كتاب البيوع

طباعة الموضوع

الصحبة الطيبة

عضو مميز
إنضم
16 أبريل 2013
المشاركات
199
النقاط
16
الإقامة
القاهرة - مصر
الموقع الالكتروني
nasrtawfik.blogspot.com
احفظ من كتاب الله
اللهم أعينني علي دوام التلاوة والتدبر وحفظ القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص عن عاصم
القارئ المفضل
محمد صديق المنشاوي والحصري والسديسي
الجنس
أخ وأسرتي
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
كتاب البيوع 423 / 500
البيوع : جمع للبيع. والبيع مصدر، والمصادر لا تجمع. لكن جمع لملاحظة اختلاف أنواعه.
وتعريفه: لغة- أخذ شيء وإعطاء شيء، فقد أخذوه من البائع الذي يُمَدُّ، إما لقصد الصفقة، أو للتقابض على المعقود عليها من الثمن والمثمن.
ولفظ " البيع" ، يطلق على الشراء أيضاً، فهو من الأضداد وكذلك (الشراء) فهو من الأضداد.
لكن إذا أطلق البائع، فالمتبادر إلى الذهن أنه باذل السلعة.
أما تعريفه شرعا: فهو: مبادلة مال بمال، لقصد التملك، بما يدل عليه من صِيَغ القول والفعل.
وجوازه ثابت بأصول الأدلة الأربعة:
1- الكتاب {وأحَلَّ الله البَيْعَ }.
2- والسنة " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ونصوص الكتاب والسنة فيه كثيرة.
3- وأجمع المسلمون على جوازه
4- ويقتضيه القياس، لأن الحاجة داعية إليه، فلا يحصل الإنسان على ما يحتاجه إذا كان بيده غيره، إلا بطريقه.
أما الصيغة التي ينعقد بها فالصواب في ذلك ما قاله شيخ الإسلام " ابن تيمية " من أنه ينعقد بكل قول أو فعل، عده الناس بيعا، سواء أكان متعاقباً أم متراخياً لأن الله تعالى لم يُرد أن يتعبدنا بألفاظ معينة، وإنما القصد الدلالة على معناه، وبأي لفظ دل عليه، حصل المقصود.
والناس يختلفون في مخاطبتهم واصطلاحاتهم، تبعا لاختلاف الزمان والمكان.
فكل زمان ومكان، له لغته واصطلاحاته، والمراد من ذلك المعنى.
وينفعنا في هذه (الأبواب منٍ المعاملات) أن نفهم قاعدة جليلة، تحد لنا المعاملات المباحة، وأن نفهم أيضا ضوابط تحيط بجميع المعاملات المحرمة، وترد إليها جميع جزئياتها، وهذه القاعدة هي :
(1/423)
________________________________________
أن الأصل في المعاملات، وأنواع التجارات والمكاسب، الحل والإباحة. فلا يمنع منها إلا ما حرمه الله ورسوله.
فهذا أصل عظيم، يستند إليه في المعاملات والعادات.
فمن حرم شيئاً من ذلك، فهو مطالب بالدليل، لأنه على خلاف الأصل. وبهذا يعلم سماحة الشريعة وسعتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتطورها حسب مقتضيات البشر، ومصالح الناس.
وهي قاعدة مطردة، مبناها العدل والقسط، ومراعاة مصالح الطرفين.
ولا تخرج المعاملة عن هذا الأصل العظيم، من الإباحة إلى التحريم، إلا لما يقترن بها من محذور، يرجع إلى ظلم أحد الطرفين، كالربا، والغرر، والجهالة، والخداع، و التغرير.
فهذه معاملات- عند تأملها- نجدها تعود إلى ظلم أحد العاقدين.
والمعاملات المحرمة ترجع إلى هذه الضوابط وما حرمت إلا لمفاسدها وظلمها.
فإن الشارع الحكيم الرحيم، جاء بكل ما فيه صلاح، وحذر عن كل ما فيه فساد.
الحاصل: أن المعاملات المحرمة ترجع إلى ضوابط، أعظمها الثلاثة الآتية :-
الأول: الربا بأنواعه الثلاثة، ربا الفضل، وربا النسيئة، وربا القرض.
الثاني: الجهالة والغرر، ويدخل فيها جزئيات كثيرة، وصوره متعددة.
الثالث: الخداع والتغرير، ويشمل أنواعاً متعددة.
هذا مجملها وسيأتي- إن شاء الله تعالى- تفصيلها في الأحاديث الآتية.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضىَ عنهما عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ:
" إذَا تَبَايَعَ الرجُلانِ فَكُلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ، مَا لَمْ يَتَفرقَا وَكَانا جَمِيعاً، أو يُخَيَر أحَدُهُمَا الآخر قال: فَإِن خَيّرَ أحَدُهُمَا الآخر فَتَبَايَعَا عَلَى ذلِكَ وَجَبَ البيع ".
الحديث الثاني
وفي معناه من حديث حَكِيم بن حزام قال: قالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :
(1/424)
________________________________________
" البيعَانِ بِالخِيَارِ مَا لمْ يَتَفَرَّقَا- أو قال: حَتًى يَتَفرَقَا- فَإنْ صدَقا وبَينا، بُورِكَ لَهُمَا في بَيعِهِمَا- وَإن كَتَمَا وَكَذبَا مُحِقتْ بَرَكة بَيْعِهمَا".
الغريب:
بالخيار: بكسر الخاء، اسم مصدر " اختار " من الاختيار أي طلب خير الأمرين من الإمضاء أو الرد.
البيعان: بتشديد الياء، يعنى البائع والمشتري أطلق عليهما من باب التغليب. وقد تقدم أن كل واحد من اللفظين يطلق على معنى الآخر.
محقت: مبنى للمجهول، معناه : ذهبت وزالت زيادة كسبهما وربحهما أو يخير أحدهما الآخر: أي يقول له: اختر إمضاء البيع.
المعنى الإجمالي:
لما كان البيع قد يقع بلا تفكر ولا ترو، فيحصل للبائع أو المشترى ندم على فوات بعض مقاصده، جعل له الشارع الحكيم أمداً يتمكن فيه، من فسخ العقد. وهذا الأمد هي مدة مجلس العقد.
فما دام العاقدان في مجلس العقد، فلكل منهما الخيار في إمضاء العقد أوفسخه
فإذا افترقا بأبدانهما، افتراقا يتعارف الناس عليه، أو عقد البيع على أن لا خيار بينهما، فقد تم العقد، ولا يجوز لواحد منهما الفسخ، إلا بطريق الإقالة.
ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من أسباب البركة والنماء، وشيئاً من أسباب الخسارة والهلاك.
فأسباب البركة والربح والنماء، هي الصدق في المعاملة، وتبين ما في المعقود عليه من عيب أو نقص أو غير ذلك.
وأما اً سباب المحق والخسارة، فهي كَتم العيوب، والكذب في المعاملة، والتدليس.
وهى أسباب حقيقية لبركة الدنيا بالزيادة والشهرة بحسن المعاملة، وفي الآخرة بالأجر والثواب، وحقيقة لمحق كسب الحياة، من سيئ المعاملة والابتعاد عنه، حتى يفقد ثقة الناس وإقبالهم، وخسارة في الآخرة، لغشه الناس. و " من غشنا، فليس منا "
ما يؤخذ من الحديث:
1- إثبات خيار المجلس لكل من البائع والمشترى، من إمضاء البيع أو فسخه.
2- أن مدته من حين العقد إلى أن يتفرقا من مجلس العقد.
(1/425)
________________________________________
3- أن البيع يلزم بالتفرق بأبدانهما من مجلس العقد.
4- أن البائع والمشترى لو اتفقا على إسقاطه بعد العقد وقبل التفرق، أو تبايعا على أن لا خيار لهما، لزم العقد، لأن الحق لهما، وكيفما اتفقا جاز.
5- الفرق بين حق الله تعالى ومحض حق الآدمي.
فما كان لله، لا يكفى لجوازه رضا الآدمي، كعقود الربا.
وما كان للآدمي، جاز برضاه المعتبر، لأن الحق لا يعدوه.
6- لم يحد الشارع للتفرق حداً، فمرجعه إلى العرف. فما عده الناس مفرقا ، لزم البيع به.
فالخروج من البيت الصغير، أو الصعود إلى أعلاه، والتنحي في الصحراء ونحو ذلك، يعد تفرقاً منها لمدة الخيار، وملزماً للعقد.
7- حرم العلماء التفرق، خشية الفسخ، لما روى أهل السنن من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال و" ولا يحل له أن يفارقه صاحبه، خشية أن يستقيله "، ولأنه تحايل لإسقاط حق الغير.
8- أن الصدق في المعاملة وبيان ما في السلعة سبب للبركة في الدنيا والآخرة. كما أن الغش والكذب والكتمان، سبب محق البركة وزوالها.
وهذا شيء محسوس في الدنيا، فإن الذين تنجح تَجارتهم،وتروج سلعهم هم أهل الصدق والمعاملة الحسنة.
ما خسرت تجارة وفلست، إلا بسبب الخيانة. و ما عند الله لأولئك وهؤلاء أعظم.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في ثبوت خيار المجلس :
فذهب جمهور العلماء، من الصحابة والتابعين والأئمة إلى ثبوته. ومن هؤلاء، على بن أبي طالب، و ابن عباس، وأبو هريرة، وأبو برزة، و طاوس، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن البصري،و الشعبي، و الزهري، والأوزاعى، والليث، و سفيان بن عيينة، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق، وأبو ثور، والبخاري، و سائر المحققين المجتهدين.
ودليلهم هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، كحديثي الباب وغيرهما. قال ابن عبد البر وحديث عبد الله بن عمر أثبت ما نقل الآحاد.
وذهب أبو حنيفة، ومالك وأكثر أصحابهما إلى عدم ثبوت خيار المجلس.
(1/426)
________________________________________
واعتذروا عن العمل بهذه الأحاديث بأعذار ضعيفة، أجاب عنها الجمهور بما أوهاها.
ومن تلك الاعتذارات.
أولاً: أن الحديث على خلاف عمل أهل المدينة، وعملهم حجة.
وردّ بأن كثيراً من أهل المدينة ، يرون الخيار، ومنهم الصحابة المتقدم ذكرهم، وسعيد بن المسيب. قال ابن عبد البر ولا تصح دعوى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة، لأن سعيد بن المسيب وابن شهاب- وهما من أجل فقهاء المدينة- روى عنهما منصوصاً العمل به، وقد كان ابن أبى ذئب- وهو من فقهاء المدينة... معاصر لمالك- ينكر عليه ترك العمل به، فكيف يصح لأحد أن يدعى إجماع أهل المدينة في هذه المسألة؟ هذا لا يصح القول به. أهـ. وعلى فرض أنهم مجمعون، فليس إجماعهم بحجة، لأن الحجة إجماع الأمة، التي ثبتت لها العصمة. قال ابن دقيق العيد : فالحق الذي لا شك فيه أن عمل أهل المدينة وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم ولا مستند للعصمة سواه. ا.هـ.
ثانياْ : أن المراد بـ " المتبايعان " في الحديث، المتساومان.
والمراد، بالخيار، قبول المشترى أو رده.
وردَ بأن تسمية السائم بائعا مجاز، والأصل الحقيقة.
وأيضاً لا يمكن تطبيق الحديث الذي ذكر فيه التفرق ، على حال السائمين. قال ابن عبد البر : إذا حمل على المتساومين لا يكون حينئذ في الكلام فائدة إذ من المعلوم أن كل واحد من المتساومين بالخيار على صاحبه ما لم يقع إيجاب بالبيع والعقد والتراضي ، فكيف يرد الخبر بما لا يفيد فائدة ! وهذا ما لا يظنه ذو لب على رسول اللَه صلى الله عليه وسلم .
ثالثا : أن المراد بالتفرق، تفرق الأقوال بين البائع والمشترى عند الإيجاب و القبول.
ورد بأنه خلاف الظاهر من الحديث، بل خلاف نص بعض الأحاديث وهو " أيمَا رَجل ابتاعَ مِنْ رَجل بيعة، فإنَ كل وَاحدٍ مِنْهُمَا بَالخِيَار، حتى يَتَفَرقا مِنْ مَكانِهِما " .
(1/427)
________________________________________
وأيضاً الإيجاب والقبول، لم يحصل بهما افتراق، وإنما حصل بهما إجماع و التئام.
وهذه نماذج من محاولتهم رد الحديث، سقت منها هذه الثلاثة ليعلم القاري أنهم لم يستندوا على شيء. وهم المالكيون والحنفيون.
كما قال ابن عبد البر.
وقد بالغ العلماء بالرد عليهم. حتى نقل عن بعضهم الخشونة على مالك، لرده الحديث الصحيح، وهو من رواته. وقد روى هذا الحديث من وجوه كثيرة عن جماعة من الصحابة، وإن خالف الحكم في هذين الحديثين بعض ظواهر النصوص من تمام البيع بالعقد بدون ذكر التفرق فإن الشرع قد يخرج بعض الجزئيات عن الكليات تعبدا أو لمصلحة تخصها.
بَابُ مَا نهى اللّه عنه من البيوع
الحديث الأول
عَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضَي اللّه عَنْهُ أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عَن الْمُنَابَذَةِ وَهِي طَرْحُ الرجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إلَى الرَّجُلِ قبْلَ أنْ يُقَلبَهُ أو يَنْظُرَ إلَيهِ وَنَهى عَنِ الْمُلامَسَةِ وَالْمُلامَسَةِ: لمس الرَّجُلِ الثَّوْبَ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِ ".
المعنى الإجمالي:
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغَرَر، لما يحصل فيه من مضرة لأحد المتعاقدين، بأن يغبن في بيعه أو شرائه.
وذلك كأن يكون المبيع مجهولا للبائع، أو للمشترى، أو لهما جميعاً.
ومنه بيع المنابذة، بحيث يطرح البائع الثوب مثلاً، على المشترى، " يعقدان البيع قبل النظر إليه أو تقليبه.
و مثله بيع الملامسة، كأن يجعلا العقد على لمس الثوب، مثلا، قبل النظر إليه أو تقليبه.
وهذان العقدان يفضيان إلى الجهل والغرر في المعقود عليه.
فأحد العاقدين تحت الخطر إما غانما أو غارماً، فيدخلان في (باب الميسر) المنهي عنه.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الملامسة: فسرت بتفاسير، الصحيح منها، ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه من التفاسير التي تعود إلى جهالة المبيع والغرر فيه.
(1/428)
________________________________________
ومن ذلك تفسير الشافعي أن يأتي بثوب مطوي أو في ظلمة، فيلمسه المستام فيقول صاحبه: بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لَمسُكَ مقام نظرك .
2- النهي عن بيع المنابذة وفسرت أيضاً بتفاسير، الصحيح منها ما ذكر في هذا الحديث وأشباهه، مما يعود إلى الجهالة في المبيع .
ومنه بيع الحصاة كأن يقول: اً ي ثوب وقعت عليه الحصاة، فعليك بكذا.
3- أما جعل اللمس أو النبذ بيعاً، أو يجعل البيع معلقاً باللمس أو النبذ مع معرفة المبيع في هذه الصور، فالصحيح أن البيع صحيح، لأنه لا يترتب عليه محذور شرعي ، كالبيع بالمعاطاة.
4- اًن هذين البيعين غير صحيحين، لأن النهى يقتضي الفساد.
5- المراد بالنهى، المبيعات المختلفة: بصفاتها أو قيمتها .
أما ما كان متفقاً، متساوى القيم، فيصح ، لأنه لا تحصل بشرائه على هذه الطرق، الجهالة المحذورة
6- استدل بذلك على عدم صحة شراء المجهول وعدم صحة شراء الأعمى فيما طريق العلم به النظر، لأن ذلك يفض إلى الغرر.
7- وأما البيع الغائب فإنه يصح بيعه إذا كان الوصف يحيط به وإذا وصف وصفاً تنتفي معه جهالته كوصف بيع السلم، فإذا لم يجده المشتري على الصفة المشروطة، فإن كان موصوفاً معينا بطل العقد. وإن كان موصوفا في الذمة فالعقد صحيح ويلزم البائع إحضار ما تتم به الصفات المشروطة في العقد.
8- قال النووي : اعلم أن الملامسة والمنابذة ونحوهما، مما نص عليه، هي داخلة في النهى عن بيع الغرر، ولكن أفردت بالذكر، لكونها من بيعات الجاهلية المشهورة.
قال: والنهى عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة. وقال ابن عبد البر: الأصل في هذا الباب كله النهي عن القمار والمخاطرة، وذلك للميسر المنهي عنه.
9- بهذا تبين أن ما نهى عنه في هذا الحديث، مرجعه إلى الضابط الثاني المتقدم.
الحديث الثاني(1)
__________
(1) الحديث رقم [ 252 ] حسب ترتيب المؤلف هو رقم ( 256) قدمته إلى هنا لأنه كالقطعة من الحديث الذي معه - ا.هـ شارح .
(1/429)
________________________________________
عَن أبي هُرَيرةَ رَضىَ الله عَنْهُ: أنً رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تَلَقًوُا الركْبَان، وَلا يَبع بَغضُكُم عَلى بَيْعِ بَعْض، وَلا تَنَاجَشُوا، ولا يبع حَاضرٌ لِبَاد ، وَلا تُصَروا(1) الغَنَمَ، وَمَن ابتاعَهَا فهو بخْيَرِ النّظَرَيْن بَعْدَ أن يَحْلُبَهَا: إنْ رَضِيَهَا، أمسَكَهَا، وإنْ سَخِطَهَا، رَدَّهَا وصاعا مِنْ تمر"
وفي لفظ " هُو بِالخِيَارِ ثَلاثاً".
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عَبَّاس رَضي الله عَنْهُمَا قال: نَهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُتَلَقَّى الرُّكْبَانُ، وَأنْ يَبِيَع حَاضِر لِبَاد .
قال: فقلت، لابن عباس ما قوله: " حَاضِر لِبَادٍ "؟ قال: لا يَكُونُ لَهُ سِمْسَاراً.
الغريب:
لا تلقوا الركبان: جمع " راكب " ويراد تلقى القادمين إلى البلاد لبيع سلعهم، فيشتريها منهم قبل وصولهم إلى السوق.
وأطلق على الركبان، تغليبا. وإلا فهو شامل للمشاة.
ولا تناجشوا : النجش ، بفتح النون وإسكان الجيم، وهو الزيادة في السلعة
ممن لا يريد شراءها، بل لنفع البائع بزيادة الثمن، أو مضرة المشترى بإغلائها عليه.
مأخوذ من " نجش الصيد " وهو استثارته لأن الزائد يثير الرغبة في السلعة، ويرفع ثمنها. قال ابن قتيبة: النجش: الختل والخديعة، ومنه قيل للصائد: ناجش، لأنه يختل الصيد.
ولا يبع حاضر لباد والحاضر: هو البلدي المقيم " والبادي " نسبة إلى البادية .
والمراد به القادم لبيع سلعته بسعر وقتها. سواء أكان بدويا أم حضرياً، فيقصده الحاضر ليبيع له سلعته بأغلى من سعرها لو كانت مع صاحبها. والسمسار هو البائع أو المشترى لغيره.
__________
(1) التصرية : ربط أحلاف الماشية مدة ، ليجتمع فيها اللبن فيخدع بها الشاري .
(1/430)
________________________________________
ولا تُصَروا الغنم: بضم التاء وفتح الصاد، بعدها راء مثقلة مضمومة، ثم واو الجماعة، والفعل مجزوم بلا الناهية، " والغنم " منصوب على المفعولية ، من التصرية ، وهى الجمع. قال ابن دقيق العيد: تقول : صرّيت الماء في الحوض وصريته- بالتخفيف- إذا جمعته(1).
وتصرية البهائم، حبس اللبن في ضروعها حتى يجتمع. والمنهى عنه، إذا قصد به تغرير المشترى بكثرة لبنها.
المعنى الإجمالي :
في هذين الحديثين الجليلين، ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن خمسة أنواع من البيع المحرم، لما فيها من الأضرار العائدة على البائع أو المشتري أو غيرهما.
1 - فنهى عن تلقى القادمين لبيع سلعهم من طعام وحيوان، فيقصدهم قبل أن يصلوا إلى السوق، فيشترى منهم جَلَبَهمْ.
فلجهلهم بالسعر، ربما غبنهم في بيعهم، وحرمهم من باقي رزقهم الذي تعبوا فيه وَطَووْا لأجله المفازات، وتجشموا المخاطر، فصار طعمة باردة لمن لم يكد فيه.
2- كما نهى أن يبيع أحد على بيع أحد، ومثله في الشراء على شرائه.
وذلك بأن يقول في خيار المجلس أو الشرط: أعطيك أحسن من هذه السلعة أو بأرخص من هذا الثمن، إن كان مشتريا، أو أشتريها منك بأكثر من ثمنها، إن كان بائعا، ليفسخ البيع، ويعقد معه.
وكذا بعد الخيارين، نهى عن ذلك، لما يسببه هذا التحريش من التشاحن والعداوة والبغضاء ؛ ولما فيه من قطع رزق صاحبه.
3- ثم نهى عن النجش، الذي هو الزيادة في السلعة لغير قصد الشراء، وإنما لنفع البائع بزيادة الثمن، أو ضرر المشترى بإغلاء السلعة عليه ونهى عنه، لما يترتب عليه من الكذب والتغرير بالمشترين، ورفع ثمن السلع عن طريق المكر والخداع.
__________
(1) ما يزال أهل نجد حتى الآن يقولون : " بئر صارية " للتي تجمع ماؤها لعدم الأخذ منه .
(1/431)
________________________________________
4- وكذلك نهى أن يبيع الحاضر للبادي سلعته لأنه يكون محيطاً بسعرها ؛ فلا يبقى منه شيئاً ينتفع به المشترون. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " دعوا الناس، يرزق الله بعضهم من بعض" . وإذا باعها صاحبا ، حصل فيها شيء من السعة على المشترين. فالنهى عن بيع الحاضر للبادي، فيه التضييق على المقيمين.
5- ثم نهى عن بيع التغرير والتدليس، وهو ترك اللبن في ضروع بهيمة(1) الأنعام، ليجتمع عند بيعها فيظن المشترى أن هذا عادة لها فيشتريها زائداً في ثمنها مالا تستحقه، فيكون قد نهَى المشترى وظلمه.
فجعل الشارع له مدة يتدارك بها ظلامته ، وهي الخيار ثلاثة أيام له أن يمسكها، وله أن يردها على البائع بعد أن يعلم(2) أنها مصراة.
فإن كان قد حلب اللبن ردها ورد معها صاع تمر بدلا منه.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن تلقى القادمين، لبيع سلعتهم، والشراء منهم، قبل أن يصلوا إلى السوق.
فالنهى يفيد التحريم.
وسيأتي قريباً أن البيع صحيح أو باطل.
2- الحكمة في النهي لئلا يخدعوا، فيشترى منهم سلعهم بأقل من قيمتها بكثير(3).
3- تحريم البيع على بيع المسلم وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة : عندى مثلها بتسعة.
ومثله الشراء على شرائه، كأن يقول لمن باع سلعته بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ العقد مع الأول، ويعقد معه.
__________
(1) إنما عبرت ببهيمة الأنعام مع أن الذي في الحديث الغنم فقط ، لورود الإبل في بعض طرق الحديث وأما ترك البقر ، فلقلتها في بلاد العرب العدنانيين ، والحكم فيها واحد ، لاتحاد المعنى .
(2) قيدت بالعلم ،مع أن الحديث قيده بالحلب ، لأن الحلب طريق للعلم ، فإذا حصل بطريق أخرى كشهادة عدل أو اعتراف البائع ، خير المشتري بين الإمساك والرد ، ولو لم يحلبها .
(3) عبرت بلفظة ( بكثير ) لتتفق حكمة هذا النهي مع حكمة النهي عن بيع الحاضر للبادي -ا.هـ - شارح .
(1/432)
________________________________________
ومحل التحريم في زمن خيار المجلس أو خيار الشرط، وكذلك بعد الخيارين لأن فيه ضررا أيضاً من تأسيف العاقد، مما يحمله على محاولة الفسخ، بانتحال بعض الأعذار، أو اضطغانه على البائع أو المشترى منه، وغير ذلك من المفاسد.
ومثل المسلم في ذلك، الذمي وإنما خرج مخرج الغالب.
وقد قال ابن عبد البر: أجمع الفقهاء على أنه لا يجوز دخول المسلم على الذمي في سومه، إلا الأوزاعى وحده.
4- مثل البيع في التحريم، خطبة النكاح على الخاطب قبله.
وكذلك الوظائف والأعمال، كالمقاولات والإجارات، وغير ذلك من العقود لأن المعنى الموجود في البيع- وهو إثارة العداوة والبغضاء- موجود في الكل.
5- النهي عن بيع الحاضر للبادي وصفته " أن يقدم من يريد بيع سلعته من غير أهل البلد، فيتولى بيعها له أحد المقيمين في البلد " فتحريمه مخصص لحديث " الدين النصيحة ".
6- والحكمة في النهى، إغلاء السلعة على المقيمين إذا باعها عليهم أحد منهم بخلاف ما إذا كانت مع القادم، فلجهله بالسعر، لا يستقصي جميع قيمتها، فيحصل بذلك سعة على المشترين.
7- قيد بعض العلماء التحريم بشروط، أهمها أن يقدم البادي لبيع سلعته، وأن يكون جاهلا بسعر البلد، وأن يكون بالناس حاجة إليها.
8- النهى عن تصرية اللبن في ضروع بهيمة الأنعام عند البيع.
9- تحريم ذلك لما فيه من التدليس والتغرير بالمشترى، فهو من الكذب، وأكل أموال الناس بالباطل. وإن كان قد صراها لحاجته أو لغير قصد البيع فذلك جائز على ألا يضر بالحيوان، وإلا فحرام.
10- أن البيع صحيح لقوله: " إن رضيها أمسكها " ولكن له الخيار بين الإمساك والرد، إذا علم بالتصرية، سواء أعلمه قبل الحلب، أم بالحلب.
11- أن خياره يمتد ثلاثة أيام، منذ علم التصرية.
12- يفيد هذا الحديث، أن كل بيع يقع فيه التدليس فهو محرم، وأن المدلس عليه بالخيار.
(1/433)
________________________________________
13- إذا علم التصرية، وردها بعد حلبها، رد معها صاعاً من تمر بدلاً من اللبن. سواء كانت المصراة من الغنم، أو الإبل، أو البقر، قل اللبن أو كثر. وتقديره من الشارع بمقدار من التمر لا يزيد ولا ينقص روعي فيه قطع الخصام والنزاع لو ترك تقدير ذلك إليهما، بادعاء زيادة اللبن أو نقصه أو اختلاطه باللبن الحادث في الضرع. وتقدير ذلك بالتمر أفضل لأن كلا من التمر والحليب قوت ذلك الزمان، ولأن كليهما مكيل.
وهذا التمر مقابل اللبن الذي اشتريت وهو في ضرعها.
أما الحادث بعد ، فلا يرد عنه شيئاً، لأن الخراج بالضمان.
14- النهى عن النجش، وهو زيادة من لا يريد شراء السلعة في ثمنا، وذلك لنفع البائع أو الإضرار بالمشترى، وربما قصد الإضرار بكليهما، وهو محرم، لأن النهي يقتض التحريم. وإذا كان قد تواطأ مع البائع على النجش فهما شريكان في الإثم وهو مثبت للخيار في البيع.
اختلاف العلماء:
مذهب جمهور العلماء صحة شراء مُتلَفي الركبان، بل حكى عن جميع العلماء.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم وغيره " لا تَلَقوا الجلب، فمن تَلَقى فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق، فهو بالخيار" .
كما أن النهي في الحديث لا يعود إلى نفس العقد، ولا إلى ركن أو شرط منه، وإنما هو، لأجل الإضرار بالركبان، ولا يقدح في نفس البيع، بل يمكن تداركه.
واختلفوا في ثبوت الخيار، فذهب الشافعي، وأحمد: إلى ثبوته، إذا غبن البائع غَبْناً خارجاً عن العادة والعرف عند التجار.
ودليلهم، الحديث المتقدم، ولأن هذا ضرر نزل بالبائع، ولا يمكن تداركه بغير الخيار.
وذهب الحنفية إلى عدم الخيار، والقول الأول هو الصحيح.
واختلفوا في صحة بيع من باع على بيع أخيه.
فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه، والظاهرية: إلى أن البيع غير صحيح، فلا ينعقد، للنهي عنه، والنهي يقتض الفساد.
وذهب الأئمة " الثلاثة " إلى صحة البيع لأن النهى لا يعود إلى نفس العقد، بل إلى أمر خارج عنه.
(1/434)
________________________________________
وما يقال في البيع على البيع، يقال مثله في الشراء على الشراء لأن المعنى واحد فيهما، ولأن الشراء يسمى بيعا أيْضاً.
واختلفوا في صحة بيع الحاضر للبادي.
فالمشهور في مذهب الإمام أحمد، البطلان بشروط أربعة:
1- أن يكون بالناس حاجة إلى السلعة.
2- وأن يقدم البائع، لبيع سلعته بسعر يومها.
3- وأن يكون جاهلا بسعرها.
4- وأن يقصده الحاضر لبيعها له.
فإن اختل شرط منها صح البيع. ودليلهم أن النهى يقتضي الفساد.
وذهب الجمهور إلى صحة البيع مع التحريم، لمخالفته النهي.
وذهب جمهور العلماء- ومنم الأئمة الثلاثة، مالك، والشافعي، وأحمد: إلى رد صاع من تمر، عن لبن المصراة عند ردها إلى البائع، كما هو نص الحديث الصحيح.
وذهب الحنفية: إلى أنه لا يرد شيئا، وللمشترى اللبن بدل علفها. وحاولوا رد نص الحديث بدعوى النسخ بقوله تعالى : { وَإن عَاقَبتمْ فَعَاقِبُوا بمثْل ما عُوقِبْتم به }
وإن فرضنا تأخر الآية عن الحديث، فما فيها حجة، لأنها في باب العقوبات، وليس موضوعنا منها.
واعتذارهم الثاني عن الأخذ بالحديث، أنه مخالف لقياس الأصول، وهو " أن اللبن مثلى، فيقتضى الضمان بمثله، والضمان يكون بقدر المثل، وهذا ضمن بصاع مطلقاً، قلّ أو كَثُرَ ".
وما أشبه ذلك من اعتراضات، أجاب عنها العلماء. ويكفى للجواب عنها أن نقول: إن خبر الشارع الثابت مقدم على قياس الأصول، لأنه أصل بنفسه، واجب الاعتبار بل إن الأصول لا تستند ولا تؤصل، إلا من نصوص الشارع. فلا يمكن أن ندع حديثا صحيحاً واضحا بلا معارض راجح، يقدم عليه. قال الخطابي في (معالم السنن): والأصل أن الحديث ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب القول به، وصار أصلا في نفسه.
