الصحبة الطيبة
عضو مميز
- إنضم
- 16 أبريل 2013
- المشاركات
- 199
- النقاط
- 16
- الإقامة
- القاهرة - مصر
- الموقع الالكتروني
- nasrtawfik.blogspot.com
- احفظ من كتاب الله
- اللهم أعينني علي دوام التلاوة والتدبر وحفظ القرآن كاملا
- احب القراءة برواية
- حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- محمد صديق المنشاوي والحصري والسديسي
- الجنس
- أخ وأسرتي
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
كتاب النكاح 2/43 – 2 /77
كِتَاب الّنَكَاح (1)
النكاح حقيقته - لغَة- الوطء. ويطلق - مجازاً- على العقد، من إطلاق المسبب على السبب.
وكل ما ورد في القران من لفظ (النكاح)، فالمراد به العقد إلا قوله تعالى : {فَلا تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَه} فالمراد به الوطء.
والأصل في مشروعيته، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النسَاءِ} وغيرها من الآيات.
وأما السنة، فآثار كثيرة، قولية، وفعلية، وتقريرية، ومنها حديث الباب "يا معشر الشباب ... إلخ" .
وأجمع المسلمون على مشروعيته وقد حث عليه الشارع، الحكيم لما يترتب عليه من الفوائد الجليلة، ويدفع به من المفاسد الجسيمة، فقد قال الله تعالى {وانكحوا الأيَامَى مِنْكُم} وهذا أمر، وقال: {فَلا تَعْضُلوهُنَّ أن يَنْكحنَ أزْوَاجَهُن} وهذا نَهْي.
وقال صلى الله عليه وسلم :"النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" وقال:"تناكحوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
كل هذا لما يترتب عليه من المنافع العظيمة، التي تعود على الزوجين، والأولاد، والمجتمع، والدين، بالمصالح الكثيرة.
فمن ذلك، ما فيه من تحصين فرجي الزوجين : وقصر كل منهما بهذا العهد نظره على صاحبه عن الخلان والخليلات.
ومن ذلك ما في النكاح من تكثير الأمة بالتناسل ليكثر عباد الله تعالى، وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فتتحقق المباهاة ويتساعدوا على أعمال الحياة.
ومنها : حفظ الأنساب، التي يحصل بها التعارف، والتآلف ، والتعاون، والتناصر.
ولولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب ولأصبحت الحياة فوضى، لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، ولا فروع.
ومنها : ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة والرحمة بين الزوجين.
__________
(1) من هنا إلى باب الصداق، لم يجعل المؤلف بين أحاديثه ترجمة : بما أن أحاديثه متثعبة البحوث، فقد جعلت لها تراجم تناسبها- اهـ. شارح.
(2/43)
________________________________________
فإن الإنسان لا بد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره.
وفي عقد الزواج سر إلهي عظيم يتم عند عقده- إذا قدّر الله الألفة فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة مالا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلا بعد الخلطة الطويلة.
وإلى هذا المعنى أشار تبارك وتعالى بقوله :{وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَق لَكُمْ مِن أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً إِن فِي ذلِكَ لآيات لِقومٍ يتفكرون}.
ومنها : ما يحصل في اجتماع الزوجين من قيام البيت والأسرة، الذي هو نواة قيام المجتمع وصلاحه.
فالزوج يَكِدُّ ويكدح ويتكسب، فينفق ويعول.
والمرأة، تدبر المنزل، وتنظم المعيشة وتربي الأطفال، وتقوم بشئونهم.
وبهذا تستقيم الأحوال، وتنتظم الأمور.
وبهذا تعلم أن للمرأة في بيتها عملا كبيرا، لا يقل عن عمل الرجل في خارجه، وأنها إذا أحست القيام بما نيط بها فقد أدت للمجتمع كله خدمات كبيرة جليلة.
فتبين أن الذين يريدون إخراجها من بياتها ومقر عملها، لتشارك الرجل في عمله، قد ضلوا عن معرفة مصالح الدين والدنيا، ضلالا بعيداً.
وفوائد النكاح، لا تحصيها الأقلام ولا تحيط بها الإفهام، لأنه نظام شرعي إلهي، سُن ليحقق مصالح الآخرة والأولى.
ولكن له آداب وحدود، لابد من مراعاتها والقيام بها من الجانبين، لتتم به النعمة، وتتحق السعادة، ويصفو العيش، وهي أن يقوم كل واحد من الزوجين بما لصاحبه من حقوق، ويراعى ماله من واجبات.
فمن الزوج، القيام بالإنفاق، وما يستحق من كسوة ومسكن بالمعروف، وأن يكون طيب النفس، وأن يحسن العشرة باللطف واللين، والبشاشة والأنس، وحسن الصحبة.
وعليها أن تقوم بخدمته وإصلاح بيته، وتدبير منزله ونفقته، وتحسن إلى أبنائه وتربيهم، وتحفظه في نفسها وبيته وماله، وأن تقابله بالطلاقة والبشاشة
(2/44)
________________________________________
وتهيئ له أسباب راحته، وتدخل على نفسه السرور، ليجد فى بيته السعادة والانشراح والراحة، بعد نَصبَ العمل وتعبه.
فإذا قام كل من الزوجين بما لصاحبه من الحقوق والواجبات، صارت حياتهما سعيدة، واجتماعهما حميداً. ورفرف على بيتهما السرور والحبور، ونشأ الأطفال فى هذا الجو الهادئ الوادع، فشبوا على كرم الطباع، وحسن الشمائل، ولطيف الأخلاق.
وهذا النكاح الذى أتينا على شيء من فوائده، ثم ذكرنا ما يحقق من السعادة، هو النكاح الشرعي الإسلامي الذى يكفل صلاح البشر، وعمار الكون، وسعادة الدارين.
فإن لم يحقق المطلوب، فإن النظم الإلهية التي أمر بها وحث عليها لم تراع فيه، وبهذا تدرك سُمُّو الدين، وجليل أهدافه ومقاصده.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "يَا مَعْشَرَ الشباب ، مَن استطاع مِنْكُمُ البَاعَةَ فلْيَتزَوج، فَإنه أغض لِلبَصَرِ، وَأحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يستطع فعَليهِ بالصوم، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاء".
الغريب :
معشر الشباب : المعشر، هم الطائفة الذين يشملهم وصف.
الباءة: فيها لغات، أشهرها بالمد والهاء، اشتقت للنكاح من المباءة " وهى المنزل للملازمة بينهما، لأن من تزوج امرأة بَوّأها منزلا.
فعليه بالصوم: قيل إنه من قبيل إغراء الغائب وسهل ذلك فيه أن المُغْرى به تقدم ذكره في قوله: "من استطاع منكم الباءة" فصارَ كالحاضر. وقيل: إن الباء زائدة، ويكون معنى الحديث، الخبر، لا الأمر.
الوِجاء: بكسر الواو والمد هو رض عروق الخصيتين حتى تنفضخا، فتذهب بذهابهما شهوة الجماع، وكذلك الصوم، فهو مُضعِف لشهوة الجماع، ومن هنا تكون بينهما المشابهة.
المعنى الاجمالي:
(2/45)
________________________________________
بما أن التحصن والتعفف واجب، وضدهما محرم، وهو آتٍ من قبل شدة الشهوة مع ضعف الإيمان، والشباب أشد شهوة، خاطبهم النبى صلى الله عليه وسلم مرشدا لهم إلى طريق العفاف، وذلك أن من يجد منهم مؤنة النكاح من المهر والنفقة والسكن، فليتزوج لأن الزواج يغض البصر عن النظر المحرم ويحصن الفرج عن الفواحش وأغرى من لم يستطع منهم مؤنة النكاح وهو تائق إليه- بالصوم، ففيه الأجر، وقمع شهوة الجماع وإضعافها بترك الطعام والشراب، فتضعف النفس وتنسد مجارى الدم التي ينفذ معها الشيطان، فالصوم يكسر الشهوة كالوجاء للبيضتين اللتين تصلحان المنى فتهيج الشهوة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- حث الشباب القادر على مؤنة النكاح [المهر والنفقة] حثه على النكاح لأنه مظنة القوة وشدة الشهوة.
2- قال شيخ الإسلام: واستطاعة النكاح هو القدرة على المؤنة وليس هو القدرة على الوطء، فإن الخطاب إنما جاء للقادر على الوطء, ولذا أمر من لم يستطع بالصوم، فإنه له وجاء.
3- من المعنى الذي خوطب لأجله الشباب، يكون الأمر بالنكاح لكل مستطيع لمؤنته وقد غلبته الشهوة، من الكهول والشيوخ.
4- التعليل في ذلك أنه أغض للبصر وأحصن للفرج عن المحرمات.
5- إغراء من لم يستطع مؤنة النكاح بالصوم، لأنه يضعف الشهوة، لأن الشهوة تكون من الأكل، فتركه يضعفها.
6- قال شيخ الإسلام : ومن لا مال له هل يستحب له أن يقترض ويتزوج وفيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره، وقد قال تعالى : {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}.
الحديث الثاني
عن أنس بن مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ أن نَفَرا مِنْ أصحَابِ النَبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزوَاجَ النَبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ.
فَقالَ بَعضُهُم : لا أتَزَوجُ النسَاءَ، وقَالَ بعضهم : لا آكل اللحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم ْ: لا أنَام عَلَى فِرَاش.
(2/46)
________________________________________
فَبَلَغَ النَبي صلى الله عليه وسلم ذلِكَ، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه وقَالَ : "مَا بَالُ أقواَم قالُوا: كَذَا وكَذا ؟ وَلكني أصَلي وأنَامُ، وَأصُومُ وأفْطر، وأتَزَوجُ النسَاء، فَمَن رَغِبَ عَنْ سنتي فَليسَ مِني(1)}.
المعنى الإجمالي :
بنيت هذه الشريعة السامية على السماح واليسر، وإرضاء النفوس بطيبات الحياة وملاذِّها المباحة به، وكرهها للعنت والشدة والمشقة على النفس، وحرمانها من خيرات هذه الدنيا.
ولذا فإن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حملهم حب الخير والرغبة فيه إلى أن يذهبوا فيسألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في السر الذي لا يطلع عليه غير أزواجه فلما أعلمنهم به استقلوه، وذلك من نشاطهم على الخير وَجَدهم فيه.
فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! فهو- في ظنهم- غير محتاج إلى الاجتهاد في العبادة.
فعول بعضهم على ترك النساء، ليفرغ للعبادة.
وعول بعضهم على ترك أكل اللحم، زهادةً في ملاذ الحياة
وصمم بعضهم على أنه سيقوم الليل كله، تَهَجُّدا أو عبادة.
فبلغت مقالتهم من هو أعظمهم تقوى، وأشدهم خشية، وأعرف منهم بالأحوال والشرائع.
فخطب الناس، وحمد الله، وجعل الوعظ والإرشاد عاما، جريا على عادته الكريمة.
فأخبرهم أنه يعطى كل ذي حق حقه، فيعبد الله تعالى، ويتناول ملاذ الحياة المباحة، فهو ينام ويصلى، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته السامية، فليس من أتباعه، وإنما سلك سبيل المبتدعين.
ما يؤخذ من الحديث :
1- حب الصحابة رضي الله عنهم للخير، ورغبتهم فيه وفى الإقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
2- سماح هذه الشريعة ويسرها، أخذاً من عمل نبيها صلى الله عليه وسلم وهديه.
3- أن الخير والبركة فى الإقتداء به، وإتباع أحواله الشريفة.
__________
(1) هذا اللفظ لمسلم خاصة، وللبخاري نحوه، ولهذا قال المصنف في (عمدته الكبرى) متفق عليه.
(2/47)
________________________________________
4- أن أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان، ليس من الدين في شيء، بل هو من سنن المبتدعين المتنطعين، المخالفين لسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
5- أن ترك ملاذ الحياة المباحة، زهادة وعبادةً، خروج عن السنة المطهرة واتباع لغير سبيل المؤمنين.
6- في مثل هذا الحديث الشريف بيان أن الإسلام ليس رهبانية وحرمانا، وإنما هو الدين الذي جاء لإصلاح الدين والدنيا، وأنه أعطى كل ذي حق حقه.
فلله تبارك وتعالى حق العبادة والطاعة بلا غُلُو ولا تنطع.
وللبدن حقه من ملاذ الحياة والراحة.
بهذا تعلم أن الدين أنزل من لدن حكيم عليم، أحاط بكل شيء علما.
علم أن للإنسان ميولا، وفيه غرائز ظامئة، فلم يحرمه من الطيبات، وعلم طاقته في العبادة، فلم يكلفه شططاً وعسرا.
7- السنة هنا تعنى الطريقة، ولا يلزم من الرغبة عن السنة- بهذا المعنى- الخروج من الملة لمن كانت رغبته عنها لضرب من التأويل يعذر فيه صاحبه.
8- الرغبة عن الشيء تعني الإعراض عنه. والممنوع أن يترك ذلك تنطعا ورهبانية، فهذا مخالف للشرع. وإذا كان تركه من باب التورع لقيام شبهة فى حله، ونحو ذلك من المقاصد المحمودة لم يكن ممنوعا.
الحديث الثالث
عَنْ سَعد بْنِ أبى وَقاص رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ : رَدّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمانَ بْنِ مَظعُون التَبَتلَ، وَلَوْ أذنَ لَهُ لاخْتَصيْنَا.
التبتل : ترك النكاح، ومنه قيل لمريم عليها السلام : البتول.
الغريب :
التبتل : أصل التبتل القطع والإبانة، والمراد- هنا- الانقطاع عن النساء للعبادة.
المعنى الاجمالى:
روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن عثمان بن مظعون من شدة رغبته في الإقبال على العبادة، أراد أن يتفرغ لها ويهجر ملاذَ الحياة.
فاستأذن النبي صلى الله عليهوسلمف في أن ينقطع عن النساء ويقبل على طاعة الله تعالى فلا يأذن له، لأن ترك ملاذ الحياة والانقطاع للعبادة، من الغُلو في الدين والرهبانية المذمومة.
(2/48)
________________________________________
وإنما الدين الصحيح هو القيام بما لله من العبادة مع إعطاء النفس حظها من الطيبات.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن لعثمان، لاتبعه كثير من المُجدّين في العبادة. وتقدم معنى الحديث، في الذي قبله.
فائدة :
في حاشية الصنعاني على شرح العمدة ما يلي :
أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك، فصار يشتتهي ألا يتناول. وللنفس في هذا مكر خفي رياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق كانت إلى خير.
ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من إظهار التخشع الزائد عن الحد، وتخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها، وصارت لأقوام كالمعاش، يجتنون من ثمراتها تقبيل اليد والتوقير، وأكثر في خلوته على غير حالته في جلوته، يتناول في خلوته الشهوات، ويعكف على اللذات ويرى الناس أنه متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظرت إلى أحواله فعنده كبر فرعون.
باب المحرمات من النكاح
المحرمات من النكاح قسمان :
1- قسم يحرم إلى الأبد 2- وقسم يحرم إلى أمد.
فالأول : سبع من النسب هن :
1- الأمهات وإن علون.
2- والبنات وإن نزلن.
3- والأخوات من أبوين، أو أب، أو أم.
4- وبناتهن.
5- وبنات الإخوة.
6- والعمات.
7- والخالات.
ودليل تحريم هؤلاء قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم... إلخ}.
ويحرم ما يماثلهن من الرضاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
ويحرم أربع بالمصاهرة وهن :
1- أمهات الزوجات وإن علون.
2- وبناتهن وإن نزلن إن كان قد دخل بهن.
3- و زوجات الآباء والأجداد وإن عَلَوا.
4- وزوجات الأبناء وإن نزلوا.
ويحرم ما يماثلهن من الرضاع ، ودليل هذا قوله تعالى: { وَأمهَاتُ نِسَائِكُم .... } الخ.
(2/49)
________________________________________
أما المحرمات إلى أمد، فهن أخت الزوجة، وعمتها وخالتها،والخامسة للحر الذي عنده أربع زوجات، والزانية حتى تتوب، ومطلقته ثلاثا حتى تنكح زوجاً غيره، والمُحْرمة بنسك حتى تحل، والمعتدة من غيره. حتى تنقضي عدتها.
وماعدا هؤلاء فهو حلال، كما قال تعالى- حين عدد المحرمات- { وأحِل لَكُم ما وراء ذلِكُم }.
وفي هذين الحديثين الآتيين في هذا الباب، الإشارة إلى بعض ما تقدم
الحديث الأول
عَنْ أم حَبِيبَةَ بنْتِ أبي سُفْيَانَ رَضي الله عَنْهُمَا أنَهَا قَالَتْ: يا رسول الله، أنكح أختي ابنةَ أبي سُفيَانَ، فقال: " أوَ تُحِبينَ ذلِكَ " ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأحَبُ مَنْ شَارَكَنِي في خَيْر، أختي.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : "إن ذلِكَ لاَ يَحِلُّ لي ".
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أم سلمة" ؟ قلت: نعم، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن".
قال(1) عروة: وثوبية مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثوبية.
الحيبة، بكسر الحاء: الحالة.
الغريب:
بمخلية : بضم الميم، وسكون الخاء المعجمة، وكسر اللام. اسم فاعل من "أخلى يخلى" أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضرة.
نحدث : بضم النون وفتح الخاء، بالبناء للمجهول.
بنت أم سلمة : استفهام قصد به التثبت لرفع الاحتمال في إرادة غيرها.
ربيبتي في حجري : الربيبة مشتقة من الرب وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمرها.
__________
(1) قوله: [قال عروة... الخ] يوهم أنه من المتفق عليه، وليس كذلك، فهو من أفراد البخاري خاصة، كما قاله (عبد الحق) في جمعه بين الصحيحين.
(2/50)
________________________________________
والحجر بفتح الحاء وكسرها، وليس له مفهوم، بل لمجرد مراعاة- لفظ الآية.
ثويبة : بالمثلثة المضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء التصغير، ثم باء موحدة ثم هاء.
بشر حيبة : بكسر الحاء المهملة، وسكون الياء التحتية، ثم باء موحدة. أي بسوء حال. ووقع مضبوطاً في بعض نسخ البخاري بالخاء المعجمة.
المعنى الإجمالي:
أم حبيبة(1) بنت أبي سفيان هي إحدى أمهات المؤمنات رضى الله عنهن وكانت حظية وسعيدة بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحق لها ذلك- فالتمست من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها.
فعجب صلى الله عليه وسلم، كيف سمحت أن ينكح ضرة(2) لها، لما عند النساء من الغيرة الشديدة في ذلك، ولذا قال -مستفهما متعجبا-: أو تحبين ذلك؟ فقالت: نعم أحب ذلك.
ثم شرحت له السبب الذي من أجله طابت نفسها بزواجه من أختها، وهو أنه لابد لها من مشارك فيه من النساء، ولن تنفرد به وحدها، فإذا فليكن المشارك لها في هذا الخير العظيم هو أختها.
وكأنها غير عالمة بتحريم الجمع بين الأختين، ولذا فإنه أخبرها صلى الله عليه وسلم أن أختها لا تحل له(3).
فأخبرته أنها حدثت أنه سيتزوج بنت أبي سلمة.
فاستفهم منها متثبتاً : تريدين بنت أم سلمة؟ قالت: نعم.
فقال : مبينا كذب هذه الشائعة:- إن بنت أم سلمة لا تحل لي لسببين.
أحدهما: أنها ربيبتي التي قمت على مصالحها في حجري، فهي بنت زوجتي.
والثاني: أنها بنت أخي من الرضاعة، فقد أرضعتني، وأباها أبا سلمة، ثويبة -وهي مولاة لأبي لهب- فأنا عمها أيضاً، فلا تعرضْنَ علي بناتِكن وأخواتكن، فأنا أدرى وأولى منكن بتدبير شأني في مثل هذا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم نكاح أخت الزوجة، وأنه لا يصح.
__________
(1) قيل اسمها: (رمله) وقيل: عزة.
(2) ضرة المرأة، هي امرأة زوجها.
(3) يعني لا تحل له أختها مادامت هي زوجة، فهي من المحرمات إلى أمد.
(2/51)
________________________________________
2- تحريم نكاح الربيبة، وهى بنت زوجته التي دخل بها. و المراد بالدخول- هنا- الوطء، فلا يكفي مجرد الخلوة.
3- ليس ( الحجر ) -هنا- مرادا، وإنما ذكر لقصد التبشيع والتنفير.
4- تحريم بنت الأخ من الرضاعة، لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
5- أنه ينبغي للمفتي- إذا سئل عن مسألة يختلف حكمها باختلاف أوجهها- أن يستفصل عن ذلك.
6- أنه ينبغي توجيه السائل ببيان ما ينبغي له أن يعرض عنه وما يقبل عليه، لاسيما إذا كان ممن تجب تربيته وتعليمه، كالولد والزوجة.
7- الظاهر أن أم حبيبة فهمت إباحة أخت الزوجة للرسول صلى الله عليه وسلم من باب الخصوصية له. ذلك أنه لا قياس بين أخت الزوجة والربيبة، وإنما- لما سمعت أنه سيتزوج بربيبته وهي محرمة عليه بنص الآية التي حرم فيها الجمع بين الأختين- ظننت الخصوصية من هذا العموم.
الحديث الثاني
عَنْ أبي هريرة رَضي اللَه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُجْمَعُ بين المرأة و عمتها، ولا بَيْنَ المرأة وَخَالتِهَا ".
المعنى الإجمالي:
جاءت هذه الشريعة المطهرة بكل ما فيه الخير والصلاح وحاربت كل فيه الضرر والفساد ومن ذلك أنها حثت على الألفة والمحبة والمودة، ونهت عن التباعد، والتقاطع، والبغضاء.
فلما أباح الشارع تعدد الزوجات لما قد يدعو إليه من المصالح، وكان- غالبا- جمع الزوجات عند رجل، يورث بينهن العداوة والبغضاء، لما يحصل من الغيرَةِ، نهى أن يكون التعدد بين القريبات، خشية أن تكون القطيعة بين الأقارب.
فنهى أن تنكح الأخت على الأخت، وأن تنكح العمة على بنت الأخ وابنة الأخت على الخالة وغيرهن، مما لو قدر إحداهما ذكرا والأخرى أنثى، حرم عليه نكاحها في النسب. فإنه لا يجوز الجمع والحال هذه.
وهذا الحديث يخصص عموم قوله تعالى: {وأحِلَّ لكم ما وَرَاءَ ذلِكم} وأدمجنا أحكامه، فلا حاجة إلى تفصيلها، لوضوحها من المعنى الإجمالي.
فائدة:
(2/52)
________________________________________
الجمع بين الأختين، و بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، قال ابن المنذر. لست أعلم في ذلك خلافا اليوم، واتفق أهل العلم على القول به، ونقل ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع. قال ابن دقيق العيد. وهو مما أخذ من السنة، وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى. { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصصوا ذلك العموم بهذا الحديث، وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
قال الصنعاني: ليس المراد بالواحد الفرد، بل ماعدا المتواتر، فالحافظ ابن حجر ذكر أن هذا الحديث رواه من الصحابة ثلاثة عشر نفراً، وعدهم، ففيه رد على من زعم أنه لم يروه إلا أبو هريرة.
فائدة ثانية:
نكاح الكتابية جائز بآية المائدة، وهو مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن قيل:فقد وصفهم (أي أهل الكتاب) بالشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله... } قيل: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، وحيث وصفوا بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوا من الشرك. فأصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك ا هـ من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه.
بَابُ الشروط في النكاح
الشروط في النكاح قسمان:
1- صحيح وهو: مالا يخالف مقتضى العقد، وأن يكون للمشترط من الزوجين غرض صحيح، ويأتي شيء من أمثلته.
2- وباطل وهو: ما كان مخالفا لمقتضي العقد.
والميزان في هذه الشروط ونحوها، قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً" ولا فرق بين أن يقع اشتراطها قبل العقد أو معه.
الحديث الأول
عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن تُوفُوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الفرُوج".
المعنى الإجمالي:
لكل واحد من الزوجين مقاصد و أغراض في إقدامه على عقد النكاح.
(2/53)
________________________________________
فيشترط على صاحبه شروطاً ليتمسك بها ويطلب تنفيذها، عدا ما هناك من شروط هي من مقتضيات عقد النكاح.
لأن شروط النكاح عظيمة الحرمة، قوية اللزوم -لكونها استحق بها استحلال الاستمتاع بالفروج- فقد حث الشارع الحكيم العادل على الوفاء بها، فقال: إن أحق شرط يجب الوفاء به وأولاه، هو ما اسْتحِل به الفرج- وبُذِلَ من أجله البضع.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الوفاء بالشروط التي التزم بها أحد الزوجين لصاحبه، وذلك كاشتراط زيادة في المهر أو السكنى بمكان معين من جانب المرأة، وكاشتراط البكارة والنسب، من جانب الزوج.
2- أ ن وجوب الوفاء، شامل للشروط التي هي من مقتضى العقد، والتي من مصلحة أحد الزوجين.
3- يقيد عموم هذا الحديث بوجوب الوفاء بالشروط، بمثل حديث [لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها].
4- أن الوفاء بشروط النكاح آكد من الوفاء بغيرها، لأن عوضها استحلال الفروج.
5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح الذي عليه أكثر نصوص أحمد و عليه أكثر السلف أن ما يوجب العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" وإذا تنازع الزوجان فرضه الحاكم باجتهاده.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عَنْ نِكاحِ الشغَارِ.
وَالشغَارُ: أنْ يُزَوجَ الرَّجُلُ ابنتَهُ عَلى أنْ يُزَوجَهُ الآخر ابنتهُ وَلَيس بيَنَهُمَا صَدَاقٌ .
الغريب:
الشغار: بكسر الشين المعجمة والغين المعجمة، أصله -في اللغة- الرفع، فأخذ منه صورة هذا النكاح لرفع كل واحد من الولييِن عن موليته لصاحبه بلا صداق ولا نفع يعود عليها.
المعنى الإجمالي:
(2/54)
________________________________________
الأصل في عقد النكاح أنه لا يتم إلا بصداق للمرأة، يقابل ما تبذله من بضعها.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا النكاح الجاهلي، الذي يظلم به الأولياء مولياتهم، إذ يزوجونهن بلا صداق يعود نفعه عليهن، وإنما يبذلونهن بما يرضى رغباتهم وشهواتهم، فيقدمونهن إلى الأزواج، على أن يزوجوهم مولياتهم بلا صداق.
فهذا ظلم وتصرف في أبضاعهن بغير ما أنزل الله. وما كان كذلك فهو محرم باطل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن نكاح الشغار، والنهى يقتضي الفساد، فهو غير صحيح.
2- أن العلة في تحريمه وفساده، هو خلوه من الصداق المسمى، ومن صداق المثل، وأشار إليه بقوله: [وليس بينهما صداق].
3- وجوب النصح للمولية. فلا يجوز تزويجها بغر كفء، لغرض الوَلي ومقصده.
4- بما أنهم جعلوا العلة في إبطال هذا النكاح، هي خُلُوُّهُ من الصداق، فإنه يجوز أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته بصداق غير قليل مع الكفاءة بين الزوجين والرضا منهما.
5- قوله: [والشغار: أن يزوج الرجل.. إلخ] قال ابن حجر: اختلفت الروايات عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، وبهذا قال الشافعي، فقد قال: لا أدرى التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك وجعله بعضهم من تفسير نافع وليس خاصا بالابنة، بل كل مولية. وقال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكر أهل اللغة، فإن كان مرفوعا فهو المقصود. و إن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال.
6- أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح، واختلفوا في بطلانه. فعند أبي حنيفة أن النكاح يصح ويفرض لها مهر مثلها.
وعند الشافعي وأحمد. أن النكاح غير صحيح، لأن النهيَ يقتضي الفساد.
(2/55)
________________________________________
وحكى في الجامع رواية عن الإمام أحمد بطلانه ولو مع صداق، اختارها (الخِرَقي) لعموم ما روى الشيخان عن ابن عمر. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار" ومثله في مسلم عن أبي هريرة.
ولأن أبا داود جعل التفسير وهو قوله " وليس بينهما صداقط من كلام نافع.
واختار هذا القول العلامة الأثري ( الشيخ عبد العزيز بن باز ) حفظه الله في رسالة له في الأنكحة الباطلة. و الله أعلم.
الحديث الثالث
عَنْ عَلى بْنِ أبي طالب رَضيَ الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.
المعنى الإجمالي:
سَن الشارع النكاح لقصد الاجتماع و الدوام، والألفة، وبناء الأسرة، وتكوينها.
ولذا كان أبغض الحلال إلى الله الطلاق، لكونه هدما لهذا البناء الشريف.
وكل قصد أو شرط يخالف هذه الحكمة من النكاح، فهو باطل.
و من هنا حرم نكاح (المتعة)، وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل، بعد أن كان مباحا في أول الإسلام لداعي الضرورة.
ولكن ما في هذا النكاح من المفاسد، من اختلاط في الأنساب؛ واستئجار للفروج، ومجافاة للذوق السليم والطبيعة المستقيمة، هذه المفاسد ربَتْ على ما فيه من لذة قضاء الشهوة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم نكاح المتعة وبطلانه، وعليه أجمع العلماء. قال ابن دقيق العيد: وفقهاء الأمصار كلهم على المنع، وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت.
2- كان مباحا في أول الإسلام للضرورة فقط، ثم جاء التأكيد والتأبيد لتحريمه ولو عند الضرورة.
3- نهى الشارع الحكيم عنه، لما يترتب عليه من المفاسد، منها:اختلاط الأنساب، واستباحة الفروج بغير نكاح صحيح.
4- النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية فهي رجس، بخلاف الحمر الوحشية، فهي حلال بالإجماع.
فائدة:
(2/56)
________________________________________
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل يسير في البلاد، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة فإذا سافر طلق من تزوجها؟
فأجاب بأن له أن يتزوج، ولكن على أن ينكح نكاحا مطلقا، يمكنه من إمساكها أو تطليقها إن شاء، وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع.
ثم ببن رحمه الله رأيه في نكاح المنعة، فقال: إن قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها، مثل المسافر إلى بلد يقيم به مدة فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقداً مطلقا فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد.
1- قيل: هو نكاح جائز، وهو اختيار الموفق وقول الجمهور.
2- وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز، وروى عن الأوزاعي ونصر القاضي و أصحابه.
3- وقيل مكروه وليس بمحرم.
والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلقها، فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة فقد قصد أمرا جائزا بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير بنية فيمسكها دائما، وذلك جائز له، كما لو تزوج بنية إمساكها دائماً، ثم بدا له طلاقها جاز ذلك.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح وبطلانه.
واختلفوا في الوقت الذي حرم فيه، تبعا للآثار التي وردت في تحريمه.
فبعضهم يرى أن التحريم كان يوم (خيبر) مستدلا بحديث الباب، ثم أنها أبيحت، ثم حرمت يوم فتح مكة.
(2/57)
________________________________________
وبعضهم يرى أنها لم تحرم إلا يوم الفتح، وقبله كانت مباحة، ويقولون: إن علياً رضي الله عنه لم يرد في هذا الحديث أن تحريم المتعة وقع مع تحريم لحوم الحمر الأهلية يوم (خيبر) وإنما قرنهما جميعا ردا على ابن عباس الذي يجيز المتعة للضرورة ويبيح لحوم الحمر الأهلية. وهذا القول أولى.
قال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرت تحريما مؤبدا. قال: ولا مانع من تكرير الإباحة(1).
بَابُ ما جاء في الاستئمار وَالاستئذان
عَنْ أبي هريرة رَضيَ الله عَنْهُ أنَ رَسُولَ الله صلى لله عليه وسلم قَال: "لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتى تستأمر، وَلا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتًى تُستأذَن ، قالُوا: يا رسول الله، وَكيفَ إذنها ؟ قَال: أن تسكت".
الغريب:
الأيم : بفتح الهمزة وتشديد الياء التحتية المثناة، بعدها ميم، أشهر وأكثر ما تستعمل، في المرأة المفارقة من زوجها، وهو متعين هنا، لمقابلتها للبكر.
تستأمر : أصل الاستئمار: طلب الأمر. فالمعنى لا يعقد عليها إلا بعد طلب الأمر منها، وأمرها به.
لا تنكح : برفع الفعل المضارع بعد لا النافية، وإن كان الغرض النهي وهذا أسلوب معروف من أساليب البلاغة العربية.
المعنى الإجمالي:
عقد النكاح عقد خطير، يستبيح به الزوج أشد ما تحافظ عليه المرأة،: هو بضعها.
وتكون بهذا العقد أسيرة عند زوجها، يوجهها حيث يشاء ويريد، لهذا جعل لها الشارع العادل الرحيم الحكيم الأمر، في أن تختار شريك حياتها، وأن تصطفيه بنظرها. فهي التي تريد أن تعاشره، وهى أعلم بميولها ورغبتها.
فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوج الثيب حتى يؤخذ أمرها فتأمر.
كما نهى عن تزويج البكر حتى تستأذن في ذلك أيضا فتأذن.
__________
(1) أي في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم لا بعد التحريم المؤبد.
(2/58)
________________________________________
بما أنه يغلب الحياء على البكر، اكتفى منها بما هو أخف من الأمر، وهو الإذن، كما اكتفى بسكوتها، دليلا على رضاها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن نكاح الثيب قبل استئمارها وطلبها ذلك وقد ورد النهى بصيغة النفي، ليكون أبلغ، فيكون النكاح بدونه باطلا.
2- النهْيُ عن نكاح البكر قبل استئذانها، ومقتضى طلب إذنها، أن نكاحها بدونه باطل أيضا.
3- يفيد طلب إذنها: أن المراد بها البالغة، وإلا لم يكن لاستئذانها فائدة، لو كان المراد الصغيرة. قال ابن دقيق العيد: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة، و يختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التأكد وقال الشافعي في القديم: أستحب ألا تزوج البكر الصغيرة حتى تبلغ و تستأذن
4- عبر عن البكر بالاستئذان لغلبة الحياء عليها، فلا تكون موافقتها بأمر كالثيب.
5- يكفى في إذنها السكوت لحيائها -غالبا- عن النطق. و الأحسن أن يجعل لموافقتها بالسكوت أجلا، تعلم به أنها بعد انتهاء مدته يعتبر سكوتها إذنا منها وموافقة.
6- لا يكفي في استئمار الثيب واستئذان البكر مجرد الإخبار بالزواج، بل لا بد من تعريفها بالزوج تعريفا تاما، عن سنه، وجماله، ومكانته، ونسبه، وغناه، وعمله، وضد هذه الأشياء، وغير ذلك مما فيه مصلحة لها.
7- قال شيخ الإسلام: من كان لها ولي من النسب وهو العصبة فهذه يزوجها الولي بإذنها، ولا يفتقر ذلك إلى حاكم باتفاق العلماء. وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها، وهو أمير الأعراب ورئيس القرية وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضا بإذنها. والله أعلم.
(2/59)
________________________________________
8- وقال شيخ الإسلام الإشهاد على إذن المرأة ليس شرطا في صحة العقد عند جماهير العلماء، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد والشافعي، والمشهور من المذهبين كقول الجمهور وأن ذلك لا يشترط والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد لوجوه ثلاثة، ليكون العقد متفقا على صحته، وللأمان من الجحود، وخشية أن يكون الولي كاذبا في دعوى الاستئذان.
اختلاف العلماء:
ليس هناك نزاع بين العلماء، في أن البالغة العاقلة الثيب لا تجبر على النكاح ودليل ذلك واضح.
وليس هناك نزاع أيضا في أن البكر التي دون التسع، ليس لها إذن، فلأبيها تزويجها بلا إذنها ولا رضاها بكفئها. قال شيخ الإسلام فإن أباها يزوجها ولا إذن لها.
ودليلهم زواج عائشة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم وهى ابنة ست. واختلفوا في البالغة.
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن لأبيها إجبارها، وهو مذهب مالك، والشافعي، وإسحاق.
ودليلهم ما رواه داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليهوسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صِماتها(1)". فحيث قسم النساء قسمين، وأثبت لأحدهما الحق، دل على نفيه عن الآخر وهو البكر، فيكون وليها أحق منها.
الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ليس له إجبارها وهو مذهب الإمام أبي حنيفة والأوزاعى، والثوري، وأبي ثور.
واختار هذه الرواية من الأصحاب: أبو بكر، والشيخ تقي الدين ابن تيميه، وابن القيم وصاحب الفائق، وشيخنا (عبد الرحمن آل سعدي) ومال إليه الشيخ عبد الله أبا بطين، مفتى الديار النجدية في زمنه.
ودليل هذا القول، حديث الباب، إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تزويجها بدون إذنها، ولو لم يكن إذنها معتبراً، لما جعله غاية لإنكاحها.
__________
(1) بكسر الصاد:- هو السكوت.
(2/60)
________________________________________
وبما رواه أبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأذن".
ففي حديث الباب النهيُ، وحديث الجارية فيه الحكم بخيارها، وفى الحديث الثالث، الأمر باستئذانها وهو يقتضي الوجوب.
وهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الشرع الحكيمة العادلة.
فإذا كان أبوها لا يتصرف بالقليل من مالها بدون إذنها، فكيف يكرهها على بَذْل بضعها وَعشرةِ من تكرهه، ولا ترغب في البقاء معه؟.
إن إرغامها على الزواج بمن تكره، هو الحبس المظلم لنفسها، وقلبها، وبدنها وعقلها.
والقول به، ينافي العدل والحكمة.
وما الفرق بينها وبين الثيب، التي عرفوا لها هذا الحق؟.
إن التفريق بينهما، من التفريق بين المتماثلين، الذي يأباه القياس.
وما استدل به للقول الأول من قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" مفهوم، وعلى القول بكونه حجة، فدليل المنطوق مقدم عليه.
تتمة:
عقد النكاح، كبير خطير، وضرره ونفعه عائد على الأسرة كلها. لذا أرى العمل بقوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} وهو أن يبحث من أطرافه، ويتدوال الرأي فيه بين جميع أفراد الأسرة المعتبرين، وأن يستخيروا الله تعالى، ويسألوه التسديد والتوفيق، ويعملوا بما يرون أنه الأحسن والأولى.
ويكون للزوجة الرأي الأخير بعد تعريفها وتفهيمها. وإذا تم على هذا، فهو أحرى أن يؤدم بين الزوجين والأسرتين.
بَابُ لا ينكح مطَلقته ثَلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره
عَن عَاِئشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَت: جَاءتِ امْرَأةُ رِفَاعَةَ القُرَظِي إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: كُنْتُ عِندَ رِفَاعَةَ القُرَظِي فَطَلقني فَبَتَّ طلاقي فتزوَّجت بَعْدَهُ عَبْدَ الرحمن بنَ الزُّبير وإنَّمَا مَعَهُ مِثلُ هُدْبَةِ الثوبِ.
(2/61)
________________________________________
فَتَبَسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "أتريدين أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذوقي عُسيلَتَهُ وَيَذُوق عُسَيْلَتك".
فَقَالَت: وأبو بَكر عِنْدَه، وخالد بنُ سَعِيدٍ بالبابِ يَنتظِرُ أنْ يُؤذَنَ لَهُ، فنادى: "يَا أبَا بَكْر، ألا تَسْمَعُ إلى هذِهِ مَا تَجْهَرُ بهِ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟.
الغريب:
فبت طلاقي: بتشديد التاء المثناة. أصله: القطع، والمراد طلقها الطلقة الأخيرة من الطلقات الثلاث، كما في صحيح مسلم "فطلقها آخر ثلاث تطليقات(1).
الزبيِر: بفتح الزاي، بعدها باء مكسورة، ثم ياء، ثم راء.
