كتاب الايمان والنذور 2/167 - 2/184

طباعة الموضوع

الصحبة الطيبة

عضو مميز
إنضم
16 أبريل 2013
المشاركات
199
النقاط
16
الإقامة
القاهرة - مصر
الموقع الالكتروني
nasrtawfik.blogspot.com
احفظ من كتاب الله
اللهم أعينني علي دوام التلاوة والتدبر وحفظ القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص عن عاصم
القارئ المفضل
محمد صديق المنشاوي والحصري والسديسي
الجنس
أخ وأسرتي
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام

الأيمان : لغة- بفتح الهمزة جمع (يمين). واليمين خلاف اليسار، وأطلقت على الحلف، لأنهم كانوا إذا تحالفوا، أخذ كل منهم يمين صاحبه.
(2/167)
________________________________________
وتعريفه شرعاً: تحقيق الأمر المحتمل أو تأكيده، بذكر اسم من أسماء الله تعالى، أو صفة من صفاته.
والأصل فيه ، الكتاب ، والسنة ، والإجماع.
فأما الكتاب، فقوله تعالى: {لا يُؤاخِذُكُمُ اللّه باللغو في أيمانكم} الآية. وقوله تعالى: {ولا تَنْقُضُوا الأيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها}.
والسنة، شهيرة بذلك، ومنه ما يأتي من الأحاديث إن شاء الله.
وقد أجمعت الأمة على مشروعيه اليمين، وثبوت أحكامها.
ولا ينبغي الإكثار من الحلف، ويشرع مع الحاجة لإزالة شبهة، أو نَفْى تهمة، أو تأكيد خبر.
فقد أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع من القرآن {ويستنبؤنك أحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ إي وربِّى} {قُلْ بلَى وربِّى لتبْعَثنَّ} {قلَ بَلَى وربِّى لَتَأتِينَّكم} وأقسم صلى الله عليه وسلم لمناسبات كثيرة.
والحلف أنواع، جاء في الأحاديث التي ذكرها المؤلف (اليمين الغموس) و[اليمين التي تدخلها الكفارة] وسيأتي الكلام عليهما.
ولم يذكر المؤلف [لَغوَ اليمين] وأحسن ما فسر به نوعان:
الأول: أنها اليمين التي لا يقصدها الحالف، بل تجرى على لسانه من غير تعقيد ولا تأكيد، كما جاء عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"هو كلام الرجل في بيته، " لا والله "و "بلى والله". وجاء عنها هذا الأثر موقوفا أيضاً.
الثاني: أن يعقد الحالف اليمين ظانًّا صدق نفسه، ثم يتبين بخلافه.
فهذان النوعان من لَغْوِ اليمين، ليس على صاحبها إثم ولا كفارة.
الحديث الأول
عِنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ سَمُرةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم : " يَا عَبْدَ الرَّحْمنِ بْن سَمُرَةَ، لا تسأل الإمَارَةَ، فَإنَّك إن أعطيتها عَنْ مَسْألةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا، وَإنْ أعطيتها عَنْ غَيْر مَسْألةٍ أعنْتَ عَلَيْهَا. وإذا حَلَفْتَ على يِمِين فَرَأيْتَ غَيرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ وَائْتِ الًذِي هُوَ خَير".
الحديث الثاني
(2/168)
________________________________________
عَنْ أبي مُوسىَ رَضيَ اللّه عَنْهُ قَال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني والله - إنْ شَاءَ الله- لا أحْلِفُ على يَمِين فَأرى غيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا إلا أتيت الًذِي هُوَ خَير، وَتَحَلَّلْتُهَا".
المعنى الإجمالي:
يرشد النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن سمرة، وهذا النصح والإرشاد للأمة عامة.
فيقول: لا تطلب الإمارة، والولايات والوظائف عامة، وتحرص عليها وعلى تحصيلها بالوسائل والوسائط.
فإن وليتها عن هذا الطريق، فإنك ستُوكَلُ إلى جهدك وقوتك.
وأنت- بلا عَوْنِ الله تعالى وتوفيقه - ضعيف قاصر. ولذا فإنك ستخفق في عملك.
وذلك إنك اتَّكَلْتَ على جهدك، وجئت العمل عن غرور وعجب بنفسك، ولم يكن- لطلب العون من الله والتوفيق- محل في نفسك. فحريٌّ إن يخذلك.
ولأنك غالبا ما طلبتها إلا لأغراضك الخاصة.
وستكون أغراضك من مال أو جاهٍ ، أو غيرهما، هي مقصود ك وهدفك، ولن تعطى العمل حقه، فيكون ذلك سبباً لإخفاقك وعدم نجاحك أيضاً.
أما إن جاءتك من غير مسألة ولا طلب، فالغالب أنك- حين لم تستشرف لها- ستكون مهتما للقيام بها، والاجتهاد فيها.
وهذا سيدعوك إلى الالتجاء إلى اللّه تعالى بطلب مدده وعونه وتسديده، وستحرص على القيام بها، وبهذا تعان عليها فتنجح فيها.
ثم ذكر أنه قد يفرط منك يمين، بسبب الامتناع عن الإمارة أو قبولها، فأمرك أنك إذا حلفت على أمر لتفعله أو لِتَدَعَهُ، فإن كان لا يترتب على حلفك شيء، فأنت مخيَّر بين المضي فيها أو التكفير.
وإن كان الأحسن هو فعل المحلوف على تركه، أو ترك المحلوف على فعله فَائتِ الذي هو خير، وكفرْ عن يمينك.
وكما أن هذا أمره، فهو فعله الرشيد أيضاً، كما بينه في الحديث الثاني، حيث أقسم صلى الله عليه وسلم : أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيراً إلا أتى الذي هو خير، وتحلل من يمينه بكفارة.
ما يستفاد من الحديثين
(2/169)
________________________________________
1- كراهة طلب الإمارة، والمراد بها، الولايات والوظائف كلها، والحرص عليها لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو "من ابتغى القضاء وسأله وكل إلى نفسه، ومن كره عليه أنزل الله ملكاً يسدده" ولما في ذلك من تعريض نفسه لعمل قد لا يقوم بحقوقه فيكون مُعَرِّضاً نفسه للخطر، ولما في ذلك- غالباً- من العجب والغرور، فإنه ما طلبه إلا معتدا بنفسه وقوته، وناسيا إعانة اللّه تعالى وتوفيقه، ولما فيه غالبا من سوء القصد، فإنه لن يطلبها مع وجود من يقدم بها غيره إلا لغرض مال، أو جاهٍ أو غير ذلك من المقاصد الدنيئة.
2- أن من جاءته الولاية بلا طلب ولا استشراف، فَسَيُعَانُ عليها، لأنه يرى القصور بنفسه، ويخاف العجز عنها، وحينئذ سيلتجئ إلى اللّه تعالى، فتأتيه الألطاف الإلهية بالعون والتسديد.، وسيحرص على عمله ويخلص فيه، فيكون سبباً لنجاحه وقيامه به.
3- مناسبة هذه الفقرة في الحديث لما بعدها، ولعلها تكون ما بينه الزركشى بقوله [لاحتمال أن يؤديه الامتناع عن الإمارة إلى الحلف، وتكون المصلحة في القبول].
4- أن من حلف أن لا يفعل كذا، أو أن يفعله، ثم رأى الخير في غير الذي حلف عليه، إما الفعل وإما الترك، فَليَأتِ الذي هو خير، ولْيكَفِّر عن يمينه. ويختلف هذا، باختلاف المحلوف عليه.
فقد يكون الحنث واجباً، وقد يكون مستحبا، وقد يكون حراماً، وقد يكون مباحاً. فيخَير بين البقاء على يمينه، أو الحنث مع التكفير.
5- عند جمهور العلماء أن الكفارة رخصة شرعها الله تعالى لحل ما عقدت اليمين، ولذلك تجزئ قبل الحنث وبعده، وذكر عياض أن الذين قالوا بتقديم التكفير من الصحابة أربعة عشر صحابيا، كما قال به قبل الحنث ربيعه و الأوزاعي والليث ومالك وأحمد وسائر فقهاء الأمصار غير أهل الرأي.
(2/170)
________________________________________
6- أن هذا التشريع، كما هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أيضا فعله. فقد أخبر أنه لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير، وكفر عن يمينه.
وهذا هو عين المصلحة، وهو تخفيف من ربنا ورحمة.
وكانت الأمم السابقة، ليس عندهم تحليل وتكفير، فلا بد من الوفاء بأيمانهم.
ولذا فإن أيوب عليه السلام، لما حلف أن يضرب زوجته، وترك عزمه. لم يجد لقضاء يمينه إلا أن يضربها بِضِغْثِ(1) فيه عدد الجلدات المرادة.
الحديث الثالث
عَنْ عُمَرَ بْن الخَطَّابِ رَضيَ اللّه عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللّه ينهاكم أنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ ".
ولـ"مسلم ": "فَمَنْ كَانَ حَالِفاً(2) فَلْيَحْلِفْ بِالله أوْ لِيَصْمُت".
وفي رواية: قالَ عُمَرُ: فوالله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَنْهَى عَنْهَا، ذَاكِراً وَلا آثِراً (يعني: حَاكِياً عَنْ غَيْرِي انَّهُ حَلَفَ بِهَا).
الغريب:
ليصمت: بضم الميم وكسرها.
ذاكراً: يعني عامداً.
آثرا: بهمزة ممدودة، فثاء مثلثة مكسورة. يعنى حاكياً عن غيري: أن حلف بها. ومنه الزيادة ثابتة في صحيح (البخاري) أيضا من حديث ابن عمر، فتوجه فيها نقدان:
أحدهما: كونها ليست من أفراد ( مسلم).
الثاني: أنها ليست من سند عمر.
المعنى الإجمالي:
__________
(1) الضغث: هو عثكال النخل بشماريخه، أو القبضة من القضبان.
(2) هذه الرواية التي عزاها لـ (مسلم) ليست من هذا الوجه الذي أورده بل أوردها من رواية ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت.
وهذه الزيادة ثابتة في صحيح "البخاري" أيضا من حديث ابن عمر ، فتوجه فيها نقدان:
أحدهما : كونها ليست من أفراد "مسلم".
(2/171)
________________________________________
الحلف: معناه تأكيد الفعل أو الترك، بذكر المعظم في النفس، المرهوب السطوة والانتقام، والتعظيم المطلق، والخوف والخشية من الأعمال التي لا تكون إلا للّه.
وصرفها لغيره، أو صرف بعضها، شرك. لهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله جل وعلا، ينهانا أن نحلف بشيء غيره كآبائنا، تلك العادة الجارية في الجاهلية، وأمرنا- إذا حلفنا- أن لا نحلف إلا بالله تعالى، لأنه المستحق للتعظيم، وهو القادر- وحده- على الانتقام من الكاذب، وهو الضار النافع.
وإن لم نكن حالفين بالله فَلْنَصْمُتْ وَلنسكتْ عن الحلف بغيره، فإنه شرك كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، والحاكم، من حديث ابن عمر: (من حلف بغير الله كفر)
ولما علم الصحابة رَضي الله عنهم بالنهي عن ذلك، انتهوا عنه واجتنبوه. فكانوا لا يحلفون إلا بالله، أو بصفاته العلية.
ولذا قال عمر رضى اللّه عنه: (فو الله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ينهى عنها، لا عامدا، ولا حاكيا، أي ناقلا كلام غيري).
كل هذا احتراز من الوقوع في المحظور وابتعاد عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم الحلف بالآباء، لأنه الأصل في النهي. والنهي عن الحلف بالآَباء عام لكل شيء.
فلا يحل لمخلوق- كائنا ً من كان- أن يقسم ويحلف بغير اللّه جل وعلا.
أما الله سبحانه وتعالى فله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
ولهذا، فلا يحلْ الحلف بغير الله تعالى وصفاته، مهما كان عظم المحلوف به، كالنبي صلى الله عليه وسلم، والكعبة المشرفة، وغيرها.
2- أن من أراد الحلف بغير اللَه فليلزم الصمت، فإنه أسلم له.
3- وعلة النهى: أن الحلف يراد به التأكيد بذكر أعظم شيء في نفس الحالة وأشد عقاب وانتقام. وهذا لا يكون إلا لله تعالى وحده.
وصرفه لغيره كفر كما جاء في حديث ابن عمر. ولكنه كفر لا يخرج من الملة، فإن الكفر أنواع وأقسام.
(2/172)
________________________________________
4- وأما ما وقع مما يخالف هذا النهى من قوله صلى الله عليه وسلم : "أفلح وأبوه إن صدق) فقيل بعدم صحتها. قال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة. وقيل: إن " وأبيه " مصحفة عن (واللّه) قال ابن حجر: هو محتمل. وقيل إن هذا اللفظ مما يجرى على الألسنة بغير قصد القسم به وذكر النووي أنه ربما كان جائزا ثم نسخ.
5- فضيلة عمر رضي الله عنه، بسرعة امتثاله وحسن فهمه وتورعِه. فلم يحلف بغير الله بنفسه، ولم يحك قَسَمَ غيره بغير الله، امتثالا وابتعاداً، لئلا يتعود لسانه عليه، فيخف عليه و يعتاده.
6- إنما خصَّ النهي عن الحلف بالآباء، مع أنه عامُّ في كل ما سوى الله تعالى، لأن هذه عادة جاهلية، فنص عليها بعينها، مع فهم المراد العام منها.
فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب مع رَكب فسمعه يحلف بأبيه، فذكر الحديث.
الحديث الرابع
عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضي اللّه عَنْهُ عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: " قَالَ سُلَيْمَانُ بنُ دَاوُدَ عَلَيْهمَا السلام: لأطُوفَنَّ الّليلَةَ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأةً تَلِدُ كُلُّ امْرَأةٍ مِنْهُنً غلاماً يُقَاتِلُ في سَبِيلِ اللّه.
فَقِيلَ لَهُ: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللّه. فَلَمْ يَقُلْ. فَطَافَ بِهنَّ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُن إلا. امْرَأة وَاحِدَة نِصْفَ إنْسَانٍ .
قَالَ: فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم " لَوْ قَالَ: إنْ شَاء اللّه لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ ذلِكَ دَرَكاً لِحَاجَتِهِ ".
قوله: " قيل له: قُلْ: إنْ شَاءَ اللّه " يَعْني قال لَهُ المَلَكُ.
الغريب:
لأطوفن: اللام واقعة في جواب قسم مقّدر محذوف، كأنه قال: (والله لأطوفن) والنون للتأكيد.
وطاف بنسائه: ألَم بِهنَّ وقاربهن، والمراد به المجامعة.
دَرَكاً لحاجته: بفتح الدال المهملة والراء، اسم مصدر لـ (أدرك) والمراد به: اللحاق والوصول إلى الشيء.
والملك: بفتح الميم واللام، أحد الملائكْة.
المعنى الإجمالي:
(2/173)
________________________________________
سليمان عليه السلام نبي من أنبياء اللّه تعالى إلى بنى إسرائيل، وقد أعطاه الله من الملكً ما لم يعطه أحدا.
وكان من حرصه ورغبته في الخير وإعلاء كلمة اللّه بجهاد أعدائه، أن أقسم باللّه تعالى أن يجامع تسعين امرأة، تلد كل واحدة منهن غلاما يشب ويقوى، حتى يجاهد في سبيل الله وأتى إلى شهوته بهذه النية الصالحة، لتكون عبادةً تقربه من ربه تبارك وتعالى، جاء واثقاً بربه، مخلصاً في مقصده، جازماً في تحقق مراده فأذهله ذلك، وأنساه عن الاستثناء بيمينه بأن يقول: (إن شاء اللّه) مع تذكير الملك له ذلك.
فطاف بهن، فلم تلد له منهن إلا واحدة جاءت بنصف إنسان، تأديبا من اللّه تعالى، وعظة لأوليائه وأصفيائه، وليرجعهم إلى كمالهم بالتعلق به وإدامةْ ذكره ومراقبته، فيما يأتون وما يذرون، وليعلم الناس أن الأمر للّه وحده، وأنه المدبر المتصرف بالأمور.
فليس لنبي ولا لملك ولا لغيرهما مشاركة معه في ملكه وتصرفه، فهو القادر على كل شيء والمدبر لكل شيء.
فلو أن سليمان عليه السلام، استثنى في يمينه بمشيئة الله تعالى، لأدرك حاجته، ونال مطلوبه. ولكن الله قدر هذا، ليكون تشريعاً لخلقه، وعِظَة وعبرة للناس أجمعين.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الاستثناء في اليمين، وهو قول الحالف (إن شاء الله) نافع ومفيد جداً لتحقيق المطلوب، ونَيْلِ المرغوب، فاٍن مشيئة الله تعالى نافذة على كل شيء، وبركة ويمن.
2- أن المستثنى لا يحنث في يمينه، إذا علقه على مشيئة اللّه تعالى.
3- في هذا الحديث، عبرة وعظة وقعت لنبي من أنبياء الله تعالى، صمم في أمره بلا مشيئة اللّه، فلم يشفع له قربه من اللّه جلا وعلا أن يحقق طلبه إلا أن يذكره فلا ينساه، فكيف بمن هو دون الأنبياء رتبة ومنزلة؟! فسبحانك من مرب حكيم.
4- أن عادات أنبياء اللّه وأوليائه، تكون بسبب نيا تهم الصالحة عبادات.
(2/174)
________________________________________
فهم يجامعون- مثلا- ليحصنوا فروجهم وأعينهم عن الحرام، وليحصنوا زوجاتهم أو ليرزقوا أولاداً صالحين، أو ليحصل كل هذا. فتكون العادة عبادة بسبب هذه النية الصالحة، والمقاصد السامية.
أما الغافلون فعباداتهم كعاداتهم. فهم يأتون المساجد للصلاة، جَرْياً على العادة المتبعة عند المسلمين، وليس لذكر الله في قلوبهم مقام. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
5- يُجْرِى الله تعالى ويُقدر مثل هذه الأمور على الكَمَلَةِ من عباده لِيرىَ الناس أن الأمر له وحده ، وأنه المتفرد بالتدبير والتصريف، وأن ليس له مشارك في حكمه وأمره.
6- قال ابن دقيق العيد: وقد يؤخذ من الحديث جواز الإخبار عن وقوع الشيء بناء على الظن، فإن هذا الإخبار من سليمان لم يكن عن وحي، وإلا لوجب أن يقع ما أخبر به.
الحديث الخامس
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمينِ صَبْرٍ، يَقتَطِعُ بها مال امرئٍ مسلم ، هُوَ فِيها فاجر، لقي الله وٍهُوَ عَلَيْهِ غضبانُ " و َنَزَلَت {إنَّ الَذِيَنَ يَشتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمنا قلِيلا} إلى آخر الآية.
الغريب:
يمين صبر: بإضافة يمين إلى صبر، و (صَبْر) هو بفتح الصاد وسكون الباء الموحدة،
والصبر: الحبس.وصفت اليمين بالصبر تجوُّزاً، لأنَّ الحبس وقع على الحالف المصبور عليها، الملزَم بها.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث وعيد شديد لمن اقتطع مال امرئ بغير حق.
وإنما اقتطعه وأخذه بخصومته الفاجرة، و يمينه الكاذبة الآثمة.
فهذا يلقي الله وهو عليه غضبان، ومن غضب اللَه عليه فهو هالك.
ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة، مصداقاً لهذا الوعيد الأكيد الشديد من القرآن الكريم.
(2/175)
________________________________________
وبيانها: أن الذين يعتاضون ويستبدلون بعهد الله عليهم وبأيمانِهم الكاذبة الآثمة، أعراض الحياة الدنيا، ليس لهم نصيب من الآخرة، وليس لهم من لطف الله ورحمته في ذلك اليوم العظيم، حظ ولا نصيب، ولا يطهرهم من ذنوبهم وأدر انهم، ولا يذكرهم في الملأ الأعلى بما يَسُرهم، ومع هذا، فلهم عذاب أليم لما في عملهم من مخادعة اللًه ورسوله وإيثارهم الحياة الدنيا على الآخرة، وأكلهم أموال الناس بالباطل، والتضليل في الخصومات والدعاوى.
وهذه صفات اليهود، الذين يتهالكون على المادة بكل طريق ولو بالسفالة والمهانة والنذالة.
فمن أحب أن يتصف بصفاتهم، ويتلطخ بأخلاقهم، ويسلك مسلكهم، ليحشر معهم، فَلْيَعْمَلْ عملهم، فليس عند الله محاباة.
فالناس مراتبهم عنده بأعمالهم. نسأل الله تعالى سلوك الطريق السَّوِيِّ إلى مرضاته.
ما يستفاد هن الحديث:
1- تحريم أخذ أموال الناس بالدعاوى الفاجرة والأيمان الكاذبة، وهو من كبائر الذنوب، لأن ما ترتب عليه غضب الحليم- جل وعلا- كبيرة.
2- التقييد (بالمسلم) من باب التعبير بالغالب، وإلا فمثله الذّميُّ والمعاهد.
3- شرط العقاب على مرتكب هذه اليمين، ما لم يتب ويتحلل من الإثم.
فإن تاب، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وهو إجماع العلماء.
4- قوله:- (هو فيها فاجر) ليخرج الناسي والجاهل، فإن الإثم والجزاء لا يستحقهما إلا العامد.
5- إثبات صفة الغضب لله تعالى على وجه يليق بجلاله تعالى {ليْس كَمِثلِهِ شيء وَهُوَ السَمِيعُ البصير}.
6- تفسير هذه الآية الكريمة بهذه القضية، وهو تفسير مرفوع، فيكون الحديث مبينا لمعناها، موضحاً للمراد منها.
7- ملخص معنى الآية الكريمة: أن من استبدل بأيمانه- بالله ورسوله ونكث بما أخذ عليه من الإيمان الوثيقة- الحياة الدنيا وأعراضها، فقد خاب
(2/176)
________________________________________
وخسرت صفقته. لأن عوضه ولو كان الدنيا كلها، هو قليل فجزاء هذا الحرمان من الآخرة والهجران من كلام اللطف والعطف ونظر الرحمة والحنان من الكريم الحنان وسيبقى في آثامه و أرجاسه فلن يطهر. ومع هذا فلن يترك. فإن له عذاباً أليماً أعاذنا الله من ذلك ووالدينا وأقاربنا ومشايخنا
وٍ إخواننا المسلمين. آمين.
الحديث السادس
عَنِ الأشْعَثِ بْن قَيْس قَالَ: كَانَ بيني وَبَيْنَ رَجُل خُصُومَةٌ في بِئر، فاخْتَصَمْنَا إلى رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم .
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: " شَاهِدَاكَ أوْ يَمِينُهُ ".
قُلْتُ: إذن يَحْلِفَ ولا يُبَالي.
فَقاَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ حَلَفَ عَلَى يِمِيِنِ صبْرٍ يقتطع بِهَا مَالَ امْرِئ مسلم هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقي الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ.
ما يستفاد من الحديث:
المعنى المقصود في هذا الحديث، تقدم شرحه في الحديث السابق، ويبقى استخراج الفوائد والأحكام، ونجملها هنا :
1- أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، هي القاعدة الإسلامية في الخصومات، وهي من فصل الخطاب المشار إليه في قوله تعالى {وآتيناه الحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}.
2- ثبوت الحق بالشاهدين. فإن لم توجد البينة عند المدعِي، فعلى المدعى عليه باليمين.
3- تحريم اليمين (الغموس) وهي الكاذبة، التي تقتطع بها حق غيره، وأنها من الكبائر، التي تعرض صاحبها لغضب اللّه وعقابه.
4- أن حكم الحاكم يرفع الخلاف الظاهر فقط، أما الباطن، فلا يزال باقياً فعلى هذا لا يحل المحكوم به، ما لم يكن مباحا للمحكوم له.
5- أن يمين الفاجر تُسقطُ عنه الدعوى وأن فجوره في دينه، لا يوجب الحجر عليه ولا إبطال إقراره، ولولا ذلك، لم يكن لليمين معنى.
(2/177)
________________________________________
6- البداءة بسماع الحاكم من المدعى، ثم من المدعى عليه: هل يقر أو ينكر؟ ثم طلب لمبينة من المدعى إن أنكر المدعى عليه، ثم توجيه اليمين على المدعى عليه إن لم يجد بينة.
7- فيه موعظة الحاكم للخصوم، خصوصاً عند إرادة الحلف.
8- تغليظ حقوق المسلمين، في قليل الحق وكثيره.
9- أن اليمين الغموس ونقض العهد، لا كفارة فيهما لأنهما أعظم وأخطر من أن تحلهما الكفارة.
فلا بد من التوبة النصوح والتخلص من حقوق العباد.
الحديث السابع
عَنْ ثَابِتِ بن الضَّحَّاكِ الأنصَارِي ِّ: أنهُ بايَعَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَاًنَّ رَسُولَ الله قالَ: "مَنْ حَلف عَلَى يِمِين بمِلَّةٍ غَيْرِ الإسلام، كَاذِباً، مُتَعمِّداً، فَهُوَ كَما قَالَ، وَمن قَتَلَ نفسَه بشيء عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَليسَ عَلَى رجل نذر فِيمَا لا يملُك".
وفِى رواية " وَلَعْنُ الْمُؤمِنِ كَقَتْلِهِ ".
وفي رواية " مَن ادَّعَى دَعْوَى كَذِبةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا، لَمْ يَزِدْهُ اللّه إلا قِلَّةً".
المعنى الإجمالي:
روى ثابت بن الضحاك الأنصاري- أحد المبايعين تحت الشجرة (بيعة الرضوان) يوم " الحديبيِة "، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما معناه: من حلف على يمين بغير شريعة الإسلام: كأن يقول: هو يهودي(1) أو نصرانيّ، أو هو مجوسي، أو هو كافر أو برئ من الله ورسوله متعمداً كاذباً في يمينه، فهو كما نسب نفسه إليه من إحدى هذه الملل الكافرة.
ومن قتل نفسه بشيء، كسيف، أو سكين، أو رصاص، أو غير ذلك من آلات القتل، عُذب به يوم القيامة.
وذلك لأن نفسه ليست ملكا له، وإنما هي ملك للَه تعالى، وهو المتصرف بها، فهي عنده وديعة وأمانة خان فيها بانتحاره.
فالجزاء من جنس العمل، فاستحق العذاب والقصاص، بمثل ما فعل.
__________
(1) يريد أنه نسب نفسه إلى تلك الملة في يمينه وذلك بضمير المفرد المتكلم 0.إذا فعل ذلك فهو كما قال، وإن كان كاذبا في يمينه.
(2/178)
________________________________________
ومن لعن مؤمنا، فكأنما قتله، لاشتراك اللاعن والقاتل، بانتهاك حرم الله تعالى، واكتساب الإثم، واستحقاق العذاب.
ومن تكبر وتكثر بالدعاوى الكاذبة، التي ليست فيه، من مال أو علم، أو نسب، أو شرف، أو منصب، مريداً بذلك التطاول، لم يزده اللّه إلا ذلَّةً وحقارة، لأنه أراد رفع نفسه بما ليس فيه، فجزاؤه من جنس مقصده.
وأعظمها أن يقصْد بدعاويه الحيلة لأكل أموال الناس بالباطل، أو تضليلهم و مخادعتهم.
ومن نذر شيئاً لم يملكه - كأن ينذر عتق عبد فلان، أو التصدق بشيء من مال فلان، فإن نذره لاغ لم ينعقد، لأنه لم يقع موقعه، ولم يحل محله.
ما يستفاد من الحديث:
1- تغليظ التحريم على من حلف بشريعة غير الإسلام.
وقد اختلف العلماء. هل لها كفارة أم لا؟.
فالمشهور من مذهبنا أن فيها الكفارة، وهو مذهب الحنفية وغيرهم. ومذهب مالك، والشافعي: ليس فيها كفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها (ابن قدامه) و (ابن دقيق العيد) وغيرهما، وهي أصح.
2- تحريم قتل الإنسان نفسه، فإن إثمه كإثم القاتل لغيره، ويعذًب بما قتل به نفسه، فإن الجزاء من جنس العمل.
3- وأن لعن الإنسان كقتله في المشاركة في الإثم، وإن لم يستويا في قدره.
4- تحريم ادعاء الإنسان ما ليس فيه، من علم، أو نسب، أو شجاعة، أو غير ذلك. خصوصاً لمن غَر بها الناس، أو يدعي معرفته لعمل، ليتولى وظيفته. كل هذا حرام.
ومن فعله رياء وتكبرا، لم يزده الله تعالى إلا ذِلة، فالجزاء من جنس القصد الدنيء.
5- أن النذر لا ينعقد فيما لا يملكه الناذر، فإن النذر طاعة و قربة. ولا يتقرب فيما لا يتصرف فيه، وإذا نذر، فليس عليه في نذره شيء.
6- ظاهر قوله في الحديث: (فهو كما قال) أن الحالف بغير ملة الإسلام يخرج من الإسلام، وأن قوله (لعن المؤمن كقتله) أن إثم اللاعن والقاتل سواء. وتقدم الكلام على مثل هذه النصوص.
(2/179)
________________________________________
ولشيخ الإسلام " ابن تيميه " في مثل هذه الأحاديث مسلك، وهو: أنه لابد في وقوع الوعيد من وجود أسبابه وانتفاء موانعه.
فإذا رتب الوعيد على فعل شيء، كان فعله سبباً من أسباب الوعيد الموجب لحصوله.
فإن انتفت الموانع من ذلك وقع، وإن عارض السبب مانع اندفع موجب السبب بحسب قوة المانع وضعفه، وهذه قاعدة نافعة.
بَابُ النَّذر
النذر لغة: الإيجاب.
وشرعا: إلزام المكلف نفسه عبادة لم تكن لازمة بأصل الشرع.
والأصل فيه، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يُوفُونَ بالنَّذرِ} {وَليُوفُوا نُذُورَهُمْ}.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أنْ يُطِيعَ اللّه فيطعه وَمَنْ نَذَرَ أنْ يَعْصىَ الله فَلاَ يَعْصِهِ" رواه البخاري.
وقد أجمع المسلمون على صحته في الجملة.
وقرن العلماء بين اليمين والنذر، لأنهما متقاربان في الأحكام، فكل منهما يقصد به التأكيد.
لكن موجب اليمين البِر بيمينه أو الكفارة.
وأما موجب النذر، فهو الوفاء بما نذره، ما لم يقصد بالنَذر الحثَّ أو المنع، فيكون حكمه ومجراه مجرى اليمين، تحله كفارة اليمين.
وأما الفروق التي بينهما، فمجملها ما يأتي:
1- ما تقدم من أن النذر الشرعي لابد من الوفاء به ولا يقوم غيره مقامه.
وأما اليمين فتحله الكفارة.
2- أن النذر يقصد به مجرد التقرب وقد يكون الحاملُ حصولَ مطلوبٍ أو زوال مكروه.
وأما اليمين فيقصد به الحث على فعل شيء، أو المنع منه.
3- أن عقد النذر مكروه، وأما اليمين فمباح، وقد يشرع إذا دعت إليه الأسباب.
4- أن النذر يجب الوفاء به، وأما اليمين ففيه تفصيل يرجع إلى ما يترتب عليه.
فقد يكون التحلل منه مباحا، أو مكروها، أو مستحبا، أو واجباً، أومحرماً، حسب المصالح أو المفاسد المترتبة عليه.
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عَنْهُ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله إني كُنْتُ نَذرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً.
(2/180)
________________________________________
وفي رواية: يَوْماً - في الْمَسْجِدِ الْحَرَام؟
قالَ: " فَأوْفِ بِنَذْرِكَ ".
ما يستفاد من الحديث:
تّقدم شرح هذا الحديث في (باب الاعتكاف).
ونجمل- هنا- ما فيه من الأحكام بما يأتي:-
1- أن الاعتكاف عبادة لله تعالى، ولذا وجبت بالنذر.
2- أنه لا يشترط في الاعتكاف الصيام، إذ أمره أن يوفي بنذره اعتكاف ليلة، والليل ليس محلا للصوم، الجمع بينهما أكمل.
3- وجوب الوفاء بالنذر المطلق، وهو نذر الطاعة الذي لم يعلَّق على شيء. بل قصد به مجرد التبرر.
4- أن النذر من الكافر صحيح منعقد، يجب عليه الوفاء به.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ اللَه بْنِ عمر رضي الله عَنْهُما عَنِ النَبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهَى عَنِ النَذْرِ وَقَالَ: " إنَ النَذْرَ لا يأتي بِخَيْر، وإنما يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ ".
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وعلل نهيه بأنه لا يأتي بخير، وذلك لما يترتب عليه من إيجاب الإنسان على نفسه شيئاً، هو في سعة منه، فيخشى أن يقصر
في أدائه، فيتعرض للإثم، ولما فيه من إرادة المعاوضة مع اللَه تعالى في التزام العبادة معلقة على حصول المطلوب، أو زوال المكروه.
وربما ظن- والعياذ باللّه- أن الله تعالى أجاب طلبه، ليقوم بعبادته.
لهذه المحاذير وغيرها، نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، إيثاراً للسلامة، وطمعاً في جود اللّه تعالى بلا دالَّةٍ ولا مشارطة، وإنما بالرجاء والدعاء.
وليس بالنذر فائدة، إلا أنه يستخرج به من البخيل، الذي لا يقوم إلا بما وجب عليه فعله وتحتم عليه أداؤه، فيأتي به مكرها، متثاقلا، فارغاً من أساس العمل، وهي النية الصالحة، والرغبة فيما عند الله تعالى.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن النذر، وأصل النهْى للتحريم، والذي صرفه عن التحريم، مدح الموفين به.
2- العلة في النهي (أنه لا يأتي بخير) لأنه لا يَرُد من قضاء الله شيئاً، ولئلا يظن الناذر أنه عوض حصول مطالبة.
(2/181)
________________________________________
والله تعالى غنيُّ عن الأعواض، وعن الخلق أجمعِن، فهم الفقراء، وطاعتهم لا تزيد في ملكه شيئا.
3- واللّه تبارك وتعالى قدًر الواجبات على العباد، بقدر طاقَتهم، وجعل الزائد نوافل، لأنها خارجة عما يحتملونه من العبادات.
والناذر خافت هذه الحكمة والتقدير، ولعله يعجز عن القيام بما نذر، فيكون آثماً مسَبباً في الإثم.
4- فائدة النذر، أنه يستخرج به من البخيل، الذي غايته القيام بالواجب ويثقل عليه ما عداه.
فالنذر وسيلة لقيامه بما لم يجب عليه بأصل الشرع.
5- هذا الباب من غرائب العلم.
فالأصل أن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا النذر، فالوفاء به واجب، وعقده مكروه، فيكون مخالفاً لغيره. والحكمة ظاهرة كما تقدم.
6- يكره النذر إذا كان طاعة لله تعالى.
فأما النذر الذي يقدم للموتى والقبور، ويوفي به عند الأضرحة والقباب، أو يرضى به ويستخدم الشياطين، فهذا هو الشرك الذي كان يفعله المشركون لأصنامهم، ويقربونه لأوثانهم. وحكمه معروف. نعوذ باللّه من غضبه وعقابه.
7- ذكر الصنعاني أن هذا باب واسع، من تتبعه عرف أن العبد إذا أولج نفسه فيما لم يوجبه الله عليه كان معرضا لعدم الوفاء بتقصيره وتثبيط الشيطان له، وأنه لا يفي به إلا القليل، وهم المشار إليهم بقوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه}.
الحديث الثالث
عَنْ عقبة بْنِ عامر قَالَ: " نَذَرَتْ أخْتِي أنْ تَمْشىَ إلى بَيْتِ الله الْحَرَام حَافِيَةً(1) فأمرتني أن استفتي لَهَا رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فَقالَ " لتمَشي وَلْتَرْكَبْ ".
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر المَشْيَ إلى المسجد الحرام، أو أحد المسجدين ماشياً، لا يجب عليه الوفاء به، لأن هذا ليس نذر عبادة مقصودة، وإنما هو نذر مباح، ونذر المباح، إن لم يَفِ به فعليه الكفارة.
__________
(1) لفظ (حافية) ليس في (البخاري) كما نبه عليه (عبد الحق) في (الجمع بين الصحيحين).
