أبو منار عصام
مشرف
- إنضم
- 23 يونيو 2011
- المشاركات
- 2,069
- النقاط
- 38
- الإقامة
- مصر
- احفظ من كتاب الله
- القرآن كاملا
- احب القراءة برواية
- حفص
- القارئ المفضل
- الشيخ محمود خليل الحصري
- الجنس
- أخ
إياك والتقليد
فإني لما رأيت كثرة الشقاق بين المسلمين و تعصب بعضهم لبعض رجال الدين نويت أن أكتب هذه الكلمات, نصيحة لإخواني و تحذيرا لهم من بعض الزلات.
و ليس الغرض منها الدفاع عن قول أحدهم و لكن الغرض كشف الغطاء على حقيقة تقليد العلماء فإني رأيت اكثر المتعصبين للمسائل الفقهية لا علم لهم بالأمور الخلافية و أكثرهم يرددون ما قيل لهم ظنا منهم أن ما سمعوه إستوفى ما قيل في المسألة من غير بحث في أقوال السلف و هذا هو التقليد الأعمى.
إستنباط حكم المسألة لا يتم من حديث أو اثنين و إنما من الدراسة المعمقة لكل الأدلة الصحيحة التي وصلتنا فيها و ما زلت أعجب ممن يتعصب للمسألة و لا يعرف من أدلتها إلا دليلين ، بل أكثرهم لا يعرف مذهب الجمهور و لا السف الابرار فيها.
و مدار الغلط في المسألة هو التمسك ببعض الاحاديث و ترك بعضها : يقول الإمام الشاطبى بعد ذكره مناظرة بين ناصر السنة الأمام احمد بن حنبل رحمه الله وأحمد بن أبى دؤاد المعتزلى فى بدعة القول بخلق القرآن(3): "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض ؛ فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببينها . . . . إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام ؛ فذلك الذي نظمت به حين استنبطت .
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي ، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا ( حتى ) يستنطق فلا ينطق ؛ لا باليد وحدها ، ولا بالرجل وحدها ، ولا بالرأس وحده ، ولا باللسان وحده ، بل بجملته التي سمي بها إنسانا كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها ، لا من دليل منها أي دليل كان ، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل ؛ فإنما هو توهمي لا حقيقي ؛ كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة ؛ من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان ؛ لأنه محال .
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة".اهــ
و قد فهم السلف هذه القاعدة و وعوها فجمعوا السنة وحفظوها و فسروا القرآن و السنة بالقرآن و السنة و لم يضربوا الأدلة بعضها ببعض و لم يخصصوا بعضها بفهم يعارض البعض الآخر ففهم الدليل يحتاج دليلا و قد يضل الإنسان بفهم خاطئ لحرف واحد فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
روى أبو نعيم في كتابة «الحلية»(4) بسنده عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان فقال للرجل: فما تقول أنت فيه؟ قال: أقول: إن الإيمان قول. قال ومن أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [البقرة: 277]. فصارت الواو فصلاً بين الإيمان والعمل فالإيمان قول والأعمال شرائعه. فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟ قال: نعم، قال: فإذا كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ" [الرحمن: 17] فغضب الرجل وقال: سبحان الله أجعلتني وثنياً؟! فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك قال: كيف؟ قال بزعمك أن الواو فصل، فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت بل لا أعبد إلا رباً واحداً ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل بل أقول إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، قال الربيع: فأنفق على باب الشافعي مالاً عظيماً وجمع كتب الشافعي وخرج من مصر سُنياً.اهــ
فأنظر لهذا الرجل كاد يضل بحرف واحد قطعي الثبوت لكنه فهمه بغير الفهم الصحيح و لم يفهمه بغيره من النصوص الصريحة فكيف بمن فهم حرفا ظني الثبوت بغير فهمه و عارض به غيره من النصوص الواضحة الصحيحة .
لذلك الحذر الحذر من مخالفة السلف في فهمهم للنصوص و التريث قبل مخالفة فتاوي جمهور العلماء فخطئ نفسك قبل أن تخطئهم، إن ما يفهمه السلف بالبديهة يلزمنا عمر كامل لفهمه و إدراكه.
روي أن رجلا جاء لأبي حنيفة فقال له إن ابن أبي ليلة ـ و كان قاضيا بالكوفة ـ جلد امرأة مجنونة ـ قالت لرجل: يا ابن الزانيين ـ حدين بالمسجد ، و هي قائمة، فقال أبو حنفية بداهة: اخطأ من ستة أوجه.
قال ابن العربي: و هذا الذي أدركه بداهة لا يدركه بالرؤية إلا العلماء الماهرون.(5
فالحذر ثم الحذر السلف أفهم و أوعى لكتاب الله و سنة نبيه عليه الصلاة و السلام و و أفقه لكلام العرب و تركيباته لم تفسد فهمهم العجمة كما افسدت لغتنا و فهمنا اليوم و هم اعلم بالسنن و اجمع لها.
قال محمد بن الحسن الحجوي رحم الله في كتابه الفكر السامي (6): وعن عبد الوارث بن سعد قال: قدمت مكة فوجدت فيها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟ قال: البيع باطل والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط جائز.
فقلت: يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها البيع جائز والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة وشرط حملنا إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز. (7
أما مالك فقد عرف الأحاديث كلها و عمل بجميعها و قسم البيع و الشرط إلى أقسام ثلاثة : شرط يناقض المقصود كشرط العتق فيحذف.
و شرط لا تأثير له كرهن أو حميل فيجوز.
و شرط حرام كبيع جارية بشرط أنها مغنية فيبطل البيع كل، و غيره لم يمعن النظر و لا حرر المناط.اهــ
هذه حال سلفنا الأبرار كانوا يتقون الفتوى و لا يفتون إلا بعد جمع الحديث و فهمه و لا يفتون إلا بما صح عندهم و انظروا إلى اخلاقهم فلم يخطئ احدهم الاخر انما عند الاختلاف اعطى كل دليله و قال "لا ادري ما قالا" فيا عجبا ممن يسفه كلام السلف و فتاويهم و لا أقصد بذلك العلماء إنما أحداث الأسنان الذين جعلوا أنفسهم بمقام السلف.
قال النووي في مقدمته وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون . وعن الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر . وعن عطاء بن السائب التابعي : أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد ، وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم ( لا أدري ) أصيبت مقاتله . وعن سفيان بن عيينة وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما . وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب . وعن الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه . وعن الهيثم بن جميل : شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . وعن مالك أيضا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب . وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف . وقال الشافعي : ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا . وقال أبو حنيفة : لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر. اهــ
قال بن حزم في الإحكام في أصول الأحكام في إبطال التقليد عن قتادة قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه. اهــ
نعم من لم يعرف الاختلاف لم يعرف مقدار جهله !! إنك لتظن المسألة واضحة و تنافح عنها حتى يأتيك قول المخالف و ادلته ،عندها تدرك قدر جهلك. لا نعني بذلك أن اقوال الرجال وحي منزل و لكن ليعرف كل احد مقامه. و ليتق الله من لا يقبل قول من يخالف إمامه ثم يشنع على الناس تقليد الامام مالك و الشافعي و ابا حنيفة و الامام احمد رحمهم الله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم.
فليس قول مجتهد واحد بلازم على كل الامة من دون غيره و لا يلغي الخلاف في المسألة الفقهية قول احد المجتهدين انها ليست بخلافية فالمجتهد مصيب فله اجران او مخطئ فله اجر و حمل الناس على مقولة مجتهد واحد من التعصب المذهبي الذي نبذه السلف و الخلف.
قال ابن عبد البر محدث المغرب رحمه الله : يقال لمن قال بالتقليد: لِمَ قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلَّدْتُ لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لمْ أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلَّدْتُ من هو أعلم مني، قيل له: أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لاشك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلَّدْتَ فيه بعضهم دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه (8.
وقال ابن حزم رحمه الله: (فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودة رجلاً واحداً قلَّد عالماً كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه ء ولن يجدوه والله أبداً لأنه لم يكن قط فيهم ء فلهم متعلَّق على سبيل المسامحة، وإن لم يجدوه فليوقنوا أنهم أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد ء إلى أن قال ء نسأل الله أن يثبتنا عليه ء أي الأمر الأول الذي كان عليه السلف ء وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح)(9.
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك ء إلى أن قال ء وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقا) (10
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلاً واحداً في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لايرد من أقواله شيئاً، ولا يقبل من أقوالهم شيئاً، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث) (11
وقال الشاطبي رحمه الله: (تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال)(12....
