هذا الباب يأتي ضمن ترتيب دقيق علمي جاء في هذا المصنف المبارك، فالمؤلف أول ما بدأ تحدث عن مكانة التوحيد، ثم بدأ يعدد فضائل التوحيد، ثم أتى هنا -رحمه الله تعالى- لبيان تحقيق التوحيد. وتحقيق التوحيد درجة عالية ومنزلة رفيعة يأتي الحديث عنها في هذه الأبواب، وفي ضمن أيضا الآيات والدلائل التي أوردها المصنف -رحمه الله تعالى- في هذا الباب العظيم . قال المصنف -رحمه الله تعالى- (باب من حقق التوحيد دخل الجنة وقول الله تعالى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿120﴾﴾ [النحل: 120] ). بدأ المصنف -رحمه الله تعالى- بوضع عنوان للترجمة، والعنوان يدل على المضمون، وتحت هذا العنوان تأتي الأدلة عليه والشواهد من كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-. عنوان الترجمة "من حقق التوحيد دخل الجنة بلا حساب" أي: ولا عذاب، و"مَن" هذه شرطية تحتاج إلى فعل وجواب، فعلها "حقق" وجوابها "دخل الجنة" فمن حقق التوحيد ثمرة تحقيقه له ونتيجة تحقيقه له أن يدخل الجنة بلا حساب أي: دخولا أوليا، لا يمر قبل دخوله بمرحلة تعذيب، و أيضا لا يمر قبل دخوله بمرحلة محاسبة، وإنما يدخل الجنة بدون حساب. وهذه رتبة علية، ومنزلة رفيعة، ومكانة سامية يمن الله تعالى بها على محققي التوحيد، فيوم القيامة يدخلهم جنته بلا حساب، وينجيهم من النار، فلا ينالهم عذابها، ولا يمسهم شيء منها، وإنما يدخلون جنة النعيم دخولا أوليا بدون حساب ولا عذاب، وهذه منة عظمية، وعطية جليلة يمن الله -سبحانه وتعالى- على محققي التوحيد. والمؤمن الموفق عندما يبلغه هذا الأمر ويعي هذه الحقيقة لا شك أن قلبه مهما كان سيتحرك شوقا وطمعا ورغبة في أن يكون من هؤلاء الذين مآلهم يوم القيامة دخول جنة النعيم من دون حساب ولا عذاب. ما هي الصفات محققي التوحيد؟ ما هي حليتهم؟ ما هي علامتهم؟ معنى تحقيق التوحيد : تصفيته وتنقيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي. وحتى يبلغ المسلم درجة تحقيق التوحيد لابد أن يبتعد عن ثلاثة أمور هي : الشرك والبدع والمعاصي هذه الثلاثة يسميها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه "الفوائد" يسميها: "العوائق" لأنها تعوق القلب وتعوق المؤمن في سيره إلى الله والدار الآخرة، عقبات في الطريق، عوائق في الطريق يحتاج أن يحترز منها، وأن يحذر من الوقوع فيها: الشرك والبدعة والمعصية. يقول: وعائق الشرك يزول بتجريد التوحيد لله، وعائق البدعة يزول بتجريد المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعائق المعصية يزول بالبعد على المعاصي وعدم الإصرار عليها والتوبة منها. وينبغي أن نعلم أن أهل التوحيد في التوحيد على ثلاثة مراتب جاءت هذه المراتب الثلاثة مبينة في قول الله -تبارك وتعالى-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴿32﴾﴾[فاطر: 32] ثلاث مراتب هي : ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات، السابق بالخيرات والمقتصد هذان كل منهما محقق للتوحيد، وأهل العلم يقولون: إن تحقيق التوحيد على درجتين؛ تحقيق واجب، وتحقيق مستحب . التحقيق المستحب :هو الذي إليه الإشارة في قوله في هذه الآية: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ والتحقيق الواجب: إليه الإشارة في هذه الآية في قوله: ﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ﴾ وكل من المقتصد والسابق بالخيرات محقق للتوحيد، لكنهم في تحقيقهم له على رتبتين: المقتصد محقق له التحقيق الواجب، والسابق بالخيرات محقق له إضافة إلى التحقيق الواجب التحقيق المستحب. والمقتصد هو: الذي فعل الواجب وترك المحرم، الواجبات التي أوجبها الله عليه يفعلها، ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ الظالم لنفسه ظلم نفسه بماذا؟ ظلمها بماذا بالشرك أو بالمعصية؟ بالمعصية لأنه لو ظلمها بالشرك لكان كافرا، ولم يكن من المصطفين والآية الحديث فيها عن المصطفين لأنه قال ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَ﴾ الكافر ليس من المصطفين. ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ أي: بالمعصية، أو بأمر دون الكفر ودون الشرك لكنه لا يعد من محققي التوحيد الذين لا يحاسبون ولا يعذبون؛ لأنه عنده ذنوب دون الشرك ودون الكفر يستحق بموجبها عذابا . وإن عُذب لا يعذب يوم القيامة عذاب الكافر الذي هو التخليد الأبدي أو أنه يعذب على قدر جرمه وعلى قدر ذنبه ليتطهر ويتنقى ثم ينتقل بعد ذلك إلى الجنة . لأن الله -سبحانه وتعالى- قال بعد هذه الآية ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَ﴾ لكن السابق بالخيرات والمقتصد دخولا أوليا بدون حساب ولا عذاب، والظالم لنفسه عرضة للحساب والعقاب؛ لأنه نقص من إيمانه ولم يأت بمبطل أو محبط لإيمانه. بدأ المصنف رحمه الله عليه يستدل لهذا الباب فذكرالدليل الأول وهو قول الله تعالى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ بين يدي هذه الآية فائدة لطيفة جدا من كلام المصنف -رحمه الله تعالى- في بعض رسائله يقول المصنف: التوحيد يدل عليه الكتاب والسنة والأئمة والعقل. معنى "يدل عليه الأئمة" هذه فائدة مهمة جدا جرت عادة الناس ميلهم إلى أكابرهم ولا سيما من يعرف منهم بعلم، فمن يعرف منهم بعلم جرت عادة الناس مجاراته ومتابعته والسير على منهاجه، سوءا كانوا على حق أو على ضلال لهم فيها إمام، فإن كان إمام خير فهو قدوة لهم في الخير، وإن كان إمام شر -والعياذ بالله- كان قدوة لهم في الشر، فالشيخ -رحمه الله تعالى- يقول: من أدلة التوحيد الأئمة؛ لأن النفوس تميل إلى متابعتهم . قال تعالى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وقال الله -جل وعلا- ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: 130] فمن أراد إماما فإمام الأئمة وقدوة الموحدين إبراهيم الخليل ونبينا -عليه الصلاة والسلام- وأنبياء الله ورسله الكرام ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب: 21] لا يليق بإنسان عاقل أن يترك الائتمام بالمرسلين ويأتم بأناس ضالين. ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ الله -عز وجل- وصف إبراهيم بأنه أمة مع أنه شخص واحد ووصفه بأنه أمة؛ ولهذا فصاحب الحق لا يستوحش ولو كان وحده على الحق فهو أمة، فالله -جل وعلا- وصف إبراهيم بأنه كان أمة قال: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ ومعنى "أمة" لها معانٍ لكن معناها هنا أي: إماما وقدوة في الخير، فإذا أردت القدوة في الخير والإمامة فعليك بأنبياء الله ورسله -عليهم صلاة الله وسلامه- ولهذا دعانا الله إلى هذا في القرآن قال: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الممتحنة: 4] قيل في معنى ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أي: الأنبياء والذين معه. هذه الصفة والأولى ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً﴾ أي: إمام في الخير ﴿قَانِتً﴾ أي: مداوما على طاعة الله، والقنوت هو المداومة على الطاعة ﴿حَنِيفًا﴾ الحنيف هو المائل، مائل عن الشرك، مائل عن الضلال، مائل عن الباطل إلى الحق والهدى فوصف إبراهيم بصفتين: صفة ثبوتية وصفة سلبية، بإثبات ونفي الإثبات في قوله: ﴿قَانِتً﴾ مداوما على طاعة الله، والنفي في قوله: ﴿حَنِيفًا﴾ مائلا مبتعدا عن الشرك وعن الضلال وعن البعد، ثم أكد ذلك بقوله: ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ وإبراهيم من محققي التوحيد؛ بل من أئمة محققي التوحيد .
قال المصنف -رحمه الله تعالى- قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ﴿59﴾﴾ [المؤمنون: 59] وهذه الآية الثانية التي أوردها الإمام -رحمه الله تعالى- ويسبقها -وهي في سورة المؤمنون- قولُه تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿57﴾وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ﴿58﴾ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ﴿59﴾وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ﴿60﴾أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ [المؤمنون: 57: 61] لاحظ هذه الصفات في هذه الآيات الأربعة: أولا: وقد جاء الترتيب فيها بديعا بحسب حالها أولا: أول ما يكون في الإنسان الخوف والشفقة من خشية الله . فإذا وجد فيه خوف جاءه الإيمان ﴿وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ فإذا وجد الإيمان تبعه بُعد الإنسان ومحاذرته مما يخل به ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ فإذا وجدت هذه الثلاثة يتبعها حفظ الإنسان لها بسؤال الله القبول ورجاء القبول ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أي: يقدمون ما يقدمون من طاعات وعبادات وقلوبهم خائفة ومشفقة من أن لا يقبل منهم، وبهذا جاء تفسير الآية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في المسند وغيره في قصة سؤال عائشة للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن معنى الآية. الآية هنا فيها ذكر صفة عظيمة لمحققي التوحيد وهي التي اقتصر المصنف على إيرادها لمناسبتها للترجمة وهي قوله: ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ فمن صفات محققي التوحيد بل من أبرزها وأجلها وأساسها البعد عن الشرك كله دقيقه وجليله صغيره وكبيره شر في بعدهم عن الشرك كله. ومناسبة الآية للترجمة واضحة لأن تحقيق التوحيد لا يكون إلا بالبعد عن الشرك كله، فإذا وقع في شرك أكبر انهدم الإيمان كله، وإذا وقع في شرك أصغر انتقص توحيده بحسب ما وقع فيه. ﴿وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ﴾ الشاهد من الآية أن من صفات محققي التوحيد بل أعظمها وأساسها البعد عن الشرك .
عندما انتهى المصنف من الآيتين شرع في ذكر الدليل من السنة: قال المصنف -رحمه الله تعالى- (عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وماحدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصين أنه قال: (لا رقية إلا من عين أو حمى) قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (عرضت على الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل: لي هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم: لعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: لعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه فقال: هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة) ) هذ الحديث الكلام فيه واسع جدا ربما نقتصر على بعض جوانبه: هذا الأثر أولًا يجب أن نستفيد منه جميعا فائدة عظيمة جليلة ننظر فيها إلى حياة التابعين وطلاب العلم وأهل الفضل كيف كانوا يتحاورون، وكيف كانوا يتحدثون، وكيف كانوا يتجاذبون أطراف الحديث؟ تبدأ قصة هذا الحوار أن كوكبا انقضى، والكواكب التي تنقضى هي التي جعلت رجوما للشياطين، والنجوم خلقت لثلاث: زينة للسماء، وعلامات يهتدى بها، ورجوما للشياطين. فالكوكب الذي ينقضى يعتبر آية عظيمة من آيات الله تشد من رآها، فيقول حصين راوي هذا الأثر: (كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟) و"البارحة" هذه كلمة تقولها العرب لليلة الفائتة، أقرب ليلة لك ولكن بعد الزوال، يعني: قبل الزوال يقولون: الليلة، فإذا زالت الشمس، ما بعد زوال الشمس يقولون: عنها الليلة البارحة، لكن في الضحى يقولون: الليلة، لو كانت في الضحى يقولون: أيكم الذي رأى الكوكب الذي انقض الليلة؟ لكن بعد الزوال يقولون: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ يتبع إن شاء الله