(2/182)
________________________________________
2- أنه إذا اشتمل النذر في أمر مباح وعبادة، فلكل حكمه، فيؤمر بالعبادة، لأنها التي يجب الوفاء بها، إذ قد اشتمل أداؤها على المصلحة.
3- ومنها:- أنه لا يتعبد بما إلا شرعه اللّه تعالى من الطاعات.
فالأصل في العبادات الحظر، فلا يشرع إلا ما شرعه الله ورسوله. ومن زاد في الشرع، فقد أراد الاستدراك على الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم.
4- في الحديث بيان لبعض العلل في كراهية الشارع للنذر، وهو العجز عن القيام بالمنذور.
فالظاهر أن هذه المرأة لما نذرت المشي، علمت من نفسها عدم القدرة، فاضطرت إلى الخروج من هذا المأزق.
الحديث الرابع
عَنْ عَبدِ اللَه بن عباس رَضي اللَه عَنهمَا: أنَّهُ قالَ: "اسْتَفْتى سَعْدُ ابْنُ عبادَةَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في نَذْر كان عَلَى أمه، تُوُفِّيَتْ قَبْلَ أنْ تَقضِيَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَه صلى الله عليه وسلم: " فاقضه عَنْهَا ".
ما يستفاد من الحديث:
1- أن النذر عبادة، يجب الوفاء بها، وأداؤها.
2- أن من مات وعليه نذر، قضاه عنه وارثه.
3- لم يذكر في هذا الحديث نوع النذر: هل هو بدنيٌ أو مالٌي؟.
فأما المالي- ومنه الحج- فتدخله النيابة عند جمهور العلماء.
وقد تقدم أن الصحيح في الصيام أن النيابة تدخل البدني أيضاً، لحديث عائشة في الصحيحين مرفوعا: "من مات وعليه صوم صام عنه وليه".
ونذر أم سعد قيل، كان صوما. وقيل: عتقا، وقيل: صدقة، وقيل: نذراً مطلقاً. وكل من هذه الأقوال استدل أصحابها عليها بأحاديث.
وحديث الصوم والعتق، قد تكلم فيهما العلماء.
وأما حديث الصدقة، فليس صريحاً أنها نذرت ذلك.
وقال القاضي عياض: (والذي يظهر، أنه كان نذرها في المال أو مبهما).
وقال ابن حجر: (بل ظاهر حديث الباب أنه كان معينا عن سعد).
4- وفي الحديث بر الوالدين بعد وفاتهما.
وأعظم برهما وفاء ما عليهما من الديون أو الحقوق والواجبات، سواء كانت لله تعالى أو للآدميين.
الحديث الخامس
(2/183)
________________________________________
عَنْ كَعْبِ بْن مَالِكٍ قالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله، إنَّ مِنْ تَوبَتِي أنْ أنْخَلِعَ مِنْ مَالي صَدَقَةً إلَى الله وَإلَى رَسُولِهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: "أمْسِكْ عَلَيكَ بَعْضَ مَالِكَ، فَهُوَ خَير لَكَ"
المعنى الإجمالي:
كان كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن " غزوة تبوك " بلا نفاق ولا عذر.
فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تلك الغزوة، هجرهم، وأمر أصحابه بهجرهم.
ومازالوا مهجورين، حتى نزلت توبتهم ورضي الله عنهم، فرضي الرسول والصحابة.
فكان من شدة فرح كعب برضا الله عنه وقبول توبته، أن أراد أن ينخلع من كل ماله ، ويخرج منه صدقة لوجه الله تعالى، فيكون إنفاقه فيما يرضى الله ورسوله.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك، فالله تعالى لما علم صدق نيتك وحسن توبتك، غفر لك ذنبك، وتجاوز عنك.
ولو لم تفعل هذا، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وقد أنفق بعض ماله، فرحا برضا الله تعالى، وليجد ثوابه مُدَّخراً عنده وأبقى بعضه، ليقوم بمصالحه ونفقاته الواجبة من مؤونة نفسه، ومؤونة من يعول. والله رؤوف بعباده.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من نذر الصدقة بماله كله، أبقى منه ما يكفيه ويكفي من يعول، وأخرج الباقي.
والمذهب عند الحنابلة، يخرج الثلث، ويمسك الباقي.
واستدلوا بأبي لبابة حين انخلع من ماله كله، فقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمك الثلث. رواه أحمد.
والقول الأول: أولى وأقرب إلى مفهوم الشارع في قصة كعب.
ولأنه لما نذر كل ماله، صار الذي بقدر نفقاته الواجبة، كالمستثنى شرعا، فلا يجوز التصرف فيه، كما لو نذر صيام سنة، فلن يدخل في نذره ما يجب فطره كالعيدين.
2- أن الأولى والأحسن، أن لا ينهك الإنسان ماله بالصدقات، لأن عليه نفقات واجبة، والني صلى الله عليه وسلم يقول " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".
(2/184)
________________________________________
3- أن النفقة على النفس و الزوجة والقريب، عبادة جليلة، وصدقة عظيمة مع النية الحسنة.
فالأحسن أن يتصدق بنية التقرب، وأن لا تطغى نية قضاء الشهرة والشفقة المجردة والمحبة، على نية العمل.
4- أن الصدقة سبب في مَحْوِ الذنوب، لما فيها من رضا الرب تبارك وتعالى والإحسان إلى الفقراء والمساكين، واستجلاب دعائهم.
15
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى