قال الحافظ الذهبي رحمه الله: (وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيباً وقد قال: ((لو كنت متخذاً خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل)) ، فأحب أفضل رجل من أمته، وأفضل امرأة من أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حري أن يكون بغيضاً إلى الله ورسوله. وحبه عليه السلام لعائشة كان أمراً مستفيضاً) .
3- ومن مناقبها رضي الله عنها نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: ((كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة فمري رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها)) .
قال الذهبي: (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها) .
4- ومن مناقبها رضي الله عنها أن جبريل عليه السلام أرسل إليها سلامه مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)) .
قال النووي: (وفيه فضيلة ظاهرة لعائشة رضي الله عنها) .
5- ومن مناقبها رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بتخييرها عند نزول آية التخيير وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فاستن بها بقية أزواجه صلى الله عليه وسلم. فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمراً لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله جل ثناؤه قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا... أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28-29] قالت: فقلت: ففي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة قالت: ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلما فعلت)) .
6- ومن مناقبها رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يمرض في بيتها فكانت وفاته صلى الله عليه وسلم بين سحرها ونحرها في يومها وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها .
فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غداً؟ حرصاً على بيت عائشة، قالت: فلما كان يومي سكن)) .
وعند مسلم عنها أيضاً قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتفقد يقول: ((أين أنا اليوم أين أنا غداً؟ استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري)) .
وروى البخاري أيضا بإسناده عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيها يقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة حتى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به. فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن. فأعطانيه فقضمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستند إلى صدري)) .
وفي رواية أخرى بزيادة ((فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة))
7- ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم بأنها من أصحاب الجنة.
فقد روى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت ((قلت: يا رسول الله من من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن؟ قالت: فخيل إلي آن ذاك أنه لم يتزوج بكراً غيري)) .
وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد: ((أن عائشة اشتكت، فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين، تقدمين على فرط صدق، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر)) .
وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة رضي الله عنها حيث قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف .
8- ومن مناقبها رضي الله عنها ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) .
في هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.
قال النووي: (قال العلماء: معناه أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه، والمراد بالفضيلة: نفعه والتشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ به وتيسر تناوله وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة، وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة) .
وبهذا يتبين فضلها ومنزلتها رضي الله عنها وأرضاها.
وقد اختلف العلماء في التفضيل بين خديجة وفاطمة وعائشة رضي الله عنهن حتى اشتهر ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع وتفصيل) .
وعند التحقيق والنظر في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهن رضي الله عنهن نجد أنها تدل على أفضلية خديجة وفاطمة ثم عائشة رضي الله عنهن، وذلك أن الضمير الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: ((خير نسائها خديجة)) قد فسر صريحا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لقد فضلت خديجة على نساء أمتي)) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية)) .
قال ابن حجر: (وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل) .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون)) .
وهذا نص في أن خديجة رضي الله عنها أفضل نساء الأمة.
ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة)) . وفي لفظ ((سيدة نساء أهل الجنة)) (فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة بهذا وردت النصوص) .
أما ما ورد في تفضيل عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما قال ابن حجر: (وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة رضي الله عنها على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المؤونة وسهولة الإساغة، وكان أجل أطعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل جهة فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى) .
فالحديث إذاً دال على أفضلية عائشة رضي الله عنها على سائر نساء هذه الأمة ما عدا خديجة وفاطمة رضي الله عنهن لورود الدليل على ذلك مما قيد تلك الأفضلية لعائشة رضي الله عنها.
وأما ما ورد من حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أي النساء أحب إليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: عائشة)) فقد أشار ابن حبان رحمه الله على أنه مقيد في نسائه صلى الله عليه وسلم إذ عقد عنواناً في صحيحه فقال: (ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث) وساق تحته حديث عمرو بلفظ: ((قلت يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، فقال: أبو بكر أو قال أبوها)) .
ثم قال ابن حبان: (ذكر الخبر الدال على أن مخرج هذا السؤال كان عن أهله دون سائر النساء من فاطمة وغيرها) وأخرج بسنده عن أنس قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة قيل له: ليس عن أهلك نسألك قال: فأبوها)) .
وبهذا يتبين أن عائشة تلي خديجة وفاطمة في الفضل رضي الله عنها إذ كل ما ورد من دليل على عموم تفضيلها رضي الله عنها مقيد بالنص الوارد في خديجة وفاطمة رضي الله عنهن.
ولا ينكر أن لعائشة رضي الله عنها من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به عن خديجة وفاطمة رضي الله عنهن إلا أنه (لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق) .
رابعاً: فضل حفصة رضي الله عنها
وهي حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وهي أخت عبدالله لأبيه وأمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة، أخت عثمان بن مظعون.
وقد تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث من الهجرة، وكانت قبله عند خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد وكان بدرياً شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم ومات بالمدينة، وكانت رضي الله عنها صوامة قوامة، ولدت قبل المبعث بخمس سنين وكانت وفاتها في شعبان سنة خمس وأربعين رضي الله عنها وأرضاها .
وقد وردت في مناقبها أحاديث منها:
1- أنها كانت ممن حظي بشرف الهجرة فقد روى ابن سعد بإسناده إلى أبي الحويرث قال: (تزوج خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم حفصة بنت عمر فكانت عنده وهاجرت معه إلى المدينة) .
2- روى البخاري بإسناده إلى سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يحدث ((أن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري فلبث ليالي، ثم لقيني فقال: بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئاً، وكنت أوجد عليه مني على عثمان، فلبثت ليالي. ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت نعم. قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرها، فلم أكن لأفش سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلتها)) .
3- روى الطبراني بإسناده إلى قيس بن يزيد ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة تطليقة... فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل فتجلببت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آتاني جبريل عليه السلام فقال: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وأنها زوجتك في الجنة)) .
في هذا الحديث فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين حفصة رضي الله عنها حيث الثناء عليها بكثرة الصيام والقيام والإخبار بأنها زوجة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة.
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن خواصها: ما ذكره الحافظ المقدسي في (مختصر السيرة): ((أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فأتاه جبريل فقال: ((إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة وأنها زوجتك في الجنة)) .
خامساً: فضل أم سلمة رضي الله عنها
وهي هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية، أم المؤمنين أم سلمة مشهورة بكنيتها معروفة باسمها وكان أبوها يلقب زاد الركب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زاداً بل هو كان يكفيهم. وأما عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد وهو ابن عمها، وهاجرت معه إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة فيقال: أنها أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها خطبها النبي صلى الله عليه وسلم ودخل به سنة أربع من الهجرة وكانت من أجمل النساء وأشرفهن نسباً، وكانت وفاتها رضي الله عنها سنة إحدى وستين .
وقد وردت أحاديث في مناقبها منها:
1- ما رواه مسلم بإسناده إلى أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد مسلم تصيبه مصيبة فيقول: ما أمره الله إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة يخطبني له فقلت: إن لي بنتاً وأنا غيور فقال: أما ابنتها فندعو الله أن يغنيها عنها، وأدعو الله أن يذهب الغيرة)) .
2- ومن مناقبها ما شرفت به رضي الله عنها من رؤية جبريل عليه السلام في صورة دحية بن خليفة الكلبي: فقد روى الشيخان بإسنادهما عن معتمر بن سليمان التيمي قال: سمعت أبي عن أبي عثمان قال: ((أنبئت أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة فجعل يتحدث فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: من هذا؟ أو كما قال. قالت: هذا دحية فلما قام قالت: والله ما حسبته إلا إياه حتى سمعت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يخبر خبر جبريل. أو كما قال. قال أبي: قلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد)) .
قال النووي: (قوله إن أم سلمة رأت جبريل في صورة دحية: هو – بفتح الدال وكسرها – وفيه منقبة لأم سلمة رضي الله عنها. وفيه جواز رؤية البشر الملائكة ووقوع ذلك ويرونهم على صورة الآدميين لأنهم لا يقدرون على رؤيتهم على صورهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل على صورة دحية غالباً، ورآه مرتين على صورته الأصلية) .
وقال ابن القيم: (ومن خصائصها أن جبريل دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وهي عنده فرأته صورة دحية الكلبي) . فرضي الله عنها وأرضاها.
سادساً: فضل زينب بنت جحش رضي الله عنها
وهي زينب بنت جحش بن رباب بن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من المهاجرات الأول، تزوجها صلى الله عليه وسلم سنة ثلاث، وقيل سنة خمس، وكانت قبله عند مولاه زيد بن حارثة وفيها نزلت {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 27] وكان زيد يدعي ابن محمد فلما نزلت {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5]، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأته انتفى ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أن الذي يتبنى غيره يصير ابنه بحيث يتوارثان إلى غير ذلك، وكانت زينب رضي الله عنها من سادات النساء ديناً وورعاً وجوداً ومعروفاً وهي أول نساء النبي صلى الله عليه وسلم لحوقا به حيث كانت وفاتها سنة عشرين فرضي الله عنها وأرضاها .
1- فضل زينب بنت جحش رضي الله عنها في القرآن الكريم
أوجه دلالات قوله تعالى {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة..} على فضل زينب رضي الله عنها
هذه الآيات الكريمات دلت على عدد من فضائل زينب رضي الله عنها وهي كالتالي:
الفضيلة الأولى: دلالة الآية على إيمانها:
بحسب ما ذكره جمهور المفسرين في سبب نزول الآية الأولى فإنها تدل بكل وضوح على عمق إيمانها رضي الله عنها فرغم أنها من بيت شريف نسيب، والشأن عند العرب أنه لا ينكحها إلا مثلها إلا أنها استجابت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضيت بزيد زوجاً فكان عاقبة هذا الرضى والتسليم لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن صار زوجها بعد ذلك هو سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
الفضيلة الثانية: أن الله تبارك وتعالى هو الذي تولى تزويجها:
وهذا ثابت في قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، فهذه الآية الكريمة تدل على أن الذي زوج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب هو الله تعالى.
وترتب على هذا الفضيلة الثالثة: أنه لم يحصل في زواج زينب شيء مما هو معتبر في النكاح من ولي وصداق وشهود.
قال ابن القيم: (ومن خصائص زينب أن الله سبحانه كان هو وليها الذي زوجها لرسوله صلى الله عليه وسلم من فوق سماواته) .
قال الشوكاني: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على زينب بغير إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شيء مما هو معتبر في حق النكاح في حق أمته) . وعلى دلالة الآية على هذا ذهب غير واحد من المفسرين ، وقد تأيد هذا المعنى بروايات في السنة المطهرة، فعن أنس رضي الله عنه: (أن زيداً لما خطب زينب للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أوامر ربي فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن وجاء رسول الله ودخل عليها بغير إذن) ...
ولهذه الفضيلة كانت رضي الله عنها تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (زوجكن أهليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سموات) .
وفي رواية: (إن الله أنكحني في السماء) .
وكانت رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن: أن جدي وجدك واحد، وأني أنكحنيك الله من السماء، وأن السفير جبريل عليه السلام) ، ولعل لأجل هذه الفضيلة أولم عليها رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يولم على امرأة من نسائه .
الفضيلة الرابعة: نزول الحجاب في زواجها:
حيث ثبت أن آية الحجاب وهي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، نزلت في قصة زواجها، وقد ثبت ذلك من حديث أنس رضي الله عنه وقد عد ذلك أهل العلم من فضائلها ، ولعل مرد ذلك ما يوحي به نزول الآية في وقت زواجها من مزيد العناية بها رضي الله عنها، ولعل هذا من توابع تزويج الله لها فكأنه سبحانه وتعالى زوجها، وجعل من تبعات ذلك ضرب الحجاب عليها وعلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم والأمة.
2- فضل زينب في السنة
- ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليها بين أزواجه بذكر إحدى مآثرها بصيغة يتحقق تأويلها مستقبلاً وهي الصدقة والإنفاق في سبيل الله. فقد روى مسلم بإسناده إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً قالت فكن يتطاولن أيتهن أطول يداً قالت: فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق)) .
وروى الحاكم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه: أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً، قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم نمد أيدينا في الجدار نتطاول فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة قصيرة ولم تكن أطولنا فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد بطول اليد الصدقة قالت: وكانت زينب امرأة صناعة اليد فكانت تدبغ وتخرز وتتصدق في سبيل الله عز وجل)) .
قال النووي: (معنى الحديث أنهن ظنن أن المراد بطول اليد طول اليد الحقيقية وهي الجارحة فكن يذرعن أيديهن بقصبة فكانت سودة أطولهن جارحة وكانت زينب أطولهن يداً في الصدقة وفعل الخير فماتت زينب أولهن فعلمن أن المراد طول اليد في الصدقة والجود... وفيه معجزة باهرة لرسوله صلى الله عليه وسلم ومنقبة ظاهرة لزينب.
ووقع الحديث في كتاب الزكاة من البخاري بلفظ: متعقد يوهم أن أسرعهن لحاقاً سودة وهذا الوهم باطل بالإجماع) .
4- ومن مناقبها ثناء عائشة رضي الله عنها ووصفها بصفات مكارم الأخلاق والتي اشتملت على البر والتقوى والورع.
فقد روى مسلم بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها من حديث طويل وفيه ((فأرسلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به وتقرب به إلى الله تعالى)) .
وفي حديث الإفك قالت عائشة رضي الله عنها: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ماذا عملت أو رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، ما علمت إلا خيراً. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع)) .
ففي ما تقدم من كلام عائشة رضي الله عنها فضيلة ظاهرة ومنقبة عالية لأم المؤمنين زينب رضي الله عنها وأرضاها.
وفي ذلك يقول الإمام الذهبي: ويروى عن عائشة أنها قالت: يرحم الله زينب لقد نالت في الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها، ونطق به القرآن، وإن رسول الله قال لنا: ((أسرعكن بي لحوقاً أطولكن باعاً)) فبشرها بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة .
ومناقبها التي وردت بها الأحاديث والآثار كثيرة وحسبنا هنا ما تقدم.
سابعاً: فضل جويرية بنت الحارث رضي الله عنها
هي جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن حبيب بن جذيمة وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن عمرو الخزاعية المصطلقية، كانت إحدى سبايا غزوة بني المصطلق (المريسيع) سنة خمس أو ست من الهجرة فوقعت في سهم ثابت بن قيس، فكاتبها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابتها وتزوجها وكانت قبله تحت مسافع بن صفوان المصطلقي والذي قتل في تلك المعركة، وهي التي أعتق المسلمون بسببها مائة أهل بيت من الرقيق، وقالوا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك من بركتها على قومها .
وقد وردت في مناقبها رضي الله عنها أحاديث دلت على فضلها وعظم شأنها منها:
1- ما رواه الإمام أحمد في (مسنده) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستعينه في كتابتها قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها وعرفت أنه سيرى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت فدخلت عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن الشماس أو لابن عم له، فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية ابنة الحارث بن أبي ضرار فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرسلوا ما بأيديهم قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها)) .
ففي هذا الحديث منقبة ظاهرة لأم المؤمنين جويرية بنت الحارث رضي الله عنها حيث كان زواجها بالنبي صلى الله عليه وسلم خيراً لها ولقومها فما أن علم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين بذلك حتى أطلقوا الأسارى الذين كانوا في أيديهم من قومها إجلالاً وتعظيماً لسيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنهم صاروا أصهاره فكان خيرها شاملاً لقومها.
2- ومن مناقبها أنها كانت من المكثرات للعبادة الذاكرات الله ذكراً كثيراً رضي الله عنها فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن جويرية ((أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته)) .
3- تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لها بهذا الاسم فقد روى مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عباس قال: ((كانت جويرية اسمها برة، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة)) .
وقد كانت وفاتها رضي الله عنها سنة خمسين للهجرة وقيل سنة ست وخمسين .
ثامناً: فضل أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
وهي رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس الأموية زوج النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم حبيبة وهي بها أشهر من اسمها وأمها صفية بنت أبي العاص بن أمية ولدت رضي الله عنها قبل البعثة بسبعة عشر عاماً وكانت قبل النبي صلى الله عليه وسلم عند عبيد الله بن جحش بن رباب بن يعمر الأسدي من بني أسد بن خزيمة، فأسلما ثم هاجرا إلى الحبشة فولدت حبيبة وبها كانت تكنى، وقد ارتد زوجها عبيد الله بن جحش عن الإسلام ودخل في النصرانية فهلك وهو على تلك الحالة وتمسكت هي بدينها وذلك من فضل الله عليها ليتم لها الإسلام والهجرة فأبدلها الله عز وجل به خير البشر وأفضلهم سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهي أقرب أزواجه نسباً إليه وأكثرهن صداقاً رضي الله عنها وأرضاها .