الرد على الموضوع

ذكر بعض المؤرخين أن آدم لما نزل إلى الأرض، لما أهبط إليها، استوحش فقال: يا ربِّ ضع لي شيئا أو مكانا أستأنس به. أمر الله الملائكة فبنوا هذا البيت؛ حتى يأنس به، ويتذكر الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور ويتعبد فيه، ثم أمره بأداء هذه المشاعر في هذه الأماكن المقدسة، فكان هذا من آثار إبراهيم وآدم ومن بعدهما. 

 

ذكر الله تعالى أن إبراهيم بنى البيت ولكن كان البيت مبنيا قبله ثم انهدم، فلما طالت مدة انهدامه أمر الله إبراهيم فجدد بناءه، قال تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ] وذكر في الحديث الذي في البخاري أن مكانه كان مرتفعا كربوة، إذا جاءت السيول انصرفت عن يمينه وشماله، فقال لابنه: إن الله أمرني أن أبني في هذا المكان بيتا. قال: افعل ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، فأمرهما الله تعالى بتجديده، قال الله تعالى: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ] فخص الله هذا البيت دون سائر بقاع الأرض أنه يُتطوف به؛ بقوله: [وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ] أي: يستدار حوله، فليس هناك مكان يتطوع بهذه الاستدارة حوله تعبداً إلا هذا البيت العتيق ليس هناك غيره. لا شك أن هذا دليل على فضل هذا البيت .

 

كذلك أيضا: ذكر الله تعالى أن فيه هذه الآيات: [آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ] فالذين يطوفون به يتذكرون أن هذا مقام إبراهيم ويتذكرون أن هذا البيت قد طاف به الأنبياء من آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، ويتذكرون أيضا أن الأئمة والعلماء والعباد والزهاد كلهم قد طافوا حول هذا البيت ويتذكرون ما روي عنهم من الآثار في سائر احترام هذا البيت وتوقيره. 

 

لا شك أن هذا كله يكسب المتعبد بالطواف حوله إيمانا ويقينا، وقوة عبادة، وكثرة أعمال صالحة؛ ولهذا يتقرب إلى الله تعالى بالاستدارة حول هذا البيت فتعتبر قربة وطاعة، ثم نقول: ليس هذا تعظيما للبيت إذ البيت حجارة، وإنما هو تعظيم لرب البيت وعبادة له ؛ اقرؤوا قول الله تعالى: [فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ]؛ والدليل على ذلك أن الذين يطوفون بهذا البيت لا يدعون البيت لا يقولون: يا بيت الله ولا يقولون: يا كعبة الله وإنما يدعون الله تعالى، فهم في دورانهم يدعون الله تعالى، فالطائف يكثر من ذكر الله، ويكثر من دعائه، ويكثر من قراءة القرآن، والطائف يخضع لربه ويخشع، ويتواضع لله ويتمسكن بين يديه. 

 

وهكذا أيضا إذا استلم الأركان فإنه يتذكر أنها أركان البيت الذي خصه الله تعالى بأن جعله قبلة للمسلمين، أمرهم في بقاع الأرض أن يتوجهوا إليه، فإذا وصل إليه عرف أن هذا قبلتنا في كل بقعة، الذي نستقبله في صلاتنا، وأن هذا هو الذي خصه الله تعالى بأداء هذه المناسك .

 

من الأركان التي تستلم الركنان اليمانيان ؛ الأركان: هي الزوايا، و البيت له أركان أربعة: ركنان يمانيان أي: في جهة اليمن وركنان شاميان أي: في جهة الشام فالركن الغربي الجنوبي يطلق عليه الركن اليماني والركن الشرقي الجنوبي يطلق عليه ركن يماني ولكن اصطلح على أنه الحجر ؛ فيه الحجر الأسود هذان الركنان كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلمهما فالركن اليماني يضع يده عليه، وأما الركن الذي فيه الحجر فإنه قبَّله، واستلمه مرة بيده، واستلمه أحيانا بمحجن؛ أي عصا معه، وقبل اليد التي يستلمه بها أو قبل المحجن. 

 

وذكر أن هذا الحجر اختص بالتقبيل تعبداً، فليس هناك بقعة تقبل بوضع الشفتين عليها تعبداً إلا هذا الحجر روى عمر "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الحجر فجاء إليه عمر فقال: يا عمر هاهنا تسكب العبرات" كأنه خشع في ذلك المكان وبكى لشرف هذه البقعة، وقد ثبت أن عمر -رضي الله عنه- قال لما أراد تقبيل الحجر قال: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك . هكذا قال رضي الله عنه، وصدق أنه أراد بذلك الامتثال؛ وذلك لأن عمر أدرك الجاهلية، وكانوا يعظمون الأحجار والأشجار، ويتبركون بها، ويتمسحون بها، ويرجون نفعها، ويرجون شفاعتها ويخافون إذا تركوا ذلك أن تضرهم، فبين للناس أن التقبيل إنما هو امتثال واتباع ، وليس اعتقاداً أن هذا الحجر يضر أو ينفع ؛ هكذا ورد عنه -رضي الله عنه-. 

 

ثم ذكر العلماء الحكمة في ذلك، ومنهم روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن قبله أو صافحه فكأنما قبل يمين الله. هكذا روي عن ابن عباس ومعلوم أنه حجر، وقد روي فيه مرويات وقصص لم تصح، منها ما روي أنه نزل من الجنة، وأنه كان أبيض من اللبن، وأن خطايا بني آدم سودته. كل هذا لم يثبت فيه. 

 

وكلام ابن عباس إنما هو تمثيل ومعناه أن الذي يستلمه، سواء قبله أو استلمه بيده أو استلمه بعصا، أنه يتذكر أنه يعاهد ربه كأنه مبايعه. الذين يبايعون النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يمسك بيد أحدهم، ويقول: تعاهدني على كذا وكذا، تبايعني على ألا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ...إلى آخره؛ فكأن الذين يقبلون أو يستلمون هذا الركن يعاهدون الله، ويلزم أن من عاهد الله أن يفي بعهده، وأن لا ينقض ذلك العهد، فقد أمر الله تعالى بالوفاء به في عدة آيات، في مثل قول الله تعالى: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ] وفي قول الله تعالى: [وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا] وفي قوله تعالى: [وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً] وما أشبه ذلك. 

 

يبين أن الإنسان إذا عاهد الله تعالى فعليه أن يفي بما عاهد عليه. فالذي يقبل هذا الحجر كأنه يقول: أعاهدك يا ربِّ على الطاعة، أعاهدك يا ربِّ على العبادة ولا أخرج عن عبادتك، أعاهدك يا ربِّ على ألا أعصيك طرفة عين، أعاهدك يا ربِّ على ألا أفعل جرما ولا أقترف ذنبا بقية حياتي؛ فينبغي له أن يفي بهذه المعاهدة، وأن يصدق فيما عاهد عليه الله؛ كما يصدق الصحابة بما عاهدوا عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ كما في قول الله تعالى: [فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] أي أنهم في مبايعتهم كأنهم يبايعون الله تعالى، ويعاهدون الله. 


اكتب معهد الماهر
أعلى