والأصول إنما صارت أصولا لمجيء الشريعة بها وخبر المصراة قد جاء به الشرع من طرق جياد، فالقول به واجب، وليس تركه لسائر الأصول بأولى من تركها له- ا.هـ كلامه.
فائدتان:
(1/435)
________________________________________
الأولى: إذا تأملت ما تقدم من " الاستنباطات" و "خلاف العلماء" وجدت أن بعضهم مستمسك بظاهر الحديث، وآخذ بما دل عليه لفظه وبعضهم الآخر قد قيده ببعض القيود، تخصيصاً أو تعميماً.
وهذا- كما قال تقي الدين " ابن دقيق العيد ": دائر بين اتباع المعنى، واتباع اللفظ. والأحسن أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورا كثراً، فلا بأس باتباعه.
وتخصيص النص به أو تعميمه على قواعد القياس، وحيث يخفى أو لا يظهر ظهوراً قوياً، فاتباع اللفظ أولى
على أني لم أذكر إلا قليلا مما لم يدل عليه ظاهر الحديث، وذلك حين يقوى الأخذ بالمعنى جدا، كتقييد إطلاق بيع البائع للبادي بتلك الشروط الثلاثة، فإنها- عند تأمل معنى الحديث، ومقصود النهى منه- معتبرة، وكذلك تعمل الحكم في تصرية بهيمة الأنعام مع أن الوارد في هذا الحديث الغنم، لأن المعنى مفهوم وظاهر عمومه في جميعها.
وكذلك تقييد " خيار الجالب " بالغبن عادة، رجوعاً إلى المعنى الواضح في ذلك، وهو إزالة الضرر عنه. وأعرضت عن شيئين هما:
1- إما تمسك حرفي متقيد باللفظ، كمن جمد على قصر حكم التصرية في الغنم خاصة، لأنها المنصوص عليها، وغفل عن المعنى الواضح المقصود.
2- وإما ابتعاد عن ظاهر الحديث إلى معنى بعيد، كمن شرط في بطلان بيع الحاضر للبادي، أن يقصده الحاضر، فإن لم يقصده بل قصده البادي، فلا تحريم، والبيع صحيح، على أني ذكرته عن مذهب الحنابلة لبيان المذهب فقط.
وبهذا أرى أني توسطت بين الوجهتين، وسلكت طريقاْ متوسطة مرضية.
الثانية: في تحريم تَلَقِّي الركبان، وبيع الحاضر للبادي يعلم كيف أن الإسلام يراعى المصالح العامة على المصالح الخاصة، كما هو مقتضى العقل الصحيح.
فإن انتفاع أهل البلد بشرائهم السلع رخيصة، قُدمَ على انتفاع الواحد ببيعه سلعته غالية.
(1/436)
________________________________________
كذلك منعت مصلحة فرد، يتلقى الركبان، لأجل مصلحة أهل البلد الذين لهم الحق في أن ينتفعوا جميعاً بالشراء من الجالب مباشرة، مع ما فيه من دفع الضرر عن الجالب أيضاً.
الحديث الرابع
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضَي الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ اللّه صلى الله عليه وسلم نَهى عن بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلةِ. وَكَان بَيْعاً يَتَبَايَعُهُ أهْلُ الْجَاهِلِيةِ. كَانَ الرَّجُلُ يَتَبَايَعُ الْجزُورَ إلَى أنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تنتج التي في بَطْنِهَا.
قيل: إنه كان يبيع الشارِفَ- وهي الكبيرة الْمُسِنَّةُ بنتاج الجنينِ، الذي في بطنِ نَاقَتِهِ.
الغريب:
حَبَل الحَبَلة: بفتح الحاء والباء فيهما. و" الحبلة " جمع " حابل " كظالم وظلمة، وكاتب وكَتبة، واكثر استعمال الحبَل للنساء خاصة، والحمل لهن ولغيرهن، من إناث الحيوان.
الجزور: هو البعير ذكراً كان أو أنثى، وجمعه، جزر، وجزائر.
تنتج: بضم التاء الأولى وإسكان النون وفتح التاء الثانية، وبعدها جيم معناه، تلد. وهو آت على صيغة المبنى للمجهول دائما. وقد أسند إلى الناقة.
الجاهلية: يطلق هذا الاسم، على الزمن الذي قبل الإسلام وأهله، مشتق من الجهل، لغلبته عليهم تنتج التي في بطنها: يريد بيع نتاج النتاج، أي بيع أولاد أولادها. وذلك بأن ينتظر أن تلد الناقة، فإذا ولدت أنثى ينتظر حتى تشب، ثم يرسل عليها الفحل، فتلقح فله ما في بطنا.
المعنى الإجمالي :
أشهر تفاسير هذا البيع تفسيران(1)
__________
(1) اشتهر التفسير الأول عن راوي الحديث ابن عمر فأخذ به مالك والشافعي ، لأن الراوي أعلم بمعنى ما روى .
وأما التفسير الثاني ، فلبعض أئمة اللغة ، كأبي عبيدة ، وأبي عبيد ، وابن الأنباري والجوهري .
قال النووي : هذا أقرب إلى اللغة -ا.هـ - شارح . ولحبل الحبلة معنى آخر عند علماء اللغة وهو حمل الكرمة قبل أن تبلغ . ومثله النهي عن بيع ثمر النحل قبل أن يزهي . انظر لسان العرب (حبل)
(1/437)
________________________________________
1- فإما أن يكون معناه التعليق، وذلك بأن يبيعه الشيء بثمن مؤجل بمدة تنتهي بولادة الناقة، ثم ولادة الذي في بطنها، ونُهيَ عنه لما فيه من جهالة أجل الثمن ، والأجل له وقع في الثمن في طوله وقصره.
2- وإما أن يكون معناه بيع المعدوم المجهول، وذلك بأن يبيعه نتاج الحمل الذي في بطن الناقة المسنة، ونُهي عنه لما فيه من الضرر الكبير والغرر، فلا
يعلم: هل يكون أنثى، وهل هو واحد أو اثنان، وهل هو حي أو ميت؟ ومجهولة مدة حصوله-
وهذه من البيعات المجهولة، التي يكثر ضررها وعذرها، فتفضي إلى المنازعات.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن هذا البيع على كلا التفسيرين، لأنه إن كان على الأول، فَلِمَا فيه من جهالة الأجل وإن كان على الثاني، فَلِمَا فيه، من فقدان المبيع، وجهالته.
2- النص على هذا النوع من البيع، لأنه من بيعات الجاهلية، وإلا فهو عام في كل بيع يحصل فيه جهالة وغرر.
3- حكمة النهى، أنه من بيع الغرر المفضي إلى الميسر والقمار، وأكل المال بالباطل، مع ما يحصل في ذلك من الشجار والخصام، والعداوة والبغضاء.
قاعدة في المعاملات المحرمة ملخصة
من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
الأصل في ذلك أن اللّه حرم في كتابه أكل أموالنا بيننا بالباطل، وذم الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، وذم اليهود على أخذهم الربا وقد نهوا عنه، وهذا يعم كل ما يؤكل بالباطل في المعاوضات والتبرعات وما يؤخذ بغير رضا المستحق.
وأكل أموال الناس بالباطل في المعاوضات نوعان ذكرهما الله في كتابه هما: الربا والميسر. فقد تحرم الربا الذي هو ضد الصدقة في سورة البقرة وآل عمران والروم والمدثر والنساء، وذكر تحريم الميسر في سورة المائدة.
ثم إن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فصل ما أجمله الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر، وهو المجهول العاقبة، لاًن بيعه من الميسر، وذلك مثل بيع العبد إذا أبق، أو الفرس والبعير إذا شرد.
(1/438)
________________________________________
أما الربا فتحريمه في القرآن أشد، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر، لأنه لا يضطر إليه إلا المحتاج، فيأخذ ألفا معجلة ليدفع ألفا ومائتينِ مؤجلات، والموسر لا يفعل ذلك، فيكون في هذه الزيادة ظلم للمحتاج.
وقد حرم الرسول صلى الله عليه وسلم أشياء يخفي فيها الفساد، لأنها مفضية إلى الفساد المحقق، مثل ربا الفضل فإن الحكمة فيه قد تخفى. ومفسدة الغرر أقل من الربا فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه. كبيع العقار ولم تعلم الأساسات، وبيع الدابة الحامل والمرضع. وإن لم يعلم الحمل واللبن، وبيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وإن كانت الأجزاء التي يكمل بها الصلاح لم تتحقق بعد، فظهرا أنه يجوز من الغرر اليسير ضمنا وتبعا ما لا يجوز في غيره.
أما الربا فإنه لما احتاج الناس إلى العرايا أرخص في بيعها بالخرص، ولم يجوز المفاضلة المتيقنة، بل سوغ المساواة بالخرص في القليل الذي تدعو إليه الحاجة وهو قدر النصاب، أي خمسة أوسق ومادون. وأصول مالك في البيوع أجود من أصول غيره، والإمام أحمد موافق لمالك في الغالب منها، فإنهما يحرمان الربا، ويشددان فيه حق التشديد، حتى يسدا الذرائع المفضية إليه وإن لم تكن حيلة.
وفي الجملة فإن أهل المدينة وفقهاء الحديث مانعون من أنواع الربا منعاً محكما مراعون لمقصود الشريعة وأصولها، وقولهم في ذلك هو الذي يؤثر فعله عن الصحابة وتدل عليه معاني الكتاب والسنة.
وأما الغرر فمن أشد ما قيل فيه قولا أبي حنيفة والشافعي ، فإنه يدخل في هذا الاسم من الأنواع مالا يدخله غيره من الفقهاء. مثل الحب والثمر في قشره، كالباقلاء والجوز واللوز في قشره، وكالحب في سنبله، فإن القول الجديد عنده أن ذلك لا يجوز.
وأما مالك فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز عنده بيع هذه الأشياء وبيع جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره، حتى إنه يجوز عنده بيع المقاثي جملة وبيع المغيبات في الأرض كالجزر والفجل.
(1/439)
________________________________________
وأحمد قريب منه، فقد خرج ابن عقيل عنه وجهين فيها، الثاني منهما أنه يجوز كمذهب مالك ، وهذا القول هو قياس أصول أحمد.
باب النهي عن بيع الثمرة
قبل بُدُوِّ صلاحها(1)
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللَه بْن عُمَرَ رَضىَ الله عَنْهُمَا: ان رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ بَيْعِ الثًمَرَةِ حَتَى يَبدو صَلاحُهَا، نَفى البَاِئعَ وَالمُشتَرِيَ.
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الثمار حتى تُزْهَى. قِيلَ: وَمَا تُزْهَى؟ قال: حَتَى تَحْمَرًا أوْ تَصْفر. قال: " أرَأيتَ إذَا مَنَعَ الله الثًمَرَةَ بمَ يَسْتَحِق أحَدُكمْ مَال أخِيهِ؟.
الغريب:
تزهى: بضم التاء من " أزهى يزهى " والإزهاء في الثمر، أن يحمر أو يصفر، لبدء الطيب فيه.
حتى يبدو: قال النووي: هو بمعنى يظهر، وهو بلا همز.
المعنى الإجمالي :
كانت الثمار مُعَرضة لكثير من الآفات قبل بُدُو صلاحها، وليس في بيعها مصلحة للمشترى في ذلك الوقت.
فنهى النبي البائع والمشترى عن بيعها حتى تزهى، وذلك بُدُو الصلاح، الذي دليله في تمر النخل، الاحمرار أو الاصفرار.
ثم علل الشارع المنع من تبايعها، بأنه لو أتت عليها آفة، أو على بعضها، فبماذا يحل لك- أيها البائع- مال أخيك المشترى، كيف تأخذه بلا عوض ينتفع به ؟
ما يؤخذ من الحديثين:
1- النهْيُ عن بيع الثمار قبل بُدُو صلاحها.
2- النهى يقتضي الفساد، فيكون بيعها غير صحيح.
3- جواز بيعها بعد بُدُو صلاحها. وكذلك لو باعها قبل بدو صلاحها بشرط القطع في الحال. وهو قول الجمهور.
__________
(1) وضعت هذه الترجمة ، لتفصيل المقام -أه- شارح
(1/440)
________________________________________
4- أن دليل الصلاح في ثمر النحل، الاحمرار أو الاصفرار ، ولو في بعض الثمرة. فصلاح بعض الثمرة في شجرة دليل على صلاحها جميعها، و ينسحب هذا على سائر ذلك النوع في البستان الواحد وقد ذكر في التمر الاحمرار أو الاصفرار أما غيره من الثمر فصلاحه أن يطيب كله ويظهر نضجه والصلاح في الحب اًن يشتد.
5- الحكمة في النهى، هو أنها قبل بُدو الصلاح، معرضة لكثر من الآفات. فإذا تلفت، أو تضررت صار ذلك في ملك المشترى، الذي لم ينتفع منها، فيكون من أكل الأموال بالباطل.
كما أن بيعها قبل بُدوِّ الصلاح، ليس له فائدة لعدم الانتفاع بها.
وكذلك فيه قطع للتخاصم والتنازع بين المتعاملين، وإزالة لأسباب العداوة والبغضاء بينهم.
6- فيه تحريم أكل أموال الناس بغير حق، ولو بما فيه صورة رضا من الطرفين.
الحديث الثالث
عَنْ عَيْدِ الله بن عُمَرَ رَضي اللَه عَنْهُمَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَن الْمُزَابَنَةِ. وهي أن يَبِيعَ ثمَرَ حَائِطِهِ إنْ كان نَخْلا بِتَمْر كَيْلًا، وَإنْ كان كَرْماً أنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيب كيْلا ، وإنْ كَانَ زَرْعا أنْ يَبِيعَهُ بِكَيلِ طَعَاما ، نَهَى عَنْ ذلِكَ كُلهِ.
الغريب:
المزابنة: بضم الميم، وفتح الزاى، والباء، والنون ، على وزن المفاعلة. وهى مأخوذة من " الزبن " وهو: الدفع الشديد، كأن كل واحد من المتبايعين يدفع صاحبه عن حقه.
المعنى الإجمالي :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، التي هي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه، لما في هذا البيع من الضرر، ولما فيه من الجهالة بتساوي المبيعين المفضية إلى الربا وقد ضربت لها أمثلة توضحها وتبينها.
وذلك، كأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا، بتمر كيلا، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلا. أو زرعاً، أن يبيعه بكيل طعام من جنسه، نهى عن ذلك كله، لما فيه من المفاسد، والأضرار.
الاختلاف في معنى المزابنة:
(1/441)
________________________________________
أجمع العلماء على أن هذه الصورة المذكورة في الحديث مزابنة.
ولكن الإمام الشافعي، جعل هذه الصور، أصل المزابنة، وألحق بها كل بيع مجهول بمجهول، أو بمعلوم يجرى فيه الربا، بناء منه على أن تفاسير المزابنة في أحاديثها، مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وعلى فرض أنها تفاسير رواتها من الصحابة، فهم أعلم بما رووا، فقولهم مقدَّمٌ على قول غيرهم.
أما الإمام مالك، فمعنى المزابنة عنده، أنها بيع كل شيء، لا يعلم كيله، أو وزنه، أو عدده، بشيء من جنسه. سواء أكان ربوياً أم غيره، لأن سبب النهى، ما فيه من المخاطرة.
وقد رجع في تفسيرها إلى أصلها اللغوي، وقد تقدمت الإشارة إليه في [ الغريب ].
ويترجح- عندي- تفسير مالك، لأنه جامع لكثير من المنهيات تحت أصل واحد.
وأما التفاسير المذكورة، فلا تنافي، لأن عادة السلف، اً نهم يفسرون الشيء بمثاله، وهو جزء منه. ولا يريدون به حصره في هذا النوع، وإنما يريدون به المثال.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن المزابنة.
2- تعريفها بهذه الصور، التي توضح أصلها.
3- أن بيوعاتها فاسدة، لأن النهي يقتضي الفساد.
4- حكمة النهي عنها، ما فيها من المخاطرة والقمار، لأنها بيع معلوم بمجهول. ولما فيها من بيع النوعين الربويين المجهولين، لأنه لابد في صحة بيعهما من العلم بالتساوي. فأما مع الجهل بتساويهما، فهو مظنة الربا الراجحة، فيحرم.
5- فيه دليل على تحريم بيع الرطب بادر، لعدم العلم بالتساوي ولو تحرى في تساويهما، بل يدل على تحريم بيع كل نوعين ربويين، جهل تساويهما إما لكونهما اختلفا في الرطوبة، أو اليبوسة، و إما لكون أحدهما حبا و الآخر طحيناً، أو أحدهما مطبوخا، والآخر نيئا ، أو غير ذلك مما لا يعلم معه التساوي بينهما.
الحديث الرابع
(1/442)
________________________________________
عَن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّه رَضي اللّه عنهما قال: نَهَى النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُخَابَرَةِ، والْمُحَاقَلَةِ، وَعِنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، وَأنْ لا تُبُاعَ إلا بِالدينَارِ وَالدِّرْهَمِ، إلا الْعَرايَا ".
المحاقلة:- بيع الحنطة في سنبلها.
الغريب:
المخابرة: على وزن المفاعلة، مأخوذة من " الخبار " وهي الأرض اللينة القابلة للزرع، أو من " الخبير " وهو من يحسن حرث الأرض.
المحاقلة: مأخوذة من " الحقل" وهو الزرع وموضعه، فاشتقت منه. والمراد بها- هنا- ييع الحنطة بسنبلها، بحنطة صافية من التبن. المزابنة، تقدمت، و" العرايا " : ويأتي الكلام عليها مفصلا في موضعه، إن شاء الله تعالى .
المعنى الإجمالي:
تقدم أن الأصل في المعاملات الحل والجواز، وأنها باقية على أصل الإباحة والبراءة الأصلية.
وما ورد عن الشارع الحكيم، من النهى عن بعض المعاملات التي يرجع إلى قاعدة الربا المحرمة المستقبحة شرعاً وعقلا وغير هاتين من قواعد الفساد الذي حاربه الشارع يشمله النهى من باب أولى.
ومن تلك المعاملات الراجعة إلى الجهالة وإلى الربا أيضا، المخابرة، والمحاقله، التي هي عبارة عن بيع الحب في سنبله، بحب من جنسه.
فهنا جهل أحد العوضين، لأنه مستور بأوراقه وتبنه، والجهل بذلك يوقعنا في ربا الفضل، لأن الجهل بالتماثل، كالعلم بالتفاضل في الحكم.
ومثل المحاقلة، المزابنة : التي هي بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مثله .
فما يقال في الأول، يقال في هذا.
واستثنى من ذلك، مسألة " العرايا " بشروطها، للحاجة إليها. وتأتي إن شاء الله تعالى.
كما نهى عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، حفظا للحقوق ، ولئلا يأخذ البائع الثمن بلا مقابل ينتفع به المشترى.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن المخابرة، والمحاقلة، والمزابنة.
2- استثنى من المزابنة، العرايا، للحاجة.
(1/443)
________________________________________
3- النهى عن هذه. لما فيها من الجهل بتساوي العوضين، والجهل بذلك يفضي بنا إلى الربا.
4- من باب أولى يحرم البيع إذا علم التفاضل بين العوضين، الربويين من جنس واحد.
5- النهي عن بيع الثمر قبل بُدو صلاحه، لأمن العاهة.
الحديث الخامس
عَنْ أبي مَسْعُودٍ الأنصاري رَضىَ الله عَنْهُ: أنً رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، ومَهْرِ البَغِي، وَحُلْوانِ الْكَاهِنِ.
الغريب:
مهر البغي: البغي : بفتح الباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وتشديد الياء. وهو فعيل، بمعنى فاعلة، يعنى الباغية، والبغاء : الطلب، وكثرة استعماله في الفساد. ومهرها، ما تعطاه على الزنا، سمى مهراً، من باب التوسع.
حُلوان الكاهن: الحُلوان بضم الحاء، مصدر " حلوته " إذا أعطيته.
قال في فتح الباري : وأصله من " الحلاوة " شبه بالشيء الحلو، من حيث إنه يؤخذ سهلا بلا مشقة.
وأما الكاهن: فهو الذي يدعى علم الأشياء المغيبة المستقبلة. وفي معناه " العراف" و " المنجم " ونحوهما من المشعوذين والدجالين.
المعنى الإجمالي :
لطلب الرزق طرق كريمة شريفة طيبة، جعلها الله عوضا عن الرزق الخبيثة الدنيئة.
فلما كان في الطرق الأولى كفاية عن الثانية، ولما كانت مفاسد الثانية عظيمة لا يقابلها ما فيها من منفعة، حرم الشرع الطرق الخبيثة التي من جملتها، هذه المعاملات الثلاث.
1- بيع الكلب: فإنه خبيث رجس، ثمنه خبيث لا يحوز أكله واستحلاله.
2- وكذلك ما تأخذه الزانية مقابل فجورها، الذي به فساد الدين والدنيا.
3- ومثله ما يأخذه أهل الدجل والتضليل، ممن يدعون معرفة الغيب والتصرف في الكائنات، ويخيلون على الناس- بباطلهم- ليسلبوا أموالهم، فيأكلوها بالباطل.
كل هذه طرق خبيثة محرمة، لا يجوز فعلها، ولا تسليم العوض فيها، وقد أبدلها اللَه بطرق مباحة شريفة.
ما يستفاد من الحديث
(1/444)
________________________________________
1- النهى عن بيع الكلب، تحريم ثمنه، ولا فرق بين المعلم وغيره، وكلب الزرع والماضية وغيره، وإنما يجوز اقتناؤه فقط بهذه الأشياء الثلاثة.
2- تحريم البغاء وتحريم ما يؤخذ عليه، سواء كان من حُرَةٍ أو أمة ، فهو خبيث من عمل خبيث في جميع طرقه.
3- تحريم " الكهانة " ونحوها من العرافة، والتنجيم، وضرب الحصى، وتحضير الجن، وتحريم أخذ شيء على هذه الأعمال الخرافية الشيطانية.
4- من هذه المنهيات وغيرها، يعلم أن الشريعة نهى عن كل ما فيه مضرة وما يترتب عليه من مكاسب.
الحديث السادس
عَنْ رَافِعِ بْن خَديج: أنً رسُولَ اللَه صَلًى الله عَلَيْهِ وَسَلًمَ قَالَ : " ثَمَنُ الْكَلب خبيثٌ ، وَمَهْرُ الْبَغي خبِيثٌ ، وَكَسْبُ الَحجّام خَبِيثُ(1)
المعنى الإجمالي :
يبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم المكاسب الخبيثة والدنيئة لتجنبها، إلى المكاسب الطيبة الشريفة. ومنها ثمن الكلب، وأجرة الزانية على زناها، وكسب الحجام، فهي مكاسب دنيئة كريهة سافلة، يجتنبها ذو الكرامة والمروءة.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي ، واجتناب ما يؤدى إليهما.
2- النهى عن كسب الحجام، لأنها مهنه زرية، مخلة بالكرامة والشرف، فمكسبها خبيث.
3- قال شيخ الإسلام إذا عرف الحرام بعينه لم يؤكل حتما، وإن لم يعرف عينه لم يحرم الأكل منه، لكن إذا كثر الحرام يترك ورعا.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في كسب الحجام.
فذهبت طائفة من العلماء إلى أنه محرم لهذا الحديث ، ولما روى أبو هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن كسب الحجام " رواه أحمد.
__________
(1) هذا الحديث من أفراد مسلم كما نبه عليه " عبد الحق " وغيره .
(1/445)
________________________________________
وروى أحمد أيضا عن مُحَيصَة بن مسعود: " أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم عن كسبه فقال: ألا أطعمه أيتاما لي ؟ قال: لا. قال: أفلا أتصدق به؟ قال: لا فرخص له أن يعلفه ناضحه "(1)
ذهب بعض العلماء: إلى أنه حلال، لأن أحاديث النهى منسوخة بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم أجره، ولكن النسخ يحتاج إلى معرفة المتأخر من الأدلة. وأحسن ما يجمع به أدلة الفريقين، أن يقال: إن لفظ " الخبيث " كما يطلق على المحرم، يطلق أيضا على الشيء الرديء والكسب الدنيء ، كقوله تعالى: { ولا تَيَمّموا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقون } وسمى الشارع الثوم والبصل خبيثين . فتسمية كسب الحجام خبيثا من هذا الباب، لأنه مكسب دنيء ، من مهنة زرية.
والشارع يرغب في معالي الأمور، والمكاسب الطيبة الشريفة. فيكون كسب الحجام خبيثا من جانب الآخذ، مع أنه حلال له.
باَب الْعرَايا (2)
هذا الباب يذكر فيه ما جاء في جواز بيع العارية- ويأتي تعريفها-: وهى مسألة مستثناة من تحريم "بيع المزابنة " الذي تقدم الكلام عليه في الحديث رقم [257] ، ويأتي توضيح ذلك وتوجيهه إن شاء الله تعالى.
الحديث الأول
عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ رَضي الله عَنْهُ: أن رَسولَ الله صَلًى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ رَخَصَ لصاَحب الْعَريَّةِ أنْ يَبيعَها بخَرْصِهَا.
ولـ " مسلم " بِخَرْصِهَا تمْراً، يَأكُلُونَهَا رُطباً.
الغريب:
__________
(1) ورد في رواية " اعلفه نضاحك " والناضحة هي الناقة التي تخرج الماء من البئر ، والنضاح : الرقيق الذي يعملون في ذلك .
(2) كانت ترجمة المؤلف [ باب العرايا وغير ذلك ] فرأيت أن أجعل العرايا في باب ، وباقي أحاديث الباب في ثلاثة أبواب تناسبها للأحكام . ا.هـ شارح
(1/446)
________________________________________
العرية: فعيلة بمعنى مفعولة. وجمعها عرايا مثل مطية ومطايا. قال في مختار الصحاح : وإنما أدخلت فيها الهاء، لأنها أفردت فصارت في عداد الأسماء، كالنطيحة، والأكيلة. وسميت " عرية " لانفرادها بالرخصة عن أخواتها.
المعنى الإجمالي :
تقدم أن بيع التمر على رؤوس النخيل بتمر مثله محرم، لأنه بيع المزابنة
المنهي عنه، لما فيه من الجهل بتساوي النوعين الربويين.
وأشد حالاته إذا باعه على رؤوسه وهو رطب، بتمر جاف، فقد خفى تساويه من وجهتين 1:- كونهما بيعاً خرصا 2: - وكون أحدهما رطبا، والآخر جافاً، فهذا البيع أحد صور " ربا الفضل " .
كانت الأثمان قليلة في الزمن الأول، فيأتي الرطب في المدينة والتفكه به، والناس محتاجون إليه، وليس عند بعضهم ما يشترى به من النقود، فرخص لهم أن يشتروا مايتفكهون به من الرطب بالتمر الجاف ليأكلوها رطبة مراعين في ذلك تساويهما لو آلت ثمار النخل إلى الجفاف.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع التمر على النخل بتمر مثله، لأنه بيع المزابنة المنهي عنه، ومأخذه في هذا الحديث لفظ " رخص ".
2- جواز بيع العرية- وتقدم شرحها لغة وشرعا-: هو مستثنى من التحريم السابق في المزابنة.
3- أن الرخصة لمن احتاج إلى أكل الرطب خاصة.
4- أن يقدر الرطب على النخلة تمرا بقدر التمر الذي جعل ثمنا له.
فائدتان:
الأولى: تقدم التحريم في بيع المزابنة الذي هو إحدى صور الربا المحرم، واستثنى من هذا التحريم مسألة " العرايا " .
فلما جاءت على خلاف الأصل، اشترط العلماء للرخصة فيها شروطا ، بعضها مأخوذ من أحاديثها، وبعضها باق على أصل معاملة الربا.
1- أن تخرص النخلة بما تؤول إليه تمراً لطلب المماثلة.
2- أن تكون لمحتاج إلى الرطب ليأكله رطبا.
والمشهور من مذهبنا المنع في عكس هذه المسألة: وهو أن يشترى المحتاج إلى التمر برطبة تمراً وفى وجه يجوز ، لأنه إذا جاز لمن يريد التفكه بالرطب، فكيف لا يجوز لمن احتاج إلى التمر ليأكل؟!
(1/447)
________________________________________
3- أن لا يكون معه نقود يشترى بها.
4- أن يتقابضا قبل التفرق، فالتمر بكيله، والنخلة بتخليتها.
5- أن لا تزيد عن خمسة أوسق، ويأتي في الحديث الذي بعد هذا.
6- إذا اشترى اثنان فأكثر من الرطب لكل واحد خمسة أوسق من رجل واحد صح، ولو اشترى شخص من بائعين فأكثر خمسة أوسق صح أيضاً. أما إذا اشترى من اثنين فأكثر أزيد من خمسة أوسق فلا يصح.
الفائدة الثانية:
الجمهور من العلماء يقصرون الجواز على النخل خاصة، ورخص به طائفة من العلماء ومنهم شيخ الإسلام في سائر الثمار، لأن الرطب فاكهة المدينة ولكل بلد فاكهة، والحكمة المرخصة موجودة فيها كلها، والرخصة عامة.
الحديث الثاني
عَنْ أبي هريرةَ رَضي الله عَنْهُ: أنَ النبي صَلى الله عَلَيْهِ وَسلمَ رَخَّصَ في بَيْع العَرَايَا في خَمْسَةِ أوْسُق ، أو دون خَمْسَةِ أوْسقٍ .
المعنى الإجمالي :
لما كانت مسألة "العرايا" مباحة للحاجة من أصل محرم، اقتصر على القدر المحتاج إليه غالباً، فرخص فيما قدره خمسة أوسق فقط أو ما دون ذلك، لأنه في هذا القدر تحصل الكفاية للتفكه بالرطب.
ما يستفاد من الحديث:
1- الرخصة في بيع العرايا للحاجة إلى التفكه بالرطب.
2- أن تكون الرخصة بقدر الكفاية، لأن الرخصة لا يتجاوز بها قدر الحاجة.
3- الوسق بسكون السين- ستون صاعا نبويا ، فيكون ثلاثمائة صاع. وتقدم أن الصاع النبوي، ينقص عن صاعنا الحاضر (وكيلتنا) الخمس وخمس الخمس، وهذا هو الحد الأعلى للجواز.
اختلاف العلماء:
(1/448)
________________________________________
ذهب كثير من العلماء، ومنهم الشافعية والحنابلة والظاهرية: إلى أنه لا يجوز بيع العرايا إلا فيما دون خمسة أوسق ، لأن الأصل التحريم، وبيع العرايا رخصة، فيؤخذ بما يتحقق فيه الجواز ، ويلغى الشك الذي وقع في الحديث [ خمسة أوسق أو دون خسة أوسق] وهو شك وقع لأحد رواة الحديث. وهو داود بن الحصين، فلذلك جوزنا " دون خمسة أوسق " لأنه متفق عليها ومنعنا " الخمسة " للشك فيها. والأصل التحريم للنهى عن المزابنة.
وذهب بعضهم- ومنهم المالكية- إلى الجواز في الخمسة عملا برواية الشك، وبما روى عن سهل بن أبي حَثْمة [ أن العرية ثلاثة أوسق أو أربعة أو خمسة] وهو رواية عن الإمام أحمد، نظر فيها إلى عموم الرخصة، فلا يضر الشك في الزيادة القليلة، واختارها شيخنا " عبد الرحمن آل سعدي " رحمه الله تعالى.
باب بيع النخل بعد التأبير
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عُمَرَ رَضي اللّه عَنْهُما: أن رَسولَ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مَنْ بَاعَ نَخْلا قَدْ أبرت فَثَمَرَتُهَا للْبَائِع، إلا أنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ"
ولـ " مسلم "(1) و" مَنْ ابتَاعَ عَبْدا فَمَالُهُ للَّذِي بَاعَهُ إلا أن يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ".
الغريب:
أبرت: بتخفيف الباء وتشديدها.
فالأول : أبرت النخل أبراً، بوزن أكلت أكلا.
والثاني : أبرت النخل تأبيراً، بوزن علمته أعلمه تعليماً.
والتأبير:التلقيح، وهو وضع شيء من طلع ذكر النخل، في طلع إناثه.
المبتاع: هو المشترى، بقرينة الإشارة إلى البائع ويأتي اللفظ للبائع والمشترى، فهو من الأضداد.
__________
(1) قول المصنف : ولـ " مسلم" يوهم أن هذه الزيادة لم يذكرها البخاري في صحيحه ، وليس كذلك ، بل هي في الصحيحين كما نبه عليه في فتح الباري ، وقد ذكرها البخاري في [ باب الرجل يكون له ثمر أو شرك في حائط أو نخل ] والذي أوقع المصنف في الوهم ، هو عدم ذكر البخاري لها في ( باب البيع ) واقتصاره على القطعة الأولى - ا. هـ .
(1/449)
________________________________________
المعنى الإجمالي:
أول العمل في ثمرة النخل هو تلقيحه، ولهذا فإن الشارع أناط به الحكم. فمن باع أصول نخل، فإن كانت الثمرة مؤبرة قد عمل بها صاحبها واستشرفت نفسه لها، فهي للبائع مبقاة على أصولها إلى أوان جذاذها. وإن لم تؤبر فهي داخلة في بيع الأصول، فتكون للمشترى. هذا ما لم يشترط المشترى في الصورة الأولى، دخول الثمرة أو بعضها في البيع، أو يستثنى البائع الثمرة أو بعضها في الصورة الثانية، فتكون باقية على أصولها إلى أوان جذاذها، لاًن المسلمين على شروطهم الصحيحة، وهذا منها. وكذلك العبد الذي جعل سيده بيده مالا، فإن باعه فماله لسيده الذي باعه لأن العقد لا يتناوله، إلا أن يشترطه المشترى، أو يشترط بعضه، فيدخل في البيع.. ولو كان المال الذي معه مما يجرى فيه الربا مع الثمن فإنه جائز لأنه تابع غير مقصود لذاته والتابع لا حكم له، لأنه في حكم المتبوع.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن من باع نخلا قد أُبّر، فثمرته للبائع، وهذا منطوق الحديث.
2- أن من باع نخلا لم يؤبر، فثمرته للمشترى، وهذا مفهوم الحديث.
3- إن استثنى البائع الثمرة التي لم تؤبر، أو بعضها فهي له بشرطه.
4- إن اشرط المشترى دخول الثمرة المؤبرة بالعقد، فهي له بشرطه.
5- صحة اشتراط بعض الثمرة مأخوذ من حذف المفعول به من قوله [ إلا أن يشترط المبتاع ] ، فهو صادق عليه كله، وعلى بعضه.
6- إن كان بعض ثمره مؤبرا ، وبعضه غير مؤبر، فالصحيح أن لكل حكمه، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدماً. إلا إذا كان التأبير في نخلة واحدة فتكون كل ثمرتها للبائع، لأن باقيها تبع لأولها.
7- ألحق الفقهاء بالبيع جميع التصرفات: كأن يكون النخل عوض صلح. أو صداقا، أو جعله صاحبه أجرة، أو هبة أو غير ذلك مما فيه نقل الملك .
8- دخول الثمرة في البيع إذا اشتريت قبل التأبير ، أو اشترطها المشترى وهي مؤبرة ، يُعَدّ بيعاً للثمر قبل بُدُو صلاحه، لكن رخص فيه لأنه تابع
(1/450)
________________________________________
لأصله. ليس مستقلا. والقاعدة العامة " يثبت تبعاً، ما لا يثبت استقلالا " وهذه الصورة منها وبهذا يجمع بين النصين.
9- أن من باع عبداً، وقد جعل بين يديه مالا يتصرف به، فالمال للبائع إلا أن يشترطه المشترى مع الصفقة، أو يشترط بعضه، فيدخل مع المبيع. وحينئذ يشترط فيه ما يشترط غيره من المبيعات.
10- لا يضر أن يكون مع العبد المبيع ما يدخله الربا مع الثمن، كأن يتبعه فضة والثمن ريالات فضية، لأنه تابع.
11- قال شيخ الإسلام: بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء. وإن اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق. وإن باعه مطلقا لم يجز عند جماهير العلماء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد.
بَابُ نهي المشتري عن بيع الطعام قبل قبضه
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
" مَنِ ابتاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حَتَى يَسْتَوْفِيَهُ ".
وفي لفظ: " حَتَّى يَقْبِضَهُ " وعن ابن عباس.. مثله.
الغريب:
من ابتاع : يعنى من اشترى. طعاماً- لغة- كل مطعوم، من مأكول ومشروب . وفي الصدر الأول، إذا أطلق الطعام في الحجاز، انصرف إلى الْبُر خاصة.
المعنى الإجمالي :
لما كان قبض الطعام من متممات العقد، ومكملات الملك، نهى الشارع الحكيم، المشترى عن بيعه حتى يقبضه ويستوفيه، ويكون تحت يده وتصرفه،
لأنه- قبل القبض- عرضة للتلف في ضمان البائع، ولأن العقد عليه قبل القبض، ربما سبب فسخ العقد الأول.
فاٍن كان بخسارة، حاول المشترى الفسخ، وإن كان بربح، حاوله البائع.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الطعام قبل قبضه.
2- في لفظ [ حتى يستوفيه ] ما يشعر بأنه خاص بما يحتاج إلى حق توفية، وهو المكيل والموزون.
وفي لفظ [ حتى يقبض ] ما يفيد عموم النهي عن البيع، في الجزاف والمكيل ، والموزون، ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء اللّه تعالى.
3- جواز بيعه بعد القبض والاستيفاء.
(1/451)
________________________________________
4- النهى ورد في الحديث بالتصرف فيه بالبيع، ولكن ألحق كثير من العلماء- ومنهم الشافعية، والحنابلة- بعض عقود تدخل تحت مسمى البيع، أو تكون وسيلة إليه كالإجارة، والهبة على عوض، والرهن، والحوالة.
5- أما ماعدا البيع وما يجرى مجراه، فيجوز التصرف فيه، لأنها عقود يتسامح فيها بالغرر اليسير، ولأنها لم تقصد للربح فمحذور محاولة فسخ العقد المشار إليها خفية.
اختلاف العلماء:
ذهبت الحنفية والشافعية، إلى المنع من بيع أي شيء قبل قبضه، وهو رواية قوية عن الإمام أحمد، اختارها من أصحابه " ابن عقيل " والشيخ تقي الدين. وقال الشيخ: وعليه تدل أصول أحمد، واختارها " ابن القيم " وصححها، وذكر أن أحاديثها لا تنافي أحاديث الطعام، وأطال القول فيها. لكن الحنفية استثنوا بيع العقار، فيجوز- عندهم- ولو قبل قبضه.
وذهبت المالكية في المشهور عنهم، إلى منع ما بيع من الطعام بالكيل والوزن خاصة.
وذهبت الحنابلة، في المشهور من مذهبهم: إلى منع ما بيع بكيل، أو وزن أو عد ، أو بصفة، أو رؤية متقدمة للعقد. ولا فرق في ذلك بين المطعوم وغيره. وذهب بعض المالكية إلى اختصاص ذلك بالمطعوم، ويستوي في ذلك أن يكون جزافا، أو مكيلا، أو موزوناً أو غيرها.
وفي هذا القدر من البيع تجتمع آراء جميع العلماء، ولم ينفرد من فقهاء المذاهب إلا المتقيدون بمشهور مذهب الحنابلة، الذين قصروا المنع على المبيع بالكيل أو الوزن، أو العد، أو الذرع(1)، مع أنه- هنا- رواية عن الإمام أحمد منع بيع الطعام مطلقاً. مشى عليها " الخِرَقي " وصاحب المغنى، وشارح المقنع.
أدلة هذه الأقوال:
استدل الحنفية والشافعية ومن وافقهم، بما رواه أحمد، والنسائي، عن حكيم ابن حزام قال: " قُلْتُ: يَا رَسولَ الله، إني اشتَرِى بيوعا ، فَما يَحِل لي منهَا وَمَا يَحرُمُ؟ فقال: إذا اشتريت بيعاً فلا تبْعهُ حَتى تقْبِضَهُ " وفي إسناده مقال للعلماء.
__________
(1) الذرع : القياس بالذراع .
(1/452)
________________________________________
وما رواه أبو داود، والدارقطنى، وصححه الحاكم، وابن حبان، عن زيد بن ثابت: " أن النَبي صلى الله عليه وسلم نَهَى أن تباع السلَعُ حَيْث تُبتاع حَتى يَحُوزَها التجارُ إلَى رِحَالِهِم " ، وظاهر هذين الحديثين ، عامُ في كل مبيع.
واستدل المالكية، الذين يرون أن المنع في مكيل الطعام وموزونه، بما رواه" مسلمِ " و " أحمد " عن جابر قال: " قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : إذَا ابتعْتَ طَعَامَا فَلا تَبِعْه حَتَى تَستوْفِيَهُ ". والاستيفاء، إنما يكون في الكيل أو الوزن.
ومثله في " مسلم " و " أحمد " أيضا عن أبى هريرة: " نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : أنْ يُشْتَرى الطَّعَامُ ثُمً يُبَاع حَتَّى يُسْتَوْفَى " .
ولـ" مسلم " : ثم أنَ النبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اشْترَى طَعَاماً فَلا يَبعْهُ حَتًى يَكْتَالَهُ ".
أما الذين لا يفرقون في المطعوم، بين الجزاف وغيرِه، فيستدلون، بما رواه " البخاري، و " مسلم " و " أبو داود " و " النسائي " عن ابن عمر قال :
" كانُوا يَبْتَاعُونَ الطعَامَ جُزَافاً بأعْلَى السُّوق فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أن يَبِيعُوهُ حَتَّى يَنْقُلُوهُ ".
وفي أحد ألفاظ هذا الحديث: " مَن ابتاعَ طَعَاماً فَلا يَبِعْهُ حتَى يَقْبِضَهُ " .
وهذه أحاديث تعُمُّ الجزاف وغيره، مع أن حديث ابن عمر، نص صريح بالجزاف.
وهذه الأدلة لا تنافي حديثي ابن عمر، وأبي هريرة، اللذين استدل بهما المالكية، لأن ثبوت وجوب القبض في المكيل والموزون، لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره.
وأدلة هاتين الطائفتين تدل- بمفهومها- على اختصاص منع البيع في الطعام سواء أكان مكيلا أم موزوناً، كما هو مذهب المالكية، أو هما والجزاف أيضاً،كما هو مذهب الذين بعدهم،: لكنه " مفهوم لقب " وليس بحجة، ولو فرضنا مجيئه، فإنه لا يقاوم منطوق الأحاديث التي استدل بها الحنفية والشافعية.
(1/453)
________________________________________
أما أدلة المشهور من مذهب الحنابلة، فهي مفاهيم أحاديث الطعام، أيضا ، لأنها نصَّتْ عليه، فدل على أن هذا الحكم مقصور على الطعام، وأن قصره على ما يباع بالكيل والوزن، لأنه هو الجاري- غالباً- في بيعه.
ولما روى عن ابن عمر " مَضَتِ السنةُ أن مَا أدرَكهُ الصفْقَةُ حَبا مَجْمُوعا فَهُوَ مِنْ مَال المُبتاعِ " رَواه البخاري تعليقا والمبتاع، هو المشترى.
ثم عَدَّوِا هذا الحكم، إلى كل ما يحتاج إلى حق توفية، مما يبيع بكيل، أو وزن، أو عَدد أو ذرْع، أو بيع بصفة، أو رؤية متقدمة على العقد، لأن هذا كله يحتاج إلى حق توفية.
فائدتان:
الأولى: فقهاء المذاهب يجعلون ضمان التلف في الآفة السماوية-: هي مالا صُنْع لآدمي فيها، كالحر، والبرد، والجراد، ونحو ذلك من الحوادث. فما يصح عندهم تَصرفُ المشترى فيه قبل القبض بالبيع، يكون ضمانه عليه، إذا تلف أو تعيّب. وما لا يصح تصرفه فيه، فمن ضمان البائع على حسب اختلافهم المتقدم في ذلك.
الثانية: في صفة قبض المبيعات: يحصل قبض ما يبيع بكيل، بكيله. وما بيع بوزن، بوزنه. وما بيع بعد بعده. وما بيع بذرع بذرعه. وما ينقل بنقله، وما يتناول بتناوله.
والعقار والثمر على الشجر، بتخليته ، بأن يرفع البائع يده ويضعها المشترى.
بَابُ تحْريم بَيْع الخبائث
من صفات النبي صلى الله عليه وسلم في الكتب السابقة وعلى ألسنة الأنبياء عليم الصلاة والسلام: أنه الذي يحل الطيبات، ويحرم الخبائث.
وهذا تشريع عام في المآكل والمشارب، والملابس، والعادات وغير ذلك.
وهذه قاعدة كبيرة تحافظ على كل طيب، وتنفي كل خبيث، كما أنها معتمد لكل ما جدّ وطرأ، ليقاس بمقياسها الصحيح.
وهذا من كمال هذه الشريعة، ومن عناصر البقاء والخلود فيها.
وتأمل الحديث الآتي تجدْ أن المحرمات فيه عُددَتْ، إشارة إلى أنها نماذج لما يفسد الأديان، والأبدان، والعقول. فيراد بذكرها، التنبيه على أنواعها وأشباهها. والله حكيم عليم.
الحديث الأول
(1/454)
________________________________________
عَنْ جَابرِ رَضَ الله عَنْهُ: أنَهُ سَمِعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقُول عَامَ الفَتْح: " إن الله وَرَسُولَهُ حَرمَ بيعَ الخَمر، وَالمَيتَةِ، وَالخِنزِير ، والأصنام " .
فقيل: يَا رَسُول الله، أرَأيْتَ شحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإنَّهَا يُطْلَى بِهَا السَّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبحُ بِهَا النَّاسُ؟.
فقال: " لَا. هُوَ حَرَام ".
ثمَّ قَالَ رَسُولُ اللّه على عنْدَ ذلِكَ: " قَاتَلَ اللّه الْيَهُودَ، إنَّ الله لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوه فَأكلُوا ثَمَنَهُ ". جَمَلُوهُ: أذَابُوهُ.
الغريب:
عام الفتح: هو فتح مكة، وكان في السنة الثامنة من الهجرة في شهر رمضان.
حرَّم: بإعادة الضمير إلى الواحد، تأدباً مع الله تعالت عظمته، وتفرد بالإجلال.
الميتة: بفتح الميم، ما ماتت حتف أنفها، أو ذُكتْ ذكاة غير شرعية.
الأصنام: مفرده " صنم " وهو " الوثن " المتخذ من الأحجار وغيرها، على هيئة مخصوصة للعبادة.
أرأيت شحوم الميتة: أخبرني عن حكم بيع شحوم الميتة : فهل يحل مع وجود هذه المنافع فيها؟.
يستصبح بها الناس: أي يستضيئون به، حين يجعلونه في المصابيح وهي السرج. هو حرام: الضمير يعود على البيع .
قاتل الله اليهود: لعنهم الله، لما ارتكبوه من هذه الحيلة الباطلة. وفيه تنبيه على علة تحريم بيع هذه الأشياء.
جملوه: بفتح الجيم والميم المخففة. أي أذابوه. و " الجميل " الشحم المذاب.
المعنى الإجمالي :
جاءت هذه الشريعة الإسلامية السامية، بكل ما فيه صلاح للبشر، وحذّرت من كل ما فيه مضرة تعود على العقول والأبدان والأديان.
فأباحت الطيبات- وهى أغلب ما خلق الله في الأرض لنا. وحرمت الخبائث.
ومن تلك الخبائث المحرمة هذه الأشياء الأربعة المعدودة في هذا الحديث. فكل واحدا منها يشار به إلى نوع من المضار.
(1/455)
________________________________________
فالخمر- وهي كل ما أسكر وخامر العقل- هي أم الخبائث، التي بها تزول عن الإنسان نعمة العقل التي كرَّمهْ الله بها.
ويأتي في حال سكره ولهوه بأنواع المنكرات والعظائم، وإشاعة العداوة والبغضاء بين المسلمين، والصد عن الخير وعن ذكر الله .
ثم ذكر الميتة، التي لم تمت- غالباً- إلا بعد أن تسممت بالمكروبات والأمراض أو احتقن دمها في لحمها، فأفسده، فأكلها مضرة كبيرة على البدن، وهدم للصحة. ومع هذا، فهي جيفة خبيثة نتنة نجسة، تعافها النفوس، ولو أكلت مع إكراهها والتقزز منها، لصارت مرضاً على مرض، وبلاء مع بلاء.
ثم ذكر أخبث الحيوانات وأكرهها وأبشعها، وهو الخنزير الذي يحتوى على أمراض وميكروبات، لا تكاد النار تقتلها وتزيلها. فضرره عظيم، ومفاسده متعددة، ومع هذا فهو قذر نجس.
ثم ذكر ما فيه الضرر أكبر والمفسدة العظمى، وهى الأصنام التي هي ضلال البشرية وفتنتهم، وهي التي بها حورب الله تعالى وأشركت في عبادته وحقه على خلقه، فهي مصدر الضلال، ومحط الفتنة.
وما أرسلت الرسل وأنزلت الكتب إلا لمحاربتها، وإنقاذ الناس من شرها. فكم فتن بها من خلائق، وكم ضل بها من أمم، وكم استوْجبَتْ النار بها.
فهذه الخبائث، عناوين المفاسد والمضار، التي تعود على العقل والبدن والدين.
فهي أمثلة لاجتناب كل خبيث، وصيانة لما يفسد العقول والأبدان والأديان. فاجتنابها وقاية من أنواع المفاسد.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الخمر وعمله وما يعينها عليه وشربه، أو التداوي به.
ويدخل في مسمى الخمر، كل مسكر، سائلا أو جامداَ أُخذَ من أي شيء ، سواء أكان من عنب، أم تمر أم شعير، ومثله الحشيش ، والأفيون، والدخان، والقات، فكلها خبائث محرمة.
2- حرمت لما فيها من المضار الكبيرة والمفاسد العظيمة على العقل، والدين، والبدن، والمال، وما تجره من الشرور والعداوات والجنايات، إلى غير ذلك من مفاسد لا تخفى.
(1/456)
________________________________________
3- تحريم الميتة، لحمها، وشحمها، ودمها، وعصبها، وكل ما تسري الحياة فيه من أجزائها.
وحُرمت، لما فيها من المضرة على البدن، ولما. فيها من الخبث والقذارة والنجاسة، فهي كريهة خبيثة، ومن أجل هذه المضار وانتفاء المصالح ، حَرُمَ بيعها.
4- استثنى جمهور العلماء، الشعر، والوبر، والصوف، والريش من الميتة، لأنه ليس له صلة بها ولا تحله الحياة، فلا يكسب من خبثها.
أما جلدها، فهو نجس قبل الدبغ، لكن بعد أن يدبغ دبغا جيدا ، ويزيل الدباغ فضلاته الخبيثة، فإنه يحل ويطهر عند الجمهور. وبعضهم يقصر استعماله على اليابسات.
والأول أولى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يطهره الماء والقرَظ(1) "
5- تحريم بيع الخنزير:- ويحرم أكله وملامسته وقربه، فهو من الخبائث التي هي مفسدة محضة، لا مصلحة فيها، فضرره على البدن والعقل عظيم، لأنه يسمم الجسد بأمراضه، ويورث آكله من طباعه الخبيثة، وهو مشاهد في الأمم التي تأكله، فقد عرفوا بالبرودة.
6- تحريم بيع الأصنام، لما تجره من شر كبير على العقل، والدين ، باتخاذها وترويجها، محادة لله تعالى.
ومن ذلك الصليب، الذي هو شعار النصارى. والتماثيل التي تصنع للزعماء والوزراء.
ومنها أيضا هذه الصور التي تظهر في المجلات والصحف وغطها، لا سيما الصور الخليعة العارية الماجنة، التي فتنت الشباب وأثارت غرائزهم الجنسية.
ومنها الأفلام السينمائية، خصوصا المناظر الماجنة السافرة عن الدعارة و الفجور.
فهذه كلها شر لا خير فيه، ومفسدة لا مصلحة فيها، ولكن ألف الناس المنكر، حتى صار معروفا. فالله المستعان.
7- أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. لا سيما إذا كانت المفاسد أرجح من المصالح.
فإن مصالح شحوم الميتة، لم تبح بيعها، والمعاملة به، ولذا- لما عددوا له منافعها، لعلها تسوغ بيعها- قال: لا، هو حرام.
__________
(1) القرظ : ورق السلم ، كانوا يدبغون به .
(1/457)
________________________________________
8- استعمال النجاسة على وجه لا يتعدى لا بأس به، فإنه لم ينههم عنه لما أعلموه به.
والضمير في قوله: " هو حرام " راجع إلى البيع، لا إلى الاستعمال.
9- أن التحيل على محارم الله، سبب لغضبه ولعنه، فإن من يأتي الأمر، عالما تحريمه، أخف ممن يأتيه متذرعاً إليه بالحيل.
لأن الأول معترف بالاعتداء على حدود الله ويرج له الرجوع والاستغفار.
وأما الثاني، فهو مخادع لله تعالى، وبحيلته هذه سيصر على آثامه، فلا يتوب، فيكون محجوبا عن الله تعالى.
10- أن الحيل هي سنة اليهود، المغضوب عليهم.
11- أن حبهم للمادة قديم، حملهم على الحيل ونقض العهود وغشيان المحرمات، ولا يزالون في غيهم يعمهون ، شتت الله شملهم .
قلما ذكر لهم النبي صلى الله عليه وسلم تحريم هذه الأشياء، ذكروا له منافع في شحم الميتة يأتونها، لعله يستثنى تحريمها من هذه الأشياء المحرمة، لهذه المنافع المقصودة ، فقال: لا تبيعوها فإن بيعها حرام، لا تسوغه هذه المنافع. ولم ينههم عن استعمالها فيما ذكروه.
ثم من كان رأفته ونصحه بأمته، حذرهم مما وقع فيه اليهود من استحلال المحرمات بالحيل الدنيئة السافرة، لئلا يقعوا مثلهم فيما يشبهها، فدعا على اليهود باللعن ليشعر أمته عظيم جريمتهم بارتكاب الحيل.
وبين لهم أنه تعالى لما حرم على اليهود الشحوم، عمدوا- من مخادعتهم الله تعالى وعبادتهم للمادة- إلى أن أذابوا الشحم المحرم عليهم كله وباعوه، وأكلوا ثمنه، وزعموا بهذا، أنهم لم ارتكبوا معصية، فهم لم يأكلوا الشحم، وإنما أكلوا ثمن الشحم، وهذا هو التلاعب بأوامر الله تعالى ونواهيه، والاستخفاف بأحكامه وحدوده.
(1/458)
________________________________________
ولقد أصابنا ما أصابهم من ارتكاب الحيل، ومخادعة الله تعالى، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم : " لَتَركبُن سنن مَنْ كَان قبلكُم حَذوَ القُذةِ يالقُذةِ(1). حَتى لَو دخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلتُمُوهُ " فالله المستعان.
ونسأل الله تعالى العصمة والهداية، وأن يرينا الحق حقا وارزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.
12- تحريم الحيل، وأنها لا تغير الحقائق، ولو سميت الأشياء بغير أسمائها وأزيلت بعض صفاتها.
13- أن الشرع جاء. بكل ما فيه الخير والحذر من كل ما فيه شر أو رجح شره على خيره.
14- أن المحرمات المعدودة في الحديث نماذج لأنواع الخبائث المحرمة، التي يعود ضررها على الدين، أو العقل، أو البدن، أو الطباع والأخلاق.
فكأن هذا الحديث سيق لبيان أنواع الخبائث(2).
بابُ السَّلَم
السلم:- هو السلف، وزنا ومعنى، وسمى سلما، لتسليم رأس المال في المجلس، وسلفا، لتقديمه.
وتعريفه شرعا: عقد على موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد. وبهذا التعريف يعلم أنه نوع من البيع.
والأصل في جوازه، الكتاب، والسنة، والإجماعِ، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أيهَا الذي آمَنُوا إذا تداينتم بدين إلَى أجَل مُسَمى فَاكْتُبُوهُ } قال ابن عباس: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مُسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية.
وأما السنة، فمنها حديث الباب الآتي. وإما الإجماع، فلم ينقل عن أحد من العلماء منعه. قال الشافعي: أجمعت الأمة على جواز السلم فيما علمت.
وهو على وفق القياس والمصلحة للبائع والمشترى.
__________
(1) القذة : الريشة التي توضع في مؤخرة السهم الذي يرمى به ، وقد كانوا يلائمون ما بين الريش الذي يكون في آخره...
(2) من هذا المعنى أخذت الترجمة ، التي جعلناها مقدمة لهذا الحديث ا.هـ شارح .
(1/459)
________________________________________
فالبائع ينتفع بشراء السلعة بأقل من قيمتها حاضرة. والمشترى ينتفع بتوسعه بالثمن. وقد اشترطت فيه الشروط، التي تحقق فيه المصلحة، وتبعده عن الضرر والغرر. حيث شرط قبض الثمن بالمجلس لتحصل الفائدة من التوسعة، وشرطه العلم بالعوضين والأجل، وضبط المسلم فيه بمعايير الشرعية، لإبعاد النزاع والمخاصمات. ولا فرق بين تأجيل الثمن وتأجيل المثمن، فكلاهما وفق القياس والمصلحة، والشرع لا يأتي إلا بالخير.
وقد ظن بعض العلماء خروجه عن القياس، وعدوه من " باب بيع ما ليس عندك " المنهي عنه في حديث حكيم بن حزام، وليس منه في شيء.
فإن حديث حكيم يحمل على بيع عين معينة ليست في ملكه، وإنما ليشتريها من صاحبها فيعطيها المشترى، فهذا غرر، وعقد على غير مقدور عليه.
أو يحمل على السلم، الذي يظن المسلم أنه لا يتمكن من تحصيله وقت حلول الأجل.
فأما السلم الذي استوفى شروطه، فليس من الحديث في شيء ، لأن متعلقه الذمم لا الأعيان. فهو على وفق القياس. والحاجة داعية إليه. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن ثلاثا فيهن البركة، ذكر منها [ البيع إلى أجل] والسلم منه.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عَبَّاسِ رَضىَ اللّه عَنْهُمَا قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللّه صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وسَلَّمَ الْمَدِينة وَهمْ يُسْلِفون في الثّمَارِ السنةَ والسنتين وَ ا لثَّلاثَ.
فقال: " مَنْ أسلَفَ في شَيءٍ فَلْيُسْلِفْ في كَيْل مَعْلُوم، وَوَزْنٍ مَعْلُوم، إلَى أجل مَعْلُوم ".
المعنى الإجمالي:
(1/460)
________________________________________
قدم النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، فوجد أهل المدينة- لأنهم أهل زروع وثمار- يسلفون. وذلك بأن يقدموا الثمن ويؤجلوا المثمن في الثمار، مدة سنة، أو سنتين، أو ثلاث سنين، فأقرهم صلى الله عليه وسلم على هذه المعاملة ولم يجعلها من باب بيع ما ليس عند البائع المفضي إلى الغرر، لأن السلف متعلقه الذمم لا الأعيان. ولكن بين صلى الله عليه وسلم لهم في المعاملة أحكاما تبعدهم عن المنازعات والمخاصمات التي ربما يجرها طول المدة في الأجل فقال: من أسلف في شيء فليضبط قدره بمكياله وميزانه، الشرعيين المعلومين، وليربطه بأجل معلوم، حتى إذا عرف قدره وأجله، انقطعت الخصومة والمشاجرة، واستوفى المشترى حقه بسلام.
ما يستفاد من الحديث:
يشترط في السلم ما يشترط في البيع، لأنه أحد أنواعه.
فلابد أن يكون العقد من جائز التصرف، مالك للمعقود عليه، أو مأذون
له فيه، ولابد فيه من الرضا، وأن يكون المسلم فيه مما يصح بيعه، ولابد فيه من القدرة عليه وقت حلوله، وأن يكون الثمن والمثمن معلومين.
ويزيد السلم على هذه الشروط شروطاً ترجع إلى زيادة ضبطه وتحريره، لئلا تفضي المعاملة إلى الشجار والمخاصمة ، ونأخذ أهم هذه الشروط من الحديث الذي معنا.
1- أن يبين قدر المسلم فيه بمكياله أو ميزانه الشرعيين، إن كان مكيلا أو موزوناً، أو بذرعه، إن كان مما يُذْرَعُ، أو بِعَدّهِ إن كان مما يُعَد، ولا يختلف المعدود بالكبر أو الصغر أو غيرهما، اختلافاً ظاهراً.
2- أن يكون مؤجلا، ولابد في الأجل أن يكون معلوما، فلا يصح حالاُّ، ولا إلى أجل مجهول.
3- أن يقبض الثمن بمجلس العقد، وهذا مأخوذ من قوله: "فَلْيُسْلِفْ " لأن السلف هو البيع، الذي عُجلَ ثمنه وأجلِ مثمنه.
4- أن يسلم في الذمة لا في الأعيان، وهذا هو الذي سوَغ العقد، وإن كان وفاؤه من شيء غير موجود عند البائع، وإنما يستوفى من ثمار أو زروع لم توجد وقت العقد.
(1/461)
________________________________________
وبهذا تبين أن السلم لم يتناوله النهى في قوله " ولا تبع ما ليس عندك " وأن العقد عليه وفق القياس. هذه أهم شروطه المعتبرة.
وقد شدد فيه بعض الفقهاء بذكر قيود وحدود، ليس عليها دليل واضح .
بَابُ الشروط في البَيْع
والأصل في الشروط، الصحة، والتزامها لمن شرطت عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: " الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ إلا شَرْطاً أحَلَّ حَرَاماً أوْ حَرّمَ حَلالا ".
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضِ اللّه عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْني بَريرةُ فَقَالَت: كاتَبْتُ أهلي عَلَى تِسْعِ أوَاقٍ . في كُل عَام أوقيةٌ ، فَأعِينِيِي.
فَقُلْتُ: إنْ أحَبَّ أهْلُكِ أنْ أعُدّهَا لَهُمْ وَوَلاؤكِ لي، فَعَلْتُ.
فَذَهَبَتْ بَرِيرَة إلى أهْلِهَا فَقَالَتْ لَهُمْ، فَأبَوْا علَيْهَا.
فَجَاءَتْ مِنْ عِنْدِهِمْ وَرَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم جَالِس.
فَقَالَتْ: إني عَرَضْتُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأبَوْا إلا أنْ يَكُونَ لَهُم الْوَلاءُ.
فَأخْبَرَتْ عَائِشَةُ النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " خُذِيهَا واشتَرِطِي لَهُمُ الوَلاء، فَإنمَا الْوَلاءُ لِمَنْ أعْتَقَ ".
فَفَعَلَتْ عَائِشَةُ. ثُم قَامَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم فِي الناس. فَحَمِدَ الله وأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " أمّا بَعْدُ، فَمَا بَال رِجَال يَشترِطُونَ شرُوطاً لَيسَتْ فِي كِتَابِ اللّه؟ مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيسَ فِي كِتَاب الله فَهُوَ بَاطِل، وإن كانَ مِائَةَ شرْط. قَضَاءُ الله أحَق، وَشرْط الله أوْثقُ، وَإنَمَا الوَلاءُ لمَنْ أعْتَقَ.
الغريب:
كاتبت: مشتقة من الكتب، وهو الجمع، لأن نجوم أقساطها جمعت على العبد
أواق: الأوقية أربعون درهماً، وتقدم ضبطها بالعملة الحاضرة في الزكاة.
وولاؤك لي: الولاء، هو النصرة، لكن خص في الشرع بالعتق الذي هو تحرير الرقبة، وتخليصها من الرق.
فما بال: حال.
(1/462)
________________________________________
في كتاب الله: أي في شرعه الذي كتبه على العباد وحكمه العام.
وإن كان مائة شرط: لم يقصد بالمائة التحديد، وإنما قصد التوكيد والمبالغة للعموم، ويدل على ذلك قوله: "من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء اللَه أحق وشرط الله أوثق " .
أحق وأوثق: جاءا على صيغة التفضيل وليسا علىٍ بابهما بمعنى أن في كل من الجانبين حقاً ووثاقه ، وإنما جاءت الصيغتان مرادا بهما "أن قضاء اللَه هو الحق، وشرط الله هو القوى". فهما صفتان مشبهتان .
المعنى الإجمالي:
هذا حديث جليل عظيم، لما اشتمل عليه من الأحكام، ولما حوى من الفوائد.
ولقد أفرده بعض العلماء بالتصنيف، واستخرجوا منه ما يزيد على أربعمائة حكم وفائدة.
ونحن نجمل أهم الأحكام التي يدل عليها.
فملخص القصة، أن أمة لأحد بيوت أهل المدينة يقال لها (بريرة) كاتبت أهلها، بمعنى اشترت نفسها من سادتها بتسع أواق من فضة، تسلم لهم كل عام أوقية واحدة، وكانت تخدم عائشة، ولها بها صلة ومعرفة.
فجاءتها تستعينها على وفاء كتابتها لتخلص من الرق، لأن المكاتب رقيق، ما بقى عليه درهم واحد.
فمن رغبة عائشة رضى اللَه عنها في الخير، وكبير مساعدتها في طرق البر، قالت لبريرة : اذهبي إلى سادتك فأخبريهم أني مستعدة أن أدفع لهم أقساط كتابتهم مرة واحدة ليكون ولاؤك لي خالصاً.
فأخبرت بريرة سادتها بما قالته عائشة، فأبوا ذلك إلا أن يكون لهم الولاء، لينالوا به الفخر حينما انتسب إليهم الجارية وربما حصلوا به نفعا مادياَ، من إرث ونصرة وغيرهما.
فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم باشتراطهم ، فقال: اشتريها منهم، واشترطي لهم الولاء ، فهذا اشتراط باطل لن ينفعهم، فإنما الولاء لمن أعتق.
وهم قد أقدموا على هذا الاشتراط طمعا في حطام الحياة الدنيا غير مبالين بالحدود والأحكام الشرعية. فاشترتها عائشة على هذا.
(1/463)
________________________________________
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب في الناس فحمد الله وأثنى عليه- كعادته في الأمور الهامة والخطب- ثم انتقل من الثناء على الله تعالى بقوله: " أما بعد " إلى زجر الناس عن الشروط المحرمة المخالفة لكتاب الله تعالى فقال: ما بال رجال يشترطون شروطا ليست من أحكام الله وشرعه، وإنما هي من دافع الطمع والجشع، كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، مهما كثر وَأكد ووُثق، فإن قضاء اللَه تعالى أحق بالاتباع، لأنه الذي على وفق الحق والعدل، وهو يأتي بمصالح العباد ويدفع مضارهم، وشرط اللَه الذي ارتضاه لخلقه هو القوىُ، وما سواه واه ضعيف، وإنما الولاء لمن أعتق، وليس للبائع ولا لغيره .
ما يستفاد من الحديث:
1- مشروعية مكاتبة العبد، لأنها طريق إلى تخليصه من الرق وفك رقبته، خصوصاً مع قوة العبد على الكسب وصلاحه، وحسن تصرفه، ففيها أجر كبير. قال تعالى: {فَكاتبوهم إنْ عَلِمتُم فيهم خَيْراً } .
2- أن الكتابة تكون مؤجلة على أقساط يدفعها العبد شيئا فشيئا.
لأنه حين عقد الكتابة- لا يملك شيئا، فصار التأجيل فيها لازما، ومن هنا أخذ بعض العلماء معناها.
3- جواز تعجيل تسليم الأقساط المؤجلة لتخليص المكاتب من الرق عاجلا، وهو مأخوذ من استعانة " بريرة " بعائشة على ذلك.
4- جاز بيع المكاتب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في شرائها، وبريرة لم تأت عائشة إلا لطلب العون.
وقد منعه بعض العلماء، ويحتاجون إلى جواب عن هذا الحديث، ولا جواب عندهم يكفي للعدول عنه.
وممن قال بجواز بيعه، الإمام أحمد رحمه الله تعالى
5- أن شرط الولاء في البيع باطل،لأن الولاء للمعتق لا للبائع، فهو لحمة كلحمة النسب، يعد نفعه على من أنعم على العتيق بالعتق، لا على من باعه وأحذ ثمنه، فهذا من تمام عدل الله في أحكامه. وأما البيع فصحت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبطل العقد بما اشترطه أولياء بريرة على عائشة، وإنما أفاد أن الشرط باطل.
(1/464)
________________________________________
6- أخذ العلماء من هذا الحديث أن البائع إذا اشترط على المشترى عتق العبد الجميع فإن الشرط صحيح، ويجب على المشتري أن يعتقه فإن لم يفعل أعتقه الحاكم، لأن العتق حق الله تعالى، وهو متشوف إلى عتق الرقاب.
7- أشكل على العلماء إذْنُ النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة بشراء بريرة من أهلها، مع موافقتهم على اشتراط الولاء لهم وهو شرط باطل مع اتفاق العلماء على تكريم النبي صلى الله عليه وسلم عن قصد تغريرهم، فذهبت في تأويل ذلك مذاهب كثيرة .
وأحسنها أن يقال: إن سياق القصة يفهم منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الحكم، وأن الولاء للمعتق لا لغيره . فأراد هؤلاء البائعون أن يشترطوا الولاء طمعاً به، لما يعود به عليهم من النفع.
ولعل الذي سوَّغ لهم الإقدام عليه ، أن عقد الكتابة قد تم، وقد سلم بعض نجومه.
فتوهموا أن هذا يُخَوّل لهم اشتراط الولاء ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب أن يُتَلاعَبَ بكتاب الله وأحكامه بأدنى الشبهِ.
فقام ووعظ الناس، وبين لهم أن كل شرط ليس في شرع الله، فهو باطل مهما كَثُرَ، ومهما أكد، لأن الخير والعدل في اتباع شرعه، والشر والظلم في الابتعاد عنه. وفقنا الله لاتباعه.
اعتراض : قد يرد على هذا التخريج فيقال: إذا كان هذا شرطا باطلا معلوم البطلان، قد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من اشتراطه، فكيف اشترطت عليهم عائشة أن الولاء لها؟.
ولعَل الجواب أن الحكم قد اشتبه عليها مع وجود الكتابة وتسليم بعض الأقساط، فأرادت أن تحتاط لنفسها باشتراط ما تظن أن الشارع ملكها إياه.
وحين أبوا أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإبائهم ، فكان الغضب منصبا على الذين يريدون شرطا مخالفا لحكم الله ، مع أنه ربما كان قد وقع منهم بتأويل بعيد .
ولم أر هذا الاعتراض وجوابه لأحد ، فالله أعلم .
8- استحباب تبيين الأحكام عند المناسبات،وأن يكون في المجامع الحافلة.
(1/465)
________________________________________
9- افتتاح الخطب، بحمد الله، والثناء عليه، لتحل بها البركة، ولتكون أولى بالقبول، من إيرادها جافة.
10- استحباب إتيان الخطيب" أما بعد" لأنها تشعر بانتقال الخطيب من موضوع إلى آخر، وتزيد الكلام حلاوة وطلاوة
11- أنه يراد بكتاب الله ، أحكامه وشرعه .
12- أن كل شرط لم يأذن الله به فهو باطل مردود، وإن كثرَ وأكدَ.
13- ليس المقصود بالمائة الشرط، التحديد فإن زيد عليها جازت الشروط.
وإنما المراد المبالغة والتعظيم كقوله تعالى في حق المنافقين الذين لن يغفر لهم { استغفرْ لَهم أولا تَستغفرْ لَهُم إنْ تَستغفِرْ لَهُم سَبْعِينَ مَرة فَلن يَغفِرَ الله لهُم }.
14- أن أقضية الله وأحكامه، وشروطه، وحدوده، هي المتبعة.
وما عداها فلا يتبع ولا يركن إليه، لأنه على خلاف الحق والعدل.
15- أن الولاء للمعتق خاصة، فهو لحمة كلحمة النسب، يحصل بها التوارث والتناصر والتقارب.
16- أن العتق سبب الولاء بأي طريق كان، سواء أكان لمكاتبة،أم لكفارة أم مقصودا به البر الإحسان.
17- أن الشروط التي على خلاف مقتضى العقد، فاسدة بنفسها، غير مفسدة للعقد. فإن عقد البيع يقتضي أن يكون الولاء للمشترى الذي أعتق، فشرط الولاء لغير المعتق خلاف مقتضى العقد، فيكون فاسدا.
ملخص من كلام ابن تيمية حول الشروط الصحيحة، والفاسدة :
ذكر رحمه الله أن الذي يمكن ضبطه منها قولان:
(1/466)
________________________________________
أحدهما أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها الحظر، إلا ما ورد الشرع بإجازته، وهو قول أهل الظاهر وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا، كثير من أصول الشافعي، وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد، فإن أحمد قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل. أما أهل الظاهر فلم يصححه لا عقداً ولا شرطا إلا ما ثبت جوازه بنص أو إجماع. وأما أبو حنيفة فأصوله تقتضي ألا يصح في العقود شروط يخالف مقتضاها في المطلق. والشافعي يوافقه على أن كل شرط خالف مقتضى العقد فهو باطل، لكنه يستثنى مواضع للدليل الخاص، وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول، لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي .
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر ويوسعون في الشروط أكثر منهم، لقولهم بالقياس، ولما يفهمونه من معاني النصوص التي يتفردون بها عن أهل الظاهر وحجة هؤلاء ما جاء في قصة بريرة " ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل" فكل شرط ليس في القرآن ولا في الإجماع فهو مردود.
والحجة الثانية أنهم يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه كونه مخالفا لمقتضى العقد، لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع.
فيعتبر تغييرها تغييرا لما أوجبه الشرع، بمنزلة تغيير العبادات، وهذه نكتة القاعدة : وهى أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضاها تغير للمشروع.
(1/467)
________________________________________
والقول الثاني : أن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا، ونصوص أحمد المنصوص عنه أكثرها تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، لكن أحمد أكثر تصحيحا للشروط منه. وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، ولا يعارض بكونه شرطا يخالف مقتضى العقد أو لم يرد به نص، وكان قد بلغه من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم و الصحابة ما تجده عند غيره من الأئمة بهذا الخصوص.
وقد جاء في الكتاب والسنة الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق والشروط والعقود وأداء الأمانة ورعاية ذلك، وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورا به علم أن الأصل صحة العقود والشروط، إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده، ومقصود العقد هو الوفاء به، وقد روى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا، والمسلمون على شروطهم " قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب. والمشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبا بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما، فما كان مباحا بدون الشرط فالشرط يوجبه، والقياس المستقيم في هذا الباب الذي عليه أصول أحمد وغيره من فقهاء الحديث أن اشتراط الزيادة على مطلق القيد واشتراط النقص جائز ما لم يمنع منه الشرع.
الحديث الثاني
عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنهُ كَانَ يَسِيُر عَلَى جَمَل فَأعْيَا، فأرَادَ أن يُسَيبهُ.
قال: فَلَحَقَني النبي صَلى الله عليه وَسِلمَ فَدعَا لي ، وَضَرَبهُ فَسارَ سيْراً لَم يَسِرْ مِثلَهُ قَطْ، فقالَ: " بعْنِيهَ بأوقِية " قُلْتُ: لا. ثم قال: " بعْنِيه " فَبِعْتُهُ بأوقِيةٍ ، وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانَهُ إلَى أهلي.
(1/468)
________________________________________
فَلَما بَلَغْتُ، أتَيتهُ بَالجَمَلِ، فَنَقَدَني ثمَنَهُ. ثُم رَجَعْتُ. فَأرْسل في أثرِي فَقَالَ: " أتراَني مَاكَستكَ لآخُذَ جَمَلَكَ؟ خذْ جَمَلَكَ وَدرَاهِمَكَ، فهُوَ لَكَ" .
الغريب:
فأعيا: أعيا الرجل أو البعير، إذا تعب وَكَل من الَمشي، يستعمل لازما ومتعدياً، تقول: أعيا الرجل، وأعياه اللّه.
أن يسيبه: أن يطلقه، ليذهب على وجهه.
حُمْلانه: بضم الحاء وسكون الميم، أي حمله البائع.
أتراني: بضم التاء، أي أتظنني .
ماكستك: المماكسة:- المكالمة في البيع والشراء، لطلب الزيادة، أو النقص في الثمن.
المعنى الإجمالي :
كان جابر بن عبد اللّه رضى الله عنهما مع النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى غزواته، وكان راكباً على جمل قد هزل فأعيا عن السير ومسايرة الجيش حتى إنه أراد أن يطلقه فيذهب لوجهه، لعدم نفعه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم من رأفته بأصحابه وبأمته- يمشى في مؤخرة الجيوش، رِفْقاً بالضعيف، والعاجز، والمنقطع. فلحق جابراً وهو على بعيره الهزيل، فدعا له وضرب جمله، فصار ضربه الكريم الرحيم قوةً وعوناً للجمل العاجز، فسار سيراً لم يسر مثله. فأراد صلى الله عليه وسلم من كرم خلقه ولطفه- تطييب نفس جابر ومجاذبته الحديث المعين على قطع السفر، فقال: بعنيه بأوقية.
فطمع جابر رضى الله عنه بفضل الله وعلم أن لا نقص على دينه من الامتناع من بيعه للنبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا لم يدخل في الطاعة الواجبة، إذ لم يكن الأمر على وجه الإلزام . ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه الطلب فباعه إياه بالأوقية واشترط أن يركبه إلى أهله في المدينة، فقبل صلى الله عليه وسلم شرطه. فلما
(1/469)
________________________________________
وصلوا، أتاه بالجمل، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الثمن. فلما رجع أرسل في أثره فرجع إليه وقال له: أتظنني بايعتك طمعا في جملك لآخذه منك؟ خذ جملك ودراهمك فهما لك. وليس هذا بغريب على كرمه وخلقه ولطفه، فله المواقف العظيمة صلى الله عليه وسلم .
ما يستفاد من الحديث:
1- أن الأحسن للقائد والأمير أن يكون في مؤخرة الجيش والقافلة، انتظارا للعاجزين والمنقطعين. وكما في الحديث " الضعيف أمير الركب ".
2- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ورأفته بأمته.
فحين رأى جابراً على هذه الحال، أعانه بالدعاء ، وضَرْبِ الجمل الذي صار قوة له على السير بإذن الله تعالى.
3- معجزة كبرى من معجزاته صلى الله عليه وسلم ناطقة بأنه رسول اللّه حقا، إذ يأتي على هذا الجمل العاجز المتخلف، فيضربه فيسير على إثر الضرب هذا السير الحسن ويلحق بالجيش.
4- جواز البيع والشراء من الإمام لرعيته.
5- أن الامتناع على النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذه القصة، لا يُعَد إثما وعقوقاً وتركا لطاعته، فإن هذه عنه، ليست على وجه الإلزام والتحتيم، وإنما على وجه التخيير والترغيب.
ومثلها قصة بريرة، حين شفع إليها أن ترجع إلى زوجها " مغيث " فقد سألته: أتأمرني بذلك؟ فقال: بل شافع. فقالت: لا حاجة لي به. فقد فهم الصحابة رضى الله عنهم أن مثل هذه الأشياء لا تلزم الإجابة، وإلًا لكانوا أسرع الناس إلى الامتثال.
6- أخذ من هذا الحديث " ابن رجب " رحمه الله، قاعدة عامة وهى: أنه يجوز للإنسان نقل الملك في شيء، واستثناء نفعه، المعلوم، مدة معلومة. وهذا يعم كل شيء من إجارة، وهبة، ووقف، ووصية، إلا بُضْعَ الأًمَة فلا يجوز استثناؤه، لأنها منفعة لا تحل إلا بالزوجية أو ملك اليمين.
7- جواز البيع واستثناء نفع المبيع، إذا كان النفع المستثنى معلوما.
وهذه المسألة جزء من القاعدة السابقة. وفى هذا خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
(1/470)
________________________________________
اختلف العلماء:- هل يجوز للبائع أن يشترط نفعا معلوما في المبيع- كسكنى الدار المبيعة شهراً؟ وهل يجوز- أيضا- للمشترى أن يشترط على البائع نفعه المعلوم في المبيع، كأن يشترط عليه حمل ما اشتراه منه إلى موضع معين، أو خياطة الثوب المبيع ونحو ذلك؟
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي. إلى عدم صحة العقد والشرط- إلا أن " مالكا " أجاز شرط الحمل على الدابة إلى المكان القريب.
وذهب الإمام " أحمد " إلى جواز شرط واحد فقط، ووافقه على رأيه إسحاق، وابن المنذر، والأوزاعى، وإن جمع في العقدين شرطين بطل البيع.
وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع من منافع معلومة في المبيع، أو عائدة للمشترى من منافع معلومة في المبيع من البائع.
واختار هذه الرواية شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس (ابن تيمية)، وتلميذه شمس الدين " ابن القيم ".
ونصرها وأكدها شيخنا العلامة المحقق " عبد الرحمن بن ناصر آل سعدي" ، رحمهم الله جميعاً والمسلمين.
وهذا ما أعتقد صحته، كما يأتي تبيين أدلة العلماء، رحمهم الله تعالى، ومآخذهم.
أدلة المذاهب السابقة:
استدل الأئمة الثلاثة على ما ذهبوا إليه، بما رواه الخمسة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الثنيَا إلا أن يعلم " . وبما رواه الترمذى وصححه، والنسائي، وابن ماجة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل شرطان في بيع ". وقد روى أبو حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع وشرط " وفسروا الشرطين في البيع، والشرط فيه بمثل هذه الشروط، التي يشترطها البائع أو المشترى على الآخر مما فيه مصلحة المبيع، أو منفعة البائع، كاشتراط خياطة الثوب، أو تفصيله، أو تكسير المشترى الحطب، أو حمله، أو استثناء نفع معلوم في المبيع للبائع، كسكنى الدار المبيعة، أو حمل الدابة ونحو ذلك.
(1/471)
________________________________________
وأجابوا عن حديث جابر الذي معنا، بأن المبايعة ليست حقيقية، وإنما أراد كلية أن ينفع جابراً بالهبة، فاتخذ بيع الجمل ذريعة إلى ذلك بدليل ذلك قوله: " أتراني ماكستك لاَخذ جملك؟ " وأجاب بعضهم إلى أن اختلاف الرواة في ألفاظ حديث جابر، مما يمنع الاحتجاج به على هذا المطلب، فإن بعض ألفاظه " بعته واشترطت حملانه إلى أهلي " وفى لفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاره ظهره إلى المدينة ". وفى لفظ قال: " بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملا فأفقرني ظهره إلى المدينة " والإفقار إعارة الظهر.
أما أدلة الذين يرون جواز اشتراط البائع المنافع المعلومة في البيع، أو اشتراط المشترى على البائع المنافع العائدة على المبيع، فكثيرة .
منها: قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحلَّ حراماً، أو حرم حلالا " وهذه ليست مما يحل حراماً، ولا مما يحرم حلالا.
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الثنيا إلا أن يعلم " ، وهذه شروط واستثناءات معلومة، فتكون غير داخلة في النهى.
ومنها- حديث جابر، الذي معنا، إذ شرط على النبي صلى الله عليه وسلم ظهر جمله إلى المدينة. وليس في هذه الشروط شيء من المحاذير، كالربا، والغرر، والضرر، والظلم. فكيف تكون محرمة والأصل في المعاملات الإباحة،والسعة؟ وكما أنه لا مفسدة فيها، فليست- أيضا- وسيلة إلى المفسدة .
وأجابه عن أدلة المفسدين للعقد مع الشرط، بأن حديث " نهى النبي عن الثنيا إلا أن يعلم" مفهومه دليل من أدلتنا، فهو رد عليكم. وأما حديث نهى عن بيع وشرط، فلم يصح، وإنما الوارد " لا يحل شرطان في بيع ".
اختلاف العلماء:
واختلف العلماء في تفسير الشرطين. وأحسن ما فُسرا به، أن المراد بذلك "مسألة العينة". وهى أن يقول:" خذ هذه السلعة بعشرة نقداً، وآخذها منك بعشرين نسيئة ".
(1/472)
________________________________________
فهذا هو المعنى المطابق لمعنى الحديث، وهو نظير البيعتين في ييعة، الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسُهُماَ، أو الربا " وقد فسر ببيع العينة. ولا يحتمل حديث الشرطين في بيع، غير هذا المعنى. والمراد بالشرطين : الأول: العقد نفسه، فإنه عهد تشارطا على الوفاء به. والثاني:- ما صحبه من شرط العقد مرة أخرى بأزيد من الثمن الأول.
وأما حديث جابر، فلا يرد عليه أنه قصد به الهبة، لا البيع حقيقة. فإننا لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد البيع حقيقة، فلم يكن معلوما لـ" جابر " وهو الذي ابتدأ شرط ظهر الجمل، فكأن هذا الشيء معلوم جوازه لديهم.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على شرطه، وهو لا يقر على باطل، لا في جد، ولا في هَزْلٍ . وأما الاعتراض على الحديث باختلاف الرواة في ألفاظه، فقد أجاب عن ذلك العلامة " ابن دقيق العيد " بما نصه: " هذا صحيح لكن بشرط تكافؤ الروايات أو تقاربها. أما إذا كان الترجيح واقعا لبعضها- لأن رواته أكثر وأحفظ- فينبغي العمل بها، إذ الأضعف لا يكون مانعاً من العمل بالاًقوى، والمرجوح لا يدفع التمسك بالراجح. فتمسك بهذا الأصل، فإنه نافع في مواضيع عديدة" ا.هـ.
وأما دليل مشهور مذهب الحنابلة، فالاقتصار في الاستدلال بحديث [ ولا شرطان في بيع ] .
والصحيح الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح له الضمير، الرواية التي اختارها شيخا الإسلام، ورجحها شيخنا "السعدي" لقوة أدلتها النقلية والقياسية، وعدم ما يعارضها. والله الموفق للصواب.
فائدة:
(1/473)
________________________________________
الشروط في البيع قسمان. أحدهما: ما هو منفعة في المبيع يستثنيها البائع، أو نفع من البائع في المبيع، يشترطه المشترى. وهذه هي مواطن الخلاف بين العَلماء، يتقدم الكلام فيها. والقسم الثاني: ما هو من مقتضى العقد، كالتقابض، وحلول الثمن. أو من مصلحة العقد، كاشتراط تأجيل الثمن، أو الرهن، أو الضمين. أو صفة في المبيع مقصودة، ككون العبد كاتباً أو صانعاً، أو الأمة بكراً، أو خياطة ونحو ذلك. فهذه الشروط لا خلاف في جوازها، كثرت أو قَلتْ.
الحديث الثالث
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عَنْهُ قالَ: نَهَى رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يبيع حَاضِر لِبَادٍ ، وَلا تَنَاَجَشُوا ، وَلا يَبع الرجُلُ عَلَى بيع أخيه. وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أخِيهِ، وَلا تَسْأل المَرأة طَلاقَ أخْتِهَا لِتُكفِىءَ مَا في إنَاِئهَا(1) "
ما يستفاد من الحديث:
الكلام على بيع الحاضر للبادي، والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، تقدم مفصلا في الحديثين رقم [252 و 253] ، بما أغنى عن إعادتها ههنا. وفيه من الفوائد الزوائد ما يأتي :
1- تحريم خطبة النكاح على خطبة أخيه، حتى يعلم أن الخاطب رُد عن طلبه، ولم يُجَبْ، لما تسبب الخِطْبة على خِطبةْ الغير من العداوة والبغضاء، والتعرض لقطع الرزق.
2- تحريم سؤال المرأة زوجها أن يطلق ضرتها، أو توغير صدره عليها، أو الفتنة بينهما، ليحصل بينهما الشر، فيفارقها، فهذا حرام، لما يحتوى عليه من المفاسد الكبيرة، من توريث العداوات، وجلب الإحن ، وقطع رزق المطلقة، الذي كنى عنه بِكَفْءِ ما في إنائها من الخير، الذي سببه النكاح، وما يوجبه من نفقة وكسوة وغيرها من الحقوق الزوجية. فهذه أحكام جليلة وآداب سامية، لتنظيم حال المجتمع، وإبعاده عما يسبب الشر والعداوة والبغضاء، ليحل محل ذلك المحبة والمودة والوئام والسلام.
بَابُ الرِّبا والصَّرْف
__________
(1) هذا لفظ البخاري ولـ " مسلم " نحوه ا.هـ شارح
(1/474)
________________________________________
الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: {فإذا أنزلنَا عَلْيَها المَاءَ اهتزت وَرَبَتْ } يعنى زادت.
وفى الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. فأما الكتاب فمثل قوله تعالى {وَحرّمَ الربا } والسنة، في مثل الحديث، الذي لعن به صلى الله عليه وسلم [ آكل الربا وموكله، وشاهده، وكاتبه] وهو متفق عليه. وقد أجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة(1) لما استندت عليه من النصوص.
وتحريمه:- مقتضى العدل والقياس، لأن التعامل به ظلم أو ذريعة إليه. والكون لا يقوم إلا بالعدل، الذي أوجبه المولى على نفسه، وألزم به خلقه ومضار الرِّبا ومفاسده لا تحصى.
منها:- تضخم المال بطريق غير مشروعة، لأنه تضخم على حساب سلب مال الفقير وضمه إلى كنوز الَغنى، وحسبك بهذا داء فتاكا في المجتمعات، وسبباً في الخصومات والعداوات، وهو أداة هدامة للنشاط والعمل الشريف، واستثمار الأرض، وإخراج طيباتها. وحدث لدينا معاملات في البنوك، وصناديق البريد، تجاسروا فيها على تعاطى الربا، وسموه بغير اسمه.
وهذا مصداق للحديث النبوي الشريف "يأتي على الناس زمان يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها".
وبسط هذه البحوث والرد عليها، له كتب غير هذا.
أما الصرف: فمادته تدور على التقلب والتغير في الأشياء.
قال في اللسان: "الصرف بيع الذهب بالفضة وبالعكس، أنه يتصرف به عن جوهر إلى جوهر" فهو بيع الأثمان بعضها ببعض.
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخطَابِ رَضىَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) إذا قيل بالجملة، فالمراد كل الصور. وإذا قيل: في الجملة، فيراد بعض الصور ونحن عبرنا ب "في الجملة " إشارة إلى ما ورد من خلاف ضعيف في بعض صوره- ا.هـ. شارح.
(1/475)
________________________________________
" الذًهَبُ بالذًهَبِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالفِضةُ بِالفِضةِ رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالْبُر بِالبُر رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ، وَالشعِيرُ بِالشعِير رِباً، إلا هَاءَ وَهَاءَ."
الغريب :
إلا هاء وهاء: فيهما لغات، أشهرها المد وفتح الهمزة فيهما، ومعناه التقابض.
المعنى الإجمالي :
يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، كيفية البيع الصحيح بين هذه الأنواع، التي يجرى فيها الربا، وهو أنه من باع ذهبا بفضة أو بالعكس، فلا بد من الحلول والتقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح العقد، لأن هذه مصارفة، يشترط لدوام صحتها التقابض.
كما أن من باع- برا بِبُر، أو شعيرا بشعير، فلابد من التقابض بينهما، في مجلس العقد لما بين هذه الأنواع من علة الربا المفسدة للعقد، إذا حصل التفرق قبل القبض.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الذهب بالفضة أو العكس، وفساده إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد، وهذه هي المصارفة.
2- تحريم بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير. وفساده، إذا لم يتقابض المتبايعان قبل التفرق من مجلس العقد.
3- صحة العقد إذا حصل القبض في المصارفة. أو بيع البر بالبر، أو الشعير بالشعير، في مجلس العقد.
4- يراد بمجلس العقد مكان التبايع، سواء أكانا جالسين، أم ماضيين، أم راكبين. ويراد بالتفرق ما يُعَد تفرقا عرفا، بين الناس.
الحديث الثاني
عَنْ أبي سَعيد الخُدرِىّ رَضيَ الله عَنهُ: أنَ رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ:
" لا تَبِيعُوا الذهَبَ بالذهَبِ، إلا مِثْلا بمثل ، وَلا تُشِفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض. وَلا تَبِيعُوا الورِقِ بِالوَرِقِ إلا مِثْلا بِمِثْلٍ وَلا تُشفوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْض وَلَا تَبِيعُوا مِنْها غَائباً بنَاجِز " .
(1/476)
________________________________________
وفى لفظ: " إلا يَداً بيدٍ ". وفي لفظ: " إلا(1) وَزْناً بِوَزْنٍ مِثلا بِمثْلى سَواءً بِسَواء”.
الغريب:
1- الورق: هو الفضة مضروبة أو غير مضروبة.
2- ولا تُشفُّوا بعضها على بعض: بضم أوله، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الفاء. أي لا تفضلوا بعضها على بعض. وهو رباعي من " أشف " و " الشف " بالكسر، الزيادة، ويطلق على النقص أيضاً، فهو من الأضداد.
المعنى الإجمالي:
في هذا الحديث الشريف ينهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الربا بنوعيه: الفضل، والنسيئة.
فهو ينهى عن بيع الذهب بالذهب، سواء أكانا مضروبين، أم غير مضروبين، إلا إذا تماثلا وزناً بوزنْ، وأن يحصل التقابض فيهما، في مجلس العقد، إذ لا يجوز بيع أحدهما حاضراً، والآخر غائبا.
كما نهى عن بيع الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة أم غير مضروبة، إلا أن تكون متماثلة وزناً بوزن، وأن يتقابضا بمجلس العقد.
فلا يجوز زيادة أحدهما عن الآخر، ولا التفرُّق قبل التقابض.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الذهب بالذهب، أو الفضة بالفضة، سواء أكانت مضروبة، أم غير مضروبة، أم مختلفة، ما لم تكن مماثلة بمعيارها الشرعي وهو الوزن، وما لم يحصل التقابض من الطرفين في مجلس العقد.
2- النهى عن ذلك يقتضي تحريمه وفساد العقد.
3- التماثل والتقابض بمجلس العقد، مشروط بين جميع الأموال الربوية، ويأتي بيان ما يجمعها إن شاء الله.
4- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رجل يداين الناس كل مائة بمائة وأربعين ويجعل سلفا على حرير: هذا هو عين الربا الذي أنزل فيه القرآن، وذكر أنه لا يستحق إلا ما أعطاهم أو نظيره أما الزيادة فلا يستحق شيئا منها. أما ما قبضه بتأول فيعفى عنه: وأما ما بقى في الذمم فهو ساقط لقوله تعالى: { وذروا ما بقى من الربا } .
اختلاف العلماء:
__________
(1) وله وفى لفظ "إلا وزنا بوزن " ذكر الوزن من أفراد "مسلم " نبه عليه عبد الحق في كتابه "الجمع بين الصحيحين " ا.هـ شارح
(1/477)
________________________________________
أجمع العلماء على تحريم التفاضل(1) والنساء في جنس واحد من الأجناس ، التي نص عليها حديث عبادة بن الصامت قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى " . رواه مسلم.
فهو نص في منع التفاضل في الجنس الواحد من هذه الأعيان المذكورة.
وأما منع النسيئة، فيستفاد من مثل حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَه صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب رباً، إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً، إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً، إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً، إلا هاء وهاء".
ويجوز بيع الجنس الواحد من هذه الستة بالجنس الآخر نَساء لبقية حديث عبادة " فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد " وكل هذا مجمع عليه عند العلماء، إلا في الشعير مع البر، فقد رأى بعضهم أنَهما جنس واحد، والصحيح أنهما جنسان.
وقد ذهبت الظاهرية إلى أن الربا لا يتعدى هذه الأجناس الستة لنفيهمُ القياس .
وأما جمهور العلماء فقد عَدّوا الحكم إلى غيرها من الأشياء. واختلفوا في الأشياء الملحقة، تبعاً لاختلافهم في فهم العلة المانعة من التفاضل والنِّساء،
وقد اتفق العلماء على أن العلة في الذهب والفضة، غير العلة في الأربعة الباقية وأن لكل منهما علة واحدة. ثم اختلفوا في العلة.
فالرواية المشهورة عن الإمام أحمد، في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس وفى الأربعة الباقية، كونها مكيلة جنس، فيلحق بهما ما شابهما في العلة.
__________
(1) إلا ما نقل عن ابن عباس في ربا الفضل ، إن لم يكن رجع عنه كما قيل - ا.هـ شارح .
(1/478)
________________________________________
وبهذا القول قال النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق والحنفية. فعلى هذا يجرى الربَا في كل موزون، أو مكيل بيع بجنسه، سواء أكان مطعوماً، كالحبوب، والسكر، والأدهان. أم غير مطعوم، كالحديد، والصفر والنحاس، والأشنان ونحو ذلك. وغير المكيل أو الموزون
لا يجرى فيه، وأن كان مطعوما، كالفواكه المعدودة.
ويستدلون على ثبوت هذا التعليل عندهم، بما رواه أحمد عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين ".
وما رواه الدارقطنى عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وُزِنَ مثلا بمثل، نوعاً واحدا. وما كيل ، فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان، فلا بأس به " . فاعتبر، هنا، الكيل، أو الوزن في الجنس الواحد، لتحقق العلة.
وذهب الشافعي إلى أن العلة، الطعم والجنس، والعلة في الذهب والفضة، كونهما ثمنين للأشياء، فيختص الحكم بهما. والدليل على ذلك، ما رواه مسلم، عن معمر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلا بمثل ".
فقد علَّق الحكم باسم الطعام، فدل على العلة واشتقاقها. ووافق الإمام مالك الشافعي في النقدين، أم غيرهما، فالعلة عنده فيه ترجع إلى الجنس والادخار، والاقتيات. وكذلك ما يصلح الطعام من التوابل. ويرون أن الأصناف الأربعة المذكورة في الحديث جاءت للتنبيه على ما في معناها، ويجمعها كلها الاقتيات والادخار .
فالبر، والشعير، لأنواعْ الحبوب. والتمر لأنواع الحلويات، كالسكر والعسل، والملح، لأنواع التوابل.
وهناك رواية أخرى عن الإمام أحمد هي مذهب الإمام الشافعي في القديم، وقال بها سعيد بن المسيب. وهى أن العلة في الأربعة المذكورة في الحديث: الطعم، والكيل أو الوزن فلا يجرى الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالرمان والحض، والبطيخ.
(1/479)
________________________________________
كما لا يجرى في مكيل أو موزون لا يطعم. فلابد من اعتبار الأمرين ، لأن الكيل وحده، أو الوزن وحده، لا يقتضي وجوب المماثلة، كما أن الطعم
وحده لا تتحقق به المماثلة، لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تتحقق المماثلة في المعيار الشرعي الذي هو الكيل والوزن.
وبهذا القول تجتمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة، ويقيد كل حديث منها بالآخر.
وقد اختار هذا القول [ صاحب المغنى] والشارح عبد الرحمن بن أبي عمر، وشيخ الإسلام " ابن تيمية " رحمهم الله تعالى.
تلخيص:
قال في المغنى: فالحاصل إن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد، ففيه الربا. رواية واحدة كالأرز، والدخن والقطنيات، والدهن.
وهذا قول أكثر أهل العلم وعلماء الأمصار في القديم والحديث. وما يعدم فيه الكيل، والوزن والطعم، واختلف جنسه، فلا ربا فيه رواية واحدة. وهو قول أكثر العلماء، وذلك كالتين والنوى. وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل والوزن من جنس واحد، فيه روايتان.
واختلف أهل العلم فيه، والأولى- إن شاء الله- حِله، إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوى التمسك به، وهى- مع ضعفها- يعارض بعضها بعضا. فوجب إخراجها، أو الجمع بينها، والرجوع إلى أصل الحل، الذي يقتضيه الكتاب، والسنة، والاعتبار .
الحديث الثالث
عَن أبي سَعِيدٍ الخُدري رَضىَ الله عَنْهُ قَالَ: جَاءَ بلال إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم بِتَمْر بَرْنى، فَقَالَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم : " مِنْ أين هذَا؟ ".
قَالَ بلال: كانَ عِنْدَنَا تَمْر رَدِيء، فَبِعتُ مِنْهُ صَاعَيْن بصَاع، لِيَطْعَمَ النًّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ.
فَقَالَ النَّبي صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلمَ عِنْدَ ذِلكَ " أوّهِ أوَّه، عَينُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا، لا تَفْعَلْ، وَلكِنْ إذَا أرَدْتَ أنْ تَشْتَرِيَ فبعِ التَّمْرَ بِبَيْع آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بهِ ".
الغريب:
(1/480)
________________________________________
بَرْني : من تمر المدينة الجيد، وهو معروف بها إلى الآن، بسره أصفر، فيه طول.
أوه أوه: كلمة يؤتى بها للتوجع، أو التفجع.
المعنى الإجمالي:
جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني جيد، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من جودته وقال: من أين هذا؟
قال بلال: كان عندنا تمر، فبعت الصاعين من الردي بصاع من هذا الجيد، ليكون مطعم النبي صلى الله عليه وسلم منه.
فعظم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وتأوه، لأن المعصية عنده هي أعظم المصائب.
وقال: عملك هذا، هو عين الربا المحرم ، فلا تفعل ، ولكن إذا أردت استبدال رديء، فبع الرديء بدراهم، ثم اِشتر بالدراهم تمرا جيدا. فهذه طريق مباحة تعملها، لاجتناب الوقوع في المحرم .
ما يستفاد من الحديث :
1- تحريم ربا الفضل بالتمر، بأن يباع بعضه ببعض، وأحدهما أكثر من الأخر.
2- استدل بالحديث على جواز [مسألة العينة] وهى أن يبيع سلعة نسيئة، ثم يشتريها من المشترى بنقد أقل من ثمنها الأول، ويأتي الخلاف في ذلك وتحقيقه إنْ شاء اللّه تعالى.
3- استدل بالحديث على جواز [ مسألة التورق ]، وهى أن يشترى ما يساوى مائة ريال، بمائة وعشرين مؤجلة لا لينتفع به بل ليبيعه وينتفع بثمنه، ويأتي تحقيق ذلك، إن شاء الله تعالى.
4- عظم المعصية، كيف بلغت من نفس النبي صلى الله عليه وسلم .
5- لم يذكر في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره برد البيع. والسكوت عن الرد، لا يدل على عدمه.
وقد ورد في بعض الطرق أنه قال: [ هذا الربا فرِده] وقد قال تعالى: {فإنْ تُبتم فَلَكُم رُؤوس أمْوَاِلكُم لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُون } .
6- جواز الترفه في المأكل والمشرب، ما لم يصل إلى حد التبذير، والسرف المنهي عنه، فقد قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرمَ زِينَةَ الله التي أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَيباتِ مِنَ الرِّزْقِ؟ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا} .
7- فيه بيان شيء من أدب المفتى.
(1/481)
________________________________________
وهو أنه إذا سئل عن مسألة محرمة، ونهى عنها المستفتى، أن يفتح أمامه أبواب الطرق المباحة، التي تغنيه عنها.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في حكم المسألة العينة، التي تقدم شرحها.
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، وأحمد وأتباعهم: إلى تحريمها. وهو مروى عن ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سنين، والشعبي، والنخعى، وهو مذهب الثوري، والاوزاعى.
لما روى أحمد، وأبو داود عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ ، وَأخَذتُمْ أذنابَ البَقَرِ، ورَضيتُمْ بِالزَرعِ ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلطَ الله عَلَيْكُم ذُلا لا يَنْزِعُهُ عنكم حَتى تَرْجِعُوا إلَى دِينكُم " .
وما رواه أحمد أيضاً [ أن أم ولد زيد بن أرقم، أخبرت عائشة: أنها باعت غلاما من زيد، بثمانمائة إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا بن أرقم أنه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب] .
والظاهر أنها لا تقول مثل هذا باجتهاد منها، لأن هذا التغليظ لا يكون إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم .
وأجاز الشافعي بيع العينة، أخذاً بعموم ما رواه البخاري ومسلم، عن أبي سعيد، وأبى هريرة [ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب [ طيب] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكُلَ تَمْرِ خَيبرَ هكَذَا؟ فَقالَ: لا واللّه، إنّا لَنَأخذُ الصَّاعَ مَن هذَا بِالصاعَيْن، وَالصَّاعَيْن بِالثَّلَاثَةِ].
فقال النبي صلى الله عليهوسلم : " لا تَفْعَلْ، بع الجَمعَ [التمر الرديء ] ثُم ابتعْ بالدراهم جنيباً " .
فعموم هذا الحديث يدل على أنه لا بأس أن يكون الذي اشترى منه التمر الرديء بدراهمه، هو الذي باع عليه التمر الطيب فعادت دراهمه إليه ، لأنه لم يفعل .
(1/482)
________________________________________
وعند الأصوليين [ أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال].
أما [ مسألة التورق ] التي معناها، أن يشتري السلعة نسيئة لغير قصد الانتفاع بها، وإنما ليبيعها بثمنها، فالمشهور عند أصحابنا جوازها.
وكان شيخنا " عبد الرحمن السعدي " يجيزها، ويرى عموم هذا الحديث يتناولها بالحل.
وقال في أحد كتبه: "لأن المشترى لم يبعها على البائع عليه، وعموم النصوص تدل على جوازها، وكذلك المعنى لأنه لا فرق بين أن يشتريها ليستعملها في أكل أو شرب، أو استعمال، أو يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيها تحيل على الربا بوجه من الوجوه، مع دعاء الحاجة إليها، وما دعت إليها الحاجة، وليس فيه محذور شرعي، لم يحرمه الشارع على العباد".
والرواية الثانية عن الإمام أحمد، التحريم، واختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " .
وقال ابن القيم "وكان شيخنا- ابن تيمية- رحمه الله يمنع من مسألة التورق وسئل عنها مراراً وأنا حاضر فلم يرخص فيها.
وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا، موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بالشراء والبيع والخسارة فيها".
والمانعون من "العينة" جعلوها من باب الذرائع المحرمة، وجعلوا الحديث من باب المطلق الذي يقيد بِصُوَر البيع الصحيح، وليس من باب العام، الذي يشمل كل صورة للبيع، حتى ولو كانت مع البائع.
وهكذا إطلاقات الشارع تدل على ما أذن فيه وأباح.
فإن قوله: "بع الجمع" مطلق، يقيد بالعقود الصحيحة، وليس بعام ليدخل فيه الصورة التي تعقد مع مشترى "الجمع" في هذا الحديث.
وبهذا تبين فساد قول الذين يحاولون الاستدلال على وجود الحيل في الشرع فإن الشارع لما نهاه عن معاملة محرمة، فتح أمامه الباب إلى معاملة غيرها مباحة، لا علاقة بينهما بوجه من الوجوه.
ومن أراد بسط هذا، فعليه ب " إعلام الموقعين " لابن القيم، رحمه لله تعالى.
الحديث الرابع
(1/483)
________________________________________
عَنْ أبي المِنْهَالِ قال: سَالتُ البَرَاءَ بنَ عازِب وَزَيْدَ بنَ أرْقمَ عَنِ الصرفِ، فَكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ: هذَا خَير مِنىٍ وَكِلاهُما يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنْ بيع الذَهَبِ بِالوَرِقِ دَيْنا.
المعنى الإجمالي:
سأل أبو المنهال، البراء بن عازب، وزيد ين أرقم، عن حكم الصرف، الذي هو بيع الأثمان بعضها ببعض.
فمن ورعهما رضى الله عنهما، أخذا يتدافعان الفتوى، ويحتقر كل واحد منهما نفسه بجانب صاحبه.
ولكنهما اتفقا على حفظهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالفضة دَيناً، لاجتماعهما في علة الربا، فحينئذ لابد فيهما من التقابض في مجلس العقد، وإلا لما صح الصرف، وصار ربا بالنسيئة.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهى عن بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، وهما أو أحدهما غائب، فلابد من التقابض في مجلس العقد.
2- صحة البيع مع التقابض في مجلس العقد، لأنه صرف.
3- المفسد للعقد إذا لم يحمل تقابض في المجلس، هو ما اجتمع فيه النقدان، من علة الربا.
4- ما كان عليه السلف رضى الله عنهم من الورع، وتفضيل بعضهم بعضا.
الحديث الخميس
عَنْ أبي بَكْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم عَنِ الْفِضةِ بِالْفِضَّةِ. وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ: إِلا سَوَاءً بِسَواءٍ .
وَأمرَنَا أنْ نَشْتَريَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كيف شِئْنَا وَنَشْتَرِيَ الذًهَبَ بِالْفِضةِ كَيْفَ شِئْنَا.
قال: فسأله رَجل فَقَالَ: يَداً بيد ؟ فَقَالَ: هكَذَا سَمِعْتُ
المعنى الإجمالي:
لما كان بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلا رباً، نهى عنه ما لم يكونا متساويين، وزناً بوزن
أما بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، فلا بأس به، وإن كانا متفاضلين
(1/484)
________________________________________
على أنه لابد في صحة ذلك من التقابض في مجلس العقد، وإلا كان ربا النسيئة المحرم، لأنه لما اختلف الجنس جاز التفاضل، وبقى شرط التقابض، لعلة الربا الجامعة بينهما.
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متفاضلين، لاجتماع الثمن والمثمن، في جنس واحد من الاجناس الربوية
2- إباحة بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، بشرطين:
الأول: التماثل منهما، فلا يزيد أحدهما على الآخر.
والثاني : التقابض في مجلس العقد بينهما.
وما يقال في الذهب والفضة، يقال في جنس واحد من الأجناس الربوية ، حينما يباع بعضه ببعض، كالبر بالشعير.
3- جواز بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب متفاضلين،ْ لكون كل واحد منهما من جنس غر جنس الآخر.
وكذا يقال في كل جنس بيع بغير جنسه من الأجناس الربوية، فلا بأس من التفاضل بينهما.
4- لابد في بيع الذهب بالفضة، أو الفضة بالذهب، من التقابض بينهما في مجلس العقد.
فإن تفرقا قبل القبض، بطل العقد، لاجتماعهما في العلة الربوية.
وكذا كل جنسين اتفقا فى العلة الربوية، وهى الكيل، أو الوزن مع الطعم، فلابد من التقابض بينهما في مجلس العقد.
اختلاف العلماء في (الأوراق البنكية):
في هذه الأزمان الأخيرة، أخذ الناس يتعاملون بدل الذهب والفضة بالأوراق البنكية ( الأنواط).
فجعلوا لكل نقد (فئة) تقابلها، تحمل اسمها وقيمتها.
فاختلف الناس في حكمها وإليك الإشارة إلى أقوالهم،بطريق الإيجاز و الاختصار.
فمنهم: من يرى أنها من بيع السندات والديون والصكوك، فحرم المعاملات بها إطلاقاً.
ومنهم: من يرى أنها عروض من عروض التجارة، فلا يجرى فيها الربا بنوعيه.
وهذا القول بتساهله مقابل للقول الذي قبله بشدته، الثاني يرى جواز بيع بعضها ببعض، وبيعها بأحد النقدين متفاضلة ونسيئة، وأنه لا مانع من ذلك، لأنه لا يجرى فيها الربا.
وهذان القولان في غاية الضعف.
(1/485)
________________________________________
فأما الأول: ففيه تشديد، وحرج وضيق، وطبع ديننا السماح، واليسر، خصوصاً في العادات والمعاملات.
والثاني: فيه فتح لباب شر كبير، وهو الربا بأنواعه، مع أنه لا يستند إلى شيء من تعليل صحيح.
ومنهم: من يرى أن حكمها، حكم النقدين، يجرى فيها ما يجرى فيهما من الأحكام.
وهذا له وجه من الصحة، لقوة مأخذه، ويستدلون على ذلك بأن البدل له حكم المبدل في كل شئ.
وأحسن الأقوال في ذلك وأعدلها وأقربها للصواب، هو أن نجعل حكمها حكم الفلوس.
فنجرى فيها ربا النسيئة، ولا نجرى عليها ربا الفضل.
فيجوز بيع بعضها ببعض، أو بأحد النقدين متفاضلة والمفاضلة هنا فيما تمثل من القيمة النقدية، أما المفاضلة في ذاتها فأمر لا يتضرر، ولا يجوز ذلك نسيئة.
وهذا قول وسط في الموضوع، وفيه توسعة على الناس، الذين اضطروا إلى التعامل بها، كما أن فيه أيضا سدا لباب ربا النسيئة، الذي هو أعظم أنواع الربا.
وبسط الموضوع يحتاج إلى بحث مستقل، لأنه حصل بها مجادلات طويلة .
ولشيخنا " عبد الرحمنٍ بن ناصر آل سعدي " رسالة في هذا البحث، نشرت في الصحف، ونشرت أيضا وحدها برسالة مستقلة، وهو يرجح القول الأخير.
بَابُ الرَّهن (1)
الرهن: بفتح الراء وسكون الهاء، وهو، لغة:- الثبوت والدوام.
فأخذ معناه الشرعي من هذا، لبقائه واستقراره عند المرتهن.
"تعريفه شرعا: جَعْلُ مال، توثقةً، بدين يستوفى منه، أو من ثمنه، إن تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم.
وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح.
__________
(1) لترجمة التي وضعها المصنف " باب الرهن وغيره " ويشير بلفظ "غيره " إلى عدة أبواب من أبواب الفقه ، ذكر لكل باب منها حديث أو حديثين .
فمنها " الحوالة " و " الإفلاس " و " الشفعة " ، فهو لم يعقد ترجمة من هنا إلى أن وصل إلى أحكام " اللقطة " فوضع لها ترجمة .
فرأيت تفصيل هذه المباحث ، وتبين أحكام أحاديثها ، بوضع تراجم ، تعين على البيان والفهم وفقنا الله جميعا لكل خير . ا.هـ شارح
(1/486)
________________________________________
أما الكتاب فقوله تعالى: {إِنْ كنْتُمْ عَلَى سَفَر ولَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فِرِهَان مَقْبوضَةٌ} .
"أما السنة، فكثيرة، ومنها ما في البخاري عن أنس قال: " ولقد رهن النبي صلى الله عليه وسلم درعه بشعير " وفيها حديث الباب، وغيرهما كثير.
وأجمع المسلمون على جوازه، وإن اختلفوا في بعض مسائله.
كما أن الحاجة داعية إليه في كثير من المعاملات، إذ به يحصل التوثقة والاستيفاء..
أما فائدته، فكبيرة. لأنه من الوثائق التي يحصل منها الاستيفاء عند تعذر ذلك من الذٌمم، ويؤمن به من غدر المدين، ويحصل به الاطمئنان للدائن من مدينه.
وأكمل التوثق إذا قبض الرهن عند المرتهن، أو العدل الذي يرضى الراهن والمرتهن بقاءه بيده.
فإن لم يحصل قبضه، فالرهن صحيح لازم، ولكنه ناقص الفائدة، قليل الثمرة.
وقد أرشد الله إلى أكمل الحالات وأوثقها فقال: {فَرِهَان مقبوضة }.
الحديث الأول
عَنْ عَاِئشةَ رَضىٍ الله عَنْها: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى مِنْ يَهُوِدي طَعَاماً، وَرَهَنَهُ دِرْعا مِنْ حَدِيدٍ .
المعنى الإجمالي :
زهادة النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا، وتقللهُ منها، وكرمه الذي يبارى الرياح، لم يُبْقِ ما يدخره لقوت نفسه، وقوت أهله، الأيام اليسيرة.
ولهذا فقد آل به الأمر أن اشترى من يهودي طعاماً من شعير، ورهنه ما هو محتاج إليه للجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمته، وهو درعه الذي يلبسه في الحروب، وقاية- بعد الله تعالى- من سلاح العدو، وكيدهم.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز الرهن مع ثبوته في الكتاب العزيز أيضاً.
2- جواز معاملة الكفار، وأنها ليست من الركون إليهم المنهي عنه. قال الصنعاني : وهو معلوم من الدين ضرورة، فإنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقاموا بمكة ثلاث عشرة سنة يعاملون المشركين، وأقام في المدينة عشراً يعامل هو وأصحابه أهل الكتاب وينزلون أسواقهم.
(1/487)
________________________________________
3- وفيه جواز معاملة مَنْ أكثر ماله حرام، ما لم يعلم أن عين المتعامل به حرام. قال الصنعاني : وفيه دليل إلى عدم النظر إلى كيفية معاملتهم في أنفسهم، فإنه من المعلوم أنهم يبيعون الخمور ويأكلون السحت ويقبضونه، ولكن ليس لنا البحث عن معاملتهم وعن كيفية دخول المال إلى أيديهم، بل نعاملهم معاملة من في يده ملكه الحلال حتى يتبين لنا خلافه. ومثله الظلمة.
4- وليس في الحديث دليل على جواز بيع السلاح على الكفار، لأن الدرع ليس من السلاح ولأن الرهن ليس بيعا أيضاً، ولأن الذي رهن عنده النبي صلى الله عليه وسلم درعه، في حساب المستأمنين الذين تحت الحماية والحراسة، فلا يُخْشَى منهم سطوة أو خيانة. فإن إعانة الكفار والأعداء بالأسلحة، محرمة وخيانة كبرى.
5- فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الإقلال والزهد، رغبة فيما عند الله وكرما، فَلا يَدَع مالاً يقر عنده.
6- فيه تسمية الشعير بالطعام، خلافاً لمن قصر التسمية على الحنطة فقد ثبت من بعض الطرق، أنه عشرون أو ثلاثون صاعاً من شعير.
7- وفيه جواز الرهن في الحضر، فتكون الآية مخرجة مخرج الغالب حينما يعوز الكاتب والشاهد في السفر، وهذا مذهب جمهور العلماء، خلافا لما نقل عن مجاهد، والضحاك، ومذهب الظاهرية : من أن الرهن خاصة في السفر دون الحضر، لمفهوم الآية.
بَابُ الحَوَالة (1)
الحوالة: بفتى الحاء، مأخوذة من التحول، وهو الانتقال.
" فهي نقل دَيْن من ذمة إلى ذمة " فتنقل الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
وهي ثابتة بالسنة كهذا الحديث، وبإجماع العلماء، وبالقياس الصحيح، فإن الحاجة داعية إليها، قال بعضهم: هي من بيع الدين بالدين.
وجاز فيها تأخر القبض من باب الرخصة، فتكون على خلاف القياس، والصحيح خلاف ذاك وأنها من جنس إيفاء الحق، ولهذا أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الوفاء، وأداء الدين.
__________
(1) هذه الترجمة وما بعدها من التراجم إلى باب اللقطة كلها من وضعي .
(1/488)
________________________________________
أما فائدتها، فتسهيل المعاملات بين الناس، لاسيما إذا كان الغريم في بلد، والمحال عليه في بلد آخر، ويسهل على المحال الاستيفاء منه.
وإذا أحال المدين غريمه على من لا دَيْن له عليه، فهو توكيل في الاستقراض والاستيفاء ، وليس من الحوالة، وليس له أحكامها.
ومثله: إحالة من لا دين له عليه على من عليه له الدين، فليس بحوالة، وإنما هو توكيل في القبض من المدين.
ولهذا قيد قبولها بكون المحال عليه مليئا. ولو كان الديْن باقياً في ذمة المحيل، لما ضَر كون المحال عليه معسراً.
وانتقال الدين وبراءة ذمة المحيل هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
11- ولكن هل يرجع المحال لو تبين أن المحال عليه مفلس أو مات أو جحد؟ فيه خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على اعتبار رضا المحيل في الحوالة، واختلفوا في اعتبار رضا المحال والمحال عليه.
فذهب " أبو حنيفة " إلى اعتبار رضاهما، لأنها معاوضة، يشترط لها الرضا من الطرفين فهما طرف، والمحيل هو الطرف الآخر.
ولكون الرضا معتبراً عندهم، فإنهم لا يرون الحديث على ظاهره، فيفيد الوجوب. وإنما يرون أن الاتباع مستحب ومندوب.
وذهب الإمام أحمد وأتباعه، والظاهرية، وأبو ثور، وابن جرير: إلى أن الأمر للوجوب، إبقاء للحديث على ظاهره، وأنه يتحتم على من أحيل بحقه على مليء أن يحتال.
فإن كانت الحوالة على غير مليء فعند الظاهرية أنها حوالة فاسدة لا تصح، لأنها لم توافق محلها الذي ارتضاه الشارع وهو الملاءة.
وعند الحنابلة تصح، لأن الحق للمحال وقد رضى بذلك.
واختلفوا: هل يرجع المحال على المحيل في ذلك؟ خلافات وتفاصيل .
الحديث الأول
عَنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضي الله عَنْهُ: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ :" مَطل الغني ظُلْم، وَإذَا اتْبعَ أحدكم عَلى مليء فَليَتْبع ".
الغريب:
(1/489)
________________________________________
مطل الغنى: أصل " المطل " المد. تقول: مطلت الحديدة أمطلها، إذا مددتها لتطول. و المراد تأخير ما استحق أداؤه بغير عذر. و" مطل " مصدر مضاف. إلى فاعله، والتقدير: مطل الغنى غريمه، ظلم.
اتبع: بضم الهمزة وسكون التاء وكسر الباء مبنياً للمجهول، بمعنى أحيل..
مليء: بتسكين الياء المهموزة. فأما تعريفه- لغة- فهو الغنى المقتدر على الوفاء . "أما تعريفه عند الفقهاء، فهو المليء بماله، وبدنه، وقوله.
بماله: القدرة على الوفاء.
وبدنه: إمكان إحضاره بمجلس الحكم.
وقوله: أن لا يكون مماطلا .
فليتبع: بفتح الياء التحتية وسكون التاء الفوقية، بمعنى فليحتل.
المعنى الإجمالي :
في هذا الحديث الشريف أدب من آداب المعاملة الحسنة.
فهو صلى الله عليه وسلم يأمر المدين بحسن القضاء، كما يرشد الغريم إلى حسن الاقتضاء.
فبين صلى الله عليه وسلم أن الغريم إذا طلب حقه، أو فهم منه الطلب بإشارة أو قرينة، فإن تأخير حقه عند الغنى القادر على الوفاء، ظلم له، للحيلولة دون حقه بلا عذر.
وهذا الظلم يزول إذا أحال المدين الغريم على مليء يسهل عليه أخذ حقه منه، فَلْيَقْبَل الغريم الحوالة حينئذ.
ففي هذا حسن الاقتضاء منه، وتسهيل الوفاء، كما أن فيه إزالة الظلم بما لو بقي الدين بذمة المدين المماطل .
ما يستفاد من الحديث:
1- تحريم مطل الغنىّ، ووجوب وفاء الدين الذي عليه لغريمه.
2- لفظ " المطل " ، يشعر بأنه لا يحرم عليه التأخير ويجب عليه الوفاء، إلا عند طلب الغريم ، أو ما يشعر برغبته في الاستيفاء.
3- التحريم خاص بالغنى المتمكن من الأداء.
أما الفقير، أو العاجز لشيء من الموانع، فهو معذور .
4- تحريم مطالبة المعسر، ووجوب إنظاره إلى الميسرة، لأن تحريم المطل ووجوب الوفاء، منوطان بالغنى القادر.
أما المعسر فيحرم التضييق عليه، لأنه معذور، و ملاحقته بالدين حرام .
5 - في الحديث حسن القضاء من المدين. بأن لا يماطل الغريم.
(1/490)
________________________________________
وفيه حسن الاقتضاء من الغريم بأن يقبل الحوالة إذا أحاله المدين على مليء.
6- ظاهر الحديث أنه إذا أحال المدين الغريم على مليء، وجب عليه قبول الحوالة. ويأتي الخلاف في ذلك إن شاء الله تعالى.
7- مفهومه أنه لا يجب على المحال قبول الحوالة إذا أحاله على غير مليء .
8- فسر العلماء " المليء " بأنه ما اجتمع فيه ثلاث صفات:
(1) أن يكون قادراً على الوفاء، فليس بفقير.
(2) صادقا بوعده، فليس بمماطل.
(3) يمكن جلبه إلى مجلس الحكم، فلا يكون صاحب جاه، أو يكون أباً للمحال، فلا يمكنه الحاكم من مرافعته.
9- قال العلماء: إن مناسبة الجمع بين هاتين الجملتين أنه لما كان المطل ظلماً من المدين، طلب من الغريم إزالة هذا الظلم بقبول الحوالة على من لا يلحقه منه ضرر وهو المليء .
10- ظاهر الحديث، انتقال الديْن من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه.
والصحيح الذي تطمئن إليه النفس: أن المحال إن احتال برضاه، عالماً بإفلاس المحال عليه، أو موته، أو مماطلته ونحو ذلك من العيوب التي في المحال عليه، ولم يشترط على المحيل الرجوع عند تعذر أو تعسُّر الاستيفاء، أنه لا يرجع، لأنه رضى بإحالة حقه من ذمة إلى ذمة يعلم مصيره فيها، فهو شبيه بما لو اشترى مبيعاً معيباً يعلم عيبه.
وإن لم يكن راضياً بالحوالة على المعسر ونحوه، أو كان راضيا بالحوالة عليه، لكن يجهل عسره ونحوه أو غرر فيه، شرط الرجوع عند تعذر الاستيفاء، أو تعسره، فالحق أن له الرجوع ، لأن عسر المحال عليه عيب لم يعلم به ولم يرض به، فله الرجوع، كما أن له الرجوع عند الشرط لأن المسلمين على شروطهم، والله أعلم.
بَابُ مَنْ وَجَد سلْعَته عند رجل قد أفلس
الحديث الأول
(1/491)
________________________________________
عَنْ أَبي هُرَيْرة رَضِىَ اللّه عَنْة قالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم [ أَوْ قَالَ: سَمعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول ] : منْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِه عِندَ رَجُلٍ- أَوْ إنْسَانٍ - قَدْ أَفْلَس فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ".
المعنى الإجمالي :
من باع متاعه لأحد، أو أودعه، أو أقرضه إياه ونحوه، فأفلس المشترىَ ونحوه، بأن كان ماله لا يفي بديونه، فله أن يأخذ متاعه إذا وجد عينه، بأن كان بحاله لم تتغير فيها صفاته بما يخرجه عن اسمه، ولى يقبض من ثمنه شيئا، ولم يتعلق به حق أحد من مشتر ، أو مُتَّهب(1) . أو رهن، أو شفعة أو غير ذلك من عقود المعاوضات.
فحينئذ يكون أحق به من الغرماء المتحاصي(2) المال، لأنه وجد متاعه بعينه فلا ينازعه فيه أحد.
فإن كان المبيع ونحوه قد تغير بما يخرجه عن اسمه ومسماه، أو كان البائع قد قبض ثمنه أو بعضه، أو قد تصرف فيه المفلس بما تعلق به حق أحد، فلصاحب المتاع- حينئذ أسوة بالغرماء.
ما يستفاد من الحديث:
1- أن من وجد متاعه عند أحد قد أفلس فله الرجوع فيه بشروط أخذها العلماء من الأحاديث، وأخذوا بعضها من فهمهم لمراد الشارع الحكيم. قال ابن دقيق العيد: دلالته قوية. قال الإصطخري من أصحاب الشافعي: لو قضى القاضي بخلافه نقض حكمه.
2- يراد " بصاحب المتاع" في الحديث، البائع وغيره، من مُقْرِض ومودع ونحوهم من أصحاب عقود المعاوضات. فعموم الحديث يشملهم.
ولا ينافي العموم أن يصرح باسم [ البائع] في بعض الأحاديث.
3- أن تكون موجودات المفلس لا تفي بديونه، وهذا الشرط مأخوذ من اسم [ المفلس] شرعا.
4- أن تكون عين المتاع موجودة عند المشترى، هذا الشرط هو نص الحديث الذي معنا وغيره.
__________
(1) متهب : اسم فاعل من الهبة ، ويريد الموهوب له .
(2) المتحاصي المال : الغرماء المقتسمون لحصص المال ، والمال مفعول به وقد أضيف إلى " المتحاصي " إضافة لفظية .
(1/492)
________________________________________
5- أن يكون الثمن غير مقبوض من المشترى. فإن قبض كله أو بعضه، فلا رجوع بعين المتاع .
وهذا الشرط مأخوذ من المعنى المفهوم ، ومن بعض ألفاظ الأحاديث.
6- الذي يفهم من عموم لفظ الحديث، أن الغرماء لو قدموا صاحب المتاع بثمن متاعه، فلا يسقط حقه من الرجوعَ بمتاعه.
قلت: وأرى أننا إذا رجعنا إلى مراد الشارع وهو [ حفظ حق صاحب المتاع] فإننا نلزمه بأخذ الثمن، الذي باعه به إذا قدمه الغرماء، خصوصاً إذا كان في أخذه مصلحة لعموم الغرماء، وللمفلس الذي يتشوف الشارع إلى التخفيف من ديونه.
قال " ابن رشد " : تقدر السلعة.
فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه، قضى بها للبائع .
وإن كانت أكثر، دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصُون الباقي وبهذاْ القول قال جماعة من أهل الأثر
7- أن تكون السلعة بحالها لم يتلف منها شيء، ولم تتغير صفاتها بما يزيل اسمها، كنسج الغزاة،وخبز الحب، وجعل الخشب باباً ونحو ذلك.
فإن تغيرت صفاتها، أو تلف بعضها فهو أسوة بالغرماء.
8- أن لا يتعلق بها حق من شفعة، أو رهن، وأولى من ذلك أن لاتباعَ أو توهب، أو توقف ونحو ذلك، فلا رجوع فيها ما لم يكن التصرف فيها حيلة على إبطال الرجوع، فإن الحيل محرمة، وليس لها اعتبار.
هذه هي الشروط المعتبرة للرجوع في عين المتاع عند المفلس.
و بعضها أخذ من لفظ الأحاديث،وبعضها من المعنى المفهوم. والله أعلم .
اختلاف العلماء:
ذهبت الحنفية إلى أن البائع غير مستحق لأخذ عين ماله حين يجده عند المفلس ، وأن المفلس أحق به. لأن السلعة صارت بالبيع ملكا للمشتري ، ومن ضمانه ،واستحقاق البائع أخذها منه ، نقض لملكه.
وتأولوا الحديث بأنه خبر واحد مخالف للأصول، وحملوه على صورة وهي أن يكون المتاع وديعة، أو عارية أو لقطة عند المفلس وهو حمل مردود.
ولو كان كذلك لما قيد بالإفلاس، فإنه يرجع بهذه الأشياء مع الإفلاس ودونه .
والحق ما ذهب إليه جمهور العلماء من العمل بالحديث.
(1/493)
________________________________________
قال الشوكاني : " والاعتذار بأنه الحديث، مخالف للأصول، اعتذار فاسد، حيث أن السنة الصحيحة من جملة الأصول، فلا يترك العمل بها إلا بما هو أنهض منها، ولم يرد في المقام ما هو كذلك، ا.هـ منه.
قال بعض العلماء: لو حكم الحاكم بخلاف هذا الحديث، نقض حكمه، لأنه لا يقبل التأويل.
ولولا شهرة هذا الخلاف للحنفية ما ذكرته، ولكنى قصدت بذكره التنبيه على ضعفه، وأنه من الآراء التي صودمت بها النصوص.
وقد أذكر في هذا الكتاب بعض الخلافات الضعيفة، لشهرة من يقول بها، وضعف ما تسند إليه، خشية الوقوع فيها تقليدا وثقة بأصحابها، والعصمة لأصحاب الرسالات عليهم الصلاة والسلام.
باَبُ الشفعَة
الشفعة: بضم الشين وسكون الفاء.
والشفع: لغة، الزوج، قسيم الفرد، فإذا ضمت فرداً إلى فرد، فأنت شفعته. ومن هنا اشتقت الشفعة، لأن الشافع يضم حصة شريكه إلى حصته.
والشفعة: تطلق على التملك وعلى الحصة المملوكة فتعريفها- شرعاً- على المعنى الأول: [ استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه ممن انتقلت إليه بعوض]. وهى ثابتة بالسنة، بحديث الباب، وبإجماع العلماء. ولما كان موضوعها، العقارات المشتركة.
- وبطبيعة الشراكة والخلطة يحصل أضرار عظيمة ومشاكل جسيمة. وكثير من الخلطاء يبغي بعضهم على بعض. إلا من آتى الشركة حقها، وقليل ما هم- لما كان الأمر هكذا صارت الشفعة على وفق القياس الصحيح أيضا. فإن انتزاع حصة الشريك بثمنه من المشترى، منفعة عظيمة للشريك المنتزع، ودفع للضرر الكبير عنه، بلا مضرة تلحق البائع والمشترى فكل قد أخذ حقه كاملا غير منقوص.
وبهذا تعلم أنها جاءت على الأصل وفق القياس والحكمة ، والشرع كله، خير وبركة. فلا يأمر إلا بما تتمحض مصلحته أو تزيد على مفسدته، لا ينهى إلا عما تتمحض مضرته أو تزيد على مصلحته.
(1/494)
________________________________________
ولم يستحق الشفيع(1) نزع الشقص(2) من يد المشترى بغير رضاه إلا للمصلحة الخالية من المضرة .
فحينئذ تكون ثابتة بالسنة، والإجماع، والقياس، خلافاً لمن توهموا ثبوتها على خلاف الأصل والقياس.
الحديث الأول
عَنْ جَابِرِ بن عَبْدِ الله رَضي الله عَنْهُماَ قَالَ. جَعَلَ(3) (وفي لفظ :- قضى) النبي صلى الله عليه وسلم بالشُّفعَةِ فيِ كُل مَال لَم يقسم . فَإذَا وقَعَتِ الحُدودُ وَصرفَتِ الطرقُ فَلا شُفعَة.
الغريب :
وقعت الحدود : عينت . و" الحدود " جمع " حد " وهو _ هنا _ ما تميز به الأملاك بعد القسمة.
صرفت الطرق : بضم الصاد وكسر الراء المثقلة، يتخفف. بمعنى بينت مصارفها وشوارعها.
المعنى الإجمالي :
هذه الشريعة الحكيمة جاءت لإحقاق الحق والعدل ودفع الشر والضر ولها النظم المستقيمة والأحكام العادلة للغايات الحميدة والمقاصد الشريفة، فتصرفاتها حسب المصلحة وفق الحكمة والسداد.
ولهذا فإنه لما كانت الشركة في العقارات يكثر ضررها ويمتد شررها وتشق القسمة فيها، أثبت الشارع الحكيم الشفعة للشريك .
__________
(1) الشفيع : صاحب الشفعة المنتزع حصة شريكه بعوض
(2) الشقص : السهم والنصيب والشرك .
(3) أخرجه " ابن الجوزي " في " تحقيقه " عن طريق أبي سلمة عن جابر بلفظ : " إنما جعل " وقال : انفرد لإخراجه البخاري ، ثم أخرجه عن أبي الزبير عن جابر بلفظ " قضى "
(1/495)
________________________________________
بمعنى أنه إذا باع(1) أحد الشريكين(2) نصيبه من العقار المشترك بينهما، فللشريك الذي لم يبع أخذ النصيب من المشترى بمثل ثمنه، دفعاً لضرره بالشراكة.
هذا الحق، ثابت للشريك ما لم يكن العقار المشترك قد قسم وعرفت حدوده وصرفت طرقه.
أما بعد معرفة الحدود وتميزها بين النصيبين، وبعد تصريف شوارعها وتشقيقها فلا شفعة، لزوال ضرر الشراكة والاختلاط الذي ثبت من أجله استحقاق انتزاع المبيع من المشترى.
ما يستفاد من الحديث:
1- هذا الحديث أصل في ثبوت الشفعة وهو مستند الإجماع عليها.
2- صدر الحديث يشعر بثبوت الشفعة في المنقولات وسياقه يخصها بالعقار، ولكن يتبعها الشجر والبناء إذا كانا في الأرض.
3- تكون الشفعة في العقار المشترك، الذي لم تميز حدوده، ولم تصرف طرقه، لضرر الشراكة التي تلحق الشريك الشفيع.
4- إذا ميزت حدوده، وصرفت طرقه، فلا شفعة لزوال الضرر بالقسمة، وعدم الاختلاط.
5- بهذا يعلم أنها لا تثبت للجار، لقيام الحدود وتمييزها.
ويأتي الكلام على الشفعة فيما فيه منفعة مشتركة بين الجارين إن شاء الله تعالى.
6- استدل بعضهم بالحديث: على أن الشفعة لا تكون إلا في العقار الذي تمكن قسمته دون ما لا تمكن قسمته، أخذاً من قوله: " في كل ما لم يقسم " لأن الذي لا يقبل القسمة، لا يحتاج إلى نفيه. ويأتي الخلاف فيه إن شاء الله.
7- تثبت الشفعة إزالةً لضرر الشريك، ولذا اختصت بالعقارات لطول مدة الشراكة فيها.
__________
(1) عبرت بلفظ " باع " حيث الحديث ورد في البيع ، وهو المشهور من مذهب الحنابلة ، والوجه الثاني : يثبت بما انتقل بتصرف غير مالي ، اختاره بعض الأصحاب وهو مذهب مالك والشافعي .
(2) لا فرق بين شريك أو شركاء ، وإذا كان الشفعاء أكثر من واحد ، فالشفعة بينهم على قدر أملاكهم ، فإن أسقط بعضهم شفعته أخذ باقي الشركاء كل الشقص أو تركه ، لئلا يضر بالمشتري ، فالشرع جاء لمحاربة الضرر عن الطرفين ا.هـ شارح
(1/496)
________________________________________
وأما غير العقار، فضرره يسير. يمكن التخلص منه بوسائل كثيرة، من المقاسمة التي لا تحتاج إلى كلفة، أو بالبيع ونحو ذلك.
فائدة:
يرى بعض العلماء- ومنهم الفقهاء المتابعون للمشهور من مذهب الحنابلة- سقوطها إن علم الشفيع ببيع الشقص ولم يشفع على الفور، ولم يجعلوا له مهلة إلا لعمل الأشياء الضرورية، من أكل ، وشرب، وصلاة ونحو ذلك، بناء منهم على أن الأصل في المعاملات الرضا.
والشفيع يريد انتزاع الشقص بغير رضا المشترى فحاربوه، واستأنسوا على ذلك بأحاديث ضعيفة كحديث " الشفعة كَحل العِقَال " .
والحق أنه يرجع في ذلك إلى العرف في التحديد، ويعطى مهلة متعارفة للتفكير والمشاورة.
فائدة ثانية:
يحرم التحيل لإسقاط الشفعة ولإبطال حق مسلم،كما قال ذلك الإمام أحمد رحمه الله.
وقد يعمد من لا يراعى حدود دينه وحقوق إخوانه، إلى محاولة إسقاطها بشيء من الحيل، كأن يعطى الشقص بصورة من الصور، التي لا تثبت فيها،
أو لا يثبتها الحكام فيها، أو يضر الشفيع بإظهار زيادة في الثمن، أو بوقف الشقص، حيلة لإسقاطها.
فهذه حيل لا تسقط فيها الشفعة عند الأئمة الأربعة، كما قال ذلك صاحب الفائق رحمه الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام: الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق. وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب، وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم، وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على ثبوت الشفعة في العقارات التي تقسم قسمة إجبار(1)
__________
(1) العقارات قسمان :
القسم الأول : عقار كبير واسع لا تميز بين أجزائه كالدور الكبار ، والأرض الواسعة ، فهذه تجب قسمتها إذا طلب أحد الشريكين ، لأنه لا ضرر قي قسمتها ، وتسمى هذه " قسمة إجبار " .
والقسم الثاني : صغير كحمام ، ودكان ضيق ، فهذه لا تقسم غلا برضا الشريكين أو الشركاء جميعا لوجود الضرر في قسمتها ، وهذه لها أحكام البيع ، أما الأولى فهي إفراز لا بيع ا.هـ شارح
(1/497)
________________________________________
واختلفوا فيما سوى ذلك.
فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى ثبوتها في كل شيء من العقارات والمنقولات.
مستدلين على ذلك بصدر الحديث الذي معنا، قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم .
وبما رواه الطحاوى عن جابر قال: " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شيء " .
وعندهم، أن الشفعة جاءت لإزالة الضرر الحاصل بالشركة والقسمة، ولذلك كلفة ومؤنة.
وبعض العلماء- كالقاضي عياض وابن دقيق العيد- عَدوا هذا القول من الشواذ.
وذهب مالك، وأهل المدينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق: إلى أنه لا شفعة للجار، ولا للشريك المقاسم، بل تثبت بالعقار الذي لم يقسم.
فإذا وقعت حدوده، وصُرِّفت طرقه، فلا شفعة عندهم.
وهو مروىُ عن عمر، وعثمان، وعلىّ رضى اللّه عنهم.
واستدلوا على ذلك بحديث الباب " فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة".
قال الإمام أحمد: إنه أصح ما روى في الشفعة.
وفي البخاري عن جابر " إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة " .
وفي سنن أبي داود عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا قسمت الأرض وَحُدَّتْ فلا شفعة فيها " إلى غير ذلك من الأحاديث.
ولأن الشفعة إنما أثبتها الشارع لإزالة الضرر اللاحق بشراكة العقارات التي تطول ويصعب التخلص منها بالقسمة، وتستوجب أعمالا وتغييرات، ولها
مرافق وحقوق، وكل هذا مدعاة إلى جلب الخصام والشجار، فثبتت لإزالة هذه الأضرار.
أما غير العقارات المشتركة، فلا توجد فيها إلا نسبة قليلة من الضرر يمكن التخلص منها بالقسمة، أو البيع، أو التأجير.
والجار ليس عنده هذه الأضرار مادام غير مشارك، ولو أثبتنا للجار لشاعت القضية فما من أحد إلا وله جار.
وذهب بعض العلماء- ومنهم الحنفية- إلى ثبوتها للجار مطلقاً، سواء كان له مع جاره شركة في زقاق، أو حوش، أو بئر ونحو ذلك، أو لم يكن.
(1/498)
________________________________________
ويستدلون على ذلك بما رواه البخاري عن أبي رافع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الجار أحق بصقبِه " .
وبما رواه أبو داود، والنسائي، والترمذى عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جار الدار أحق بالدار ".
وروى أصحاب السنن الأربعة عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحدا " وهذا حديث صحيح.
وقالوا: إن الضرر الذي قصد الشارع رفعه، هو ضرر الجوار، فإن الجار قد يسيء إلى جاره بِتَعْلِيَةِ جداره وتَتَبُعِ عوراته والتطلَع على أحواله، فجعل له الشارع هذا الحق، ليزيل به الضرر عن نفسه وحرمه وماله.
وللجار حرمة وحق، حث الله عليهما ورسوله.
فأمر بإكرامه، ونَفَى الإيمان عمن أساء إليه.
فنظر قوم إلى أدلة كل من الفريقين. فرأوا أن كلا منهما معه أثر لا يُرَدُّ، ونظر لا يُصَد. فمع كل منهما أحاديث صحيحة وتعليلات قويه مقبولة. وقد علموا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا تتضارب، بل ينظر بعضها إلى بعض وتتلاحظ بعين التوافق والالتئام، لأنها من عند من { لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }.
لذا فقد توسطوا بين القولين، وجمعوا بين الدليلين فقالوا:
إن منطوق حديث " فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق " ونحوه، انتفاء الشفعة عند معرفة كل واحد حده واختصاصه بطريقه.
وإن منطوق حديث: " الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها، وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً " إثبات الشفعة بالجوار عند الاشتراك في الطريق وانتفائها عند تصريف الطريق، فتوافق المفهوم والمنطوق.
(1/499)
________________________________________
وممن يرى هذا الرأي، علماء البصرة، وفقهاء المحدثين. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام " ابن تيمية " " وابن القيم " وشيخنا عبد الرحمن آل سعدي . قال شيخ الإسلام: وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال، أعدلها القول بأنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا ا.هـ
قلت: وهو قول وسط، تجمع فيه الأدلة، ويزول به كثير من الأضرار الكبيرة الطويلة.
أما إثباتها في المنقول أو للجار الذي ليس له شركة في مرفق، فلا يعتضد بشيء من الأدلة، ولا يكفى أنه يوجد في ذلك قليل من الضرر، الذي يمكن إزالته بسهولة ويسر. والله أعلم .
بَابُ أحْكام الجوَار (1)
المؤلف رحمه اللَه ذكر بعد هذا الحديث المتعلق بـ " الشفعة " أربعهَ أحاديث تتعلق ب " الوقف " و " الهبة ".
ثم ذكر بعدهن ثلاثة أحاديث تتعلق ب " المزارعة ". ثم ذكر بعدهن حديثاً في " الهبة " أيضاً.
ثم ذكر أحاديث تتعلق " بالغصب " و " أحكام الجوار "، ثم ذكر أحاديث " الوصايا ".
فلا أعلم، ما وجه هذا الترتيب عنده؟.
وبما أن أحاديث " الوقف" و " الهبة "و " الوصايا " كلها من جنس واحد ، لأنها عقود تبرعات، وأحكامها متقاربة، ومسائلها متناظرة، عمدت إلى جعلها متوالية، وأخرتها ليكون بعدها " باب الفرائض " لوجود المناسبة بينها أيضاً.
وقدمت هذه الأحاديث المتعلقة ب " المزارعة " ، و " والغصب " و" أحكام الجوار " ليحسن الترتيب، وتجتمع المسائل المتناسبة.
الحديث الأول(2)
عَن أبي هُرَيرةَ رضىَ الله عَنْهُ: أن رَسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَمْنَعَن جَار جَارَهُ أن يَغْرزَ خَشَبَةً في جدَارهِ " .
ثم يقول أبو هريرة: مَا لي أراكم عَنْهَا مُعْرضِينَ؟ والله لأرْمِيَن بِهَا بَين أكتافكم .
الغريب:
__________
(1) أحكام الجوار تناسب أن تقع بعد الشفعة ، فبينهما شيء من الصلة ، لأن كليهما من حقوق الجوار المرعية ا.هـ شارح
(2) هذا الحديث حسب ترتيب المصنف رقم " 287" .
(1/500)
________________________________________
لا يمنعن: لا:- ناهية، والفعل بعدها مجزوم بها، وحرك بالفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة.
خشبة: بالإفراد، وقد روى بالجمع، والمعنى واحد، لأن المراد بالواحد الجنس
عنها، بها: الضمير فيهما راجع إلى السنة المذكورة في مقالته .
بين أكتافكم: بالتاء المثناة الفوقية جمع " كتف ". وقد ورد في بعض الروايات بالنون. و " أكناف " جمع " كنف " بفتح الكاف والنون، هو الجانب.
المعنى الإجمالي:
للجار على جاره حقوق تجب مراعاتها، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على صلة الجار، وذكر أن جبريل مازال يوصيه به حتى ظن أنه سيورثه من جاره، لعظم حقه، وواجب بره.
فلهذا تجب بينهم العشرة الحسنهَ، والسيرة الحميدة، ومراعاة حقوق الجيزة، وأن يكف بعضهم عن بعض الشر القولي والفعلي. فلا يؤمن بالله تعالى من لا يأمن جاره بوائقه.
ومن حسن الجوار، ومراعاة حقوقه، أن يبذل بعضهم لبعض، المنافع التي لا تعود عليهم بالضرر الكبير مع نفعها للجار.
ومن ذلك أن يريد الجار، أن يضع خشبة في جدار جاره.
فإن لم يكن ثَم حاجة إلى ذلك، ينبغ لصاحب الجدار أن يأذن له، مراعاة لحق الجار.
وإن كان ثَم حاجة لصاحب الخشب، وليس على صاحب الجدار ضرر من وضع الخشب، فيجب على صاحب الجدار أن يأذن له في هذا الانتفاع ، الذي ليس عليه منه ضرر مع حاجة جاره إليه. ويجبره الحاكم على ذلك إن لم يأذن.
فإن كان ثَم ضرر، أو ليس هناك حاجة، فالضرر لا يزال بالضرر.
والأصل في حق المسلم المنع، ولذا فإن أبا هريرة رضى الله عنه، لما علم مراد المشرع الأعظم من هذه السنة الأكيدة، استنكر منهم إعراضهم في العمل بها، وتوعدهم بأن يلزمهم بالقيام بها، فإن للجار حقوقا فرضها اللَه تعالى تجب مراعاتها والقيام بها.
ما يستفاد من الحديث:
1- النهْىُ عن منع الجار أن يضع خشبة على جدار جاره، إذا لم يكن عليه ضرر من وضعها، وكان في الجار حاجة إلى ذلك.
(2/1)
________________________________________
2- قيد وضع الخشب بعدم الضرر على صاحب الجدار، وبحاجة صاحب الخشب، لأن التصرف في مال الغير ممنوع إلا بإذنه.
فلا يجوز إلا لحاجة من عليه له الحق وهو الجار،كما أنه لا يوضع مع تضرره لأًن الضرر لا يزال بالضرر.
3- هل النَهْىُ على وجه التحريم أو الكراهة ؟ يأتي بيان ذلك إن شاء الله.
4- فهم أبو هريرة رضى اللَه عنه أن الجار متحتم عليه بَذْلُ ذلك لجاره، ولذلك فإنه استنكر عليهم إعراضهم عن هذه السنة. وتهددهم بالأخذ بها.
5- هذا من حقوق الجار الذي حضً الشارع على بره والإحسان إليه، فنعلم من هذا عِظَمَ حقوقه ووجوب مراعاتها.
ولهذا فإنه يقاس على وضع الخشب غيره، من الانتفاعات، التي يكون في الجيران حاجة إليها، وليس على مالك نفعها مضرة كبيرة في بذلها، فيجب بذلها ويحرم منعها.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على المنع من وضع خشب الجار على جدار جاره مع وجود الضرر إلا بإذنه لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا ضرر ولا ضرار ".
واختلفوا فيما إذا لم يكن على صاحب الجدار ضرر، وكان بصاحب الخشب حاجة إلى ذلك ، بأن لا يمكنه التسقيف إلا به.
ذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة،: مالك، والشافعي في المشهور عنهم إلى أنه لا يجوز وضع الخشب على حائط الجار إلا بإذن صاحب الجدار وإن لم يأذن، فلا يجبر عليه.
مستدلين على ذلك بأصل المنع من حق الغير إلا برضاه كحديث " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه " وحديث " إن أموالكم وأعراضكم عليكم حرام " ونحو ذلك من الأدلة.
وذهب الإمام أحمد، وإسحاق وأهل الحديث إلى وجوب بذل الجدار لصاحب الخشب مع حاجة الجار إليه وقلة الضرر على صاحب الجدار وإجباره على ذلك مع الامتناع.
وقال بهذا القول، بعض المالكية، وهو قول لأبي حنيفة، ومذهب الشافعي في القديم. والدليل على ذلك ما يأتي:
1- ظاهر هذاَ الحديث الذي معنا، فإنه ورد بصيغة النهي ، والنهي يقتضي التحريم، وإذا كان المنع حراماً، فإن البذل واجب.
(2/2)
________________________________________
2- أبو هريرة الذي روى الحديث، استنكر عدم الأخذ به، وتوعد على ذلك، وهذا يقتضي فهمه لوجوب البذل وتحريم المنع، وراوي الحديث، أعرف بمعناه.
3- ورد مثل هذه القضية في زمن عمر فقد روى مالك بسند صحيح أن الضحاك بن خليفة، سأله محمد بن مسلمة أن يسوق خليجا له فيجريه في أرض محمد بن مسلمة، فامتنع.
فكلمه عمر في ذلك فأبى. فقال: والله ليمرن به ولو على بطنك.
ولم يعلم لعمر مخالف في هذه القضية من الصحابة، فكان اتفاقاً منهم على ذلك.
4- أن الشارع عظم حقوق الجار وأكد حرمته، فله على جاره حقوق فإذا لم يبذل له ما ليس عليه فيه مضرة، فأين رَعْىُ الحقوق والحرمة؟
أما العمومات التي يستدلون بها على عدم الوجوب، فلا يبعد أن تكون مخصصة بهذا الحديث، للمصالح
بَابُ الغصْبِ
مصدر " غصبه يغصبه " أخذه ظلماً.
والغصب شرعاً: هو الاستيلاء على مال غيره بغير حق.
وهو من الظلم المحرم في الكتاب، والسنة، والإجماع .
ويجب على الغاصب رد ما غصبه، لأنه من رد المظالم إلى أهلها.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضى الله عَنْهَا: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: " من ظَلَمَ قِيدَ شِبْر مِنَ الأرْض طُوقَهُ مِنْ سَبْعِ أرْضِينَ ".
الغريب:
قيد شبر: بكسر القاف وسكون الياء ، أي قدر. وذكر " الشبر" ، إشارة إلى استواء القليل والكثير.
طوقه: بضم الطاء وتشديد الواو المكسورة، مبنى للمجهول، بمعنى أن يجعل طوقاً في عنقه.
أرضين: بفتح الراء ويجوز إسكانها.
الظلم: لغة وضع الشيء في غير محله. وشرعا التصرف في حق الغير بدون إذنه.
المعنى الإجمالي :
مال الإنسان على الإنسان حرام، فلا يحل لأحد أخذ شيء من حق أحد، إلا بطيبة نفسه، وأشد ما يكون ذلك، ظلم الأرض، لطول مدة استمرار الاستيلاء عليها- ظلماً.
(2/3)
________________________________________
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن من ظلم قليلا أو كثيراً من الأرض جاء يوم القيامة بأشد ما يكون من العذاب، بحيث تغلظ رقبته، وتطول، ثم يطوق الأرض التي غصبها وما تحتها، إلى سبع أرضين، جزاء له على ظلمه صاحب الأرض بالاستيلاء عليها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم الغصب، لأنه من الظلم الذي حرمه الله على نفسه، وجعله بيننا محرماً.
2- أن الظلم حرام، في القليل والكثير، وهنا فائدة ذكر الشبر
3- أن العقار يكون مغصوبا بوضع اليد، ويكون مستولى عليه. قال القرطبي: ومن الحديث إمكان غصب الأرض وأنه من الكبائر.
4- أن من ملك ظاهر أرض، ملك باطنها إلى تخومها.
فلا يجوز أن ينقب أحد من تحته، أو يجعل نفقا أو سرباً ونحو ذلك إلا بإذنه، ويكون مالكا لما فيها من أحجار مدفونة، أو معادن ، وله أن يحفر ما شاء. كما أن العلماء قالوا: إن الهواء تابع للقرار، فمن ملك أرضا ملك ما فوقها.
5- قال شيخ الإسلام: إذا اختلط الحرام بالحلال، كالمقبوض غصبا والربا والميسر، فإذا اشتبه بغيره واختلط لم يحرم الجمع، فإذا علم أن في البلد شيئاً من هذا لا يعلم عينه لم يحرم على الناس الشراء من ذلك البلد. لكن إذا كان كثر مال الرجل حراما هل تحرم معاملته أو تكره؟ (فالجواب) على وجهين، وإن كان الغالب على ماله الحلال لم تحرم معاملته.
وقال أيضاً: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين عند جماهير العلماء، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواريّ أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى عدل يصرفها في مصالح المسلمين.
فائدة:
(2/4)
________________________________________
قال في المغني: وما كان في الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران فليس لأحد إحياؤه ، سواء كان واسعا أو ضيقا، وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق، لأن ذلك يشترك فيه المسلمون، وتتعلق به مصلحتهم، فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد، ولا يضر بالمارة، لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار، فلم يمنع، كالاجتياز.
بَابُ المساقاة والمزارعة
المساقاة: مأخوذة من أهم أعمالها، وهو السقي.
وهى شرعاً: دفع شجر لمن يسقيه ويعمل عليه، بجزء معلوم من ثمره.
و " المزارعة " مأخوذة من الزراعة: وهي دفع أرض لمن يزرعها بجزء معلوم مما يخرج منها
و " المساقاة " و " المزارعَة " من عقود المشاركات، التي مبناها العدل بين الشريكين، فإن صاحبى الشجر والأرض، كصاحب النقود، التي دفعها للمضارب في التجارة.
والمساقي، والمزارع، كالتاجر الذي يتجر بالمال ، فهما داخلتان في أبواب المشاركات، فالغنم بينهما، والغرم عليهما.
وبهذا يعلم، أنهما أبعد عن الغرر والجهالة، من الإجارة، وأقرب منها إلى القياس والعدل، ولذا فإنهما جاءتا على الأصل.
لا كما قال بعضهم: أنهما على خلاف القياس لظنهم أنهما من باب الاجارات، التي يشترط فيها العلم بالعمل والأجرة، فهذا وهم منهم.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللّه بنِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهُمَا: أنَّ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ أهْلَ خَيْبَرَ عَلى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أو زَرْع.
الغريب:
شطر ما يخرج منها: الشطر، يطلق على معان، منها النصف، وهو المراد هنا.
من ثمر: بالثاء المثلثة، عام لثمر النخل والكرم وغيرهما.
المعنى الإجمالي :
بلدة " خيبر " بلدة زراعية، كان يسكنها طائفة من اليهود.
(2/5)
________________________________________
فلما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم في السنة السابعة من الهجرة، وقسم أراضيها ومزارعها بين الغانمين، وكانوا مشتغلين عن الحراثة والزراعة بالجهاد في سبيل الله والدعوة إلى الله تعالى، وكان يهود " خيبر " أبصر منهم بأمور الفلاحة أيضاً، لطول معاناتهم وخبرتهم فيها، لهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم أهلها السابقين على زراعة الأرض وسقْي الشجر، ويكون لهم النصف، مما يخرج من ثمرها وزرعها، مقابل عملهم ونفقتهم، وللمسلمين النصف الآخر، لكونهم أصحاب الأصل.
فما زالت هذه المعاملة سائرة بينهم زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر الصديق، حتى جاء عمر بن الخطاب وأجلاهم عن بلدة خيبر.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز المزارعة والمساقاة، بجزء مما يخرج من الزرع: الثمر.
2- ظاهر الحديث، أنه لا يشترط أن يكون البذر من رب الأرض، وهو الصحيح، خلافا للمشهور من مذهبنا في اشتراطه .
3- أنه إذا علم نصيب العامل، أغنى عن ذكر نصيب صاحب الأرض أو الشجر، لأنه بينهما.
4- جواز الجمع بين المساقاة والمزارعة في بستان واحد، بأن يساقيه على الشجر، بجزء معلوم وزراعة الأرض بجزء معلوم.
5- جواز معاملة الكفار بالفلاحة، والتجارة، والمقاولات على البناء والصنائع، ونحو ذلك من أنواع المعاملات.
اختلاف العلماء في المساقاة والمزارعة:
تقدم أن طائفة من العلماء يرون أن المساقاة والمزارعة جاءتا على خلاف الأصل والقياس، لهذا اختلف العلماء في حكمهما، مع ورود النص فيهما. فأما " المساقاة " فذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تجوز بحال، لأنها إجارة بثمرة لم تخلق، أو بثمرة مجهولة، فهي راجعة إلى التصرف بالثمرة قبل بدو صلاحها أو راجعة إلى جهالة العوض، وكلاهما ممنوع.
فعمدته في رد النص فيها، مخالفتها للأصول.
وذهب الظاهرية، إلى أنها لا تجوز إلا في النخل خاصة، لورود الخبر فيها.
(2/6)
________________________________________
وذهب الشافعي إلى جوازها في النخل والكرم خاصة، لاشتراكهما في كثير من الأحكام، ومنها وجوب الزكاة فيهما خاصة من سائر الثمار وذلك عنده.
وهؤلاء تحرزوا من امتداد الحكم إلى سائر الشجر المقصود. المنتفع به، بناء منهم على أن هذا الحكم الثابت في هذا الخبر، إنما جاء على خلاف الأصل فلا يتعدى به محل النص.
وذهب الإمام " أحمد " إلى جوازها في كل ماله ثمر مأكول، بل ألحق كثير من أصحابه، ما له ورق أو زهر منتفع به مقصود.
وذهب " مالك " إلى جوازها في كل ما له أصل ثابت، فهي رخصة عنده عامة في كل ذلك.
والحق الذي لأشك فيه أن الحكم شامل لكل ما فيه نفع مقصود من الأشجار، لأن الحديث ورد بالثمر، وهو عام في كل ثمر، ومن خصصه فعليه الدليل، ولأن هذين العقدين من عقود المشاركة التي جاءت على الأصل المقيس، فهي معلومة العمل والجزاء عليه.
وتقدم أن رد النصوص الصحيحة بدعوى مخالفتها للأصول، دعوى باطلة لأن الحديث هو الأصل في الأحكام، فكيف يمكن لأحد يعظم نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبيح لنفسه رد كلامه لأصل يدعيه، وهذا عمله وعمل خلفائه من بعده، لم ينسخ ولم يغير حكم الله فيه؟!.
واختلفوا في " المزارعة " فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، إلى عدم جوازها.
ودليلهم على ذلك. أحاديث رويت عن رافع بن خديج .
منها كنا نخابر(1) علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أن بعض عمومته أتاه، فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعاً، وطواعية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنفع.
قال: قلنا: ما ذاك؟ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : من كانت له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى].
__________
(1) نخابر بمعنى نزارع ، فالمخابرة هي المزارعة ، مأخوذة من الخبار وهي الأرض اللينة أو من الخبير الزراعي .
(2/7)
________________________________________
وعن ابن عمر قال: [ ما كنا نرى بالمزارعة بأسا، حتى سمعنا رافع بن خديج يقول : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ] متفق عليهما.
ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات(1) والجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا، ولذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به.
وكذلك صح عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليزُرِعْها أخاه].
وما روى أحمد ومسلم عن جابر أيضاً قال: [ كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القِصرى(2) ومن كذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه وإلا فليدعها].
فهذه الأحاديث هي حجة الذين يذهبون إلى عدم جواز المزارعة، ويرون أنها محرمة باطلة.
وهذه الأحاديث تؤيد أصلهم الذي استندوا عليه في الحرمة، وهو أن المزارعة من نوع الإجارة، والإجارة لابد أن يكون الأجر فيها معلوما، لأنها كالثمن، والمزارعة عوضها مجهول، فتحرم ولا تصح.
وذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى إلى جوازها وأنها من العقود الصحيحة الثابتة.
وسبق الإمام أحمد إلى القول بجوازها، طائفةْ من الصحابة، عملوا بها.
منهم على بن أبي طالب ، وسعد بن مالك، وعبد الله بن مسعود رضى الله عنهم.
__________
(1) أعجمية معربة بمعنى الأنهار الكبار .
(2) القصرى : بكسر القاف وسكون الصاد وكسر الراء المهملة ، هو ما يبقى في المنخل بعد الإنتخال ، أو ما يبقى من الحب في السنبل مما لا يتخلص منه بعد ما يداس ، وتسمى القصارة ، وهذا أسمها إلى الآن عند أهل نجد .
(2/8)
________________________________________
كما سبقه طائفة كبيرة من أئمة التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز، والقاسم ابن محمد، وعروة بن الزبير، وابن سرين، وسعيد بن المسيب، وطاوس، والزهري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. كما وافق الإمام فقهاء المحدثين، ومنهم أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، صاحبا أبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وسفيان الثوري، والإمام البخاري، وأبو داود.
ومن المحدثين المتأخرين، ابن المنذر، وابن خزيمة، وابن سريج، والخطابي، كما ذهب إلى هذا القول من ذوى المذاهب المستقلة، الظاهرية، وأصحاب أبى حنيفة. قال النووي : وهو الراجح المختار. والمسلمون في جميع الأمصار والأعصار جارون على العمل بالمزارعة. وقد صنف ابن خزيمة كتابا في جواز المزارعة وأجاد.
وتابع الإمام أحمد على جوازها، فقهاءُ الحنابلة، المحققون منهم والمقلدون.
وتمسك هؤلاء بمعاملة النبي صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر، فإنها قضية مشهورة لا تقبل الرد ولا التأويل.
ولذا فقد استمرت هذه المعاملة منذ عقدت، حتى أجلاهم عمر عن خيبر في خلافته، وبهذا يتحقق أنها لم تنسخ ولم تبدل.
أما أحاديث رافع بن خَديج ، التي استدل بها المانعون، فقد تكلم فيها العلماء، وذلك لاضطرابها وتلونها فإنه تارة يروى المنع عن عمومته، وتارة أخرى عن رافع بن ظهير، وثالثة عن سماعه هو ثم يروى النهى عن [ كراء الأرض] .
وحينا [ينهى عن الجعل]. ورابعة [عن الثلث والربع والطعام المسمى ]
وبهذا حصل الاضطراب، وشك فيها، حتى قال الإمام أحمد .[ حديث رافع، ألوان وضروب]، وقد أنكره الصحابة، ولم يعلم به عبد الله بن عمر، إلا في خلافة معاوية .
فكيف مثل هذا الحكم يخفى عليهم وهم يتعاطونه؟!.
وعلى فرض انسجامها وصحة الأخذ بها، فقد أجاب العلماء عنها، وعن حديث جابر بأجوبة مقنعة.
(2/9)
________________________________________
وأحسنها الجمع بينها وبين أحاديث خيبر، وذلك بأن تحمل أحاديث النهي عن المزارعة، على المزارعة الفاسدة التي دخلها شيء من الغرر والجهالة، وصار فيها شبه من الميسر والمغالبات.
وهو حمل وجيه، بل قد صرح بذلك في بعض طرق أحاديثه.
ولهذا قال شمس الدين " ابن القيم " : [ إن من تأمل حديث رافع بن خديج وجمع طرقه، واعتبر بعضها ببعض، وحمل مجملها على مفسرها، ومطلقها على مقيدها، علم أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، أمر بين الفساد وهو المزارعة الظالمة الجائرة فإنه قال [ كنا نكرى الأرض، على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ] .
وفي لفظ له [ كان الناس يؤجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وأقبال الجداول وأشياء من الزرع ].
وقوله: [ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه . أما بشيء معلوم مضمون، فلا باًس ] وهذا من أبين ما في حديث رافع وأصحه وما فيه من مجمل أو مطلق أو مختصر، فيحمل على هذا المفسر المبين المتفق عليه لفظاْ وحكماً، ا.هـ كلام " ابن القيم " رحمه الله تعالى.
وقال الليث بن سعد: " الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذا نظر إليه ذو البصيرة بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، لما فيه من المخاطرة ".
وقال ابن المنذر: قد جاءت أخبار رافع بعلل تدل على أن النهى كان لتلك العلل.
قال الخطابي: إنما صار هؤلاء (أبو حنيفة ومالك والشافعي) إلى ظاهر الحديث من رواية رافع بن خديج ولم يقفوا على علته كما وقف عليها أحمد.
ثم قال الخطابي أيضاً: فالمزارعة على النصف والثلث والربع، وعلى ما تراضى عليه الشريكان جائزة ، إذا كانت الحصص معلومة، والشروط الفاسدة معدومة. وهى عمل المسلمين في بلدان الإسلام وأقطار الأرض، شرقها وغربها، لا أعلم أني رأيت أو سمعت أهل بلد أو صقع من نواحي الأرض التي يسكنها المسلمون يبطلون العمل بها.
(2/10)
________________________________________
ثم قال الخطابي رحمه الله عن حديث رافع في الإجارة بالماذيانات وأقبال الجداول قال: فقد أعلمك رافع في هذا الحديث: أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم، وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا شروطاً فاسدة وأن يستثنوا من الزرع ما على السواقى والجداول، فيكون خاصاً لرب المال.
والمزارعة شركة، وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة وقد يسلم ما على السواقى ويهلك سائر الزرع، فيبقى المزارع لا شيء له، وهذا غرر وخطر.
وإذا اشترط رب المال على المضارب دراهم لنفسه زيادة على حصة الربح المعلومة، فسدت المضاربة، وهذا وذاك مواء.
وأصل المضاربة في السنة المزارعة والمساقاة، فكيف يجوز أن يصح الفرع، ويبطل الأصل؟! ا.هـ. كلام الخطابي قدس الله روحه. وهو توجيه جليل، بلفظ قليل. وقال شيخ الإسلام والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المشاركة التي هي كراء الأرض بالمعنى العام إذا اشترط لرب الأرض منها زرع مكان بعينه. والأمر في ذلك كما قال الليث بن سعد ؛ فقد بين أن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم شيء إذا نظر فيه ذو بصيرة بالحلال والحرام علم أنه حرام.
وبهذا تبين أن المزارعة والمساقاة، عقدان صحيحان جائزان ، وأن القول بجوازهما هو مذهب جمهور الأمة، سلفا وخلفا، وأنه عمل المسلمين، قديماً وحديثاً.
فائدة:
قال شيخ الإسلام:
الجمهور يقولون: الشركة نوعان: شركة أملاك، وشركة عقود. وشركة العقود أصلا لا تفتقر إلى شركة الأملاك، كما أن شركة الأملاك لا تفتقر إلى شركة العقود، وإن كانا قد يجتمعان.
والمضاربة شركة عقود بالإجماع، والمساقاة والمزارعة. وإن كان من الفقهاء من يزعم أنهما من باب الإجارة، وأنهما على خلاف القياس- فالصواب أنهما أصل مستقل ، وهو من باب المشاركة، لا من باب الإجارة وهي على وفق قياس المشاركات.
بَاب في جَواز كراء الأرض بالشيء المعْلوم
والنهي عن الشروط الفاسدة
(2/11)
________________________________________
الحديث الأول(1)
عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيج قَالَ: كُنَّا أكثرَ الأنصار حَقْلا، وَكُنَّا نَكْرِي الأرض عَلى أن لَنَا هذِه وَلَهُمْ هَذِهِ، وَرُبَّمَا أخْرَجَتْ هذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هذِهِ، فَنَهانَا عَنْ ذلِكَ. فأما الوَرقُ فَلَمْ يَنْهَنَا.
الحديث الثاني
ولـ " مسلم " عَنْ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْس قال: سَالتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيج عَنْ كِرَاءِ الأرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِق، فقال: لا بَأسَ بِهِ، إنَّمَا كَان النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلى عَهْدِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بِمَا عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأشْيَاءَ مِنَ الزَرْعِ، فَيهْلِكُ هذَا، وَيَسْلَمُ هذَا، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاء إلا هذَا، فَلِذلِكَ زَجَرَ عَنْهُ، فَأمَّا شَيء مَعْلُوم مَضْمُون فَلا بَأسَ بِهِ..
الماذيانات : اْلأنهار الكبار. والجدول: النهر الصغير.
الغريب:
حقلا: بفتح الحاء المهملة، وسكون القاف، منصوب على التمييز. الأصل في الحقل القراح الطيب، ثم أطلق على الزرع، واشتق منه المحاقلة.
الماذيانات: بذال معجمة مكسورة، ثم ياء مثناة، ثم ألف ونون، ثم بعدها ألف أيضاً. قال الخطابي: هي من كلام العجم(2) فصارت دخيلا في كلام العرب.
أقبال الجداول: بفتْح الهمزة، فقاف فباء. و الأقبال، الأوائل. والجداول جمع "جدول" وهو النهر الصغير.
المعنى الإجمالي:
في هذين الحديثين، بيان وتفصيل لإجارة الأرض الصحيحة، وإجارتها الفاسدة.
فقد ذكر رافع بن خديج أن أ هله كانوا أكثر أهل المدينة مزارع وبساتين.
فكانوا يكارون الأرض كراء جاهلياً، فيعطون الأرض لتزرع، على أن لهم جانباً من الزرع، وللمزارع، الجانب الآخر، فربما جاء هذا، وتلف ذاك.
__________
(1) رقم هذين الحديثين [ 284] و[285] حسب ترتيب المصنف رحمه الله تعالى.
(2) قال ابن الأثير : إنها سوادية معربة .
(2/12)
________________________________________
وقد يجعلون لصاحب الأرض، أطايب الزرع، كالذي ينبت على الأنهار والجداول، فيهلك هذا، ويسلم ذاك، أو بالعكس.
فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المعاملة، لما فيها من الغرر والجهالة والمخاطرة، فإنها باب من أبواب الميسر، وهو محرم لا يجوز، فلابد من العلم بالعوض، كما لابد من التساوي في المغنم والمغرم.
فإن كانت جزء منها، فهي شركة مبناها العدل والتساوي في غنْمِهَا وغُرْمِهَا.
وإن كانت بعوض، فهي إجارة لابد فيها من العلم بالعوض.
وهى جائزة سواء أكانت بالذهب والفضة، أم بالطعام مما يخرج من الأرض(1) أو من جنسه أو من جنس آخر، لأنها إيجار للأرض ولعموم الحديث [ فأما شيء معلوم مضمون، فلا بأس به].
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز إجارة الأرض للزراعة، وقد أجمع عليه العلماء في الجملة.
2- أنه لابد أن تكون الأجرة معلومة، فلا تصح بالمجهول.
3- عموم الحديث يفيد أنه لا بأس أن تكون الأجرة ذهباً أو فضة أو غيرهما، حتى ولو كان من جنس ما أخرجته الأرض، أو مما أخرجته بعينه.
4- النهى عن إدخال شروط فاسدة فيها : "ذلك كاشتراط جانب معين من الزرع وتخصيص ما على الأنهار ونحوها لصاحب الأرض أو الزرع ، فهي
مزارعة أو إجارة فاسدة، لما فيها من الغرر والجهالة والظلم لأحد الجانبين، يجب أنْ تكون مبنية على العدالة والمواساة.
فإما أن تكون بأجر معلوم للأرض، وإما أن تكون مزارعة يتساويان فيها مغنما ومغرماً.
5- بهذا يعلم أن جميع أنواعَ الغرر والجهالات والمغالبات، كلها محرمة باطلة، فهي من القمار والميسر، وفيهما ظلم أحد الطرفين.
والشرع إنما جاء بالعدل والقسط والمساواة بين الناس، لإبعاد العداوة والبغضاء، وجلب المحبة والمودة.
اختلاف العلماء:
ذهب عامة العلماء إلى جواز الإجارة بالذهب والفضة والعروض غير الطعوم.
واختلفوا في جوازها في الطعام.
__________
(1) بشرط أن لا يكون بجزء منها ، فلا تصح إجارة ، وإنما تصح مزارعة إذا كان الجزء معلوما كما تقدم .
(2/13)
________________________________________
فإن كان معلوماً غير خارج منها، فذهب إلى جوازها أكثر أهل العلم، ومنهم الشافعية، والحنفية، والحنابلة. سواء أكان الطعام من جنس الخارج منها، أم من غير جنسه، للحديث العام، ولأنه ليس فيه ذريعة إلى الربا، فجاز، كالنقود.
ومنعه الإمام مالك، محتجاً بحديث [ فلا يكريها بطعام].
وإن كان بجزء مما يخرج منها، فلا يجوز عند الأئمة الثلاثة.
وما نقل عن الإمام أحمد في جوازها، فمحمول على إرادته للمزارعة، بلفظ الإجارة.
بَابُ الوَقف
قال ابن فارس في [ مقاييس اللغة ] : الواو والقاف والفاء، أصل يدل على تمكث ثم يقاس عليه. ثم قال: ولا يقال: أوقف.
قلت: ومن أصل التمكث يؤخذ الوقف الشرعي فإنه ماكث الأصل.
وتعريفه شرعاً: حبس مالكٍ مالَهُ المنتفع به مع بقاء عينه عن التصرفات برقبته، وتسبيل منفعته على شيء من أنواع القُرب ابتغاء وجه الله تعالى .
وحكمه: الاستحباب. وقد ثبت بالسنة، لأحاديث كثيرة.
منهاِ حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلا مِنْ ثلاثٍ ، صدقة جارية.. الخ ".
وإجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين على جوازه ولزومه.
قال الشافعي: ولم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته. وإنما حبس أهل الإسلام وهذا إشارة إلى أنه حقيقة شرعية.
وقال الترمذي: " لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين " إلا أنه نقل عن شريح القاضي أنه أنكر الْحُبُسَ.
ومثل هذا لا يعطى حكم الوقف من اللزوم والثواب والفضل والأحكام.
وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه.
قال جابر بن عبد الله : " لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة ، إلا وقف ".
وبهذا يعلم إجماع القرن المفضل عليه، فلا يلتفت إلى خلاف بعدَه.
أما فضله، فهو من أفضل الصدقات التي حث الله عليها، ووعد عليها، بالثواب الجزيل، لأنه صدقة ثابتة دائمة في وجوه الخير.
(2/14)
________________________________________
وقد ورد في فضله آثار خاصة، لحديث عمر، وخالد، وعمل الصحابة رضى الله عنهم أجمعين.
وهذه الأحاديث الواردة في أصله وفضله.
وهذا الفضل الجزيل المترتب عليه، هو إذا كان وقفاً شرعياً حقيقياً واقعاً في موقعه، مقصوداً به وجه الله تعالى، موجهة مصارفه إلى وجوه القرب وأبواب البر والإحسان، من بناء المساجد والمدارس النافعة، والمشاريع الخيرية وصرفه إلى أهله من ذوى القرب والرحم، والفقراء والمساكين، والعاجزين، والمنقطعين، ومساعدة أهل الخير والصلاح، ونحو ذلك.
أما أن يحجر على أولاده وورثته باسم الوقف حتى لا يبيعوه، أو تكثر عليه الديون فيقف عقارَه خشية أن يباع لأصحاب الحقوق، أو يقفه على أولاده، فيحرم بعضهم ويحابى بعضهم، كأن يجعل نصيب البنات لهن ما دمن على قيد الحياة، أو يفضل بعض الأولاد على بعض لغير قصد صحيح أو يقفه على جهة من الجهات التي لا بِر فيها ولا قربة، ونحو ذلك. فهذا كله ليس بوقف صحيح، بل هو تحجير باسم الوقف.
وبهذا يدخل في أبواب الظلم، بدلا من أبواب البر، لأنه ليس على مراد الله، وكل ما أحدث في غير أمر الله فهو رد. أي مردود.
وبما تقدم تعرف الحكمة الجليلة من الوقف ، فهو إحسان إلى الموقوف عليهم وبِرّ بهم، وهم أولى الناس بالبر والإحسان، وذلك إما لحاجتهم كالفقراء والأيتام والأرامل والمنقطعين، أو للحاجة إليهم كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين والعاملين- تبرعاً- في خدمة الصالح العام.
وفيه إحسان كبير وبِرّ عظيم للواقف إذ يتصدق بهذه الصدقة المؤبدة التي يجرى عليه ثوابها بعد انقطاع أعماله وانتهاء آماله، بخروجه من دنياه إلى أخراه .
الحديث الأول(1)
__________
(1) رقم هذا الحديث حسب ترتيب المصنف [279] أخرجناه لنضمه إلى الأحاديث المناسبة له.
(2/15)
________________________________________
عَنْ عَبْدِ الله بنٍ عُمَرَ قال: أصاب عُمَرُ أرضا بِخَيْبَرَ فأتى النَبي صَلًى الله عَلَيْهِ ومسَلّمَ يَسْتَأمِرُهُ فِيهاَ، فقال: يَا رَسَوُلَ الله، إني أصبت أرْضاً بِخَيْبَرَ لَمْ أصِبْ مَالا قَط هُوَ أنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ فَماَ تَأمُرُني بِهِ؟
قال: " إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَهَا وَتَصَدقْتَ بِهَا ".
قال: فَتَصَدقَ بِهَا عُمَرُ، غَيْرَ أنَهُ لا يُباعُ أصلُهَا وَلا يُورَث.
قال: فَتَصَدقَ بهَا عُمَرُ في الفُقَرَاء، وفي القُربَى، وَفي الرقَابِ، وَفي سَبيلِ الله، وَابن السبيلِ، وَالضيفِ ، لا جُنَاح عَلَى مَن وَلِيَهَا أن يَأكلَ مِنْهَا بالمعرُوفِ، أوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غيرَ مُتَمَول فِيهِ. وفي. لفظ: غيْرَ مُتَأثل.
الغريب:
أرضا بخيبر : بلاد شمالي المدينة تبعد عنها 160كم لا تزال عامرة بالمزارع والسكان، وكانت مسكنا لليهود حتى فتحها النبي صلى الله عليه وسلم عام سبع فأقرهم على فلاحتها حتى أجلاهم عمر في خلافته. وأرض عمر هذه، اسمها " تَمغ " بفتح فسكون اشتراها من أرض خيبر.
يستأمره: يستشيره في التصرف بها.
قط: ظرف زمان للماضي، مشدد الطاء، مبنى على الضم:
أنفس منه: يعني أجود منه، والنفيس: الشيء الكريم الجيد المغتبط به.
لا جناح : لا حرج ولا إثم.
غرِ متمول، غير متأثل : المتمول: اتخاذ المال أخذا أكثر من حاجته. و" التأثل " اتخاذ أصل المال وجمعه حتى كأنه قديم عنده.
المعنى الإجمالي:
أصاب عمر بن الخطاب رضى الله عنه أرضا بخيبر، قدرها مائة سهم، هي أغلى أمواله عنده، لطيبها وجودتها: كانوا- رضى الله عنهم- يتسابقون إلى الباقيات الصالحات.
- فجاء رضي اللَه عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم طمعاً في البر المذكور في قوله تعالى: {لَنْ تَنَالوا البِرً حَتًى تُنْفِقُوا مِمًا تُحِبونَ } - يستشيره في صفة الصدقة بها لوجه الله تعالى . لثقته بكمال نصحه.
(2/16)
________________________________________
فأشار عليه بأحسن طرق الصدقات، وذلك بأن يحبس أصلها ويقفه فلا يتصرف به ببيع، أو إهداء، أو إرث أو غير ذلك من أنواع التصرفات، التي من شأنها أن تنقل الملك ، أو تكون سببا في نقله، ويصدق بها في الفقراء والمساكين، وفى الأقارب والأرحام، وأن يَفُكً منها الرقاب بالعتق من الرق، أو بتسليم الديات عن المستوجبين، وأن يساعد بها المجاهدين في سبيل الله لإعلاء كلمته ونصر دينه، وأن يطعم المسافر الذي انقطعت به نفقته في غير بلده، ويطعم منها الضيف أيضا، فإكرام الضيف من الإيمان بالله تعالى.
بما أنها في حاجة إلى من يقوم عليها ويتعاهدها بالري والإصلاح، فقد رفع الحرج والإثم عمن وليها أن يأكل منها بالمعروف، فيأكل ما يحتاجه، ويطعم منها صديقا غير متخذ منها مالا زائدا عن حاجته، فهي لم تجعل إلا للإنفاق في طرق الخير والإحسان، لا للتمول والثراء.
ما يستفاد من الحديث:
1- يؤخذ من قوله: "إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها" معنى الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
2- يؤخذ من قوله: "غير أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث" حكم التصرف في الوقفة، فإنه لا يجوز نقل الملك فيه، ولا التصرف الذي يسبب نقل الملك، بل يظل باقيا لازما، يعمل به حسب شرط الواقف الذي لا حيف فيه ولا جنف.
3- مكان الوقف، وأنه العين التي تبقى بعد الانتفاع بها.
فأما ما يذهب بالانتفاع به، فهو صدقة، وليس له موضوع الوقف ولا حكمه.
4- يؤخذ من قوله: "فتصدق بها عمر في الفقراء.. الخ" مصرف الوقف الشرعي، وأنه الذي يكون في وجوه البر والإحسان العام أو الخاص، كقرابة الإنسان. وفك الرقاب، والجهاد في سبيل الله، والضيف، والفقراء، والمساكين وبناء المدارس والملاجئ والمستشفيات ونحو ذلك.
5- يؤخذ من قوله: " لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف" صحة شرط الواقف الشروط التي لا تنافى مقتضى الوقف وغايته، والتي ليس فيها إثم ولا ظلم.
(2/17)
________________________________________
فمثل هذه الشروط لا بأس بها لأن للواقف فيها منفعة بلا جور على أحد. فإذا شرطت مثل هذه الشروط نفذت، ولولا أنها تنفذ، لم يكن في اشتراط عمر فائدة.
6- في قوله: " لا جناح على من وليها.. الخ" جواز أكل ناظر الوقف منه بالمعروف بحيث يأكل قدر كفايته وحاجته، غير متخذ منه مالا، وكذلك له أن يطعم منه الصديق بالمعروف.
7- فيه فضيلة الوقف، وأنه من الصدقات الجارية والإحسان المستمر.
8- وفيه أن الأفضل أن يكون من أطيب المال وأنفسه، طمعاً في بر الله وإحسانه الذي جعله للذين ينفقون مما يحبون.
9- وفيه مشاورة ذوى الفضل. وهم أهل الدين والعلم، وكل عمل له أرباب يعلمونه.
10- وفيه أن الواجب على المستشار أن ينصح بما يراه الأفضل والأحسن، فالدين النصيحة.
11- وفيه فضيلة الإحسان والبر بذوي الأرحام، فإن الصدقة عليهم، صدقة وصلة.
12- يؤخذ من الحديث أن الشروط في الوقف لابد أن تكون صحيحة على مقتضى الشرع ؛ فلا تكون مما يخالف مقتضى الوقف من البر والإحسان، ومن العدل والبعد عن الجور والجنف والظلم.
ونسوق هنا خلاصة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك فقد ذكر حديث عائشة " من نذر أن يطع الله فليطعه... " وحديث بريدة " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل... والمسلمون على شروطهم..." ثم قال:
من اشترط في الوقف أو العتق أو الهبة اً و البيع أو النكاح أو الإجارة أو النذر أو غير ذلك شروطا تخالف ما كتبه اللّه على عباده، بحيث تتضمن تلك الشروط الأمر بما نهى الله عنه، أو النهي عما أمر اللّه به، أو تحليل ما حرمه، أو تحريم ما حلله، فهذه الشروط باطلة باتفاق المسلمين في جميع العقود، الوقف وغيره، ولكن تنازعوا في العقود والمباحات كالبيع والإجارة والنكاح هل معنى الحديث من اشترط شرطاً لم يثبت أنه خالف فيه الشرع، أو من اشترط شرطاً يعلم أنه مخالفا لما شرعه الله.
(2/18)
________________________________________
هذا فيه تنازع، لأن قوله آخر الحديث " كتاب الله أحق وشرط الله أوثق " يدل على أن الشرط الباطل ما خالف ذلك.
وقوله: " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل " قد يفهم منه ما ليس بمشروع، وصاحب القول الأول يقول: ما لم ينه عنه من المباحات فهو ما أذن فيه فيكون مشروعاً بكتاب اللّه، وأما ما كان من العقود التي يقصد بها الطاعات كالنذر، فلا بد أن يكون المنذور طاعة، فمتى كان مباحا لم يجب الوفاء به.
ثم تحدث شيخ الإسلام رحمه الله تعالى عن البدعة، وبين أنها جميعاً مذمومة في الشرع، وبين أن ما فعل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من جمع المصحف، وجمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان، وطرد اليهود والنصارى من جزيرة العرب، ليس بدعة، وإنما هو شرعة، لأن أقل ما يقال فيه أنه من سنة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم.
وعقب على ذلك بقوله: وبالجملة فلا خلاف بين العلماء أن من وقف على صلاة أو صيام أو نحو ذلك من غير الشرعي لم يصح وقفه والخلاف في المباحات. وهذا أصل عظيم وهو التفريق بين المباح الذي يفعل لأنه مباح وبين ما يتخذ دينا وعبادة وطاعة وقربة، فمن جعل ما ليس مشروعا دينا وقربة، كان ذلك حراما باتفاق المسلمين.
(2/19)
________________________________________
ثم قال رحمه الله تعالى: القسم الثالث عمل مباح مستوى الطرفين فهذا قال بعض العلماء بوجوب الوفاء به، والجمهور من أهل المذاهب المشهورة وغيرهم على أن شرطه باطل، فلا يصح عندهم أن يشرط إلا ما كان قربة إلى الله تعالى، وذلك لأن الإنسان ليس له أن يبذل ماله إلا لما له فيه منفعة في الدين والدنيا، فما دام الإنسان حياً فله أن يبذل ماله في تحصيل الأغراض المباحة،- لأنه ينتفع بذلك، فأما الميت فما بقي بعد الموت ينتفع من أعمال الأحياء إلا بعمل صالح قد أمر به أو أعان عليه أو أهدى إليه ونحو ذلك، فأما الأعمال التي ليست طاعة للّه ورسوله فلا ينتفع بها الميت فإذا اشترط الموصي أو الواقف عملا أو صفة لا ثواب فيها كان السعي في تحصيلها سعياً فيما لا ينتفع به في دنياه ولا في آخرته، ومثل هذا لا يجوز.
اختلاف العلماء:
شذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله فأجاز بيع الوقف ورجوع الواقف فيه.
ومذهبه مخالف لنص الحديث ولذا قال صاحبه أبو يوسف: لو بلغ أبا حنيفة هذا الحديث (حديث عمر) لقال به، ورجع عن بيع الوقف.
وقال القرطبي: الرجوع في الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه.
وذهب مالك والشافعي: إلى لزوم الوقف وعدم جوازه وصحة بيعه بحال، أخذاً بعموم الحديث " غير أنه لا يباع أصلها. الخ " .
وذهب الإمام أحمد إلى قول وسط، وهو أنه لا يجوز بيعه ولا الاستبدال به إلا أن تتعطل منافعه بالكلية، ولم يمكن الانتفاع به، ولا تعميره وإصلاحه،
فإن تعطلت منافعه، جاز بيعه واستبداله بغيره. استدل على ذلك بفعل عمر حينما بلغه أن بيت المال الذي بالكوفة نقب.
فكتب إلى سعد: " أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصلى".
وكان هذا العمل بمشهد من الصحابة، فلم يُنْكَر. فهو كالإجماع .
وشبهه بالهَدْىِ الذي يعطب قبل بلوغه مَحله، فإنه يذبح بالحال، وتترك مراعاة المَحِل، لافضائها إلى فوات الانتفاع بالكلية.
(2/20)
________________________________________
قال ابن عقيل رحمة الله : "الوقف مؤبد، فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى ، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطلها تضييع للغرض"
قال شيخ الإسلام " ابن تيميهَ " رحمه الله: "ومع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة".
وذكر رحمه الله أنه يجوز إبدال الوقف، ولو كان مسجدا بمثله أو خير منه، وكذلك إبدال الهدي والأضحية والمنذور، وذلك بأن يعوض فيها بالبدل، أو تباع ويشترى بثمنها، إلا المساجد الثلاثة فما يجوز تغيير عرصتها وإنما يجوز الزيادة فيها، وإبدال البناء بغيره، كما دلت عليه السنة وإجماع الصحابة.
وذكر شيخنا عبد الرحمن آل سعدي رحمه الله أنه إذا نقص الموقوف أو قلت منافعه، وكان غيره أصلح منه وأنفع للموقوف عليهم ففيه عن الإمام أحمد روايتان، أشهرهما المنع، أي منع بيعه واستبداله
والثانية، الجواز، وهى اختيار شيخ الإسلام. وعليها العمل في محاكم المملكة العربية السعودية فإذا ثبت عند القاضي أن في بيعه واستبدال غبطة أو مصلحة أجازه، وأذن لناظره بذلك. وإلا فلا .
ولكن في هذه الحال لا ينبغي أن يستقل الناظر في بيعه، بل يرفع الأمر للحاكم ، ويجتهد في الأصلح ، لأنه في هذه الحال يدخلها من الهدى والخطأ، ما يحتاج إلى رفعه، ورفع المسئولية عنه بالحاكم . والله أعلم- ا.هـ.
وهذا هو الجاري في محاكم المملكة، فإنه لا يباع وقف إلا بإذن من الحاكم الشرعي، بل حتى تطلع هيئة القضاء في محكمة التمييز على حكم القاضي وتراه موافقا للوجهة الشرعية، فتجيزه، وبدون هذا فإن الوقف لا يُتَصرف فيه بما ينقل الملك.
باَبُ الهِبَة
الهبة:- بكسر الهاء وتخفيف الباء. وهى- شرعا- تمليك في الحياة بلا عوض. ولفظ الهبة يشمل أنواعا كثيرة:
منها:- الهدية المطلقة، والإبراء من الدين، والصدقة، والعطية، وهبة الثواب. ولكنْ بينها فروق.
(2/21)
________________________________________
فالهبة المطلقة:- ما قصد بها التودد إلى الموهوب له.
والصدقة:- ما قصد بها محض ثواب الآخرة.
والعطية:- هي الهبة في مرض الموت المخوف، وتشارك الوصية في أكثر أحكامها.
وهبة الدين:- هي إبراء المدين من الدين .
وهبة الثواب:- وهى ما قصد بها أخذ عوضها، وهى من أنواع البيع ولها أحكامه.
ولكن إذا أطلقت الهبة، فالمراد بها الأولى من هذه الأنواع.
ولها فوائد وحكم كثيرة، من إسداء المعروف، والتعاون، والتودد، وجلب المحبة، ففي الحديث " تهادوا تحابوا " لا سيما إذا كانت على قريب، أو جار، أو من بينك وبينه عداوة.
فهنا تحقق من المصالح والمنافع الشيء الكثير، وتكون من أنواع العبادات الجليلة التي أزالت ما في الصدور، ووثقت عرى القرابة والجوار. والشرع يهدف إلى كل ما فيه الخير والصلاح.
الحديث الأول
عَنْ عُمَرَ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرس فِي سَبيلِ الله، فَأضَاعَهُ الذي كان عِنْدَهُ، فَأرَدْتُ أن أشْتَريَهُ وَظَنَنتُ أنَهُ يَبيعُهُ بِرُخْص ، فَسألتُ النَبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تَشترِهِ ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ وَإن أعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ ، فَإنَ العَائِدَ في هِبَتِهِ كالعَائِدِ فِي قيئهِ ".
وفي لفظ: " فَإنَّ الذِي يَعُودُ فِي صَدَقتِهِ كالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قيْئِهِ " .
الحديث الثاني
وَعَنِ ابْن عَباس رَضيَ الله عَنْهُمَا: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال :
" العائِدُ في هِبَتِهِ كالعَائِد فِي قيئهِ " .
المعنى الإجمالي:
أعان عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا على الجهاد في سبيل الله.
فأعطاه فرسا يغزو عليه، فقصر الرجل في نفقة ذلك الفرس، ولم يحسن القيام عليه، وأتعبه حتى هزل وضعف.
فأراد عمر أن يشتريه منه وعلم أنه سيكون رخيصاً لهزاله وضعفه، فلم يقدم على شرائه حتى استشار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي نفسه من ذلك شيء لكونه من الملهَمين.
(2/22)
________________________________________
فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن شرائه ولو بأقل ثمن، لأن هذا شيء خرج لله تعالى فلا تتبعه نفسك ولا تعلق به، ولئلا يحابيك الموهوب له في ثمنه، فتكون راجعاً ببعض صدقتك. ولأن هذا خرج منك، وكفر ذنوبك، وأخرج منك الخبائث والفضلات، فلا ينبغي أن يعود إليك. ولهذا سمى شراءه عوداً في الصدقة.
ثم ضرب مثلا للتنفير من العود في الصدقة بأبشع صورة وهى أن العائد فيها، كالكلب الذي يقىء ثم يعود إلى قيئه فيأكله مما يدل على بشاعة هذه الحال وخستها، ودناءة مرتكبها.
ما يستفاد من الحديثين:
1- استحباب الإعانة على الجهاد في سبيل اللّه، وأن ذلك من أجل الصدقات، فقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم صدقة.
2- أن عمر تصدت على ذلك المجاهد بالفرس ولم يجعلها وقفا عليه، أو وقفا في سبيل الله على الجهاد، وإلا لما جاز للرجل بيعه. فالمراد حمل تمليك لا حمل توقيف.
3- النهى عن شراء الصدقة، لأنها خرجت لله، فلا ينبغي أن تتعلق بها النفس. وشراؤها دليل على تعلقه بها، ولئلا يحابيه البائع فيعود عليه شيء من صدقته.
4- يحرم العود في الصدقة، وهو مذهب جمهور العلماء.
5- التنفير من ذلك بهذا المثل الذي هو الغاية في البشاعة والدناءة.
6- استثنى جمهور العلماء من تحريم العودة في الهبة ما يهبه الوالد لولده، فإن له الرجوع في ذلك، عملا بما رواه أحمد وأصحاب السنن، عن ابن عمر، وابن عَباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يحل لرجل مسلم أن يعطى العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده " صححه الترمذي والحاكم.
بَابُ العَدل بَيْن الأولاد في العطِية (1)
الحديث الأول
عَن النَعْمَانِ بْنِ بَشِير قال : تَصَدق عَليَّ أبي بِبعْضِ مَالِهِ فَقَالَتْ أمي عَمرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أرضى حَتًى يَشْهَدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) وضعت هذه الترجمة، لتفصيل المقام- ا.هـ. شارح.
(2/23)
________________________________________
فَانطَلَقَ أبى إلى رَسُولِ اللّه صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صدَقَتي.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى اللهعليه وسلم :أفَعَلْتَ هذا بوَلَدِك كُلهِمْ " ؟ قال: لا. قَالَ: " اتقوا الله وَاعْدِلُوا بَينَ أولادكم ".
فَرَجَع أبي، فَرَدَّ تِلْكَ الصًدَقَةَ.
وفي لفظ قال: " فَلا تُشْهِدْني إذاً، فإني لا أشْهَدُ عَلَى جَورٍ".
وفي لفظ: " فَأشْهِد عَلَى هذَا غَيْرِي ".
المعنى الإجمالي:
ذكر النعمان بن بشير الأنصاري: أن أباه خصه بصدقة من بعض ماله فأرادت أمه أن توثقها بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم إذ طلبت من أبيه أن يشهد النبي صلى الله عليه وسلم عليها.
فلما أتى به أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليتحمل الشهادة، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أتصدقت مثل هذه الصدقة على ولدك كلهم ؟ قال: لا.
وبما أن تخصيص بعض الأولاد دون بعض، أو تفضيل بعضهم على بعض عمل مناف للتقوى وأنه من الجور والظلم، لما فيه من المفاسد، إذ يسبب قطيعة المفضل عليهم لأبيهم وابتعادهم عنه، ويسبب عداوتهم وبغضهم لإخوانهم المفضلين.
لما كانت هذه بعض مفاسده قال النبي صلى الله عليه وسلم له: " اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ولا تشهدني على جور وظلم " ووبخه ونفَّره عن هذا الفعل بقوله: أشهد على هذا غيري.
فما كان من بشير رضى اللَه عنه إلا أن رجع بتلك الصدقة كعادتهم في الوقوف عند حدود الله تعالى.
اختلاف العلماء
أجمع العلماء على مشروعية التسوية بين الأولاد في الهبة، حتى كان السلف يسوون بينهم في القبل(1) لما في ذلك من العدل وإشعارهم جميعاْ بالمودة، وتصفية قلوبهم وإبعاد البغض والحقد والحسد عنهم.
ولكن اختلف العلماء في وجوب المساواة بينهم في الهبة.
فذهب الإمام أحمد، والبخاري، وإسحاق، والثوري، وجماعة إلى وجوبها وتحريم التفضيل بينهم، أو تخصيص بعضهم دون بعض ، أخذاً بظاهر الحديث.
__________
(1) بضم القاف ، فتح الباء ، جمع قبلة .
(2/24)
________________________________________
وذهب الجمهور إلى أنها مستحبة فقط، وأطالوا الاعتذار عن هذا الحديث بما لا مقنع فيه.
والحق الذي لاشك فيه، وجوب المساواة، لظاهر الحديث، ولما فيه من المصالح، وما في ضده من المضار.
كما أن ظاهر الحديث، التسوية بين الذكر والأنثى، لقوله لبشير " سَوِّ بينهم " وهو قول الجمهور ومنهم الأئمة الثلاثة، ورواية عن ا الإمام أحمد، اختارها من أصحابه " ابن عقيل " والحارثي .
وأما المشهور من مذهب الإمام أحمد، فهو أن يقسم بينهم على قدر إرثهم للذكر مثل حظ الأنثيين وهو اختيار شيح الإسلام " ابن تيمية ".
فائدة:
ذكر وجوِب العدل بين الأولاد في الهبة، وتحريم التخصيص أو التفضيل، ما لم يكن ثَمَ سبب موجب لذلك.
فإن كان هناك ما يدعو إلى التفضيل أو التخصيص، فلا بأس، كأن يكون أحدهم مريضاً، أو أعمى، أو زمنا(1)، أو كان ذا أسرة كبيرة أو طالب علم، ونحو ذلك من الأسباب، فلا بأس، بتفضيله لشيء من هذه المقاصد.
وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد بقوله- في تخصيص بعضهم بالوقف-: لا بأس إذا كان لحاجة، وكرهه إذا كان على سبيل الأثرة.
وقال شيخ الإسلام " ابن تيمية ": والحديث والآثار تدل على وجوب العدل... ثم هنا نوعان.
1- نوع يحتاجون إليه من النفقة في الصحة والمرض ونحو ذلك، فالعدل فيه أن يعطى كل واحد ما يحتاج إليه، ولا فرق بين محتاج قليل أو كثير.
2- ونوع تشترك حاجتهم إليه، من عطية، أو نفقة، أو تزويج . فهذا لا ريب في تحريم التفاضل فيه.
__________
(1) زمن : ذو عاهة .
(2/25)
________________________________________
وينشأ من بينهما نوع ثالث، وهو أن ينفرد أحدهم بحاجة غير معتادة، مثل أن يقضى عن أحدهم دينا وجب عليه من أرش(1) جناية، أو يعطى عنه المهر، أو يعطيه نفقة الزوجة، ونحو ذلك، ففي وجوب إعطاء الآخر مثل ذلك نظر" ا.هـ من الاختيارات.
ما يؤخذ من الأحاديث:
1- وجوب العدل بين الأولاد، وتحريم التفضيل أو التخصيص. ذكرهم وأنثاهم سواء.
2- أن ذلك من الجور والظلم، الذي لا تجوز فيه الشهادة تحملا وأداء.
3- وجوب رد الزائد أو إعطاء الآخرين، حتى يتساووا.
4- أن الأحكام التي تقع على خلاف الشرع تبطل، ولا تنفذ، ولا يعتبر عقدها الصوري، لأنه على خلاف المقتضى الشرعي.
بَابُ هِبَة العمرى
الحديث الأول
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله رَضىَ الله عَنْهُمَا قال: قَضَى النَّبي صلى الله عليه وسلم بالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ.
وفي لفظ: "مَنْ اعمِرَ عُمْرَى فَهِي لَهُ وَلِعَقبِهِ فإنَّهَا لِلَّذِي أعْطِيَها، لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أعْطاهَا لأنَّهُ عَطَاءٌ وَقَعَتْ فِيهِ الموَارِيثُ".
وقال جابر: إنَّمَا الْعُمْرَى التي أجَازَهَا رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم أنْ يَقُولَ: هِي لَكَ وَلِعَقِبِكَ. فَأمَّا إذا قَالَ: هِي لك مَا عِشتَ، فإنَّهَا تَرجِعُ إلَى صَاحِبهَا.
في لفظ لمسلمِ: " امسِكُوا عَلَيْكُمْ أموَالَكمْ وَلا تُفْسِدُوهَا فَإنَّهُ مَنْ أعْمَرَ عُمْرَى فهِي لِلَّذِي اعْمِرَهَا حَيّاً وَمَيْتاً وَلِعَقِبِهِ ".
الغريب:
__________
(1) الأرش : هو عقوبة مالية تدفع مقابل كل جناية بدنية ليس لها مقدر من الشرع ويسمى باصطلاح الفقهاء [ حكومة ] وطريقة الفقهاء في تقدير الجناية إذا كانت حكومة هوان تفرض أن المجني عليه عبدا رقيقا فيقدر له قيمة وهو سليم في الجناية ثم يقدر له قيمة وبه الجناية فما بين القيمتين هو الأرش ( الحكومة ) ا.هـ شارح .
(2/26)
________________________________________
العمرى: بضم العين المهملة، وسكون الميم، وألف مقصورة. مشتقة من العمر، وهو الحياة. سميت بذلك، لأنهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجلُ الرجلَ الدار أو غيرها ويقول : أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك
أعمر: بضم أوله، وكسر الميم. مبنى للمجهول.
المعنى الإجمالي:
العمرى :- ومثلها " الرقبى " نوعان من الهبة، كانوا يتعاطونهما في الجاهلية، فكان الرجل يعطى الرجل الدار أو غيرها بقوله: أعمرتك إياها أو أعطيتكها عمرك أو عمري .
فكانوا يرقبون موت الموهوب له، ليرجعوا في هبتهم.
فأقر الشرع الهبة، وأبطل الشرط المعتاد لها، وهو الرجوع، لأن العائد في هبته، كالكلب، يقيئ ثم يعود في قيئه، ولذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له ولعقبه من بعده.
ونبههم صلى الله عليه وسلم إلى حفظ أموالهم بظنهم عدم لزوم هذا الشرط وإباحة الرجوع فيها فقال: " أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي اعمِرَها، حياً وميتا، ولعقبها " .
هذا ما لم يصرح الواهب بأنها للموهوب له ما عاش فقط، فالمسلمون على شروطهم، ويكون حكمها، حكم العارية.
لكن لا يرجع الواهب فيها ولا بعد وفاة الموهوب له، لأن الوفاء بالوعد واجب، والإخلاف من صفات المنافقين المحرمة.
اختلاف العلماء:
العمرى ثلاثة أنواع:
1- إما أن تؤبد كقوله: لك: لعقبك من بعدك.
2- أو تطلق كقوله: هي لك عمرك أو عمري.
وجمهور العلماء على صحة هذين النوعين وتأبيدهما وهو مذهب بعض الحنابلة
3- والنوع الثالث أن يشترط الواهب الرجوع فيها بعد موت أحدهما. فهل يصح الشرط أو يلغى وتكون مؤبدة أيضاً ؟
ذهب إلى صحة الشرط، جماعة من العلماء، منهم الزهري، ومالك، وأبو ثور، وداود. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها شيخ الإسلام وغيره من الأصحاب، لحديث " المسلمون على شروطهم " .
والمشهور من مذهب الإمام أحمد، إلغاء الشرط ولزوم الهبة وتأبيدها.
(2/27)
________________________________________
وشرط الرجوع فيها المختلف في صحته، غير هبتها مدة الحياة فهذه لها حكم العارية بإجماع العلماء.
ما يؤخذ من الحديث:
1- صحة هبة " العمرى " وأنها من منح الجاهلية، التي أقرها الإسلام وهذبها ، بمنع الرجوع فيها، لما في الرجوع من الدناءة والبشاعة.
2- أنها تكون للموهوب له ولعقبه، سواء أكانت مؤبدة أم مطلقة.
أما إذا شرط الواهب الرجوع فيها، فقد تقدم الخلاف في ذلك بين العلماء.
3- أما إذا كانت الهبة لمدة الحياة فقط، بأن قال : هي لك ما دمت حيا، أو ما عشت، فهذه لها حكم العارية.
4- إن الشروط الفاسدة غير لازمة في العقد، ولو ظنها العاقد لازمة نافعة له. لكن. قال الفقهاء: ويثبت الخيار في إمضاء البيع أورده لمشتر ظن ما ليس له ضمن عقده.
باَبُ اللُّقَطَة
اللُّقَطَة:- بضم اللام وفتح القاف على المشهور. وهي المال الضائع من ربِّه يلتقطه غيره. وَالمُلْتَقَطُ على ثلاثة أقسام:-
1- فقسم تافِه لا تتبعه همة أوساط الناس، كالسَّوط، والرغيف ونحوهما، فهذا يملك بالالتقاط ولا يلزم تعريفه.
2- والثاني، ما لا يجوز التقاطه، وهى الأشياء التي تمنع نفسها من صغار السباع لِعَدْوهاَ، كالظباء، أو بقوتها وتحملها، كالإبل، والبقر ونحو ذلك. فهذا يحرم التقاطه.
3- والنوع الثالث ما عدا ذلك، فهذا هو الذي يشرع التقاطه بقصد الحفظ لصاحبه وفيه الأحكام الآتية:-
الحديث الأول
عَنْ زَيْد بنِ خَالِدٍ الجُهَنيّ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: سُئل رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلًمَ فَيْ لقَطَةِ الذَهَب أوِ الورِقِ، فقال اعْرِفْ وِكَاءها وَعِفَاصَهَا ثُمً عَرفها سَنةً، فإن لَم تُعْرَف فَاسْتنْفقهَا وَلتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإن جَاءَ طَالبُهَا يَوْماً منَ الدهْرِ فَأدهَا إلَيهِ " .
وَسألهُ عَنْ ضَالةِ الإبِلِ فَقَالَ: مَالَكَ وَلَها؟ دَعْهَا، فِإن مَعَهَا حِذَاءها وَسِقَاءها، تَرِدُ المَاءَ وَتَأكُلُ الشجَرَ، حَتى يَجدَهَا رَبُهَا".
(2/28)
________________________________________
وَسَألهُ عَنِ الشاة فَقَالَ: خُذها، فَإنَما هِيَ لَكَ، أوْ لأخِيكَ أوْ لِلذئبِ.
الغريب:
وِكاءها : بكسر الواو ممدود " الوكاء " ما يربط به الشيء.
عفاصها: بكسر العين المهملة، ففاء، وبعد الألف صاد مهملة. هو وعاؤها .
حِذَاءها : بكسر الحاء المهملة، فذال معجمة، هو خفها، لمتانته وصلابته.
سقاءها: بكسر السين، هو جوفها الذي حمل كثيراً من الماء والطعام.
ربها: هو صاحبها الذي ضاعت منه.
المعنى الإجمالي :
سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن حكم المال الضال عن ربه، من الذهب، و الفضة، والإبل، والغنم.
فبين له صلى الله عليه وسلم حكم هذه الأشياء لتكون مثالا لأشباهها، من الأموال الضائعة، فتأخذ حكمها.
فقال عن الذهب والفضة: اعرف وكاءها الذي شدت به، ووعاءها الذي جعلت فيه، لتميزها من بين مالك، ولتخبر بعلمك بها من ادعاها.
فإن طابق وصفه صفاتها، أعطيه إياها، وإلا تبين لك عدم صحة دعواه .
وأمره أن يعرفها سنة كاملة بعد التقاطه إياها.
ويكون التعريف في مجامع الناس كالأسواق ، وأبواب المساجد. والمجمعات العامة، وفي مكان التقاطها.
ثم أباح له- بعد تعريفها سنة، وعدم العثور على صاحبا- أن يستنفقها، فإذا جاء صاحبها في أي يوم من أيام الدهر، أداها إليه.
وأما ضالة الإبل ونحوها، مما يمتنع بنفسه، فنهاه عن التقاطها.
لأنها ليست بحاجة إلى الحفظ، فلها من طبيعتها حافظ، لأن فيها القوة على صيانة نفسها من صغار السباع، ولها من أخفافها ما تقطع به المفاوز، ومن عنقها ما تتناول به الشجر والماء، ومن جوفها ما تحمل به الغذاء، فهي حافظة نفسها حتى يجدها ربها الذي سيبحث عنها في مكان ضياعها.
وأما ضالة الغنم ونحوها من صغار الحيوان، فأمره أن يأخذها حفظا لها من الهلاك وافتراس السباع، وبعد أخذها يأتي صاحبها فيأخذها، أو يمضي عليها حول التعريف فتكون لواجدها .
ما يستفاد من الحديث:
(2/29)
________________________________________
1- أن من وجد مالا ضائعاْ عن ربه لا يمتنع من حفظ نفسه، استحب له أخذه بقصد الحفظ والصيانة عن الهلاك، والاستحباب هو أرجح الأقوال .
2- أن يعرف الواجد وكاءها ووعاءها وجنسها ليميزها عن ماله وليعرف صفاتها فيختبر من ادعى ضياعها منه، فذلك من تمام حفظها وأدائها إلى ربها.
3- أن يعرفها سنة في مجامع الناس كأبواب المساجد والمحافل والأسواق، وفي مكان وجدانها، لأنه مكان بحث صاحبها، ويبلغ الجهات المسؤولة عنها، كدوائر الشرطة .
وفي زمننا يكون نشدانها في الصحف والإذاعات والتلفاز، إذا كانت لقطة خطيرة.
4- إن لم تعرف في مدة العام، جاز له إنفاقها وبقى مستعدا لإعطاء صاحبها عوضها مثلها، إن كانت مثلية، أو قيمتها إن كانت متقومة.
5- فإن مضى عليها الحول ولم تعرف، ملكها ملتقطها ملكا قهريا من غير اختيار كالإرث وإذا جاء صاحبها بعد الحول فله عوضها، أو هي بعينها إن كانت موجودة.
6- إن جاء صاحبها ولو بعد أمد طويل ووصفها. دفعت إليه.
ويكفى وصفها بينة على أنها له، فلا يحتاج إلى شهود ولا إلى يمين، لأن وصفها هو بينتها، فبينة كل شيء بحسبه، فإن البينة ما أبان الحق وأظهره، ووصفها كاف في ذلك.
وهذه قاعدة عامة في كل الأحوال، التي يدعيها أحد ولا يكون له فيها منازع، فيكتفي بوصفه إياها.
7- أما ضالة الإبل ونحوها مما يمتنع بقوته أو بعَدْوه أو بطيرانه، فلا يجوز التقاطها، لأن لها من طبيعتها وتركيب الله إياها، ما يحفظها ويمنعها.
لكن إن وجدت في مهلكة رُدتْ بقصد الإنقاذ، لا التقاط.
8- أما الشاة، فالأحسن- بعد أخذها- أن يعمل فيها الأصلح من أكلها مقدرا قيمتها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو إبقائها مدة التعريف.
وتركها بدون أخذها، تعريض لها للهلاك.
فإن جاء صاحبها، رجع بها أو بقيمها أو ثمنها، وإن لم يأت، فهي لمن وجدها.
(2/30)
________________________________________
7
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
أعلى