طريقة القرآن في الاستدلال على توحيد الربوبية:
سلك القرآن عدداً من الأساليب ... منها:
أولاً: الاستدلال باستحالة صدور الوجود من عدم كما في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ} [الطور: 35-36].
وصورة هذا الدليل في الآية:
إما أن يكونوا خلقوا أنفسهم وهذا باطل لأنه يلزم منه الدور وهو باطل حيث يترتب كل من الفرضين على الآخر فكونهم خلقوا أنفسهم يستلزم وجودهم قبل الخلق إذ لا يصدر الوجود من العدم ضرورة، إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود ولا معنى للوجود إلا كون الشيء ليس بمعدوم.
وإما يكونوا لا خالق لهم أصلاً فيكون العدم هو الذي أوجدهم وهذا باطل إذ لا معنى للعدم إلا عدم الوجود فيلزم من قولهم بهذا الفرض الجمع بين النقيضين وهو كون الشيء موجوداً معدوماً والوجود والعدم نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ولا يمكن أن ينشأ واحد منهما من الآخر.
والفرض الثالث أن يكون لهم خالق هو الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: الاستدلال بما في العالم من التغير المانع من قدمه إذ التغير علامة الحدوث والخلق فلابد إذا له من خالق ويدل عليه قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11].
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور: 43-44].
ثالثاً: إن الكون ممكن الوجود وما كان كذلك فهو مخلوق لا يمكن أن يكون واجب الوجود لأن إمكان العدم عليه والوجود ينفي وجوبه. ويدل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]
رابعا: أن الكون وجد على سبيل الإتقان مما يمنع كونه وجد من غير موجد ويدل عليه قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3-4].
خامسا: إبطال الشرك في الربوبية كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 19].
وصورة الدليل في الآية هو: (إن الإله الحق لا بد أن يكون خالقاً فاعلاً يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة بل إن قدر على قهر ذلك الشريك والتفرد بالملك والألوهية دونه فعل وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه وإذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه فلابد من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه.
فالفرض الأول غير ممكن إذ لابد أن تبين أثار فعله في الكون. والفرض الثاني ممتنع ضرورة اختلال الكون نتيجة العلو وتضارب الإرادات، والثالث هو الحق وهو كون الرب هو الإله الواحد)
الفصل الثاني: الإقرار بالربوبية.
المبحث الأول: فطرية الإقرار بالربوبية.
شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري والشرك حادث طارئ والأبناء تقلدوه عن الآباء فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع مقرين بأن الله ربكم لا شريك له وقد شهدتم بذلك على أنفسكم فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة تقليدا لمن لا حجة معه بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها وفيه مصلحة لكم بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربية والعادة وهو لأجل مصلحة الدنيا فإن الطفل لا بد له من كافل وأحق الناس به أبواه ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح - حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38] وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} [البقرة:133] وإن كان الآباء مخالفين الرسل كان عليه أن يتبع الرسل كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8] فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم بل يعدل عن الحق المعلوم إليه فهذا اتبع هواه كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة:170] وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب
وتعتبر معرفة الله تعالى والإقرار بوجوده من الأمور الضرورية الفطرية التي غرسها الله تعالى في فطر الناس، وشهدت بها عقولهم، بل فطر القلوب عليه أعظم من فطرتها على الإقرار بغيره من الموجودات ولذا فإن الإيمان بوجود الله تعالى، وتحقيق كمال وحدانيته أصل الدين وقوامه، ولبه وصميمه، وهو في الواقع أمر لا يحتاج إلى سرد الأدلة وحشد البراهين، ولهذا لم يكثر في كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحديث عن إثبات وجود الله عز وجل، لكن لما وجد شرذمة من الناس تنكر وجود الله مكابرة؛ كفرعون، أو لتغير الفطرة لسبب خارجي: فإن الله تعالى قد أقام من الدلائل الباهرة، والبراهين القاطعة ما يبهر العقول، ويقود القلوب إلى التسليم والانقياد.
وهذه الأدلة إنما يصار إليها ليزداد المؤمن إيماناً ويقينا، ومعرفة بالله وتعظيما له، وأما من فسدت فطرته، وتغيرت جبلته، فهذه الأدلة واعظة ومرشدة للعودة إلى الفطرة التي ند عنها، وتنكر لها.
وجماع القول: أن الإقرار بوجود الله والاعتراف به مستقر في قلوب الخلق جميعا وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب.
ولقد حكى أهل العلم إجماع الأمم، واتفاق الملل، وتوافق الفطر على هذا الأمر الضروري، ومن هؤلاء الأئمة الأعلام، والصفوة الكرام: شيخ الإسلام ابن تيمية، في غير ما موضع من كتبه ورسائله.
نص ما حكاه شيخ الإسلام من الإجماع: قال: (أهل الفطر كلهم متفقون على الإقرار بالصانع) وبين أن هذا الأمر قد اجتمع على الإقرار به جميع الثقلين – الإنس والجن – حيث قال: (والمقصود هنا أن من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به،... فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن وأنه من لوازم خلقه، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب كما أن اغتذاءهم الطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم).
وأوضح أن الإقرار بوجود الله وربوبيته لم يكن ينازع فيه المشركون الذين دعتهم رسلهم إلى عبادة الله وحده، حيث قال: (وأما الرب فهو معروف بالفطرة: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10] فالمشركون من عباد الأصنام وغيرهم من أهل الكتاب معترفون بالله مقرون به أنه ربهم وخالقهم ورازقهم، وأنه رب السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه المقصود الأعظم) . وذكر أن الإقرار بالخالق وكماله أمر فطري ضروري مركوز في فطر البشر السليمة من الانحراف والتغير، إذ يقول: (إن الإقرار بالخالق وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته، وإن كان مع ذلك تقوم عليه الأدلة الكثيرة، وقد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها).
وعد الإقرار بالله مما اتفق عليه جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، بل وجميع الكتب الإلهية حيث يقول:. .. (ومنه ما هو متفق عليه بين جميع المؤمنين، من الأولين والآخرين، وجميع الكتب الإلهية: مثل الإقرار بالله)......
ولم يكثر السلف – رحمهم الله – الخوض في إثبات وجود الله تعالى وحشد الأدلة لتقريره؛ لأنه من القضايا المسلمة المستقرة في الفطرة البشرية؛ ولذا لم ينقل عنهم من الأقوال في تقرير وجود الله عز وجل إلا شيئاً يسيرا ورد في شأن الفطرة وأخذ الميثاق والإشهاد على ذلك والآيات الكونية والنفسية.
ومن ذلك قول محمد بن كعب القرظي – في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]-: (أقرت الأرواح قبل أن تخلق أجاسدها) . وقال مجاهد بن جبر – في قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ} [البقرة: 138]-: "فطرة الله التي فطر الناس عليها وأما الكلبي والحسن فقد قالا – في قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [الأعراف: 172]-: (أخذ ميثاقهم أنه ربهم، فأعطوه ذلك، ولا تسأل أحداً كافراً ولا غيره: من ربك؟، إلا قال: الله)