ما زلت اتقي قول من يأخد بالدليل الواحد و يدع غيره من الاحاديث الصحيحة فاذا صح الحديث لا يجوز لاحد ان يناقضه بظاهر حديث اخر بل لا بد من توجيه كل الاحاديث و بيان دلالتها.
فنصيحة مني لطلبة العلم عليكم بالتأني و اكثار النظر في كتب السلف و البحث في المسائل حتى تفهموا ققول كل قائل و تجمعوا ادلة المسائل ثم ترجحوا فيكون قولكم في المسألة عن اجتهاد لا عن تقليد اعمى.
نسأل الله الهداية ، اللهم صلي و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أفضل تسليم و السلام علي
كتبه أبو عبد الله الأثرى حفظه الله تعالى
___________________
(1) الفاتحة.
(2) عن أبي أمامة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال : " الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه ، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ، ربنا" صحيح البخاري حديث:5147
(3) الاعتصام الشاطبي صفحة 312
(4) الحلية ج9 صفحة 110
(5) الفكر السامي في تاريخ الفقه الأسلامي صفحة 290.
(6) الفكر السامي في تاريخ الفقه الأسلامي صفحة 314
(7) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6386 و قال رواه الطبراني في الأوسط وفي طريق عبد الله بن عمرو مقال
(8) جامع بيان العلم وفضله
(9) الإحكام في أصول الأحكام.
(10) مجموع الفتاوى ج 19 صفحة 69 ، 70.
(11) إعلام الموقعين ج2 صفحة 446.
(12) الإعتصام الشاطبي.
فإني لما رأيت كثرة الشقاق بين المسلمين و تعصب بعضهم لبعض رجال الدين نويت أن أكتب هذه الكلمات, نصيحة لإخواني و تحذيرا لهم من بعض الزلات.
و ليس الغرض منها الدفاع عن قول أحدهم و لكن الغرض كشف الغطاء على حقيقة تقليد العلماء فإني رأيت اكثر المتعصبين للمسائل الفقهية لا علم لهم بالأمور الخلافية و أكثرهم يرددون ما قيل لهم ظنا منهم أن ما سمعوه إستوفى ما قيل في المسألة من غير بحث في أقوال السلف و هذا هو التقليد الأعمى.
إستنباط حكم المسألة لا يتم من حديث أو اثنين و إنما من الدراسة المعمقة لكل الأدلة الصحيحة التي وصلتنا فيها و ما زلت أعجب ممن يتعصب للمسألة و لا يعرف من أدلتها إلا دليلين ، بل أكثرهم لا يعرف مذهب الجمهور و لا السف الابرار فيها.
و مدار الغلط في المسألة هو التمسك ببعض الاحاديث و ترك بعضها : يقول الإمام الشاطبى بعد ذكره مناظرة بين ناصر السنة الأمام احمد بن حنبل رحمه الله وأحمد بن أبى دؤاد المعتزلى فى بدعة القول بخلق القرآن(3): "ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد ، وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها ببعض ؛ فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر ببينها . . . . إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام ؛ فذلك الذي نظمت به حين استنبطت .
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي ، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا ( حتى ) يستنطق فلا ينطق ؛ لا باليد وحدها ، ولا بالرجل وحدها ، ولا بالرأس وحده ، ولا باللسان وحده ، بل بجملته التي سمي بها إنسانا كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها ، لا من دليل منها أي دليل كان ، وإن ظهر لبادي الرأي نطق ذلك الدليل ؛ فإنما هو توهمي لا حقيقي ؛ كاليد إذا استنطقت فإنما تنطق توهما لا حقيقة ؛ من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان ؛ لأنه محال .
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضا كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة".اهــ
و قد فهم السلف هذه القاعدة و وعوها فجمعوا السنة وحفظوها و فسروا القرآن و السنة بالقرآن و السنة و لم يضربوا الأدلة بعضها ببعض و لم يخصصوا بعضها بفهم يعارض البعض الآخر ففهم الدليل يحتاج دليلا و قد يضل الإنسان بفهم خاطئ لحرف واحد فالحكم على الشيء فرع عن تصوره.
روى أبو نعيم في كتابة «الحلية»(4) بسنده عن الربيع بن سليمان قال: سأل رجل من أهل بلخ الشافعي عن الإيمان فقال للرجل: فما تقول أنت فيه؟ قال: أقول: إن الإيمان قول. قال ومن أين قلت؟ قال: من قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" [البقرة: 277]. فصارت الواو فصلاً بين الإيمان والعمل فالإيمان قول والأعمال شرائعه. فقال الشافعي: وعندك الواو فصل؟ قال: نعم، قال: فإذا كنت تعبد إلهين إلها في المشرق وإلها في المغرب لأن الله تعالى يقول: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ" [الرحمن: 17] فغضب الرجل وقال: سبحان الله أجعلتني وثنياً؟! فقال الشافعي: بل أنت جعلت نفسك كذلك قال: كيف؟ قال بزعمك أن الواو فصل، فقال الرجل: فإني أستغفر الله مما قلت بل لا أعبد إلا رباً واحداً ولا أقول بعد اليوم إن الواو فصل بل أقول إن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، قال الربيع: فأنفق على باب الشافعي مالاً عظيماً وجمع كتب الشافعي وخرج من مصر سُنياً.اهــ
فأنظر لهذا الرجل كاد يضل بحرف واحد قطعي الثبوت لكنه فهمه بغير الفهم الصحيح و لم يفهمه بغيره من النصوص الصريحة فكيف بمن فهم حرفا ظني الثبوت بغير فهمه و عارض به غيره من النصوص الواضحة الصحيحة .
لذلك الحذر الحذر من مخالفة السلف في فهمهم للنصوص و التريث قبل مخالفة فتاوي جمهور العلماء فخطئ نفسك قبل أن تخطئهم، إن ما يفهمه السلف بالبديهة يلزمنا عمر كامل لفهمه و إدراكه.
روي أن رجلا جاء لأبي حنيفة فقال له إن ابن أبي ليلة ـ و كان قاضيا بالكوفة ـ جلد امرأة مجنونة ـ قالت لرجل: يا ابن الزانيين ـ حدين بالمسجد ، و هي قائمة، فقال أبو حنفية بداهة: اخطأ من ستة أوجه.
قال ابن العربي: و هذا الذي أدركه بداهة لا يدركه بالرؤية إلا العلماء الماهرون.(5
فالحذر ثم الحذر السلف أفهم و أوعى لكتاب الله و سنة نبيه عليه الصلاة و السلام و و أفقه لكلام العرب و تركيباته لم تفسد فهمهم العجمة كما افسدت لغتنا و فهمنا اليوم و هم اعلم بالسنن و اجمع لها.
قال محمد بن الحسن الحجوي رحم الله في كتابه الفكر السامي (6): وعن عبد الوارث بن سعد قال: قدمت مكة فوجدت فيها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟ قال: البيع باطل والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فسألته؟ فقال: البيع جائز والشرط جائز.
فقلت: يا سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا علي في مسألة واحدة فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة فأعتقها البيع جائز والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة وشرط حملنا إلى المدينة. البيع جائز والشرط جائز. (7
أما مالك فقد عرف الأحاديث كلها و عمل بجميعها و قسم البيع و الشرط إلى أقسام ثلاثة : شرط يناقض المقصود كشرط العتق فيحذف.
و شرط لا تأثير له كرهن أو حميل فيجوز.
و شرط حرام كبيع جارية بشرط أنها مغنية فيبطل البيع كل، و غيره لم يمعن النظر و لا حرر المناط.اهــ
هذه حال سلفنا الأبرار كانوا يتقون الفتوى و لا يفتون إلا بعد جمع الحديث و فهمه و لا يفتون إلا بما صح عندهم و انظروا إلى اخلاقهم فلم يخطئ احدهم الاخر انما عند الاختلاف اعطى كل دليله و قال "لا ادري ما قالا" فيا عجبا ممن يسفه كلام السلف و فتاويهم و لا أقصد بذلك العلماء إنما أحداث الأسنان الذين جعلوا أنفسهم بمقام السلف.
قال النووي في مقدمته وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون . وعن الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر . وعن عطاء بن السائب التابعي : أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد ، وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم ( لا أدري ) أصيبت مقاتله . وعن سفيان بن عيينة وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما . وعن الشافعي وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب . وعن الأثرم : سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه . وعن الهيثم بن جميل : شهدت مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . وعن مالك أيضا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب . وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف . وقال الشافعي : ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا . وقال أبو حنيفة : لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر. اهــ
قال بن حزم في الإحكام في أصول الأحكام في إبطال التقليد عن قتادة قال: من لم يعرف الاختلاف لم يشم الفقه بأنفه. اهــ
نعم من لم يعرف الاختلاف لم يعرف مقدار جهله !! إنك لتظن المسألة واضحة و تنافح عنها حتى يأتيك قول المخالف و ادلته ،عندها تدرك قدر جهلك. لا نعني بذلك أن اقوال الرجال وحي منزل و لكن ليعرف كل احد مقامه. و ليتق الله من لا يقبل قول من يخالف إمامه ثم يشنع على الناس تقليد الامام مالك و الشافعي و ابا حنيفة و الامام احمد رحمهم الله : لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم.
فليس قول مجتهد واحد بلازم على كل الامة من دون غيره و لا يلغي الخلاف في المسألة الفقهية قول احد المجتهدين انها ليست بخلافية فالمجتهد مصيب فله اجران او مخطئ فله اجر و حمل الناس على مقولة مجتهد واحد من التعصب المذهبي الذي نبذه السلف و الخلف.
قال ابن عبد البر محدث المغرب رحمه الله : يقال لمن قال بالتقليد: لِمَ قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلَّدْتُ لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لمْ أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلَّدْتُ من هو أعلم مني، قيل له: أما العلماء إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لاشك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلَّدْتَ فيه بعضهم دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه (8.
وقال ابن حزم رحمه الله: (فنحن نسألهم أن يعطونا في الأعصار الثلاثة المحمودة رجلاً واحداً قلَّد عالماً كان قبله فأخذ بقوله كله ولم يخالفه في شيء، فإن وجدوه ء ولن يجدوه والله أبداً لأنه لم يكن قط فيهم ء فلهم متعلَّق على سبيل المسامحة، وإن لم يجدوه فليوقنوا أنهم أحدثوا بدعة في دين الله تعالى لم يسبقهم إليها أحد ء إلى أن قال ء نسأل الله أن يثبتنا عليه ء أي الأمر الأول الذي كان عليه السلف ء وأن لا يعدل بنا عنه، وأن يتوب على من تورط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح)(9.
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (من نصب إماماً فأوجب طاعته مطلقاً اعتقاداً أو حالاً فقد ضل في ذلك ء إلى أن قال ء وكذلك من دعا إلى اتباع إمام من أئمة العلم في كل ما قاله وأمر به ونهى عنه مطلقا) (10
وقال ابن القيم رحمه الله: (وأما هدي الصحابة رضي الله عنهم فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلاً واحداً في جميع أقواله ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لايرد من أقواله شيئاً، ولا يقبل من أقوالهم شيئاً، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث) (11
وقال الشاطبي رحمه الله: (تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال)(12....
ما زلت اتقي قول من يأخد بالدليل الواحد و يدع غيره من الاحاديث الصحيحة فاذا صح الحديث لا يجوز لاحد ان يناقضه بظاهر حديث اخر بل لا بد من توجيه كل الاحاديث و بيان دلالتها.
فنصيحة مني لطلبة العلم عليكم بالتأني و اكثار النظر في كتب السلف و البحث في المسائل حتى تفهموا ققول كل قائل و تجمعوا ادلة المسائل ثم ترجحوا فيكون قولكم في المسألة عن اجتهاد لا عن تقليد اعمى.
نسأل الله الهداية ، اللهم صلي و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه أفضل تسليم و السلام علي
كتبه أبو عبد الله الأثرى حفظه الله تعالى
___________________
(1) الفاتحة.
(2) عن أبي أمامة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال : " الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه ، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ، ربنا" صحيح البخاري حديث:5147
(3) الاعتصام الشاطبي صفحة 312
(4) الحلية ج9 صفحة 110
(5) الفكر السامي في تاريخ الفقه الأسلامي صفحة 290.
(6) الفكر السامي في تاريخ الفقه الأسلامي صفحة 314
(7) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6386 و قال رواه الطبراني في الأوسط وفي طريق عبد الله بن عمرو مقال
(8) جامع بيان العلم وفضله
(9) الإحكام في أصول الأحكام.
(10) مجموع الفتاوى ج 19 صفحة 69 ، 70.
(11) إعلام الموقعين ج2 صفحة 446.
(12) الإعتصام الشاطبي.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع