الموحدة
عضو مميز
- إنضم
- 5 يناير 2012
- المشاركات
- 806
- النقاط
- 18
- الإقامة
- المغرب
- احفظ من كتاب الله
- ما تيسر منه
- احب القراءة برواية
- برواية ورش عن نافع
- القارئ المفضل
- الشيخ ياسر الدوسري/عمر القزابري/مشاري العفاسي/المنشاوي
- الجنس
- أخت
جواهر الثلج
كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
يحاول التجار دائما أن يشتروا بضائعهم بأفضل سعر ممكن وأن يبيعوها بأعلى سعر ممكن ليحصلوا على أعلى ربح ممكن، وبين الشراء والبيع يعيش التاجر في كبد ومشقة، بين حسابات المكسب والخسارة، وكلما كان الشراء والبيع موسميا كلما ازداد الخطر وعظم الخطب على التاجر.
وبين أيدينا مثل لتجارة ليست ككل التجارات، تجارة لا يحصل فيها التاجر على بضاعته بالشراء ولا حتى بالتصنيع وإن كان فيه شبه منه، إن التاجر في مثلنا لديه آلة تعمل تلقائيا وتنتج له جواهر ثمينة، ولكنها في ذات الوقت جواهر من ثلج سريعة الذوبان، فإذا ذابت زالت قيمتها تماما، وفي كلٍ يوجد عرضان للشراء، أولهما تباع فيه تلك الجواهر الثلجية بجواهر ثابتة لا تذوب ولا تتغير، ولكن هذا البيع يحتاج من البائع شيء من الجهد والسعي حتى تتم الصفقة، وتسليم تلك الجواهر الثابتة لا يكون فوريا في معظم الأحيان وإن كانت مضمونة بأوثق ضمان.
وأما العرض الثاني فتباع فيه هذه الجواهر بأخرى ثابتة براقة، لونها لون الذهب والياقوت، وريحها ريح المسك، ولكنها سريعة التغير يذهب لونها المتلألئ ويحل محله لون أسود مرباداً متسخ، ويذهب ريحها الطيب ويحل مكانه ريح منتنة وهى فوق هذا سامة، كما أن لها أثر عجيب في إفساد الجواهر الحقيقية الثابتة، والبائع يعرف في كثير من الأحيان حال هذه الجواهر الخادعة.
ترى ما رأيك فيمن يبيع جواهره الثلجية بتلك الجواهر الخادعة السامة؟! أو حتى في ذلك الذي يقف مكتوف الأيدي وآلته تنتج جواهره ثم يتركها تذوب بدلا من أن يحولها إلي جواهر ثابتة كسلا أو زهدا في تلك الجواهر الثابتة لأن قبضها مؤجلا؟!!
وثمة أمرا أخر وهو أن هذا التاجر يعلم أن آلته سوف تتوقف في لحظة ما وفجأة دون سابق إنذار.
أخي الحبيب: إن هذا المثل وإن كان خياليا إلا أن الواقع أخطر بكثير من هذا الخيال، إن هذا المثل هو مثل الإنسان في هذة الحياة الدنيا، تتوالى أنفاسه، لا يملك أن يوقفها أو أن يؤجلها، وكل نفس منها جوهرة ثمينة سريعة الانقضاء، فإذا كانت في المباحات فلا أجر ولا وزر، وإن كانت في الطاعات فسوف يعطى بها غرسا في الجنة وبيوتا في الجنة وأنهار في الجنة، وكل ذلك من الذهب والفضة والياقوت واللؤلؤ، فضلا عما يعجل له من ذلك من طمأنينة القلب وسعة الصدر.
وإن كانت في المعصية فهي سبب لدخول نار تلظى يلقى فيها من العذاب والسموم والنار والحميم فضلا عما يعجل له في الدنيا من ضيق الصدر واضطراب القلب.
وإذا تأملت في هذا المثل فاعلم أن كل جزئية من جزئياته قد دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف- رضي الله عنهم- قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)(الفرقان: 62) وقال الحسن- رحمه الله- "ما مر يوم على بن آدم إلا قال له ابن آدم إني يوم جديد، وعلى ما تعمل في شهيد، وإذا ذهبت عنك لم أرجع إليك، فقدم ما شئت تجده بين يديك، وأخر ما شئت فلن يعود إليك أبدا".
وقال بعضهم: لمن قال له قف أكلمك، فأجابه بقوله "أوقف الشمس" لعلمه أن عداد الأنفاس لا يمكن إيقافه، وقال بعضهم: "يا بن آدم إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل".
وقال- صلى الله عليه وسلم- مبينا قيمة اللحظة الواحدة من حياة الإنسان(من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة)(رواه الترمذي وصححه الألباني)، وفي المقابل قال- صلى الله عليه وسلم- (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)(رواه الترمذي وصححه الألباني وأصله في الصحيحين).
وقد عبر البعض عن شرف الوقت بقوله "الوقت من ذهب" فعلق بعض الدعاة على ذلك وقال "بأن هذا عند أهل الدنيا الذين لا يرون فيها ما هو أغلى من الذهب، ولكنه عند من ينظر إلى أبعد من ذلك هو الحياة".
وأما أنه رغم نفاسته سريع الزوال فشبهه بعضهم بالثلج وانظر إلى ذلك الرجل الذي يمشى في السوق كما نمشى ويستلفت نظره ما يستلفت نظرنا إلا أنه يستلفت بصيرته ما لا يستلفت بصيرتنا، فقد رأى بائع ثلج في السوق بعد العصر وقد أشرف السوق على الانتهاء ولم يبع بعد بضاعته فأخذ يصيح في الناس لكي يشتروا بضاعته قبل أن تفنى قائلا "يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله"، فتذكر صاحبنا رأس ماله الأهم في هذه الحياة الدنيا وتجارته الأخطر وهى تجارة الأنفاس، وتذكر تلك السورة الجامعة التي لخصت ذلك كله فيقول- رحمه الله- "تعلمت تفسير سورة العصر من بائع ثلج بنيسابور، وقف في السوق بعد العصر صائحا يا أيها الناس ارحموا من يذوب رأس ماله".
سورة العصر تلك السورة التي أقسمت بالعصر الذي يعيشه الإنسان لبيان شرفه وخطورته، ثم بينت أن جنس بني الإنسان في خسارة -أي في تجارة الأوقات- ثم استثنت من جمع خصالا أربعا هي: الإيمان بالله، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
كما بين الله تعالى أن هؤلاء الخاسرين إنما انشغلوا بالعاجل رغم تفاهته وسرعة انقضائه لكونهم لم يوطنوا أنفسهم على انتظار الآجل رغم شرفه وبقائه فقال -عز وجل-: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(الأعلى: 16- 17)، وبين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن معظم البائعين يخسرون عن عمد لكونهم لا يتحملون مشقة البيع الرابح حين قال (حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات)(رواه مسلم).
وإذا تأملت هذا المثل جيدا علمت مقدار الغبن والخسارة التي يقع فيها المضيع وقته في المباحات فضلا عمن يضيعه في المعاصي، كما قال- صلى الله عليه وسلم- (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)(رواه البخاري).
وإذا علمت هذا فاعلم أن جواهر العمر الثلجية رغم أنها كلها جواهر إلا أن بعضها أشرف من بعض وأن ما يقابلها من جواهر وقصور وجنان أخروية تتناسب مع شرفها وفضلها، ولذلك فحرى بالعاقل أن يهتم بكل جوهرة من جواهر حياته، أعني بكل نفس من أنفاسه لاسيما في الأوقات الفاضلة التي تتضاعف فيها الحسنات وكذلك السيئات، ومنها العشر الأول من ذي الحجة كما قال- صلى الله عليه وسلم- (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)(رواه البخاري).
فنسأل الله أن يعين جميع المسلمين فيها وفي سائر أوقاتهم على طاعته وأن يدخلهم جنته ودار كرامته.
صوت السلف
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع