العقيدة التدمرية

طباعة الموضوع

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
التدمرية
تحقيق الإثبات للأسماء والصفات
وحقيقة الجمع بين القدر والشرع

تأليف
شيخ الإسلام ابن تيمية

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده
والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه وأرضاه :

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له ; وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد :

فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس ; من الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر لمسيس الحاجة إلى تحقيق هذين الأصلين وكثرة الاضطراب فيهما . فإنهما مع حاجة كل أحد إليهما ومع أن أهل النظر والعلم والإرادة والعباد : لا بد أن يخطر لهم في ذلك من الخواطر والأقوال ما يحتاجون معه إلى بيان الهدى من الضلال لا سيما مع كثرة من خاض في ذلك بالحق تارة وبالباطل تارات وما يعتري القلوب في ذلك : من الشبه التي توقعها في أنواع الضلالات .

فالكلام في باب التوحيد والصفات : هو من باب الخبر الدائر بين النفي والإثبات والكلام في الشرع والقدر : هو من باب الطلب والإرادة : الدائر بين الإرادة والمحبة وبين الكراهة والبغض : نفيا وإثباتا والإنسان يجد في نفسه الفرق بين النفي والإثبات ; والتصديق والتكذيب وبين الحب والبغض والحض والمنع ; حتى إن الفرق بين هذا النوع وبين النوع الآخر معروف عند العامة والخاصة ومعروف عند أصناف المتكلمين في العلم كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الإيمان وكما ذكره المقسمون للكلام ; من أهل النظر والنحو والبيان فذكروا أن الكلام نوعان : خبر وإنشاء , والخبر دائر بين النفي والإثبات , والإنشاء أمر أو نهي أو إباحة.

وإذا كان كذلك : فلا بد للعبد أن يثبت لله ما يجب إثباته له من صفات الكمال وينفي عنه ما يجب نفيه عنه مما يضاد هذه الحال ولا بد له في أحكامه من أن يثبت خلقه وأمره فيؤمن بخلقه المتضمن كمال قدرته وعموم مشيئته ويثبت أمره المتضمن بيان ما يحبه ويرضاه : من القول والعمل ويؤمن بشرعه وقدره إيمانا خاليا من الزلل وهذا يتضمن التوحيد في عبادته وحده لا شريك له : وهو التوحيد في القصد والإرادة والعمل والأول يتضمن التوحيد في العلم والقول كما دل على ذلك سورة { قل هو الله أحد } ودل على الآخر سورة : { قل يا أيها الكافرون } وهما سورتا الإخلاص وبهما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بعد الفاتحة في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك .

فأما الأول وهو ( التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله : نفيا وإثباتا ; فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه .
وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد : لا في أسمائه ولا في آياته فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } وقال تعالى : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم } ! الآية . فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات : إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل كما قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } . ففي قوله { ليس كمثله شيء } : رد للتشبيه والتمثيل وقوله : { وهو السميع البصير } . رد للإلحاد والتعطيل .
والله سبحانه : بعث رسله ( بإثبات مفصل ونفي مجمل فأثبتوا لله الصفات على وجه التفصيل ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه والتمثيل كما قال تعالى { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا } قال أهل اللغة : { هل تعلم له سميا } أي نظيرا يستحق مثل اسمه . ويقال : مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس ( هل تعلم له سميا مثيلا أو شبيها وقال تعالى { لم يلد ولم يولد } { ولم يكن له كفوا أحد } وقال تعالى : { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وقال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون } { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم } ؟ وقال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } { الذي له ملك السموات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } وقال تعالى : { فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون } { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } { ألا إنهم من إفكهم ليقولون } { ولد الله وإنهم لكاذبون } { أصطفى البنات على البنين } { ما لكم كيف تحكمون } { أفلا تذكرون } { أم لكم سلطان مبين } { فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين } { وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } { سبحان الله عما يصفون } { إلا عباد الله المخلصين } إلى قوله : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { وسلام على المرسلين } { والحمد لله رب العالمين } . فسبح نفسه عما يصفه المفترون المشركون وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك وحمد نفسه ; إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات وأما ( الإثبات المفصل : فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية بكمالها وقوله : { قل هو الله أحد } { الله الصمد } السورة وقوله : { وهو العليم الحكيم } { وهو العليم القدير } { وهو السميع البصير } { وهو العزيز الحكيم } { وهو الغفور الرحيم } { وهو الغفور الودود } { ذو العرش المجيد } { فعال لما يريد } { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } { هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } وقوله : { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } الآية وقوله : { رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه } وقوله : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه } وقوله : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وقوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة } وقوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } وقوله : { وكلم الله موسى تكليما } وقوله : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقوله : { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } وقوله { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وقوله : { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم } { هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون } { هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم } . إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل فهذه طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم : فإنهم على ضد ذلك يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجودا مطلقا لا حقيقة له عند التحصيل وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل ; فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ; ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلا يستلزم نفي الذات . فغلاتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون : لا موجود ولا معدوم ولا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لأنهم يزعمون أنهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات فسلبوا النقيضين وهذا ممتنع في بداهة العقول ; وحرفوا ما أنزل الله من الكتاب وما جاء به الرسول فوقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات وقد علم بالاضطرار . أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه ; قديم أزلي ; لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلا عن الوجوب أو الوجود أو القدم . وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف , فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهات وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحدا للعلوم الضروريات وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم ; فأثبتوا لله الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات - فمنهم من جعل العليم والقدير ; والسميع ; والبصير ; كالأعلام المحضة المترادفات ومنهم من قال عليم بلا علم قدير بلا قدرة سميع بصير بلا سمع ولا بصر فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها بصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه مع ما يلزمهم من التحريف والتعطيل ولو أمعنوا النظر لسووا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات ; ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أنما أنزل إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد . ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات ويقرمطون في السمعيات . وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجود قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات : كالحيوان والمعدن والنبات والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدث والممكن لا بد له من موجد كما قال تعالى : { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ؟ } فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقا خلقهم .
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم : فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه واتفاقهما في اسم عام : لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره . فلا يقول عاقل إذا قيل أن العرش شيء موجود وأن البعوض شيء موجود : إن هذا مثل هذا ; لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركا كليا هو مسمى الاسم المطلق وإذا قيل هذا موجود وهذا موجود : فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره ; مع أن الاسم حقيقة في كل منهما ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء ; وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره وسمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ; ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص : اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص فضلا عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص . فقد سمى الله نفسه حيا فقال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } وسمى بعض عباده حيا ; فقال : { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } وليس هذا الحي مثل هذا الحي لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله : { يخرج الحي من الميت } اسم للحي المخلوق مختص به وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ; ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ولكن العقل يفهم من المطلق قدرا مشتركا بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته يفهم منها ما دل عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق وما دل عليه بالإضافة والاختصاص : المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى وكذلك سمى الله نفسه عليما حليما وسمى بعض عباده عليما فقال : { وبشروه بغلام عليم } يعني إسحاق وسمى آخر حليما فقال : { فبشرناه بغلام حليم } يعني إسماعيل وليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم , وسمى نفسه سميعا بصيرا فقال : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا } وسمى بعض عباده سميعا بصيرا فقال : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا } وليس السميع كالسميع ولا البصير كالبصير وسمى نفسه بالرءوف الرحيم . فقال : { إن الله بالناس لرءوف رحيم } وسمى بعض عباده بالرءوف الرحيم فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم } وليس الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم وسمى نفسه بالملك . فقال : { الملك القدوس } وسمى بعض عباده بالملك فقال { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } { وقال الملك ائتوني به } وليس الملك كالملك . وسمى نفسه بالمؤمن المهيمن وسمى بعض عباده بالمؤمن فقال : { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون } وليس المؤمن كالمؤمن وسمى نفسه بالعزيز فقال : { العزيز الجبار المتكبر } وسمى بعض عباده بالعزيز فقال : { قالت امرأة العزيز } وليس العزيز كالعزيز وسمى نفسه الجبار المتكبر وسمى بعض خلقه بالجبار المتكبر قال : { كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار } وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر ونظائر هذا متعددة وكذلك سمى صفاته بأسماء وسمى صفات عباده بنظير ذلك فقال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } { أنزله بعلمه } وقال : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } وقال : { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة } وسمى صفة المخلوق علما وقوة فقال : { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } وقال : { وفوق كل ذي علم عليم } وقال : { فرحوا بما عندهم من العلم } وقال : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة } وقال : { ويزدكم قوة إلى قوتكم } وقال : { والسماء بنيناها بأيد } أي بقوة وقال : { واذكر عبدنا داود ذا الأيد } أي ذا القوة وليس العلم كالعلم ولا القوة كالقوة ووصف نفسه بالمشيئة ووصف عبده بالمشيئة فقال : { لمن شاء منكم أن يستقيم } { وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقال : { إن هذه تذكرة } { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما } وكذلك وصف نفسه بالإرادة وعبده بالإرادة فقال : { تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم } ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبده بالمحبة فقال : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } وقال : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } ووصف نفسه بالرضا ووصف عبده بالرضا فقال : { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد , ولا إرادته مثل إرادته ولا محبته مثل محبته , ولا رضاه مثل رضاه وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار ووصفهم بالمقت فقال : { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } وليس المقت مثل المقت وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بذلك فقال : { ويمكرون ويمكر الله } وقال { إنهم يكيدون كيدا } { وأكيد كيدا } وليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد ووصف نفسه بالعمل فقال : { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ؟ } ووصف عبده بالعمل فقال { جزاء بما كانوا يعملون } وليس العمل كالعمل ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة فقال : { وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا } وقال : { ويوم يناديهم } وقال : { وناداهما ربهما } ووصف عباده بالمناداة والمناجاة فقال : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون } وقال : { إذا ناجيتم الرسول } وقال : { إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان } وليس المناداة ولا المناجاة كالمناجاة والمناداة ووصف نفسه بالتكليم في قوله : { وكلم الله موسى تكليما } وقوله : { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } وقوله : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله } ووصف عبده بالتكليم في قوله : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } وليس التكليم كالتكليم ووصف نفسه بالتنبئة ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال : { وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } وليس الإنباء كالإنباء ووصف نفسه بالتعليم ووصف عبده بالتعليم فقال : { الرحمن } { علم القرآن } { خلق الإنسان } { علمه البيان } وقال : { تعلمونهن مما علمكم الله } وقال : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } وليس التعليم كالتعليم وهكذا وصف نفسه بالغضب فقال : { وغضب الله عليهم ولعنهم } ووصف عبده بالغضب في قوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا } وليس الغضب كالغضب ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه فذكر ذلك في سبع مواضع من كتابه أنه استوى على العرش ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله : { لتستووا على ظهوره } وقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك } وقوله : { واستوت على الجودي } وليس الاستواء كالاستواء ووصف نفسه ببسط اليدين فقال : { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } ووصف بعض خلقه ببسط اليد في قوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } وليس اليد كاليد ولا البسط كالبسط ; وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود : فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه ولا جوده كجودهم ونظائر هذا كثيرة . فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه ونفي مماثلته بخلقه فمن قال : ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة ولا كلام ولا يحب ولا يرضى ولا نادى ولا ناجى ولا استوى : كان معطلا جاحدا ممثلا لله بالمعدومات والجمادات ومن قال له علم كعلمي أو قوة كقوتي أو حب كحبي أو رضاء كرضاي أو يدان كيداي أو استواء كاستوائي كان مشبها ممثلا لله بالحيوانات ; بل لا بد من إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل ويتبين هذا ( بأصلين شريفين ) ومثلين مضروبين - ولله المثل الأعلى - . و ( بخاتمة جامعة )
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
فصل

فأما الأصلان : فأحدهما أن يقال : ( القول في بعض الصفات كالقول في بعض فإن كان المخاطب ممن يقول : بأن الله حي بحياة عليم بعلم قدير بقدرة سميع بسمع بصير ببصر متكلم بكلام مريد بإرادة ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهته فيجعل ذلك مجازا ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات فيقال له : لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر ; فإن قلت : إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه وهذا هو التمثيل وإن قلت : إن له إرادة تليق به ; كما أن للمخلوق إرادة تليق به قيل لك : وكذلك له محبة تليق به وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به وللمخلوق رضا وغضب يليق به وإن قلت : الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام فيقال له : والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة فإن قلت : هذه إرادة المخلوق قيل لك : وهذا غضب المخلوق وكذلك يلزم القول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته ; إن نفي عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك مما هو من خصائص المخلوقين ; فهذا منتف عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات وإن قال : أنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين ; فيجب نفيه عنه قيل له : وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة فهذا المفرق بين بعض الصفات وبعض يقال له : فيما نفاه كما يقوله هو لمنازعه فيما أثبته فإذا قال المعتزلي : ليس له إرادة ولا كلام قائم به ; لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات فإنه يبين للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم ولا تكون كصفات المحدثات فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا ونحو ذلك فإن قال : تلك الصفات أثبتها بالعقل لأن الفعل الحادث دل على القدرة والتخصيص دل على الإرادة والإحكام دل على العلم وهذه الصفات مستلزمة للحياة والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك قال له سائر أهل الإثبات : لك جوابان : أحدهما أن يقال : عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين فهب أن ما سلكت من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه وليس لك أن تنفيه بغير دليل لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت والسمع قد دل عليه ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم الثاني أن يقال : يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات فيقال نفع العباد بالإحسان إليهم دل على الرحمة كدلالة التخصيص على المشيئة وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكافرين يدل على بغضهم كما قد ثبت بالشهادة والخبر : من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته - وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة - تدل على حكمته البالغة ; كما يدل التخصيص على المشيئة وأولى لقوة العلة الغائية ; ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم : أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات ويقر بالأسماء كالمعتزلي الذي يقول : إنه حي عليم قدير وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة قيل له : لا فرق بين إثبات الأسماء وإثبات الصفات فإنك إن قلت : إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيها أو تجسيما لأنا لا نجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم قيل لك : ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى حي عليم قدير إلا ما هو جسم فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا للجسم فانف الأسماء بل وكل شيء لأنك لا تجده في الشاهد إلا للجسم فكل ما يحتج به من نفى الصفات يحتج به نافي الأسماء الحسنى ; فما كان جوابا لذلك كان جوابا لمثبتي الصفات وإن كان المخاطب من الغلاة نفاة الأسماء والصفات وقال لا أقول : هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير ; بل هذه الأسماء لمخلوقاته إذ هي مجاز لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم قيل له : كذلك إذا قلت : ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير كان ذلك تشبيها بالمعدومات وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات فإن قال : أنا أنفي النفي والإثبات قيل له : فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجودا معدوما أو لا موجودا ولا معدوما ويمتنع أن يكون يوصف ذلك باجتماع الوجود والعدم أو الحياة والموت أو العلم والجهل أو يوصف بنفي الوجود والعدم ونفي الحياة والموت ونفي العلم والجهل فإن قلت إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلا لهما وهذان يتقابلان تقابل العدم والملكة ; لا تقابل السلب والإيجاب فإن الجدار لا يقال له أعمى ولا بصير ولا حي ولا ميت إذ ليس بقابل لهما قيل لك : أولا هذا لا يصح في الوجود والعدم فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء ; فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر وأما ما ذكرته من الحياة والموت والعلم والجهل : فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاءون والاصطلاحات اللفظية ليست دليلا على نفي الحقائق العقلية وقد قال الله تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ؟ } فسمى الجماد ميتا وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم وقيل لك ثانيا : فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك - فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحدا منهما فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال ووصفته بصفات الجامدات التي لا تقبل ذلك وأيضا فما لا يقبل الوجود والعدم : أعظم امتناعا من القابل للوجود والعدم ; بل ومن اجتماع الوجود والعدم ونفيهما جميعا فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم . كان أعظم امتناعا مما نفيت عنه الوجود والعدم وإذا كان هذا ممتنعا في صرائح العقول فذاك أعظم امتناعا ; فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد وهؤلاء الباطنية منهم من يصرح برفع النقيضين : الوجود والعدم ; ورفعهما كجمعهما . ومن يقول لا أثبت واحدا منهما فامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر وإنما هو كجهل الجاهل وسكوت الساكت الذي لا يعبر عن الحقائق وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعا مما يقدر قبوله لهما - مع نفيهما عنه - فما يقدر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز ولا الكلام ولا الخرس ولا العمى ولا البصر ولا السمع ولا الصمم : أقرب إلى المعدوم الممتنع مما يقدر قابلا لهما - مع نفيهما عنه - وحينئذ فنفيهما مع كونه قابلا لهما أقرب إلى الوجود والممكن وما جاز لواجب الوجود - قابلا - وجب له ; لعدم توقف صفاته على غيره ; فإذا جاز القبول وجب ; وإذا جاز وجود القبول وجب وقد بسط هذا في موضع آخر وبين وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه وقيل له أيضا : اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات : ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه ; فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه - سبحانه وتعالى وأما ما نفيته فهو ثابت بالشرع والعقل وتسميتك ذلك تشبيها وتجسيما تمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سماه مسم بهذا الاسم يجب نفيه ; ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل وبهذه الطريقة : أفسدت الملاحدة على طوائف الناس عقلهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة وإن قال نفاة الصفات : إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع قيل : وإذا قلتم : هو موجود واجب وعقل وعاقل ومعقول وعاشق ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة . أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا ؟ فهذه معان متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيدا فإن قالوا : هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيبا ممتنعا قيل لهم : واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة ; وليس هو تركيبا ممتنعا وذلك أنه من المعلوم في صريح العقول أنه ليس معنى كون الشيء عالما هو معنى كونه قادرا ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالما قادرا ; فمن جوز أن تكون هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة ثم إنه متناقض فإنه إن جوز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا فيكون الوجود واحدا بالعين لا بالنوع وحينئذ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق يعدم بعدم وجوده ويوجد بعد عدمه : هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم وإذا قدر هذا كان الوجود الواجب موصوفا بكل تشبيه وتجسيم وكل نقص وكل عيب ; كما يصرح بذلك ( أهل وحدة الوجود الذين طردوا هذا الأصل الفاسد وحينئذ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير وهذا باب مطرد فإن كل واحد من النفاة لما أخبر به الرسول من الصفات : لا ينفي شيئا فرارا مما هو محذور إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فر منه فلا بد في آخر الأمر من أن يثبت موجودا واجبا قديما متصفا بصفات تميزه عن غيره ولا يكون فيها مماثلا لخلقه فيقال له : هكذا القول في جمع الصفات وكل ما تثبته من الأسماء والصفات : فلا بد أن يدل على قدر تتواطأ فيه المسميات ولولا ذلك لما فهم الخطاب ; ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه : أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
وهذا يتبين ( بالأصل الثاني وهو أن يقال : ( القول في الصفات كالقول في الذات , فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله . فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات . فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات فإذا قال السائل : كيف استوى على العرش ؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما رضي الله عنهما : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عن الكيفية بدعة لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه وكذلك إذا قال : كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ؟ قيل له : كيف هو ؟ فإذا قال : لا أعلم كيفيته قيل له : ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له ; فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وأنت لا تعلم كيفية ذاته وإذا كنت تقر بأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات : فإن من أثبت شيئا ونفى شيئا بالعقل - إذا - ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو طولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا : لم يجد بينهما فرقا ولهذا لا يوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض - الذين يوجبون فيما نفوه : إما التفويض ; وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ - قانون مستقيم . فإذا قيل لهم : لم تأولتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد ؟ لم يكن لهم جواب صحيح فهذا تناقضهم في النفي وكذا تناقضهم في الإثبات ; فإن من تأول النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر : لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه فإذا قال قائل : تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه : هو إرادته للثواب والعقاب ; كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط ولو فسر ذلك بمفعولاته وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فر منه فإن الفعل لا بد أن يقوم أولا بالفاعل والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه ويسخطه ويبغضه المثيب المعاقب فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثلوا وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات .

فصل

وأما المثلان المضروبان : فإن الله - سبحانه وتعالى - أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات : من أصناف المطاعم والملابس والمناكح والمساكن ; فأخبرنا أن فيها لبنا وعسلا وخمرا وماء ولحما وحريرا وذهبا وفضة وفاكهة وحورا وقصورا وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا وليست مماثلة لها ; بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله تعالى : فالخالق - سبحانه وتعالى - أعظم مباينة للمخلوقات منه مباينة المخلوق للمخلوق ومباينته لمخلوقاته : أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق وهذا بين واضح ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق : فالسلف والأئمة وأتباعهم : آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة وأن مباينة الله لخلقه أعظم والفريق الثاني : الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب والعقاب ونفوا كثيرا مما أخبر به من الصفات ; مثل طوائف من أهل الكلام والفريق الثالث : نفوا هذا وهذا كالقرامطة والباطنية والفلاسفة أتباع المشائين ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر , ثم إن كثيرا منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب ; فيجعلون الشرائع المأمور بها والمحظورات المنهي عنها : لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها كما يتأولون من الصلوات الخمس وصيام شهر رمضان وحج البيت فيقولون : إن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم , وإن صيام رمضان كتمان أسرارهم , وإن حج البيت السفر إلى شيوخهم ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل - صلوات الله عليهم - وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه وإلحاد في آيات الله وقد يقولون الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم : رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحظورات وقد يدخل في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب وهؤلاء الباطنية : هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى وما يحتج به على الملاحدة أهل الإيمان والإثبات : يحتج به كل من كان من أهل الإيمان والإثبات على من يشرك هؤلاء في بعض إلحادهم فإذا أثبت لله تعالى الصفات ونفى عنه مماثلة المخلوقات - كما دل على ذلك الآيات البينات - كان ذلك هو الحق الذي يوافق المعقول والمنقول ويهدم أساس الإلحاد والضلالات والله سبحانه لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه فإن الله لا مثيل له ; بل له " المثل الأعلى " فلا يجوز أن يشرك هو والمخلوقات في قياس تمثيل ولا في قياس شمول تستوي أفراده ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أولى به , وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه , فإذا كان المخلوق منزها عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم : فالخالق أولى أن ينزه عن مماثلة المخلوق , وإن حصلت موافقة في الاسم وهكذا القول في المثل الثاني . وهو أن الروح التي فينا - فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء وأنها تقبض من البدن وتسل منه كما تسل الشعرة من العجينة والناس مضطربون فيها ; فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءا من البدن أو صفة من صفاته كقول بعضهم : أنها النفس أو الريح التي تردد في البدن وقول بعضهم : إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن ومنهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود فيقولون : لا هي داخلة في البدن ولا خارجة ولا مباينة له ولا مداخلة له ولا متحركة ولا ساكنة ولا تصعد ولا تهبط ولا هي جسم ولا عرض وقد يقولون : أنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة وقد يقولون : أنها لا داخل العالم ولا خارجه ولا مباينة له ولا مداخلة وربما قالوا ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها مع تفسيرهم للجسم بما لا يقبل الإشارة الحسية فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع وإذا قيل لهم : إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل قالوا : بل هذا ممكن بدليل أن الكليات ممكنة موجودة وهي غير مشار إليها وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في العيان ; فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال واضطراب النفاة والمثبتة في الروح كثير وسبب ذلك أن الروح - التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة - ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها ; بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ وإطلاق القول عليها بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي فإن أهل اللغة يقولون : الجسم هو الجسد والبدن وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما ; ولهذا يقولون : الروح والجسم ; كما قال تعالى : { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم } وقال تعالى : { وزاده بسطة في العلم والجسم } وأما أهل الكلام : فمنهم من يقول الجسم هو الموجود ; ومنهم من يقول : هو القائم بنفسه ومنهم من يقول : هو المركب من الجواهر المفردة ومنهم من يقول : هو المركب من المادة والصورة وكل هؤلاء يقولون : إنه مشار إليه إشارة حسية ومنهم من يقول : ليس مركبا من هذا ولا من هذا بل هو مما يشار إليه ويقال : إنه هنا أو هناك ; فعلى هذا إن كانت الروح مما يشار إليها ويتبعها بصر الميت - كما قال صلى الله عليه وسلم : { أن الروح إذا خرجت تبعها البصر وأنها تقبض ويعرج بها إلى السماء } - كانت الروح جسما بهذا الاصطلاح والمقصود : أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سميعة بصيرة : تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات , والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها ; لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا . والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره . فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات : فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته ; وأهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها . فإذا كان من نفى صفات الروح جاحدا معطلا لها ومن مثلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلا ممثلا لها بغير شكلها وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما لها من الصفات : الخالق - سبحانه وتعالى - أولى أن يكون من نفى صفاته جاحدا معطلا ومن قاسه بخلقه جاهلا به ممثلا " وهو - سبحانه وتعالى - ثابت بحقيقة الإثبات مستحق لما له من الأسماء والصفات .

فصل

( وأما الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة :
القاعدة الأولى أن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه سميع بصير ونحو ذلك والنفي كقوله لا تأخذه سنة ولا نوم وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال ; لأن النفي المحض عدم محض ; والعدم المحض ليس بشيء وما ليس بشيء فهو كما قيل : ليس بشيء ; فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال . فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح كقوله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } إلى قوله : { ولا يؤوده حفظهما } فنفي السنة والنوم : يتضمن كمال الحياة والقيام ; فهو مبين لكمال أنه الحي القيوم وكذلك قوله : { ولا يؤوده حفظهما } أي لا يكرثه ولا يثقله وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها بخلاف المخلوق القادر إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة ومشقة فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته وكذلك قوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السموات والأرض وكذلك قوله : { ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } فإن نفي مس اللغوب الذي هو التعب والإعياء دل على كمال القدرة ونهاية القوة بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه وكذلك قوله : { لا تدركه الأبصار } إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ولم ينف مجرد الرؤية ; لأن المعدوم لا يرى وليس في كونه لا يرى مدح ; إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا وإنما المدح في كونه لا يحاط به وإن رئي ; كما أنه لا يحاط به وإن علم فكما أنه إذا علم لا يحاط به علما : فكذلك إذا رئي لا يحاط به رؤية فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحا وصفة كمال وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها وإذا تأملت ذلك : وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا هو مما لم يصف الله به نفسه فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب : لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا بل ولا موجودا وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش ويقولون : ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباينا للعالم ولا محايثا له ; إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم ; وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت ولهذا " قال محمود بن سبكتكين " لمن ادعى ذلك في الخالق : ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم . وكذلك كونه لا يتكلم أو لا ينزل ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال ; بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات فهذه الصفات : منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص فمن قال : لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم فهو بمنزلة من قال : لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له ومن قال : إنه ليس بحي ولا ميت ولا سميع ولا بصير ولا متكلم لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم . فإن قال : العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير قيل له : هذا اصطلاح اصطلحتموه وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام : يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصى موسى حية ابتلعت الحبال والعصي وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا ممن لا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها . فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس : أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس فإذا قيل : إن الباري لا يمكن اتصافه بذلك : كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك ; مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها . وهذا تشبيه بالجمادات ; لا بالحيوانات , فكيف من قال ذلك غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص كما أن إثباتها كمال فالحياة من حيث هي هي مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها صفة كمال , وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والفعل ونحو ذلك ; وما كان صفة كمال : فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به : لكان المخلوق أكمل منه .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
واعلم أن الجهمية المحضة كالقرامطة ومن ضاهاهم : ينفون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولون ليس بموجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي ومعلوم أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين . وآخرون وصفوه بالنفي فقط فقالوا ليس بحي ولا سميع ولا بصير ; وهؤلاء أعظم كفرا من أولئك من وجه وأولئك أعظم كفرا من هؤلاء من وجه فإذا قيل لهؤلاء هذا مستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت والصمم والبكم قالوا إنما يلزم ذلك لو كان قابلا لذلك وهذا الاعتذار يزيد قولهم فسادا وكذلك من ضاهى هؤلاء - وهم الذين يقولون : ليس بداخل العالم ولا خارجه إذا قيل هذا ممتنع في ضرورة العقل كما إذا قيل : ليس بقديم ولا محدث - ولا واجب ولا ممكن ولا قائم بنفسه ولا قائم بغيره قالوا هذا إنما يكون إذا كان قابلا لذلك والقبول إنما يكون من المتحيز فإذا انتفى التحيز انتفى قبول هذين المتناقضين . فيقال لهم علم الخلق بامتناع الخلو منه هذين النقيضين : هو علم مطلق لا يستثنى منه موجود والتحيز المذكور : إن أريد به كون الأحياز الموجودة تحيط به فهذا هو الداخل في العالم ; وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات ; أي مباين لها متميز عنها فهذا هو الخروج فالمتحيز يراد به تارة ما هو داخل العالم وتارة ما هو خارج العالم فإذا قيل ليس بمتحيز كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه , فهم غيروا العبارة ليوهموا من لا يفهم حقيقة قولهم أن هذا معنى آخر وهو المعنى الذي علم فساده بضرورة العقل ; كما فعل أولئك بقولهم ليس بحي ولا ميت ولا موجود ولا معدوم ولا عالم ولا جاهل .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
( فصل )
وأفسد من ذلك : ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك ويريدون الرد على اليهود : الذين يقولون إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة والذين يقولون بإلهية بعض البشر وأنه الله فإن كثيرا من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم والتحيز ونحو ذلك ويقولون لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسما أو متحيزا وذلك ممتنع وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم هؤلاء الملاحدة نفاة الأسماء والصفات فإن هذه الطريقة لا يحصل بها المقصود لوجوه : - ( أحدها أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فسادا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم ; فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام والدليل معرف للمدلول ومبين له ; فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى كما لا يفعل مثل ذلك في الحدود ( الوجه الثاني أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الصفات : يمكنهم أن يقولوا نحن لا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة الكلام وصفات الكمال فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحدا ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد وهذا في غاية الفساد ( الثالث ) أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة واتصافه بصفات الكمال واجب ثابت بالعقل والسمع فيكون ذلك دليلا على فساد هذه الطريقة ( الرابع ) : أن سالكي هذه الطريقة متناقضون فكل من أثبت شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات كما أن كل من نفى شيئا منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي . فمثبتة الصفات - كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر - إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة : هذا تجسيم ; لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بالجسم أو لأنا لا نعرف موصوفا بالصفات إلا جسما . قالت لهم المثبتة : وأنتم قد قلتم : إنه حي عليم قدير . وقلتم : ليس بجسم ; وأنتم لا تعلمون موجودا حيا عالما قادرا إلا جسما فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم فكذلك نحن وقالوا لهم : أنتم أثبتم حيا عالما قادرا ; بلا حياة ولا علم ولا قدرة وهذا تناقض يعلم بضرورة العقل ثم هؤلاء المثبتون إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء أو بالوجه واليد ونحو ذلك إذا قالوا : هذا يقتضي التجسيم لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم قالت لهم المثبتة : فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام وهذا هكذا ; فإذا كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك , وإن أمكن أن يوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك ; فالتفريق بينهما تفريق بين المتماثلين ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقا فاسدا : لم يسلكه أحد من السلف والأئمة فلم ينطق أحد منهم في حق الله بالجسم لا نفيا ولا إثباتا ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك لأنها عبارات مجملة لا تحق حقا ولا تبطل باطلا ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار : ما هو من هذا النوع ; بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة .

( فصل )

وأما في طرق الإثبات : فمعلوم أيضا أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف سبحانه من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه - مع نفي التشبيه وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه كما لو وصفه مفتر عليه بالبكاء والحزن والجوع والعطش مع نفي التشبيه . وكما لو قال المفتري : يأكل لا كأكل العباد ويشرب لا كشربهم ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم ; كما يقال يضحك لا كضحكهم ويفرح لا كفرحهم ويتكلم لا ككلامهم . ولجاز أن يقال : له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم كما قيل : له وجه لا كوجوههم ويدان لا كأيديهم . حتى يذكر المعدة والأمعاء والذكر وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها من الصفات : ما الفرق بين هذا وما أثبته إذا نفيت التشبيه وجعلت مجرد نفي التشبيه كافيا في الإثبات فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر فإن قال : العمدة في الفرق هو السمع فما جاء به السمع أثبته دون ما لم يجئ به السمع قيل له أولا : السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه فما أخبر به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات ; والخبر دليل على المخبر عنه والدليل لا ينعكس ; فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتا في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع ; إذا لم يكن نفاه ومعلوم أن السمع لم ينف هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلا بد من ذكر ما ينفيها من السمع وإلا فلا يجوز حينئذ نفيها كما لا يجوز إثباتها وأيضا : فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى فإن الأمور المتماثلة في الجواز والوجوب والامتناع : يمتنع اختصاص بعضها دون بعض في الجواز والوجوب والامتناع فلا بد من اختصاص المنفي عن المثبت بما يخصه بالنفي ولا بد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت وقد يعبر عن ذلك بأن يقال : لا بد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله كما أنه لا بد من أمر يثبت له ما هو ثابت وإن كان السمع كافيا كان مخبرا عما هو الأمر عليه في نفسه فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا ؟ فيقال : كلما نفي صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر فإذا علم أنه موجود واجب الوجود بنفسه وأنه قديم واجب القدم : علم امتناع العدم والحدوث عليه وعلم أنه غني عما سواه فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه لنفسه : ليس هو موجودا بنفسه بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسه فلا يوجد إلا به . وهو سبحانه غني عن كل ما سواه فكل ما نافى غناه فهو منزه عنه ; وهو سبحانه قدير قوي فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه وهو سبحانه حي قيوم فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه كما ينفي عنه المثل والكفؤ فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده والعقل يعرف نفي ذلك كما يعرف إثبات ضده فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه . فطرق العلم بنفي ما ينزه عنه الرب متسعة لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير : الذين تناقضوا في ذلك وفرقوا بين المتماثلين حتى أن كل من أثبت شيئا احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي فقالوا : لا يقال لا موجود ولا ليس بموجود ولا حي ولا ليس بحي ; لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم فلزم نفي النقيضين : وهو أظهر الأشياء امتناعا ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات والممتنعات والجمادات : أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا وقد تقدم أن ما ينفى عنه - سبحانه - النفي المتضمن للإثبات إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال فإن المعدوم يوصف بالنفي والمعدوم لا يشبه الموجودات وليس هذا مدحا له لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقا كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه الرب تبارك وتعالى والنقص ضد الكمال ; وذلك مثل أنه قد علم أنه حي والموت ضد ذلك فهو منزه عنه ; وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة فإن النوم أخو الموت وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار إلى موجود غيره كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك تتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه . وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته وأفعاله فهو مفتقر إليه ليس مستغنيا عنه بنفسه فكيف من يأكل ويشرب والآكل والشارب أجوف والمصمت الصمد أكمل من الآكل والشارب ولهذا كانت الملائكة صمدا لا تأكل ولا تشرب وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله تعالى : { الله الصمد } والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب وهذه السورة هي نسب الرحمن أو هي الأصل في هذا الباب وقال في حق المسيح وأمه : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } فجعل ذلك دليلا على نفي الألوهية فدل ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى والكبد والطحال ونحو ذلك : هي أعضاء الأكل والشرب فالغني المنزه عن ذلك : منزه عن آلات ذلك بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل وهو سبحانه موصوف بالعمل والفعل ; إذ ذاك من صفات الكمال ; فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل . وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه وكذلك البكاء والحزن : هو مستلزم الضعف والعجز الذي ينزه عنه سبحانه ; بخلاف الفرح والغضب : فإنه من صفات الكمال فكما يوصف بالقدرة دون العجز وبالعلم دون الجهل وبالحياة دون الموت وبالسمع دون الصمم وبالبصر دون العمى وبالكلام دون البكم : فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن وبالضحك دون البكاء ونحو ذلك وأيضا فقد ثبت بالعقل ما أثبته السمع من أنه سبحانه لا كفؤ له ولا سمي له وليس كمثله شيء فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات فيعلم قطعا أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم ولا غير ذلك بل يعلم أن حقيقته عن مماثلات شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر فإن الحقيقتين إذا تماثلتا : جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى ووجب لها ما وجب لها . فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدث المخلوق من العدم والحاجة وأن يثبت لهذا ما يثبت لذلك من الوجوب والفناء فيكون الشيء الواحد واجبا بنفسه غير واجب بنفسه موجودا معدوما وذلك جمع بين النقيضين وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون : بصر كبصري أو يد كيدي ونحو ذلك تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له ولا ما ينزه عنه واستيفاء طرق ذلك ; لأن هذا مبسوط في غير هذا الموضع . وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه وما سكت عنه السمع نفيا وإثباتا ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه . فنثبت ما علمنا ثبوته وننفي ما علمنا نفيه ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته والله أعلم .
( ا ) القاعدة السابعة أن يقال : إن كثيرا مما دل عليه " السمع " يعلم " بالعقل " أيضا والقرآن يبين ما يستدل به العقل ويرشد إليه وينبه عليه ; كما ذكر الله ذلك في غير موضع . فإنه سبحانه وتعالى : بين من الآيات الدالة عليه وعلى وحدانيته وقدرته وعلمه وغير ذلك : ما أرشد العباد إليه ودلهم عليه ; كما بين أيضا ما دل على نبوة أنبيائه ; وما دل على المعاد وإمكانه فهذه المطالب هي شرعية من جهتين : - من جهة أن الشارع أخبر بها . ومن جهة أنه بين الأدلة العقلية التي يستدل بها عليها والأمثال المضروبة في القرآن هي " أقيسة عقلية " وقد بسط في غير هذا الموضع وهي أيضا عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل أيضا وكثير من أهل الكلام يسمي هذه " الأصول العقلية " لاعتقاده أنها ( بـ ) لا تعلم إلا بالعقل فقط فإن السمع هو مجرد إخبار الصادق وخبر الصادق الذي هو النبي لا يعلم صدقه إلا بعد العلم بهذه الأصول بالعقل ثم إنهم قد يتنازعون في الأصول التي تتوقف إثبات النبوة عليها . " فطائفة " تزعم : أن تحسين العقل وتقبيحه داخل في هذه الأصول وأنه لا يمكن إثبات النبوة بدون ذلك ويجعلون التكذيب بالقدر مما ينفيه العقل و " طائفة " تزعم أن حدوث العالم من هذه الأصول وأن العلم بالصانع لا يمكن إلا بإثبات حدوثه وإثبات حدوثه لا يمكن إلا بحدوث الأجسام , وحدوثها يعلم إما بحدوث الصفات , وإما بحدوث الأفعال القائمة بها فيجعلون نفي أفعال الرب ونفي صفاته من الأصول التي لا يمكن إثبات النبوة إلا بها ثم هؤلاء لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على نقيض قولهم لظنهم أن العقل عارض السمع - وهو أصله - فيجب تقديمه عليه والسمع : إما أن يؤول وإما أن يفوض وهم أيضا عند التحقيق لا يقبلون الاستدلال بالكتاب والسنة على وفق قولهم لما تقدم وهؤلاء يضلون من وجوه : - ( ج ) ( منها ) : ظنهم أن السمع بطريق الخبر تارة وليس الأمر كذلك بل القرآن بين من الدلائل العقلية - التي تعلم بها المطالب الدينية - ما لا يوجد مثله في كلام أئمة النظر فتكون هذه المطالب : شرعية عقلية و ( منها : ظنهم أن الرسول لا يعلم صدقه إلا بالطريق المعينة التي سلكوها وهم مخطئون قطعا في انحصار طريق تصديقه فيما ذكروه فإن طرق العلم بصدق الرسول كثيرة كما قد بسط في غير هذا الموضع و ( منها : ظنهم أن تلك الطريق التي سلكوها صحيحة وقد تكون باطلة ( ومنها : ظنهم أن ما عارضوا به السمع معلوم بالعقل ويكونون غالطين في ذلك ; فإنه إذا وزن بالميزان الصحيح وجد ما يعارض الكتاب والسنة من المجهولات ; لا من المعقولات وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أن من " صفات الله تعالى " ما قد يعلم بالعقل كما يعلم أنه عالم وأنه قادر وأنه حي ; كما أرشد إلى ذلك قوله : { ألا يعلم من خلق ؟ } وقد اتفق النظار من مثبتة الصفات : على أنه يعلم بالعقل ( عند المحققين أنه حي ; عليم ; قدير ; مريد ; وكذلك السمع ; والبصر والكلام . يثبت ( د ) بالعقل عند المحققين بل وكذلك الحب والرضا والغضب . يمكن إثباته بالعقل وكذلك علوه على المخلوقات ومباينته لها مما يعلم بالعقل كما أثبتته بذلك الأئمة : مثل أحمد بن حنبل وغيره . ومثل : عبد العالي المكي وعبد الله بن سعيد بن كلاب ; بل وكذلك إمكان الرؤية : يثبت بالعقل , لكن منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته . وهذه الطريق أصح من تلك وقد يمكن إثبات الرؤية بغير هذين الطريقين بتقسيم دائر بين النفي والإثبات كما يقال : إن الرؤية لا تتوقف إلا على أمور وجودية فإن ما لا يتوقف إلا على أمور وجودية يكون الموجود الواجب القديم : أحق به من الممكن المحدث والكلام على هذه الأمور مبسوط في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أن من الطرق التي يسلكها الأئمة ومن اتبعهم من نظار السنة في هذا الباب : أنه لو لم يكن موصوفا بإحدى الصفتين المتقابلتين : للزم اتصافه بالأخرى ; فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت ; ولو لم يوصف ( هـ ) بالقدرة لوصف بالعجز ; ولو لم يوصف بالسمع والبصر والكلام لوصف بالصمم والخرس والبكم وطرد ذلك أنه لو لم يوصف بأنه مباين للعالم لكان داخلا فيه . فسلب إحدى الصفتين المتقابلتين عنه يستلزم ثبوت الأخرى وتلك صفة نقص ينزه عنها الكامل من المخلوقات فتنزيه الخالق عنها أولى . وهذه الطريق غير قولنا إن هذه صفات كمال يتصف بها المخلوق ; فالخالق أولى فإن طريق إثبات صفات الكمال بأنفسها مغاير لطريق إثباتها بنفي ما يناقضها وقد اعترض طائفة من النفاة على هذه الطريقة باعتراض مشهور لبسوا به على الناس ; حتى صار كثير من أهل الإثبات يظن صحته ويضعف الإثبات به مثل ما فعل من فعل ذلك من النظار حتى الأمادي أمسى مع أنه أصل قول القرامطة الباطنية وأمثالهم من الجهمية . فقالوا : القول بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات ; كالسمع والبصر والكلام مع كونه حيا : لكان متصفا بما يقابلها فالتحقيق فيه متوقف على بيان حقيقة ( المتقابلين . وبيان أقسامهما . ) فنقول : ( و ) أما المتقابلان فلا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة وهو إما ألا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب : أو يصح ذلك في أحد الطرفين ; ولأنهما متقابلان بالسلب والإيجاب وهو تقابل التناقض ; والتناقض هو اختلاف القضيتين بالسلب والإيجاب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا في الكذب لذاتيهما ; كقولنا : زيد حيوان زيد ليس بحيوان . ومن خاصة استحالة اجتماع طرفيه في الصدق والكذب : أنه لا واسطة بين الطرفين ولا استحالة لأحد الطرفين من جهة واحدة ولا يصح اجتماعهما في الصدق ولا في الكذب ; إذ كون الموجود واجبا بنفسه وممكنا بنفسه . لا يجتمعان ولا يرتفعان فإذا جعلتم هذا التقسيم : وهما " النقيضان ما لا يجتمعان ولا يرتفعان " فهذان لا يجتمعان ولا يرتفعان وليس هما السلب والإيجاب فلا يصح حصر النقيضين - اللذين لا يجتمعان ولا يرتفعان - في السلب والإيجاب وحينئذ فقد ثبت وصفان - شيئان - لا يجتمعان ولا يرتفعان ; وهو خارج عن الأقسام الأربعة على هذا فمن جعل الموت معنى وجوديا : فقد يقول إن كون الشيء لا يخلو من الحياة والموت هو من هذا الباب ; وكذلك العلم والجهل والصمم والبكم ونحو ذلك ( ز ) ( الوجه الثاني ) : أن يقال : هذا القسيم يتداخل ; فإن العدم والملكة : يدخل في السلب والإيجاب وغايته أنه نوع منه والمتضايفان يدخلان في المتضادين إنما هما نوع منه فإن قال : أعني بالسلب والإيجاب : فلا يدخل في العدم والملكة - وهو أن يسلب عن الشيء ما ليس بقابل له - ولهذا جعل من خواصه أنه لا استحالة لأحد طرفيه . إلى آخره قيل له : عن هذا جوابان : - أحدهما : أن غاية هذا أن السلب ينقسم إلى نوعين : أحدهما : سلب ما يمكن اتصاف الشيء به والثاني : سلب ما لا يمكن اتصافه به . فيقال : الأول إثبات ما يمكن اتصافه ولا يجب والثاني : إثبات ما يجب اتصافه به ; فيكون المراد به سلب ممتنع . وإثبات الواجب . كقولنا زيد حيوان فإن هذا إثبات واجب , وزيد ليس بحجر فإن هذا سلب ممتنع وعلى هذا التقدير فالممكنات التي تقبل الوجود والعدم - كقولنا المثلث إما موجود وإما معدوم - يكون من قسم العدم والملكة وليس كذلك . فإن ( ح ) ذلك القسم يخلو فيه الموصوف الواحد على المتقابلين جميعا ولا يخلو شيء من الممكنات عن الوجود والعدم . وأيضا فإنه على هذا التقدير - فصفات الرب كلها واجبة له - فإذا قيل إما أن يكون حيا أو عليما أو سميعا أو بصيرا أو متكلما ; أو لا يكون : كان مثل قولنا : إما أن يكون موجودا ; وإما أن لا يكون . وهذا متقابل تقابل السلب والإيجاب فيكون الآخر مثله وبهذا يحصل المقصود . فإن قيل : هذا لا يصح حتى يعلم إمكان قبوله لهذه الصفات : قيل له هذا إنما اشتركا فيما أمكن أن يثبت له ويزول كالحيوان ; فأما الرب تعالى : فإنه بتقدير ثبوتها له فهي واجبة ضرورة ; فإنه لا يمكن اتصافه بها وبعدمها باتفاق العقلاء . فإن ذلك يوجب أن يكون تارة حيا وتارة ميتا وتارة أصم وتارة سميعا وهذا يوجب اتصافه بالنقائص ; وذلك منتف قطعا ; بخلاف من نفاها وقال : إن نفيها ليس بنقص لظنه أنه لا يقبل الاتصاف بها فإن من قال هذا لا يمكنه أن يقول : إنه مع إمكان الاتصاف بها لا يكون نفيها نقصا فإن فساد هذا معلوم بالضرورة . وقيل له أيضا : أنت في تقابل السلب والإيجاب إن اشترطت العلم بإمكان الطرفين : لم يصح أن تقول واجب الوجود ; إما موجود وإما معدوم ; ( ط ) والممتنع الوجود إما موجود وإما معدوم ; لأن أحد الطرفين هنا معلوم الوجود . والآخر معلوم الامتناع وإن اشترطت العلم بإمكان أحدهما صح أن تقول إما أن يكون حيا وإما ألا يكون ; وإما أن يكون سميعا بصيرا وإما أن لا يكون ; لأن النفي إن كان ممكنا صح التقسيم وإن كان ممتنعا : كان الإثبات واجبا وحصل المقصود فإن قيل : هذا يفيد أن هذا التأويل يقابل السلب والإيجاب ونحن نسلم ذلك كما ذكر في الاعتراض ; لكن غايته : أنه إما سميع وإما ليس بسميع وإما بصير وإما ليس ببصير ; والمنازع يختار النفي فيقال له : على هذا التقدير : فالمثبت واجب ; والمسلوب ممتنع . فإما أن تكون هذه الصفات واجبة له وإما أن تكون ممتنعة عليه والقول بالامتناع لا وجه له ; إذ لا دليل عليه بوجه . بل قد يقال : نحن نعلم بالاضطرار بطلان الامتناع ; فإنه لا يمكن أن يستدل على امتناع ذلك إلا بما يستدل به على إبطال أصل الصفات ; وقد علم فساد ذلك وحينئذ فيجب القول بوجوب هذه الصفات له . واعلم أن هذا يمكن أن يجعل طريقة مستقلة في إثبات صفات الكمال له فإنها إما واجبة له وإما ممتنعة عليه والثاني باطل فتعين الأول ; لأن كونه قابلا ( ى ) لها خاليا عنها يقتضي أن يكون ممكنا وذلك ممتنع في حقه وهذه طريقة معروفة لمن سلكها من النظار ( الجواب الثاني أن يقال : فعلى هذا إذا قلنا زيد إما عاقل وإما غير عاقل ; وإما عالم وإما ليس بعالم وإما حي وإما غير حي وإما ناطق وإما غير ناطق . وأمثال ذلك مما فيه سلب الصفة عن محل قابل لها لم يكن هذا داخلا في قسم تقابل السلب والإيجاب ومعلوم أن هذا خلاف المعلوم بالضرورة وخلاف اتفاق العقلاء وخلاف ما ذكروه في المنطق وغيره . ومعلوم أن مثل هذه القضايا تتناقض بالسلب والإيجاب على وجه يلزم منه صدق إحداهما كذب الأخرى فلا يجتمعان في الصدق والكذب فهذه شروط التناقض موجود فيها . وغاية فرقهم أن يقولوا إذا قلنا : هو إما بصير وإما ليس ببصير : كان إيجابا وسلبا وإذا قلنا : إما بصير ; وإما أعمى : كان ملكة وعدما وهذه منازعة لفظية وإلا فالمعنى في الموضعين سواء . فعلم أن ذلك نوع من تقابل السلب والإيجاب وهذا يبطل قولهم في حد ذلك التقابل : أنه لا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر فإن الاستحالة هنا ممكنة كإمكانها إذا عبر بلفظ العمى ( الوجه الثالث أن يقال : التقسيم الحاصر أن يقال : المتقابلان إما أن ( ك ) يختلفا بالسلب والإيجاب وإما أن لا يختلفا بذلك بل يكونان إيجابيين أو سلبيين . فالأول هو النقيضان . والثاني إما أن يمكن خلو المحل عنهما وإما أن لا يمكن والأول : هما الضدان كالسواد والبياض . والثاني : هما في معنى النقيضين وإن كانا ثبوتيين كالوجوب والإمكان والحدوث والقدم والقيام بالنفس والقيام بالغير والمباينة والمجانبة ونحو ذلك ومعلوم أن الحياة والموت والصمم والبكم والسمع : ليس مما إذا خلا الموصوف عنهما وصف بوصف ثالث بينهما كالحمرة بين السواد والبياض فعلم أن الموصوف لا يخلو عن أحدهما فإذا انتفى تعين الآخر ( الوجه الرابع : المحل الذي لا يقبل الاتصاف بالحياة والعلم والقدرة والكلام ونحوها : أنقص من المحل الذي يقبل ذلك ويخلو عنها ولهذا كان الحجر ونحوه أنقص من الحي الأعمى وحينئذ فإذا كان البارئ منزها عن نفي هذه الصفات ; مع قبوله لها فتنزيهه عن امتناع قبوله لها أولى وأحرى إذ بتقدير قبوله لها يمتنع منع المتقابلين واتصافه بالنقائص ممتنع فيجب اتصافه بصفات الكمال وبتقدير عدم قبوله ( ل ) لا يمكن اتصافه لا بصفات الكمال ولا بصفات النقص وهذا أشد امتناعا فثبت أن اتصافه بذلك ممكن وأنه واجب له وهو المطلوب . وهذا في غاية الحسن ( الوجه الخامس . أن يقال : أنتم جعلتم تقابل العدم والملكة فيما يمكن اتصافه بثبوت فإذا عنيتم بالإمكان الإمكان الخارجي - هو أن يعلم ثبوت ذلك في الخارج - كان هذا باطلا لوجهين : - أحدهما : أنه يلزمكم أن تكون الجامدات لا توصف بأنها لا حية ولا ميتة ولا ناطقة ولا صامتة وهو قولكم - لكن هذا اصطلاح محض - وألا تصفوا هذه الجمادات بالموت والصمت وقد جاء القرآن بذلك . قال تعالى : { والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون } فهذا في " الأصنام " وهي من الجمادات وقد وصفت بالموت والعرب تقسم الأرض إلى الحيوان والموتان قال أهل اللغة : الموتان بالتحريك خلاف الحيوان يقال : اشتر الموتان ولا تشتر الحيوان أي اشتر الأرض والدور ; ولا تشتر الرقيق والدواب ; وقالوا أيضا : الموات ما لا روح فيه فإن قيل : فهذا إنما يسمى مواتا باعتبار قوله " للحياة " التي هي إحياء الأرض : قيل وهذا يقتضي أن الحياة أعم من حياة الحيوان وأن الجماد يوصف بالحياة إذا كان قابلا للزرع والعمارة ; والخرس ضد النطق والعرب تقول ( م ) " لبن أخرس " أي خاثر لا صوت له في الإناء " وسحابة خرساء " ليس فيها رعد ولا برق " وعلم أخرس " إذا لم يسمع له في الجبل صوت صدى " ويقال : " كتيبة خرساء " قال أبو عبيدة : هي التي صمتت من كثرة الدروع ليس له فقاقع وأبلغ من ذلك الصمت والسكوت ; فإنه يوصف به القادر على النطق إذا تركه ; بخلاف الخرس فإنه عجز عن النطق . ومع هذا فالعرب تقول : " ما له صامت ولا ناطق " فالصامت الذهب والفضة والناطق الإبل والغنم فالصامت من اللبن : الخاثر والصموت : الدرع التي صمت إذا لم يسمع له صوت . ويقولون : دابة عجماء وخرساء لما لا تنطق ولا يمكن منها النطق في العادة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : { العجماء جبار } وكذلك في " العمياء " تقول العرب : عمى الموج يعمي عما إذا رمى بالقذى والزبد ; و " الأعميان " السيل والجمل الهائج . وعمى عليه الأمر إذا التبس ومنه قوله تعالى : { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } وهذه الأمثلة قد يقال في بعضها إنه عدم ما يقبل المحل الاتصاف به كالصوت ; ولكن فيها ما لا يقبل كموت الأصنام . الثاني : أن الجامدات يمكن اتصافها بذلك فإن الله سبحانه قادر أن يخلق في الجمادات حياة كما جعل عصى موسى حية تبتلع الحبال والعصي - وإذا [ كان ] ( ن ) في إمكان العادات : كان ذلك مما قد علم بالتواتر - وأنتم أيضا قائلون به في مواضع كثيرة وإذا كان الجمادات يمكن اتصافها بالحياة وتوابع الحياة ثبت أن جميع الموجودات يمكن اتصافها بذلك فيكون الخالق أولى بهذا الإمكان وإن عنيتم الإمكان الذهني - وهو عدم العلم بالامتناع - فهذا حاصل في حق الله فإنه لا يعلم امتناع اتصافه بالسمع والبصر والكلام ( الوجه السادس أن يقال : هب أنه لا بد من العلم بالإمكان الخارجي فإمكان الوصف للشيء يعلم تارة بوجوه له أو بوجوده لنظيره أو بوجوده لما هو الشيء أولى بذلك منه ومعلوم أن الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام : ثابت للموجودات المخلوقة وممكن لها . فإمكانها للخالق تعالى أولى وأحرى ; فإنها صفات كمال . وهو قابل للاتصاف بالصفات ; وإذا كانت ممكنة في حقه فلو لم يتصف بها لاتصف بأضدادها ( الوجه السابع أن يقال : مجرد سلب هذه الصفات نقص لذاته سواء سميت عمى وصمما وبكما أو لم تسم . والعلم بذلك ضروري فأما إذا قدرنا موجودين أحدهما يسمع ويبصر ويتكلم والآخر ليس كذلك : كان الأول أكمل من الثاني ولهذا عاب الله سبحانه من عبد ما تنتفي فيه هذه الصفات ; فقال تعالى عن ( 88 ) إبراهيم الخليل : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ؟ } وقال أيضا في قصته : { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } وقال تعالى عنه : { هل يسمعونكم إذ تدعون } { أو ينفعونكم أو يضرون } { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } { قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وكذلك في قصة موسى في العجل : { ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين } وقال تعالى : { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم } ؟ ! فقابل بين الأبكم العاجز وبين الآمر بالعدل : الذي هو على صراط مستقيم .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
فصل
وأما الأصل الثاني ( وهو التوحيد في العبادات ) المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعا . فنقول : لا بد من الإيمان بخلق الله وأمره فيجب الإيمان بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه على كل شيء قدير وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله وقد علم ما سيكون قبل أن يكون وقدر المقادير وكتبها حيث شاء كما قال تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء } . ويجب الإيمان بأن الله أمر بعبادته وحده لا شريك له كما خلق الجن والإنس لعبادته وبذلك أرسل رسله وأنزل كتبه وعبادته تتضمن كمال الذل والحب له وذلك يتضمن كمال طاعته { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقد قال تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله } وقال تعالى : { إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم } وقال تعالى : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ؟ } { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال تعالى : { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون } فأمر الرسل بإقامة الدين وأن لا يتفرقوا فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات وإن أولى الناس بابن مريم لأنا ; إنه ليس بيني وبينه نبي } وهذا الدين هو دين الإسلام الذي لا يقبل الله دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام قال الله تعالى عن نوح { واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم } إلى قوله : { وأمرت أن أكون من المسلمين } . وقال عن إبراهيم : { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ؟ } إلى قوله ; { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } إلى قوله : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } وقال عن موسى : { يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين } وقال في خبر المسيح : { وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون } وقال فيمن تقدم من الأنبياء : { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } وقال عن بلقيس أنها قالت : { رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين } فالإسلام يتضمن الاستسلام لله وحده ; فمن استسلم له ولغيره كان مشركا ومن لم يستسلم له كان مستكبرا عن عبادته والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده . فهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره ; وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بفعل ما أمر به في ذلك الوقت ; فإذا أمر في أول الأمر باستقبال الصخرة ثم أمرنا ثانيا باستقبال الكعبة : كان كل من الفعلين حين أمر به داخلا في الإسلام فالدين هو الطاعة والعبادة له في الفعلين ; وإنما تنوع بعض صور الفعل وهو وجه المصلى فكذلك الرسل دينهم واحد وإن تنوعت الشرعة والمنهاج والوجه والمنسك ; فإن ذلك لا يمنع أن يكون الدين واحدا كما لم يمنع ذلك في شريعة الرسول الواحد والله تعالى جعل من دين الرسل : أن أولهم يبشر بآخرهم ويؤمن به وآخرهم يصدق بأولهم ويؤمن به قال الله تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } قال ابن عباس : لم يبعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وقال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } وجعل الإيمان متلازما وكفر من قال : إنه آمن ببعض وكفر ببعض قال الله تعالى : { إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا } { أولئك هم الكافرون حقا } وقال تعالى : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب } إلى قوله : { تعملون } وقد قال لنا : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } فأمرنا أن نقول : آمنا بهذا كله ونحن له مسلمون فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقر بما جاء به لم يكن مسلما ولا مؤمنا ; بل يكون كافرا وإن زعم أنه مسلم أو مؤمن . كما ذكروا أنه لما أنزل الله تعالى : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } قالت اليهود والنصارى : فنحن مسلمون : فأنزل الله : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } فقالوا : لا نحج فقال تعالى : { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } فإن الاستسلام لله لا يتم إلا بالإقرار بما له على عباده من حج البيت ; كما قال صلى الله عليه وسلم : " { بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدا رسول الله , وإقام الصلاة , وإيتاء الزكاة , وصوم رمضان , وحج البيت } ولهذا لما وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة أنزل الله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } وقد تنازع الناس فيمن تقدم من أمة موسى وعيسى هل هم مسلمون أم لا ؟ " وهو نزاع لفظي " فإن الإسلام الخاص الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم المتضمن لشريعة القرآن : ليس عليه إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام اليوم عند الإطلاق يتناول هذا وأما الإسلام العام المتناول لكل شريعة بعث الله بها نبيا فإنه يتناول إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء .
ورأس الإسلام مطلقا شهادة أن لا إله إلا الله وبها بعث جميع الرسل كما قال تعالى { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } وقال عن الخليل : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } وقال تعالى عنه : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين } وقال تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله } وقال { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون } ؟ وذكر عن رسله : كنوح وهود وصالح وغيرهم أنهم قالوا لقومهم : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقال عن أهل الكهف : { إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } إلى قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } وقد قال سبحانه : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ذكر ذلك في موضعين من كتابه وقد بين في كتابه الشرك بالملائكة , والشرك بالأنبياء , والشرك بالكواكب , والشرك بالأصنام - وأصل الشرك الشرك بالشيطان - فقال عن النصارى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وقال تعالى : { وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب } { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } وقال تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله } إلى قوله : { ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } ؟ فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر ومعلوم أن أحدا من الخلق لم يزعم أن الأنبياء والأحبار والرهبان والمسيح ابن مريم شاركوا الله في خلق السموات والأرض . بل ولا زعم أحد من الناس أن العالم له صانعان متكافئان في الصفات والأفعال . بل ولا أثبت أحد من بني آدم إلها مساويا لله في جميع صفاته بل عامة المشركين بالله : مقرون بأنه ليس شريكه مثله بل عامتهم يقرون أن الشريك مملوك له سواء كان ملكا أو نبيا أو كوكبا أو صنما ; كما كان مشركو العرب يقولون في تلبيتهم : " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك " فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد وقال : " { لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك } وقد ذكر أرباب المقالات : ما جمعوا من مقالات الأولين والآخرين في الملل والنحل والآراء والديانات فلم ينقلوا عن أحد إثبات شريك مشارك له في خلق جميع المخلوقات ولا مماثل له في جميع الصفات ; بل من أعظم ما نقلوا في ذلك قول الثنوية الذين يقولون بالأصلين " النور " و " الظلمة " وأن النور خلق الخير , والظلمة خلقت الشر ثم ذكروا لهم في الظلمة قولين : أحدهما : أنها محدثة فتكون من جملة المخلوقات له والثاني : أنها قديمة لكنها لم تفعل إلا الشر فكانت ناقصة في ذاتها وصفاتها ومفعولاتها عن النور وقد أخبر سبحانه عن المشركين من إقرارهم بأن الله خالق المخلوقات ما بينه في كتابه فقال : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } { سيقولون لله قل أفلا تتقون } إلى قوله { فأنى تسحرون ؟ } إلى قوله { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } وقال : { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } وبهذا وغيره : يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر : غايتهم أن يجعلوا التوحيد ( ثلاثة أنواع ) . فيقولون : هو واحد في ذاته لا قسيم له , وواحد في صفاته لا شبيه له , وواحد في أفعاله لا شريك له وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث وهو " توحيد الأفعال " وهو أن خالق العالم واحد وهم يحتجون على ذلك بما يذكرونه من دلالة التمانع وغيرها ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب , وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله حتى قد يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع ومعلوم أن المشركين من العرب الذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم أولا : لم يكونوا يخالفونه في هذا بل كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء حتى إنهم كانوا يقرون بالقدر أيضا وهم مع هذا مشركون فقد تبين أن ليس في العالم من ينازع في أصل هذا الشرك ; ولكن غاية ما يقال : إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم ; لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا إنهم خلقوا أفعالهم وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون أن بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور هم مع الإقرار بالصانع يجعلون هذه الفاعلات مصنوعة مخلوقة لا يقولون إنها غنية عن الخالق مشاركة له في الخلق فأما من أنكر الصانع فذاك جاحد معطل للصانع كالقول الذي أظهر فرعون والكلام الآن مع المشركين بالله المقرين بوجوده فإن هذا التوحيد الذي قرروه لا ينازعهم فيه هؤلاء المشركون بل يقرون به مع أنهم مشركون كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع وكما علم بالاضطرار من دين الإسلام وكذلك " النوع الثاني " - وهو قولهم : لا شبيه له في صفاته - فإنه ليس في الأمم من أثبت قديما مماثلا له في ذاته سواء قال إنه يشاركه . أو قال : إنه لا فعل له ; بل من شبه به شيئا من مخلوقاته فإنما يشبهه به في بعض الأمور وقد علم بالعقل امتناع أن يكون له مثل في المخلوقات يشاركه فيما يجب أو يجوز أو يمتنع عليه ; فإن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين كما تقدم وعلم أيضا بالعقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما فلا بد بينهما من قدر مشترك كاتفاقهما في مسمى الوجود والقيام بالنفس والذات ونحو ذلك فإن نفي ذلك يقتضي التعطيل المحض وإنه لا بد من إثبات خصائص الربوبية وقد تقدم الكلام على ذلك ثم إن الجهمية من المعتزلة وغيرهم أدرجوا نفي الصفات في مسمى التوحيد فصار من قال : إن لله علما أو قدرة أو إنه يرى في الآخرة أو إن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق يقولون : إنه مشبه ليس بموحد وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فنفوا أسماءه الحسنى وقالوا : من قال إن الله عليم قدير عزيز حكيم : فهو مشبه ليس بموحد وزاد عليهم غلاة الغلاة وقالوا : لا يوصف بالنفي ولا الإثبات ; لأن في كل منهما تشبيها له وهؤلاء كلهم وقعوا من جنس التشبيه فيما هو شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات والمعدومات والجمادات فرارا من تشبيههم - بزعمهم - له بالأحياء ومعلوم أن هذه الصفات الثابتة لله لا تثبت له على حد ما يثبت لمخلوق أصلا وهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فلا فرق بين إثبات الذات وإثبات الصفات ; فإذا لم يكن في إثبات الذات إثبات مماثلة للذوات : لم يكن في إثبات الصفات إثبات مماثلة له في ذلك فصار هؤلاء الجهمية المعطلة يجعلون هذا توحيدا ; ويجعلون مقابل ذلك التشبيه , ويسمون أنفسهم الموحدين وكذلك " النوع الثالث " وهو قولهم : هو واحد لا قسيم له في ذاته أو لا جزء له أو لا بعض له ; لفظ مجمل فإن الله سبحانه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ; فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء ; لكنهم يدرجون في هذا اللفظ نفي علوه على عرشه ومباينته لخلقه وامتيازه عنهم ونحو ذلك من المعاني المستلزمة لنفيه وتعطيله ويجعلون ذلك من التوحيد فقد تبين أن ما يسمونه توحيدا : فيه ما هو حق , وفيه ما هو باطل ولو كان جميعه حقا ; فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ; بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله وليس المراد ( بالإله هو القادر على الاختراع كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين حيث ظنوا أن الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو . فإن المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه بل الإله الحق هو الذي يستحق بأن يعبد فهو إله بمعنى مألوه ; لا إله بمعنى آله ; والتوحيد أن يعبد الله وحده لا شريك له والإشراك أن يجعل مع الله إلها آخر وإذا تبين أن غاية ما يقرره هؤلاء النظار ; أهل الإثبات للقدر المنتسبون إلى السنة إنما هو توحيد الربوبية وأن الله رب كل شيء ومع هذا فالمشركون كانوا مقرين بذلك مع أنهم مشركون وكذلك طوائف من أهل التصوف والمنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد : غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه لا سيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما فضلا عن أن يكون وليا لله أو من سادات الأولياء وطائفة من أهل التصوف والمعرفة : يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم المباين لمخلوقاته , وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات فيدخلون في التعطيل مع هذا , وهذا شر من حال كثير من المشركين وكان جهم ينفي الصفات ويقول بالجبر فهذا تحقيق قول جهم لكنه إذا أثبت الأمر والنهي والثواب والعقاب : فارق المشركين من هذا الوجه لكن جهما ومن اتبعه يقول بالإرجاء ; فيضعف الأمر والنهي والثواب والعقاب عنده والنجارية والضرارية وغيرهم : يقربون من جهم في مسائل القدر والإيمان مع مقاربتهم له أيضا في نفي الصفات .
والكلابية والأشعرية : خير من هؤلاء في باب الصفات فإنهم يثبتون لله الصفات العقلية , وأئمتهم يثبتون الصفات الخبرية في الجملة كما فصلت أقوالهم في غير هذا الموضع وأما في باب القدر ومسائل الأسماء والأحكام فأقوالهم متقاربة . والكلابية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب الذي سلك الأشعري خطته وأصحاب ابن كلاب كالحارث المحاسبي , وأبي العباس القلانسي ونحوهما . خير من الأشعرية في هذا وهذا فكلما كان الرجل إلى السلف والأئمة أقرب كان قوله أعلى وأفضل والكرامية قولهم في الإيمان قول منكر لم يسبقهم إليه أحد حيث جعلوا الإيمان قول اللسان وإن كان مع عدم تصديق القلب فيجعلون المنافق مؤمنا ; لكنه يخلد في النار فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم , وأما في الصفات والقدر والوعيد فهم أشبه من أكثر طوائف الكلام التي في أقوالها مخالفة للسنة وأما المعتزلة فهم ينفون الصفات ويقاربون قول جهم لكنهم ينفون القدر ; فهم وإن عظموا الأمر والنهي والوعد والوعيد ; وغلوا فيه ; فهم يكذبون بالقدر ففيهم نوع من الشرك من هذا الباب , والإقرار بالأمر والنهي والوعد والوعيد مع إنكار القدر خير من الإقرار بالقدر مع إنكار الأمر والنهي والوعد والوعيد ولهذا لم يكن في زمن الصحابة والتابعين من ينفي الأمر والنهي والوعد والوعيد وكان قد نبغ فيهم القدرية كما نبغ فيهم الخوارج : الحرورية وإنما يظهر من البدع أولا ما كان أخفى وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة قويت البدعة فهؤلاء المتصوفون الذين يشهدون الحقيقة الكونية مع إعراضهم عن الأمر والنهي : شر من القدرية المعتزلة ونحوهم : أولئك يشبهون المجوس وهؤلاء يشبهون المشركين الذين قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } والمشركون شر من المجوس فهذا أصل عظيم على المسلم أن يعرفه ; فإنه أصل الإسلام الذي يتميز به أصل الإيمان من أهل الكفر وهو الإيمان بالوحدانية والرسالة : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وقد وقع كثير من الناس في الإخلال بحقيقة هذين الأصلين أو أحدهما مع ظنه أنه في غاية التحقيق والتوحيد والعلم والمعرفة .
فإقرار المشرك بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه : لا ينجيه من عذاب الله إن لم يقترن به إقراره بأنه لا إله إلا الله فلا يستحق العبادة أحد إلا هو ; وأن محمدا رسول الله فيجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر فلا بد من الكلام في هذين الأصلين : - الأصل الأول " توحيد الإلهية " فإنه سبحانه أخبر عن المشركين كما تقدم بأنهم أثبتوا وسائط بينهم وبين الله يدعونهم ويتخذونهم شفعاء بدون إذن الله قال تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون } فأخبر أن هؤلاء الذين اتخذوا هؤلاء شفعاء مشركون وقال تعالى عن مؤمن يس { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } { إني إذا لفي ضلال مبين } { إني آمنت بربكم فاسمعون } وقال تعالى : { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون } فأخبر سبحانه عن شفعائهم أنهم زعموا أنهم فيهم شركاء , وقال تعالى : { أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } { قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون } , وقال تعالى : { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } , وقال تعالى : { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } , وقال تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } , وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون } { لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون } وقال تعالى : { وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } , وقال تعالى : { قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا } { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } قال طائفة من السلف : كان قوم يدعون العزير والمسيح والملائكة فأنزل الله هذه الآية يبين فيها أن الملائكة والأنبياء يتقربون إلى الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه ومن تحقيق التوحيد : أن يعلم أن الله تعالى أثبت له حقا لا يشركه فيه مخلوق ; كالعبادة والتوكل والخوف والخشية والتقوى كما قال تعالى : { لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا } وقال تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين } وقال تعالى : { قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } إلى قوله : { الشاكرين } وكل من الرسل يقول لقومه : { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } وقد قال تعالى في التوكل : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وقال : { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } وقال تعالى : { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون } . فقال في الإتيان : { ما آتاهم الله ورسوله } وقال في التوكل : { وقالوا حسبنا الله } ولم يقل : ورسوله ; لأن الإتيان هو الإعطاء الشرعي وذلك يتضمن الإباحة والإحلال الذي بلغه الرسول فإن الحلال ما أحله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه قال تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } وأما الحسب فهو الكافي والله وحده كاف عبده كما قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } فهو وحده حسبهم كلهم , وقال تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين هو الله فهو كافيكم كلكم وليس المراد أن الله والمؤمنين حسبك كما يظنه بعض الغالطين إذ هو وحده كاف نبيه وهو حسبه ليس معه من يكون هو وإياه حسبا للرسول وهذا في اللغة كقول الشاعر : فحسبك والضحاك سيف مهند وتقول العرب : حسبك وزيدا درهم أي يكفيك وزيدا جميعا درهم وقال في الخوف والخشية والتقوى : { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } فأثبت الطاعة لله والرسول وأثبت الخشية والتقوى لله وحده كما قال نوح عليه السلام : { إني لكم نذير مبين } { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } فجعل العبادة والتقوى لله وحده وجعل الطاعة للرسول ; فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله . وقد قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } وقال تعالى : { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } وقال الخليل عليه السلام : { وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { إنما هو الشرك أولم تسمعوا إلى قول العبد الصالح : إن الشرك لظلم عظيم } . وقال تعالى : { فإياي فارهبون } { وإياي فاتقون } ومن هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته : " { من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا . } وقال : " { ولا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد } ففي الطاعة : قرن اسم الرسول باسمه بحرف الواو , وفي المشيئة : أمر أن يجعل ذلك بحرف " ثم " وذلك لأن طاعة الرسول طاعة لله فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله , وطاعة الله طاعة الرسول بخلاف المشيئة فليست مشيئة أحد من العباد مشيئة لله , ولا مشيئة الله مستلزمة لمشيئة العباد بل ما شاء الله كان وإن لم يشأ الناس , وما شاء الناس لم يكن إن لم يشأ الله .
الأصل الثاني : حق الرسول صلى الله عليه وسلم . فعلينا أن نؤمن به ونطيعه ونتبعه ونرضيه ونحبه ونسلم لحكمه وأمثال ذلك قال تعالى : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقال تعالى : { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وقال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } وقال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } وقال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } وأمثال ذلك .
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
( فصل )
وإذا ثبت هذا : فمن المعلوم أنه يجب الإيمان بخلق الله وأمره : بقضائه وشرعه . وأهل الضلال الخائضون في القدر انقسموا إلى ثلاث فرق : مجوسية ومشركية وإبليسية فالمجوسية : الذين كذبوا بقدر الله وإن آمنوا بأمره ونهيه ; فغلاتهم أنكروا العلم والكتاب ومقتصدوهم أنكروا عموم مشيئته وخلقه وقدرته وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم والفرقة الثانية : المشركية الذين أقروا بالقضاء والقدر وأنكروا الأمر والنهي ; قال تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } فمن احتج على تعطيل الأمر والنهي بالقدر فهو من هؤلاء وهذا قد كثر فيمن يدعي الحقيقة من المتصوفة والفرقة الثالثة : وهم الإبليسية الذين أقروا بالأمرين لكن جعلوا هذا متناقضا من الرب - سبحانه وتعالى - وطعنوا في حكمته وعدله كما يذكر ذلك عن إبليس مقدمهم ; كما نقله أهل المقالات ونقل عن أهل الكتاب والمقصود أن هذا مما تقوله أهل الضلال ; وأما أهل الهدى والفلاح : فيؤمنون بهذا وهذا ويؤمنون بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو على كل شيء قدير وأحاط بكل شيء علما وكل شيء أحصاه في إمام مبين ويتضمن هذا الأصل من إثبات علم الله وقدرته ومشيئته ووحدانيته وربوبيته وأنه خالق كل شيء وربه ومليكه : ما هو من أصول الإيمان . ومع هذا فلا ينكرون ما خلقه الله من الأسباب التي يخلق بها المسببات ; كما قال تعالى : { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات } وقال تعالى : { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } وقال تعالى : { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } فأخبر أنه يفعل بالأسباب ومن قال : إنه يفعل عندها لا بها فقد خالف ما جاء به القرآن وأنكر ما خلقه الله من القوى والطبائع وهو شبيه بإنكار ما خلقه الله من القوى التي في الحيوان التي يفعل الحيوان بها مثل قدرة العبد كما أن من جعلها هي المبدعة لذلك فقد أشرك بالله وأضاف فعله إلى غيره وذلك أنه ما من سبب من الأسباب إلا وهو مفتقر إلى سبب آخر في حصول مسببه ولا بد من مانع يمنع مقتضاه إذا لم يدفعه الله عنه فليس في الوجود شيء واحد يستقل بفعل شيء إذا شاء إلا الله وحده قال تعالى : { ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون } أي فتعلمون أن خالق الأزواج واحد ولهذا من قال : إن الله لا يصدر عنه إلا واحد - لأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد - كان جاهلا فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء - لا واحد ولا اثنان - إلا الله الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون فالنار التي خلق الله فيها حرارة لا يحصل الإحراق إلا بها وبمحل يقبل الاحتراق ; فإذا وقعت على السمندل والياقوت ونحوهما لم تحرقهما وقد يطلى الجسم بما يمنع إحراقه والشمس التي يكون عنها الشعاع لا بد من جسم يقبل انعكاس الشعاع عليه فإذا حصل حاجز من سحاب أو سقف : لم يحصل الشعاع تحته وقد بسط هذا في غير هذا الموضع والمقصود هنا : أنه لا بد من " الإيمان بالقدر " فإن الإيمان بالقدر من تمام التوحيد كما قال ابن عباس : هو نظام التوحيد فمن وحد الله وآمن بالقدر تم توحيده ومن وحد الله , وكذب بالقدر نقض توحيده ولا بد من الإيمان بالشرع وهو الإيمان بالأمر والنهي والوعد والوعيد كما بعث الله بذلك رسله وأنزل كتبه والإنسان مضطر إلى شرع في حياته الدنيا فإنه لا بد له من حركة يجلب بها منفعته , وحركة يدفع بها مضرته ; والشرع هو الذي يميز بين الأفعال التي تنفعه والأفعال التي تضره وهو عدل الله في خلقه , ونوره بين عباده ; فلا يمكن للآدميين أن يعيشوا بلا شرع يميزون به بين ما يفعلونه ويتركونه . وليس المراد بالشرع مجرد العدل بين الناس في معاملاتهم بل الإنسان المنفرد لا بد له من فعل وترك ; فإن الإنسان همام حارث كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " { أصدق الأسماء حارث وهمام } وهو معنى قولهم متحرك بالإرادات فإذا كان له إرادة فهو متحرك بها ولا بد أن يعرف ما يريده هل هو نافع له أو ضار ؟ وهل يصلحه أو يفسده ؟ وهذا قد يعرف بعضه الناس بفطرتهم كما يعرفون انتفاعهم بالأكل والشرب وكما يعرفون ما يعرفون من العلوم الضرورية بفطرتهم وبعضهم يعرفونه بالاستدلال كالذي يهتدون به بعقولهم وبعضه لا يعرفونه إلا بتعريف الرسل وبيانهم لهم وهدايتهم لهم وفي هذا المقام تكلم الناس في أن الأفعال هل يعرف حسنها وقبيحها بالعقل أم ليس لها حسن ولا قبيح يعرف بالعقل ؟ كما قد بسط في غير هذا الموضع وبينا ما وقع في هذا الموضع من الاشتباه . فإنهم اتفقوا على أن كون الفعل يلائم الفاعل أو ينافره يعلم بالعقل وهو أن يكون الفاعل سببا لما يحبه الفاعل ويلتذ به وسببا لما يبغضه ويؤذيه وهذا القدر يعلم بالعقل تارة وبالشرع أخرى وبهما جميعا أخرى ; لكن معرفة ذلك على وجه التفصيل ومعرفة الغاية التي تكون عاقبة الأفعال : من السعادة والشقاوة في الدار الآخرة لا تعرف إلا بالشرع فما أخبرت به الرسل من تفاصيل اليوم الآخر وأمرت به من تفاصيل الشرائع لا يعلمه الناس بعقولهم كما أن ما أخبرت به الرسل من تفصيل أسماء الله وصفاته لا يعلمه الناس بعقولهم وإن كانوا قد يعلمون بعقولهم جمل ذلك وهذا التفصيل الذي يحصل به الإيمان وجاء به الكتاب هو ما دل عليه قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } وقوله تعالى : { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب } وقوله تعالى : { قل إنما أنذركم بالوحي } ولكن توهمت طائفة أن للحسن والقبح معنى غير هذا وأنه يعلم بالعقل وقابلتهم طائفة أخرى ظنت أن ما جاء به الشرع من الحسن والقبح : يخرج عن هذا فكلا الطائفتين اللتين أثبتتا الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين وأخرجتاه عن هذا القسم غلطت ثم إن كلتا الطائفتين لما كانتا تنكر أن يوصف الله بالمحبة والرضا والسخط والفرح ونحو ذلك مما جاءت به النصوص الإلهية ودلت عليه الشواهد العقلية : تنازعوا بعد اتفاقهم على أن الله لا يفعل ما هو منه قبيح هل ذلك ممتنع لذاته وأنه لا يتصور قدرته على ما هو قبيح وأنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لمجرد القبح العقلي الذي أثبتوه ؟ على قولين والقولان في الانحراف من جنس القولين المتقدمين أولئك لم يفرقوا في خلقه وأمره بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية والأبرار والفجار وأهل الجنة وأهل النار والرحمة والعذاب ; فلا جعلوه محمودا على ما فعله من العدل أو ما تركه من الظلم ولا ما فعله من الإحسان والنعمة وما تركه من التعذيب والنقمة والآخرون نزهوه بناء على القبح العقلي الذي أثبتوه ولا حقيقة له وسووه بخلقه فيما يحسن ويقبح , وشبهوه بعباده فيما يأمر به وينهى عنه فمن نظر إلى القدر فقط وعظم الفناء في توحيد الربوبية ووقف عند الحقيقة الكونية : لم يميز بين العلم والجهل والصدق والكذب والبر والفجور والعدل والظلم والطاعة والمعصية والهدى والضلال والرشاد والغي وأولياء الله وأعدائه وأهل الجنة وأهل النار وهؤلاء مع أنهم مخالفون بالضرورة لكتب الله ودينه وشرائعه فهم مخالفون أيضا لضرورة الحس والذوق وضرورة العقل والقياس فإن أحدهم لا بد أن يلتذ بشيء ويتألم بشيء فيميز بين ما يأكل ويشرب وما لا يأكل ولا يشرب وبين ما يؤذيه من الحر والبرد وما ليس كذلك وهذا التمييز بين ما ينفعه ويضره هو الحقيقة الشرعية الدينية .
ومن ظن أن البشر ينتهي إلى حد يستوي عنده الأمران دائما : فقد افترى وخالف ضرورة الحس ; ولكن قد يعرض للإنسان بعض الأوقات عارض كالسكر والإغماء ونحو ذلك مما يشغل عن الإحساس ببعض الأمور فأما أن يسقط إحساسه بالكلية مع وجود الحياة فيه فهذا ممتنع فإن النائم لم يفقد إحساس نفسه بل يرى في منامه ما يسوءه تارة وما يسره أخرى فالأحوال التي يعبر عنها بالاصطلام والفناء والسكر ونحو ذلك إنما تتضمن عدم الإحساس ببعض الأشياء دون بعض فهي مع نقص صاحبها - لضعف تمييزه - لا تنتهي إلى حد يسقط فيه التمييز مطلقا ومن نفى التمييز في هذا المقام مطلقا وعظم هذا المقام فقد غلط في الحقيقة الكونية والدينية : قدرا وشرعا وغلط في خلق الله وفي أمره حيث ظن أن وجود هذا ; لا وجود له وحيث ظن أنه ممدوح ولا مدح في عدم التمييز : العقل والمعرفة . وإذا سمعت بعض الشيوخ يقول : أريد أن لا أريد أو أن العارف لا حظ له وأنه يصير كالميت بين يدي الغاسل ونحو ذلك فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي يؤمر بها وعدم حظه الذي لا يؤمر بطلبه وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه ومن أراد بذلك أنه تبطل إرادته بالكلية وأنه لا يحس باللذة والألم ; والنافع والضار فهذا مخالف لضرورة الحس والعقل . ومن مدح هذا فهو مخالف لضرورة الدين والعقل .
والفناء يراد به ثلاثة أمور : أحدها : هو الفناء الديني الشرعي الذي جاءت به الرسل وأنزلت به الكتب وهو أن يفنى عما لم يأمر الله به بفعل ما أمر الله به : فيفنى عن عبادة غيره بعبادته وعن طاعة غيره بطاعته وطاعة رسوله وعن التوكل على غيره بالتوكل عليه وعن محبة ما سواه بمحبته ومحبة رسوله ; وعن خوف غيره بخوفه بحيث لا يتبع العبد هواه بغير هدى من الله , وبحيث يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما كما قال تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } فهذا كله هو مما أمر الله به ورسوله وأما ( الفناء الثاني : وهو الذي يذكره بعض الصوفية وهو أن يفنى عن شهود ما سوى الله تعالى فيفنى بمعبوده عن عبادته وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته بحيث قد يغيب عن شهود نفسه لما سوى الله تعالى فهذا حال ناقص قد يعرض لبعض السالكين وليس هو من لوازم طريق الله ولهذا لم يعرف مثل هذا للنبي صلى الله عليه وسلم وللسابقين الأولين ومن جعل هذا نهاية السالكين فهو ضال ضلالا مبينا وكذلك من جعله من لوازم طريق الله فهو مخطئ بل هو من عوارض طريق الله التي تعرض لبعض الناس دون بعض ليس هو من اللوازم التي تحصل لكل سالك وأما الثالث : فهو الفناء عن وجود السوي بحيث يرى أن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق وأن الوجود واحد بالعين فهو قول أهل الإلحاد والاتحاد الذين هم من أضل العباد وأما مخالفتهم لضرورة العقل والقياس : فإن الواحد من هؤلاء لا يمكنه أن يطرد قوله فإنه إذا كان مشاهدا للقدر من غير تمييز بين المأمور والمحظور فعومل بموجب ذلك مثل أن يضرب ويجاع حتى يبتلى بعظيم الأوصاب والأوجاع فإن لام من فعل ذلك به وعابه فقد نقض قوله وخرج عن أصل مذهبه وقيل له : هذا الذي فعله مقضي مقدور فخلق الله وقدره ومشيئته : متناول لك وله وهو يعمكما فإن كان القدر حجة لك فهو حجة لهذا وإلا فليس بحجة لا لك ولا له فقد تبين بضرورة العقل فساد قول من ينظر إلى القدر ويعرض عن الأمر والنهي والمؤمن مأمور بأن يفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على المقدور كما قال تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } . وقال في قصة يوسف : { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فالتقوى فعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه ولهذا قال الله تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار } فأمره مع الاستغفار بالصبر ; فإن العباد لا بد لهم من الاستغفار أولهم وآخرهم قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " { يا أيها الناس ! توبوا إلى ربكم فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة } وقال : " { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة } . وكان يقول " { اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ; اللهم اغفر لي خطئي وعمدي وهزلي وجدي وكل ذلك عندي ; اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر } وقد ذكر عن آدم أبي البشر أنه استغفر ربه وتاب إليه فاجتباه ربه فتاب عليه وهداه ; وعن إبليس أبي الجن - لعنه الله - أنه أصر متعلقا بالقدر فلعنه وأقصاه فمن أذنب وتاب وندم فقد أشبه أباه ومن أشبه أباه فما ظلم قال الله تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والاستغفار في غير آية كما قال تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } وقال تعالى : { فاستقيموا إليه واستغفروه } وقال تعالى : { الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } { ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير } { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى } وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره : " { يقول الشيطان أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ; فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } وقد ذكر سبحانه عن ذي النون أنه نادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين قال تعالى : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } قال النبي صلى الله عليه وسلم " { دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه } وجماع ذلك أنه لا بد له في الأمر من أصلين ولا بد له في القدر من أصلين . ففي " الأمر " عليه الاجتهاد في الامتثال علما وعملا فلا تزال تجتهد في العلم بما أمر الله به والعمل بذلك . ثم عليه أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور وتعديه الحدود ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا وقد قال الله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار , وآخر سورة نزلت قول الله تعالى { إذا جاء نصر الله والفتح } { ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } وفي الصحيح أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " { سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي } يتأول القرآن وأما في " القدر " فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به ويتوكل عليه ويدعوه ; ويرغب إليه ويستعيذ به ويكون مفتقرا إليه في طلب الخير وترك الشر وعليه أن يصبر على المقدور ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ; وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه ومن هذا الباب احتجاج آدم وموسى لما قال : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ; لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال له آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله بكلامه فبكم وجدت مكتوبا علي من قبل أن أخلق : { وعصى آدم ربه فغوى } قال : بكذا وكذا فحج آدم موسى وذلك أن موسى لم يكن عتبه لآدم لأجل الذنب فإن آدم قد كان تاب منه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ; ولكن لأجل المصيبة التي لحقتهم من ذلك . وهم مأمورون أن ينظروا إلى القدر في المصائب وأن يستغفروا من المعائب كما قال تعالى : { فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك } فمن راعى الأمر والقدر كما ذكر : كان عابدا لله مطيعا له مستعينا به متوكلا عليه من الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ; وحسن أولئك رفيقا وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع كقوله : { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله : { فاعبده وتوكل عليه } وقوله : { عليه توكلت وإليه أنيب } وقوله : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا } فالعبادة لله والاستعانة به { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية اللهم منك ولك } فما لم يكن بالله لا يكون ; فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله وما لم يكن بالله فلا ينفع ولا يدوم
. ولا بد في عبادته من أصلين . ( أحدهما إخلاص الدين له ( والثاني موافقة أمره الذي بعث به رسله ; ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا ; وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } قال : أخلصه وأصوبه قالوا يا أبا علي : ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إذا كان العمل خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا ; والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره وفعل ما لم يشرعه من الدين كما قال تعالى : { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله . والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ولا دين إلا ما شرعه .
ثم إن الناس في عبادته واستعانته على أربعة أقسام : فالمؤمنون المتقون هم له وبه يعبدونه ويستعينونه . وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر فتجد عند أحدهم تحريا للطاعة والورع ولزوم السنة ; لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر ; بل فيهم عجز وجزع . وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة فقد يمكن أحدهم ويكون له نوع من الحال باطنا وظاهرا ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول ولكن لا عاقبة له فإنه ليس من المتقين والعاقبة للتقوى ; فالأولون لهم دين ضعيف ولكنه مستمر باق ; إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز ; وهؤلاء لأحدهم حال وقوة ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر واتبع فيه السنة وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه ; فهو لا يشهد أن علمه لله ولا أنه بالله فالمعتزلة ونحوهم - من القدرية الذين أنكروا القدر - هم في تعظيم الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من هؤلاء الجبرية القدرية الذين يعرضون عن الشرع والأمر والنهي والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية : خير من المعتزلة ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي . والوعد والوعيد حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك ويصيرون أيضا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم فهم معتزلة من هذا الوجه وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرا من بدعة أولئك المعتزلة وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة . وإنما دين الله ما بعث به رسله وأنزل به كتبه وهو الصراط المستقيم وهو طريقة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير القرون وأفضل الأمة وأكرم الخلق على الله تعالى بعد النبيين , قال تعالى : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه } فرضي عن السابقين الأولين رضا مطلقا ورضي عن التابعين لهم بإحسان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة : " { خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم } وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ; أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا ; قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقهم وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا على الهدى المستقيم وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما : يا معشر القراء ! استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : { خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط حوله خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال : هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم قرأ { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } } وقد أمرنا سبحانه أن نقول في صلاتنا { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون } ; وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يتبعوه والنصارى عبدوا الله بغير علم . ولهذا كان يقال : تعوذوا بالله من فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ; وقال تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } قال ابن عباس رضي الله عنهما : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وقرأ هذه الآية وكذلك قوله تعالى : { الم } { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم ; صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
 

تسابيح ساجدة

لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم
إنضم
16 أكتوبر 2010
المشاركات
8,111
النقاط
38
الإقامة
المعهد
احفظ من كتاب الله
اللهم إجعلنا من العاملين به... آمين
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
هم كُثر ,,,
الجنس
أخت
باركـ الله عز وجل فيكم شيخنا الفاضل
ونفع بكم جل وعلا وكتب اجركم جل شأنه
وجزاكم سبحانه وتعالى الفردوس الأعلى
 

ابن عامر الشامي

وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
إنضم
20 ديسمبر 2010
المشاركات
10,237
النقاط
38
الإقامة
المملكة المغربية
احفظ من كتاب الله
بين الدفتين
احب القراءة برواية
رواية حفص عن عاصم
القارئ المفضل
سعود الشريم
الجنس
اخ
امين واياكم يارب
بارك الله فيكم
 

آلداعي

عضو مميز
إنضم
24 نوفمبر 2011
المشاركات
3,316
النقاط
38
الإقامة
||خير بقاع الأرض||
الموقع الالكتروني
www.qoranona.net
احفظ من كتاب الله
احب القراءة برواية
ツ ورش ツ
القارئ المفضل
كل من تلى كتاب الله بتدبر وخشوع
الجنس
||داعي إلى الله||
70.gif
 
أعلى