهم ثمانين جلدةً } والمانع هو كون الجلد حقّاً للآدميّ ، وحقّ الآدميّ لا يسقط بالتّوبة .
الاستثناء بعد المفردات المتعاطفة :
12 - إن كان الاستثناء بعد مفرداتٍ متعاطفةٍ فالخلاف فيه كالخلاف في الجمل ، ولكن صرّح الشّافعيّة بأنّه أولى بعوده للكلّ من الوارد بعد الجمل المتعاطفة ، وذلك لعدم استقلال المفردات . نحو : تصدّق على الفقراء والمساكين وابن السّبيل إلاّ الفسقة منهم .
الاستثناء العرفيّ بعد المتعاطفات :
13 - أمّا الاستثناء العرفيّ بإن شاء اللّه ونحوها ، فإنّه إذا تعقّب جملاً نحو : واللّه لا آكل ولا أشرب إن شاء اللّه ، فيتعلّق بالجميع اتّفاقاً . ووجهه أنّه شرطٌ وليس من حقيقة الاستثناء ، والشّرط مقدّمٌ تقديراً ؛ لأنّ له صدر الكلام باتّفاق النّحاة ، فيصحّ تعلّقه بالأوّل ؛ لأنّه مقارنٌ له تقديراً . بخلاف الاستثناء فإنّه مؤخّرٌ لفظاً أو تقديراً .
الاستثناء بعد الاستثناء :
14 - هذا النّوع من الاستثناء ينقسم قسمين : الأوّل : الاستثناءات المتعدّدة المتعاطفة نحو : له عليّ عشرةٌ إلاّ أربعةً ، وإلاّ ثلاثةً ، وإلاّ اثنين . وحكمها أن تعود كلّها إلى المستثنى منه المذكور قبلها . فيلزمه في المثال المذكور واحدٌ فقط . الثّاني : الاستثناءات المتوالية بدون عاطفٍ إن لم يكن أحدها مستغرقاً لما قبله ، فإنّ كلاًّ منها يعود إلى ما قبله . فلو قال : له عليّ عشرةٌ إلاّ سبعةً ، إلاّ خمسةً إلاّ درهمين ، صحّ ، وكان مقرّاً بستّةٍ ، فإنّ خمسة إلاّ درهمين عبارة عن ثلاثةٍ استثناها من سبعةٍ بقي أربعةٌ ، استثناها من عشرةٍ بقي ستّةٌ . وإن كان أحد الاستثناءات مستغرقاً لما قبله فإنّها لا تبطل ، بل تعود جميعها إلى المستثنى منه ، وفي ذلك تفصيلٌ واختلافٌ .
شروط الاستثناء
15 - شروط الاستثناء عامّةٌ ، ما عدا شرط الاستغراق ، فإنّه لا يأتي في الاستثناء بالمشيئة ، وقد صرّح بذلك الرّمليّ ، وسيأتي أيضاً أنّ شرط القصد مختلفٌ فيه في الاستثناء بالمشيئة . الشّرط الأوّل :
16 - يشترط في الاستثناء أن يكون متّصلاً بالمستثنى منه ، بألاّ يكون مفصولاً بما يعدّ في العادة فاصلاً . فلو كان مفصولاً بتنفّسٍ أو سعالٍ أو نحوهما لم يمنع الاتّصال ، وكذلك إن حال بين المستثنى والمستثنى منه كلامٌ غير أجنبيٍّ ، ومنه النّداء ؛ لأنّه للتّنبيه والتّأكيد . أمّا إن سكت سكوتاً يمكنه الكلام فيه ، أو فصل بكلامٍ أجنبيٍّ ، أو عدل إلى شيءٍ آخر استقرّ حكم المستثنى فلم يرتفع ، بخلاف ما لا يمكن ، كما لو أخذ آخذٌ بفمه فمنعه الكلام . هذا هو القول المقدّم عند الأصوليّين والفقهاء ، ويشترط لتحقّق الاتّصال أن ينوي الاستثناء في الكلام السّابق ، فلو لم ينو إلاّ بعد فراغ المستثنى منه لم يصحّ . وعند المالكيّة : العمدة مجرّد الاتّصال سواءٌ نوى أوّل الكلام ، أو أثناءه ، أو بعد فراغ المستثنى منه . وقد نقل خلاف هذا عن قومٍ . فعن ابن عبّاسٍ يجوز الاستثناء إلى شهرٍ ، وقيل أبداً . وعن سعيد بن جبيرٍ : إلى أربعة أشهرٍ ، وعن عطاءٍ والحسن : يجوز في المجلس ، وأومأ إليه أحمد في الاستثناء في اليمين ، وعن مجاهدٍ : إلى سنتين . وقيل : ما لم يأخذ في كلامٍ آخر . وقيل : إن نوى الاستثناء في أثناء الكلام جاز التّأخير بعده . ونسب هذا القول إلى الإمام أحمد . وقيل : يجوز التّأخير في كلام اللّه تعالى خاصّةً . وما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا حرّم مكّة ، وقال : « لا يختلى شوكها ، ولا يعضد شجرها ، قال العبّاس : يا رسول اللّه إلاّ الإذخر ، فإنّه لقينهم وبيوتهم ، فقال : إلاّ الإذخر » فهذا ظاهره أنّه استثناءٌ منفصلٌ . فحمل على أنّه استثناءٌ من محذوفٍ مقدّرٍ . فكأنّه كرّر القول ، فلا يتعلّق بالكلام المذكور أوّلاً وحجّة الجمهور القائلين بوجوب الاتّصال ؛ أنّ القول بجواز الاستثناء غير المتّصل يستلزم ألاّ يجزم بصدقٍ أو كذبٍ في شيءٍ من الأخبار لاحتمال الاستثناء ، وكذلك لا يثبت عقدٌ من العقود ، ولإجماع أئمّة اللّغة على وجوب الاتّصال . فلو قال : له عشرةٌ ، ثمّ زاد بعد شهرٍ : إلاّ ثلاثةً يعدّ لغواً . ولعلّ ما روي عن ابن عبّاسٍ ، ومن قال شبه قوله ، إنّما قصد به أنّ من نسي أن يقول : « إن شاء اللّه » يقولها متى تذكّر ذلك ، ولو بعد مدّةٍ طويلةٍ ، امتثالاً للآية ، وليس في الاستثناء الموجب رفع حكم المستثنى كما تقدّم .
الشّرط الثّاني :
17 - ويشترط في الاستثناء ألاّ يكون المستثنى مستغرقاً للمستثنى منه ، فإنّ الاستثناء المستغرق للمستثنى منه باطلٌ اتّفاقاً ، إلاّ عند من شذّ . وادّعى البعض الإجماع عليه . فلو قال : « له عليّ عشرةٌ إلاّ عشرةً » لغا قوله « إلاّ عشرةً » ولزمه عشرةٌ كاملةٌ . وممّن شذّ ابن طلحة المالكيّ في المدخل ، نقل عنه القرافيّ أنّه قال فيمن قال لزوجته : « أنت طالقٌ ثلاثاً إلاّ ثلاثاً » : لا يقع عليه طلاقٌ . وعند الحنفيّة في ذلك تفصيلٌ ، فهم يوافقون على بطلان الاستثناء إن كان بعين لفظ المستثنى منه ، كقوله : عبيدي أحرارٌ إلاّ عبيدي ، أو بلفظٍ مساوٍ له ، كقوله : نسائي طوالق إلاّ زوجاتي . أمّا إن كان بغيرهما كقوله : ثلث مالي لزيدٍ إلاّ ألفاً ، والثّلث ألفٌ . فيصحّ الاستثناء ولا يستحقّ زيدٌ شيئاً . فالشّرط عند الحنفيّة إيهام البقاء لا حقيقته ، حتّى لو طلّقها ستّاً إلاّ أربعاً صحّ ، ووقع ثنتان . وإن كانت السّتّة لا صحّة لها من حيث الحكم ؛ لأنّ الطّلاق لا يزيد عن ثلاثٍ ، ومع هذا لا يجعل كأنّه قال : أنت طالقٌ ثلاثاً إلاّ أربعاً ، فكأنّ اعتبار اللّفظ أولى . وجعل صاحب المغني من الحنابلة من الاستثناء المستغرق أن يقول مثلاً : « له عليّ ثلاثة دراهم ودرهمان إلاّ درهمين » فلا يصحّ الاستثناء ، ويلزمه جميع ما أقرّ به ، وهو في مثالنا خمسة دراهم .
استثناء الأكثر والأقلّ :
18 - أكثر العلماء على أنّه يجوز استثناء النّصف ، وما زاد على النّصف ، ما لم يكن مستغرقاً كما تقدّم ، نحو : « له عليّ عشرةٌ إلاّ ستّةً أو : له عليّ عشرةٌ إلاّ خمسةً » . ونسب صاحب فواتح الرّحموت هذا القول إلى الحنفيّة ، والأكثر من المالكيّة والشّافعيّة . وخالف في ذلك الحنابلة ، والقاضي أبو بكرٍ الباقلاّنيّ من المالكيّة . قيل : إنّما يمنع الحنابلة استثناء أكثر من النّصف ، ويجيزون استثناء النّصف . وقيل : يمنعون النّصف أيضاً . وفي المسألة قولٌ ثالثٌ : أنّه يمنع استثناء الأكثر إن كان كلٌّ من المستثنى والمستثنى منه عدداً صريحاً . قيل وبهذا قال القاضي الباقلاّنيّ آخراً . وقد احتجّ لجواز استثناء الأكثر في غير العدد بقول اللّه تعالى : { إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ إلاّ من اتّبعك من الغاوين } والغاوون هم الأكثر لقوله تعالى : { وما أكثر النّاس ولو حرصت بمؤمنين } واحتجّ لجوازه أيضاً في العدد باتّفاق الفقهاء جميعاً على لزوم واحدٍ في الإقرار بلفظ : « له عليّ عشرةٌ إلاّ تسعةً » واحتجّ الحنابلة بأنّ أئمّة اللّغة أنكروا أن يكون استثناء الأكثر جائزاً لغةً ، منهم ابن جنّيٍّ ، والزّجّاج ، والقتيبيّ . قال الزّجّاج : لم يأت الاستثناء إلاّ في قليلٍ من الكثير .
الشّرط الثّالث :
19 - ويشترط في الاستثناء أن يكون المستثنى ممّا يدخل تحت المستثنى منه ، واختلف العلماء في صحّة الاستثناء إذا كان المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، فجوّزه مالكٌ ، والشّافعيّ ، والباقلاّنيّ ، وجماعةٌ من المتكلّمين . ومثال ذلك قوله : له عليّ ألفٌ من الدّنانير إلاّ فرساً » . وكذا لو قال : له عليّ فرسٌ إلاّ عشرة دنانير ، فيجبر على البيان فإن استغرقت القيمة المقرّ به بطل الاستثناء . ولزمه الألف بتمامها . وأمّا الحنفيّة ، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يصحّ استحساناً استثناء المقدّر من المقدّر الكيليّ والوزنيّ ، والمعدود الّذي لا تتفاوت آحاده ، كالفلوس والجوز ، من الدّراهم والدّنانير . وذلك لأنّها تثبت في الذّمّة فاعتبرت جنساً واحداً ، فكانت كالذّهب والفضّة . وتطرح قيمة المستثنى ممّا أقرّ به . ويصحّ عندهما هذا النّوع من الاستثناء ولو استغرقت القيمة جميع ما أقرّ به ، لاستغراقه بغير المساوي . والقول الآخر للحنفيّة أنّه لا يصحّ ، وهو قول محمّدٍ وزفر . وهو القياس . أمّا في غير المقدّرات ، كما لو قال : له عليّ مائة درهمٍ إلاّ ثوباً ، فلا يصحّ عند الحنفيّة جميعاً ، قياساً واستحساناً . وعند الحنابلة الاستثناء من غير الجنس لا يصحّ إلاّ أن يستثنى الدّراهم من الدّنانير ، أو الدّنانير من الدّراهم . وفي روايةٍ عندهم لا يصحّ مطلقاً . وحجّة المجيزين أنّ الاستثناء من غير الجنس ورد في القرآن ، منه قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجنّ } . وقال اللّه تعالى : { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً } . وحجّة المانعين أنّ الاستثناء صرف اللّفظ بحرف الاستثناء عمّا كان يقتضيه لولاه . وغير الجنس المذكور ليس بداخلٍ في الكلام ، فإذا ذكره فما صرف الكلام عن صوبه ، ولا ثناه عن وجه استرساله ، فلا يكون استثناءً ، وإنّما يسمّى هذا النّوع استثناءً مجازاً ، وهو ما تقدّم بيانه في الاستثناء المنقطع ( ف / 6 ) وإنّما هو في الحقيقة استدراكٌ ، وتكون إلاّ بمعنى لكنّ ، فإذا ذكر الاستدراك بعد الإقرار ، كأن قال : له عندي مائة درهمٍ إلاّ ثوباً لي عليه كان باطلاً ؛ لأنّه يكون مقرّاً بشيءٍ ، مدّعياً لشيءٍ سواه ، فيقبل إقراره ، وتبطل دعواه وهي الاستثناء . وحجّة من فرّق بين الأثمان وغيرها أنّ قدر الدّنانير من الدّراهم معلومٌ ، ويعبّر بأحدهما عن الآخر ، فإذا استثنى أحدهما من الآخر علم أنّه أراد التّعبير بأحدهما عن الآخر ، فإنّ قوماً يسمّون عشرة دراهم ديناراً ، وفي بلادٍ أخرى يسمّون ثمانية دراهم ديناراً .
الشّرط الرّابع : التّلفّظ بالاستثناء
20 - ذهب ابن حبيبٍ من المالكيّة إلى أنّه يجزئ في الاستثناء تحريك الشّفتين إن لم يكن مستحلفاً ، فإن كان مستحلفاً لم يجزئه إلاّ الجهر . وقال ابن القاسم : ينفعه وإن لم يسمعه المحلوف له . واشترط الشّافعيّة للاستثناء أن يتلفّظ به بحيث يسمع غيره ، وإلاّ فالقول قول خصمه في النّفي ، وحكم بالوقوع إذا حلف الخصم على نفي الاستثناء . هذا فيما يتعلّق به حقّ الغير ، أمّا فيما عداه فيكفي أن يسمع نفسه ، إن اعتدل سمعه ولا عارض ، ويديّن فيما بينه وبين اللّه تعالى . ولم يظهر للحنابلة تعرّضٌ لصفة النّطق المعتبرة في الاستثناء ، غير أنّهم فرّقوا في نيّة الاستثناء بالقلب بين أن يكون المستثنى منه المنطوق به عامّاً ، كقوله : نسائي طوالق ، واستثنى بقلبه واحدةً ، فيكون له استثناؤه ديانةً لا قضاءً ؛ لأنّ قوله « نسائي » اسمٌ عامٌّ يجوز التّعبير به عن بعض ما وضع له ، وبين أن يكون نصّاً فيما يتناوله لا يحتمل غيره كالعدد ، فلا يرتفع بالنّيّة ما ثبت باللّفظ ، كقوله : نسائي الأربع أو الثّلاث طوالق ، فلا يقبل استثناؤه ظاهراً ، وقيل لا يقبل ولا باطناً . وعند الحنفيّة الصّحيح أنّه إذا تكلّم بالطّلاق واستثنى فلا بدّ أن يكون استثناؤه مسموعاً ، والمراد ما شأنه أن يسمع ، بحيث لو قرّب شخصٌ أذنه إلى فمه يسمع استثناءه ، ولو حال دون سماع المنشئ للكلام صممٌ أو كثرة أصواتٍ . وفي قول الكرخيّ من الحنفيّة ليس من شرط صحّة الاستثناء أن يكون بلفظٍ مسموعٍ ويقول الحنفيّة أيضاً : إنّ الاستثناء بالكتابة صحيحٌ ، حتّى لو تلفّظ بالطّلاق وكتب الاستثناء موصولاً ، أو عكس ، أو أزال الاستثناء بعد الكتابة لم يقع الطّلاق . وجاء في التتارخانية من كتب الحنفيّة : أنّ الزّوجة إذا سمعت الطّلاق ولم تسمع الاستثناء لا يسعها أن تمكّنه من الوطء ، ويلزمها منازعته .
21 - ولو اختلف الزّوجان في صدور الاستثناء ، فادّعاه الزّوج وأنكرته الزّوجة ، فيقبل قوله . وهذا ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة . وهو المذهب . وفي قولٍ عند الحنفيّة : لا يقبل إلاّ ببيّنةٍ ، عليه الاعتماد والفتوى احتياطاً لغلبة الفساد ، إذ قد يعلّمه ذلك حيلةً بعض من لا يخاف اللّه تعالى ، ولأنّ دعوى الزّوج خلاف الظّاهر ، فإنّه بدعوى الاستثناء يدّعي إبطال الموجب بعد الاعتراف به . فالظّاهر خلاف قوله ، وإذا عمّ الفساد ينبغي الرّجوع إلى الظّاهر . وفي قولٍ ثالثٍ عندهم نقله ابن الهمام عن المحيط إن عرف الزّوج بالصّلاح فالقول قوله تصديقاً له ، وإن عرف بالفسق أو جهل حاله فلا ؛ لغلبة الفساد . وأيّده ابن عابدين . ولم نطّلع على نصوصٍ لغير الحنفيّة في هذه المسألة .
الشّرط الخامس : القصد :
22 - اشترط المالكيّة ، والشّافعيّة ، والحنابلة لصحّة الاستثناء في اليمين والطّلاق القصد ، سواءٌ أكان الاستثناء حقيقيّاً ، بإلاّ أو إحدى أخواتها ، أم عرفيّاً ، بإن شاء اللّه ونحوه . فلا يفيد الاستثناء الحالف إلاّ أن يقصد معنى الاستثناء أي : حلّ اليمين ، لا أن يقصد مجرّد التّبرّك ، أو لم يقصد شيئاً . وكذا لا بدّ أن يقصد التّلفّظ به ، فلو جرى الاستثناء على ، لسانه سهواً لم ينفعه . وقد اتّفقوا أيضاً على صحّة هذا القصد إن تحقّق في أوّل النّطق بالكلام المشتمل على الاستثناء ، أو في أثنائه وقبل الفراغ منه . أمّا إن وجدت النّيّة بعد الفراغ منه فهي صحيحةٌ عند الحنابلة بشرط الاتّصال . أمّا المالكيّة ، والشّافعيّة فلكلٍّ منهم قولان : الأوّل وهو المقدّم عند المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ النّيّة صحيحةٌ وينحلّ بها اليمين أو الطّلاق بشرط الاتّصال كما تقدّم ، والقول الثّاني ، وهو غير المقدّم عند المالكيّة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة : أنّ القصد بعد الفراغ لا يصحّ ، فتنعقد اليمين ، ويقع الطّلاق . أمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بعدم اشتراط القصد في الاستثناء بالمشيئة ، فيكون عدم اشتراطه في الاستثناء بإلاّ وأخواتها من باب أولى . وهذا ما قاله ( أسدٌ ) من الحنفيّة ، وهو ظاهر المذهب ؛ لأنّ الطّلاق مع الاستثناء ليس طلاقاً . وكذا إذا قال : « إن شاء اللّه » من لا يعرف معناها . والقول الآخر عندهم أنّه يفتقر إلى نيّةٍ ، وهو قول ( خلفٍ ) .
جهالة المستثنى بإلاّ وأخواتها :
23 - الاستثناء من حيث الجهالة نوعان : الأوّل : ما سوى العقود ، كالإقرار ، فيجوز أن يستثني المتكلّم شيئاً مجهولاً كأن يقول المقرّ : له عندي ألف دينارٍ إلاّ شيئاً ، أو : إلاّ قليلاً ، أو : إلاّ بعضها ، أو يقرّ له بدارٍ ويستثني غرفةً منها دون أن يعيّنها . وكما يجري في الإقرار يجري في غيره من النّذر واليمين والطّلاق وغيرها . ويطالب المتكلّم ببيان ما أبهمه ، ويلزمه ذلك إن تعلّق به حقّ الغير ، وفي حكم ذلك في الأبواب المختلفة تنظر المصطلحات الخاصّة بتلك الأبواب . النّوع الثّاني : العقود ، والاستثناء المبهم في العقود باطلٌ ومفسدٌ للعقد . وفي الحديث « نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن الثّنيا إلاّ أن تعلم » . وعلّة ذلك أنّ المعقود عليه يشترط أن يكون معلوماً ، فلو كان ما استثنى غير معلومٍ عاد المستثنى منه غير معلومٍ ، كمن باع ثوباً إلاّ شيئاً منه .
24 - وقد وضع الحنفيّة قاعدةً لما يجوز استثناؤه في العقود بأنّ « ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه من العقد » فبيع قفيزٍ من صبرةٍ جائزٌ ، فكذا استثناؤه . واشترط المالكيّة كذلك معلوميّة المستثنى ، فلو استثنى جزءاً شائعاً فله استثناء ما شاء ، أمّا إن استثنى قدراً معلوماً بالكيل من صبرةٍ باعها جزافاً ، أو أرطالاً من لحم شاةٍ ، لم يجز أن يستثني أكثر من قدر الثّلث ، ويجوز عندهم استثناء جلدٍ وساقطٍ من رأسٍ وأكارع ، في السّفر فقط ، وإنّما جاز استثناؤهما في السّفر فقط لخفّة ثمنهما فيه دون الحضر . والحنابلة في اشتراط كون المستثنى معلوماً يوافقون الحنفيّة ، ويقولون بالقاعدة الّتي قرّروها في هذه المسألة ، وإن كانوا يخالفونهم في بعض آحاد المسائل ، لمخالفتهم في تحقّق مناط الحكم فيها ، فهم مثلاً يجيزون استثناء الرّأس والأطراف من الشّاة المبيعة ؛ لأنّهم اعتبروها معلومةً . واحتجّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « لمّا هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكرٍ وعامر بن فهيرة ، مرّوا براعي غنمٍ ، فذهب أبو بكرٍ وعامرٌ ، فاشتريا منه شاةً وشرطا له سلبها » .
ما يثبت فيه حكم الاستثناء الحقيقيّ :
25 - حكم الاستثناء الحقيقيّ عند الجمهور التّخصيص ، وعند الحنفيّة القصر ، لأنّهم يشترطون في المخصّص أن يكون مستقلاًّ . ويثبت حكمه هذا حيثما تمّت شروطه المعتبرة الّتي تقدّم ذكرها ، فيثبت في العقود والوعود والنّذور والأيمان والطّلاق ، وسائر التّصرّفات القوليّة ، فلو استثنى من المبيع جزءاً معلوماً من العين ، أو منفعةً معلومةً لمدّةٍ معلومةٍ جاز ، إلاّ أنّه قد يعرض لبعض الاستثناءات البطلان لمانعٍ .
ما يثبت فيه حكم الاستثناء بالمشيئة :
26 - الاستثناء بالمشيئة إذا تمّت شروطه يستتبع أثره وهو : إبطال حكم ما قبله . وهذا الإبطال إمّا بمعنى الحلّ بعد الانعقاد ، وإمّا بمعنى منع الانعقاد ، فإذا بدا للحالف مثلاً أن يستثني بعد تمام يمينه تنحلّ يمينه باستثنائه عند من أجاز نيّة الاستثناء بعد تمام اليمين . والّذي ينويه الحالف قبل الفراغ من يمينه ثمّ يأتي به يمنع انعقاد يمينه .
27 - أمّا ما يبطله الاستثناء ، فقد اتّفق الفقهاء على أنّه يبطل اليمين ، لما ورد من الأحاديث الّتي قدّم ذكرها . وأمّا ما عدا ذلك فقد اختلفوا فيه على اتّجاهين : الاتّجاه الأوّل : أنّ الاستثناء بالمشيئة يمنع انعقاد ما اقترن به من التّصرّفات القوليّة . وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة . غير أنّ الحنفيّة نصّوا على أنّ حكم الاستثناء يثبت في صيغ الإخبار ، وإن كان إنشاء إيجابٍ ، لا في الأمر والنّهي . فلو قال : اعطوا ثلث مالي لفلانٍ بعد موتي إن شاء اللّه بطل الاستثناء وصحّت الوصيّة . وعن الحلوانيّ من الحنفيّة : أنّ كلّ ما يختصّ باللّسان يبطله الاستثناء ، كالطّلاق والبيع ، بخلاف ما لا يختصّ به كنيّة الصّوم ، فلا يرفعها الاستثناء فلو قال : نويت صيام غدٍ إن شاء اللّه ، له أداؤه بتلك النّيّة الاتّجاه الثّاني : أنّ الاستثناء بالمشيئة لا يمنع انعقاد أيّ تصرّفٍ ما عدا الأيمان ، وهو مذهب المالكيّة ، والحنابلة . وبه قال الأوزاعيّ والحسن وقتادة ، فعند المالكيّة - باستثناء ابن الموّاز - أنّ الاستثناء ( بإن شاء اللّه ) يبطل الأيمان ، ولا يبطل ما قبله في غير الأيمان ، فلو أقرّ قائلاً : له في ذمّتي ألفٌ إن شاء اللّه ، أو : إن قضى اللّه ، لزمه الألف ؛ لأنّه لمّا أقرّ علمنا أنّ اللّه شاء أو قضى . وسواءٌ عند المالكيّة أكان الطّلاق والعتاق منجّزاً أم كان معلّقاً . قال ابن عبد البرّ من المالكيّة في المشيئة بعد تعليق الطّلاق : إنّما ورد التّوقيف بالاستثناء في اليمين باللّه تعالى ، وقول المتقدّمين : الأيمان بالطّلاق والعتاق إنّما جاز على التّقريب والاتّساع ، ولا يمين في الحقيقة إلاّ باللّه ، وهذا طلاقٌ وعتاقٌ . أمّا الحنابلة فقد نصّوا على أنّ اليمين يبطلها الاستثناء . وأمّا غيرها فلا يؤثّر فيه ، كما لو قال : بعتك أو وهبتك كذا إن شاء اللّه ، فيثبت حكم البيع والهبة وهذا هو القول المقدّم عندهم . أمّا الطّلاق والعتاق ففي روايةٍ : توقّف أحمد عن القول فيهما . وفي روايةٍ أخرى : قطع أنّه لا ينفعه الاستثناء فيهما ، وقال : من حلف فقال : إن شاء اللّه لم يحنث ، وليس له استثناءٌ في الطّلاق والعتاق لأنّهما ليسا من الأيمان . ونقله صاحب المغني أيضاً عن الحسن وقتادة ، وقال : إنّ الحديث إنّما تناول الأيمان ، وليس هذا بيمينه ، إنّما هو تعليقٌ على شرطٍ .
28 - وذكر متأخّرو الحنابلة في الاستثناء في الطّلاق والعتاق وغيرهما قولاً ثالثاً ، قال ابن تيميّة ، ونقله روايةً عن أحمد - وهو أنّ إيقاع الطّلاق والعتاق لا يدخل فيما يبطله الاستثناء ، أمّا الحلف بالطّلاق والعتاق فيدخل - قال : ومن أصحابه من قال : إن كان الحلف بصيغة القسم ( كما لو قال : عليّ الطّلاق لأفعلنّ كذا ) دخل في حديث الاستثناء ، ونفعته المشيئة روايةٌ واحدةٌ . وإن كان بصيغة الجزاء كما لو قال لزوجته : إن فعلت كذا فأنت طالقٌ ففيه روايتان . قال ابن تيميّة : وهذا القول هو الصّواب المأثور عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجمهور التّابعين كسعيدٍ والحسن ، لم يجعلوا في الطّلاق استثناءً ، ولم يجعلوه من الأيمان . ثمّ نقل عن الصّحابة وجمهور التّابعين أنّهم جعلوا الحلف بالصّدقة والهدي والعتاق ونحو ذلك يميناً مكفّرةً . وقال أحمد : إنّما يكون الاستثناء فيما فيه كفّارةٌ . وتمام القول في الاستثناء في الطّلاق المعلّق ينظر في بحث الأيمان ، وتمام الكلام على تفريع مسائل الاستثناء وتفصيل الكلام فيها في أبواب الفقه المختلفة ، فيرجع في كلّ مسألةٍ منها إلى بابها في الطّلاق والعتاق والهبة واليمين والنّذر وغير ذلك ، وما يتعلّق منه بالمباحث الأصوليّة يرجع إليه في الملحق الأصوليّ .