هُدْبة: بضم الهاء، وإسكان الدال. بعدها موحدة: هي طرف الثوب الذي لم ينسج، شبهوها بهدب العين. أرادت أن ذَكرَه، يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار.
عسَيلته: بضم العين، وفتح السين. تصغير عسلة، وهي كناية عن الجماع. شبه لذته بلذة العسل وحلاوته.
المعنى الإجمالي:
جاءت امرأة رفاعة القرظي شاكية حالها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فأخبرته أنها كانت زوجاً لرفاعة، فبتَّ طلاقها بالتطليقة الأخيرة، وهي الثالثة من طلقاتها، وأنها تزوجت بعده (عبد الرحمن بن الزبِير) فلم يستطع أن يمسها لأن ذكرَه ضعيف رِخْو، لا ينتشر.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي منه النساء عادة، وفهم أن مرادها، الحكم لها بالرجوع إلِى زوجها الأول رفاعة. حيث ظنت أنها بعقد النكاح من عبد الرحمن قد حلت له.
__________
(1) ذهل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد عن هذه الرواية التي ساقها المصنف محتملة لإرسال الثلاث دفعة، ومحتملة لأن تكون آخر طلقة، و محتملة لأن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند بعض الفقهاء. ولو فطن لهذه الرواية، لعلم أنها مفسرة لها، وأن المراد- هنا- طلقها الثالثة من التطليقات- ا هـ . شارح.
(2/62)
________________________________________
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى عليها ذلك، وأخبرها بأنه لابد- لحل رجوعها إلى رفاعة- من أن يطأها زوجها الأخير.
وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخالد بن سعيد، بالباب ينتظر الإذن بالدخول فنادى خالد أبا بكر، متذمرا من هذه المرأة التي تجهر بمثل هذا الكلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا، لما له في صدورهْم من الهيبة والإجلال. صلى الله عليه وسلم ورضي اللَه عنهم وأرضاهم، ورزقنا الأدب معه، والإتباع له.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن المراد ببَت الطلاق هنا، الطلقة الأخيرة من الثلاث، كما بينته الرواية الأخرى كما تقدم في شرح [ الغريب].
2- أنه لا يحل بعد هذا البت المذكور هنا أن ينكحها زوجها، الذي بت طلاقها إلا بعد أن تتزوج غيره، ويطأها الزوج الثاني، فيكون المراد بقوله تعالى: {حَتى تَنكِح زوجا غَيْرَهُ } الوطء، لا مجرد العقد قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، فلا تحل له حتى يجامعها الثاني.
3- المراد بالعسيلية، اللذة الحاصلة بتغيب الحشفة ولو لم يحصل إنزال مَني، وعليه إجماع العلماء، فلابد من الإيلاج لأنه مظنة اللذة.
4- أنه لابد من الانتشار، وإلا لم تحصل اللذة المشترطة.
5- أنه لا بأس من التصريح بالأشياء التي يستحي منها للحاجة، فقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتبسم من كلامها.
6- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطيب نفسه. اللهم ارزقنا اتباعه، والإقتداء به. آمين.
اختلاف العلماء:
موضع ذكر هذا الخلاف هو (باب الطلاق) وبما أن المؤلف لم يأت هناك بما يشير إليه وجاءت مناسبته هنا، فإني أذكره لقوته، وللحاجة إليه.
(2/63)
________________________________________
فقد اختلف العلماء فيمن أوقع الطلاق الثلاث دفعة واحدة، أو أوقعها بكلمات ثلاث لم يتخللها رجعة، فهل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلا بعد أن تنكح زوجا غيره، وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة، له رجعتها مادات في العدة، وبعد العدة يعقد عليها ولو لم تنكح زوجاً غيره؟.
اختلف العلماء في ذلك اختلافا طويلا عريضا، وعُذب من أجْل القول بالرجعة بها جماعة من الأئمة والعلماء، منهم شيخ الإسلام، ابن تيميه، وبعض أتباعه.
وما ذلك إلا لأن القول بوقوعها، هو المشهور من المذاهب الأربعة. وكأن من خرج عنها لقوة دليل أو لاتباع إمام من سَلَفِ الأمة ليس على الحق. قاتل الله التعصب والهوى، وهى مسألة طويلة.
ولكننا -نسوق- هنا- ملخصا فيه الكفاية.
ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، وجمهور الصحابة والتابعين: إلى وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة إذا قال (أنت طالق ثلاثا) ونحوه أو (بكلمات) ولو لم يكن بينهن رجعة.
ودليلهم حديث ركانة بن عبد الله (أنه طلق امرأته البتة) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " والله ما أردتَ إلا واحدة؟ ".
قال ركانة: (والله ما أردتُ إلا واحدة) يستحلفه ثلاثا.
وهذا الحديث أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي وصححه، و ابن حبان، و الحاكم.
ووجه الدلالة من الحديث، استحلافه صلى الله عليه وسلم للمطلق أنه لم يرد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده.
واستدلوا أيضا بما في صحيح البخاري عن عائشة " أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت فطلقت".
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟.
قال: " لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول" ولو لم تقع الثلاث لم يمنع رجوعها إلى الأول إلا بعد ذوق الثاني عسيلتها.
واستدلوا أيضا بعمل الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم على إيقاع الثلاث بكلمة واحدة ثلاثا، كما نطق بها المطلق. وكفى بهم قدوة وأسوة.
(2/64)
________________________________________
ولهم أدلة غير ما سقْنَا، ولكن ما ذكرنا، هو الصريح الواضح لهم.
وذهب جماعة من العلماء: إلى أن موقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللها رجعة، لا يقع عليه إلا طلقة واحدة. وهو مروي عن الصحابة، والتابعين، وأرباب المذاهب.
فمن الصحابة القائلين بهذا القول، أبو موسى الأشعري، وابن عباس، و عبد الله بن مسعود، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.
ومن التابعين، طاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وغالب أتباع ابن عباس، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن إسحاق.
ومن أرباب المذاهب، داود وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة، و بعض أصحاب مالك، و بعض أصحاب أحمد، منهم المجد عبد السلام بن تيميه، وكان يفتي بها سرا، وحفيده شيخ الإسلام (ابن تيميه) يجهر بها ويفتي بها في مجالسه، وقد عذِّبَ من أجل القول بها، هو وكثير من أتباعه.
ومنهم ابن القيم الذي نصرها نصرا مؤزرا في كتابيه [ الهدى] و[ أعلام الموقعين] فقد أطال البحث فيها، واستعرض نصوصها، وردَ على المخالفين بما يكفى و يشفى.
واستدل هؤلاء بالنص، والقياس.
فأما النص، فما رواه مسلم في صحيحة [أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وفي صدر من إمارة عمر؟ قال: نعم] وفي لفظ [ ترد إلى واحدة؟ قال: نعم].
فهذا نص صحيح صريح، لا يقبل التأويل والتحويل.
وأما القياس، فإن جَمْعَ الثلاث محرم وبدعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد] وإيقاع الثلاث دفعة واحدة ليس من أمر الرسول، فهو مردود مسدود.
وأجاب هؤلاء عن أدلة الجمهور بما يأتي.
أما حديث ركانة، فقد ورد في بعض ألفاظه (أنه طلقها ثلاثا) وفى لفظ (واحدة) وفى لفظ (البتة) ولذا قال البخاري: إنه مضطرب.
وقال الإمام أحمد: طرقه كلها ضعيفة، وقال بعضهم: في سنده مجهول، وفيه من هو ضعيف متروك.
(2/65)
________________________________________
قال شيخ الإسلام: وحديث ركانة ضعيف عند أئمة الحديث، ضعفه أحمد والبخاري وأبو عبيد وابن حزم بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط. وأما حديث عائشة فالاستدلال به غير وجيه، إذ من المحتمل مرادها بالثلاث نهاية ما للمطلق من الطلقات الثلاث، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، وهو مجمل يحمل على حديث ابن عباس المبين كما جاء في الأصول.
وأما الاستدلال بعمل الصحابة، فما أولاهم بالاقتداء والاتباع.
ونحن نقول: إنهم يزيدون عن مائة ألف، وكل هذا الجمع الغفير- وأولهم نبيهم- يعدون الثلاث واحدة حتى إذا توفى صلى الله عليه وسلم وهي على ذلك، وجاء خليفته الصديق فاستمرت الحال على ذلك حتى توفى، وخلفه عمر رضي الله عنه، فمضى صدر خلافته والأمر كما هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق، بعد ذلك جعلت الثلاث واحدة كما بَينا سببه وبيانه.
فصار جمهور الصحابة ممن قضى نحبه قبل خلافة عمر، أو نزحت به الفتوحات فبل مجلسه الذي عقده لبقية الصحابة المقيمين عنده في المدينة.
فعلمنا -حينئذ- أن الاستدلال بعمل الصحابة منقوض بما يشبه إجماعهم في عهد الصديق على خلافه.
وعمل عمر بن الخطاب رضي اللَهْ تعالى عنه حاشاه وحاشا من معه أن يعملوا عملا يخالف ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رأى أن الناس تعجلوا، وأكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث وهو بدعة محرمة، فرأى أن يلزمهم بما قالوه، تأديبا وتعزيرا على ما ارتكبوا من إثم، وما أتوه عن ضيق هم في غنى عنه ويسر وسعة.
وهذا العمل من عمر رضي الله عنه اجتهاد من اجتهاد الأًئمة، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا يستقر تشريعاً لازما لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة.
(2/66)
________________________________________
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإن طلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات، مثل (أنت طالق ثلاثا) أو (أنت طالق وطالق وطالق) أو (أنت طالق ثم طالق ثم طالق) أو يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق. أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، ونحو ذلك من العبارات. فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مد خولا بها أو غير مدخول بها.
أحدها: أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية القديمة عنه، اختارها الخرقي.
الثاني: أنه طلاق محرم لازم، وهو. قول مالك وأبي حنيفة وأحمد، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف والخلف من الصحابة والتابعين.
الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من الصحابة، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد.
وهذا القول (الثالث) هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة. وليس في الكتاب والسنة مايو جب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقد. بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله. وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع... (و) لا نزاع بين المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة.
(2/67)
________________________________________
وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر: والفرق ظاهر بين الطلاق والحلف به، وبين النذر والحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مريضي أو قضى دينيٍ أو خلصني من هذه الشدة فلله علي أن أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرا أو أعتق رقبة، فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا علق النذر على وجه اليمين فقال: إن سافرت معكم أو إن زوجت فلانا فعلي الحج، أو فمالي صدقة، فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر ليس بناذر، فإذا لم يف بما الزمه أجزأه كفارة يمين.
هذه خلاصة سقناها في بيان هذه المسألة الشهيرة الطويلة الأطراف.
وعلى كلا القولين، فالقول به لا يوجب هذه الثورات التي قسمت المسلمين طالما أنها مسألة فرعية خلافية. والله أعلم.
باَبُ عشرَة النسَاء
في هذا الباب يتكلم العلماء على معاشرة كل واحد من الزوجين لصاحبه.
فيبينون شيئا من حقوق الرجل، وبعضا من حقوق المرأة على زوجها، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في مقدمة [ كتاب النكاح].
وخلاصة ما نقوله هنا: أن لكل من الزوجين على صاحبه حقوقا، فليحرص كل منهما على أداء ما عليه، تاما غير منقوص.
ومع هذا فالأولى أن لا يشدد صاحبها باستيفائها واستقصائها.
فإذا راعى كل واحد منهما هذه المعاملة الرشيدة الحكيمة، استقامت أمورهم وصلحت أحوالهم.
وإن تشدد كل منهما في طلب حقه كاملا، وتساهل من عليه الحق في أدائه، فثمرة ذلك العيش النكد، والعشرة المُرة، التي يعقبها الفراق، و تفكك الأسر، وينزع عنهم الرحمة، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو (سمح إذا قضى، سمح إذا اقتضى).
الحديث الأول
(2/68)
________________________________________
عَنْ أنَس بن مالك رَضي الله عَنْهُ قَالَ: مِن السنةِ إذَا تزَوَّجَ البِكْرَ عَلى الثيب أقَامَ عِنْدَهَا سبعا ثم قَسَمَ. وإذَا تَزَوج الثيبَ أقام عِنْدَهَا ثَلاثاً ثُم قَسَم. قَالَ أبو قِلابَة: ولَو شئتُ لقُلْتُ: إنَ أنَسا رفَعَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإجمالي:
العدل في القسم بين الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن ظلم. ومن مال جاء يوم القيامة وشِقه مائل، وذلك من جنس عمله.
فيجب العدل بينهن فيها هو من مُكْنة الإنسان وطاقته.
وما لا يقدر عليه -مما هو في غير استطاعته كالوطء ودواعيه مما يكون أثر المحبة- فهذا خارج عن طوقه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ومن القَسْمِ الواجب، ما ذكر في هذا الحديث، من أنه إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا يؤنسها، ويزيل وحشتها وخجلها، لكونها حديثة عهد بالزواج، ثم قسم لنسائه بالسوية.
وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا، لكونها أقل حاجة إلى هذا من الأولى.
وهذا الحكم الرشيد، جَاء في هذا الحديث الذي له حكم الرفع، لأن الرواة إذا قالوا: من السنة، فلا يقصدون إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثاني
عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنْهمَا قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحَدَكُم إذَا أرَادَ أن يأتي أهْلَهُ قَال: بسْمِ الله، اللَّهمَّ جنبنا الشيطان وجَنبِ الشيطَانَ ما رزقتنا فَإنهُ إن يقدر بَينهُمَا وَلَدْ في ذلك لم يضره الشيطان أبَدَاً".
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف شيئا من آداب الجماع، وهو أنه ينبغي للرجل إذا أراد جماع زوجته أو أمته أن يقول: "بسم اللّه" فإن كل أمر لا يبدأ فيه بـ "بسم الله" فهو أبتر.
(2/69)
________________________________________
وأن يقول الدعاء النافع "اللَّهُم جَنبْنَا الشيطان وَجَنب الشيطان مَا رَزَقْتَنَا" فإن قدر الله تعالى لهما ولدا من ذلك الجماع، فسَيكون -ببركة اسم الله تعالى وهذا الدعاء المبارك- في عصمة، فلا يضره الشيطان.
وبمثل هذه الآداب الشريفة تكون عادات الإنسان عبادات، حينما تقترن بالآداب الشرعية، والنية الصالحة في إتيان هذه الأعمال.
تنبيه:
ذكر القاضي عياض: أنه لم يحمل هذا الحديث على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء. ذكر (ابن دقيق العيد) أنه يحتمل حمله على عموم الضرر، حتى الديني، ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة للضرر البَدَني، وقال: هذا أقرب، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل، لأننا لو حملناه على العموم، اقتضى ذلك أن يكون. معصوما من المعاصي كلها، وقد لا يتفق ذلك، ولابد من وقوع ما أخبر به صلى الله عليهوسلم .
وأحسن ما يقال في هذا المقام وأمثاله: أن الشارع جعل لكل شيء أسبابا ومواقع.
فإن وُجِدَت الأسباب، وانتفت الموانع، وُجدَ المسبب الذي رتب عليه.
وإن لم توجد الأسباب، أو وجِدَتْ، ولكن حصلت معها الموانع، لم يقع.
فهنا قد يُسَمي المجامع، ويستعيذ، ولكن توجد موانع تقتضي إبطال السبب أو ضعفه، فلا تحقق المطلوب.
وبهذا يندفع الإشكال الذي تحير فيه (تقي الدين بن دقيق العيد) في هذه المسألة.
فائدة:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما العزل فقد حرمه طائفة من العلماء، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة.
فائدة ثانية:
وقال أيضا: المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها باتفاق الأئمة. وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها من مكان إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك، فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها، فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج.
(2/70)
________________________________________
بَابُ النّهي عن الخلْوَة بِالأجنبية
عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِر: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إياكم وَالدُّخُولَ عَلَى النسَاءَ ".
فَقَالَ رجل مِنَ الأنصار: يا رسول اللّه، أفرأيت الْحَموَ؟ قَالَ: "الحموُ الْمَوتُ".
ولـ (مسلم) عن أبى الطَّاهِرِ عنِ ابن وهْبٍ قَالَ: سمعت الليثَ يَقُولُ: الحَمْوُ أخو الزَّوْجِ وَمَا أشبهه مِن أقَارِب الزوْج، ابن الْعَمٌ وَنَحْوه.
الغريب:
إياكم : مفعول بفعل مضمر، تقديره، اتقُوا الدخول. نصب على التحذير، وهو:- تنبيه المخاطب على محذور، ليتحرز عنه.
وتقدير الكلام: قوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء،: النساء أن يدخلن عليكم.و (الدخول) معطوف على المنصوب.
أرأيت الحمو : يعنى أخبرنا عن حكم خلوة الحمو.
والحمو : بفتح الحاء وضم الميم وبعدها واو لم يهمز، هو: قريب الزوج، من أخ، وابن عم، ونحوهما. قال النووي: اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة، كأبيه وعمه وأخيه وابن عمه ونحوهم.
الحمو الموت : شبه (الحمو) بالموت، لما يترتب على دخوله الذي لا ينكر، من الهلاك الديني. قال في فتح الباري: والعرب تصف الشيء المكروه بالموت.
المعنى الإجمالي:
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء الأجنبيات، والخلوة بهن، فإنه ماخلا رجل بامرأة، إلا كان الشيطان ثالثهما فإن النفوس ضعيفة، والدوافع إلى المعاصي قوية،فتقع المحرمات، فنهى عن الخلوة بهن ابتعادا عن الشر وأسبابه.
فقال رجل: أخبرنا يا رسول الله، عن الحمو الذي هو قريب الزوج، فربما احتاج، إلى دخول بيت قريبه الزوج وفيه زوجته، أما له من رخصة؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت، لأن الناس قد جروا على التساهل بدخوله، وعدم استنكار ذلك، فيخلو بالمرأة الأجنبية، فربما وقعت الفاحشة وطالت على غير علم ولا ريبه، فيكون الهلاك الديني، والدمار الأبدي، فليس له رخصة، بل احذروا منه ومن خلواته بنسائكم، إن كنتم غيورين.
(2/71)
________________________________________
ما يستفاد من الحديث:
1- النهي عن الدخول على الأجنبيات والخلوة بهن، سدا لذريعة وقوع الفاحشة.
2- أن ذلك عام في الأجانب من أخي الزوج وأقاربه، الذين ليسوا محارم للمرأة. قال ابن دقيق العيد: ولا بد من اعتبار أن يكون الدخول مقتضيا للخلوة، أما إذا لم يقتض ذلك فلا يمتنع.
3- التحريم -هنا- من باب تحريم الوسائل، والوسائل لها أحكام المقاصد.
4- الابتعاد عن مواطن الزلل عامة، خشية الوقوع في الشر.
5- قال شيخ الإسلام: كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا يسكنوا بين المتأهلين، وألا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
بَابُ الصَّدَاق
هو العِوَضُ الذي في النكاح أو بعده، للمرأة. بمقابل استباحة الزوج بضعها وله عدة أساء، وفيه عدة لغات.
وهو مشروع فْي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَآتوا النِّسَاءَ صَدُقاتهِن نِحْلَة} وغيرها من الآيات.
وأما السنة، ففعله، وتقريره، وأمره. كقوله: "التمس ولو خاتما من حديد".
و أجمع العلماء على مشروعيته، لتكاثر النصوص فيه.
وهو مقتضي القياس، فإنه لابد من الاستباحة بالنكاح، ولابد لذلك من العوض.
ولم يجعل الشرع حدا لأكثره ولا لأقله، إلا أنه يستحب تخفيفه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم النساء بركة، أيسرهن مؤنة".
ولما رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب قال: "ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه "، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية".
والصالح العام يقتضي تخفيفه، فإن في ذلك مصلحة كبيرة للزوجين وللمجتمع.
فكم من نساء جلسن بلا أزواج، وكم من شبان، قعدوا بلا زوجات. بسبب المغالاة في المهور والنفقات، التي خرجت إلى حَد السرف والتبذير.
وجلوس الجنسين بلا زواج، يحملهم على ارتكاب الفواحش والمنكرات.
(2/72)
________________________________________
وكم من مفاسد وأضرار، تولدت عن هذا السرف، فمنها الاجتماعية، و الأخلاقية، والمالية وغيرهما.
وإذا بلغت الحال إلى ما نرى ونسمع، فالذي نعتقد أنه لابد من تدخل الحكومات في هذه المسألة، لِحَل هذه الأزمة، وإلزام الناس بطرق عادلة مستقيمة، والله ولي التوفيق.
الحديث الأول
عَن أنَس بن مَالِكٍ رَضي الله عَنْة أن النبي صلىالله عليه وسلم أعتَقَ صَفيةَ وَجَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
المعنى الإجمالي:
كانت صفية بنت حُيي، أحد زعماء بنى النضير وكانت زوجة كنانة بن أبي الحقيق فقتل عنها يوم خيبر.
وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم (خيبر) عنوة، فصار النساء والصبيان أرقاء للمسلمين بمجرد السبي.
ووقعت صفية في قسم دِحْيةَ بن خليفة الكلبي، فعوضه عنها غيرها واصطفاها لنفسه، جبراً لخاطرها، ورحمة بها لعزها الذاهب.
ومن كرمه إنه لم يكتف بالتمتع بها أمة ذليلة، بل رفع شأنها، بإنقاذها من ذُل الرقِّ وجعلها إحدى أمهات المؤمنين.
وذلك: أنه أعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز عتق الرجل أمته، وجعل عتقها صداقاً لها، و تكون زوجته.
2- أنه لا يشترط لذلك إذنها ولا شهود، ولا ولي، كما لا يشترط التقيد بلفظ الإنكاح، ولا التزويج.
3- فيه دليل على جواز كون الصداق منفعة دينية أو دنيوية:
4- و في مثل هذه القصة في زواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على كمال رأفته وشفقته وعمله بما يقول، حيث قال: "ارحموا عزيز قوم ذل".
فهذه أرملة فقدت أباها مع أسرى بني قريظة المقتولين، وزوجها في معركةْ خيبر وهما سيدا قومهما، ووقعت في الأسر والذل. وبقاؤها تحت أحد أتباعه زوجة أو أمة، ذل لها وكسر لِعزها، ولا يرفع شأنها، ويجبر قلبها إلا أن تنقل من سيد إلى سيد، فكان هو أولى بها.
(2/73)
________________________________________
وبهذا تعلم أن هذا التعدد الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في الزوجات، ليس إرضاء لرغبة جنسية، كما يقول أعداء هذا الدين و الكائدون له، وإلا لقصد إلى الأبكار الصغار، ولم يكن زواجه من ثيبات انقطعن لفقد أزواجهن.
ولو استعرضنا قصة زواجه بهن، واحدة واحدة، لوجدنها لا تخرج عن هذه المقاصد الرحيمة النبيلة، فحاشاه وما أبعده عما يقول المعتدون الظالمون!! وقد صنف في هذا الموضوع عدد من الكتاب المحدثين مثل عباس محمود العقاد وبنت الشاطئ.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في جواز جعل العتق صداقا.
فذهب الإمام أحمد وإسحاق: إلى جوازه، عملا بقصة زواج صفية، وبأنه القياس الصحيح، لأن السيد مالك لرقبة أمَته ومنفعتها ومنفعة وطئها.
فإذا أعتقها واستبقى شيئا من منافعها، التي هي تحت تصرفه، فما المانع من ذلك، وما هو المحذور؟
وذهب الأئمة الثلاثة: إلى عدم جواز ذلك. وتأولوا الحديث بما يخالف ظاهره، أو حملوه على الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وحمل الحديث على خلاف ظاهره أو جعله خاصا، يحتاج إلى بيان ودليل، لأن الأصل بقاء الحديث على الظاهر، كما أن الأصل في الأحكام، العموم. ولو كان خاصا، لنقِل.
الحديث الثاني
عَنْ سَهل بن سَعدٍ الساعِدِي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتَقَ صَفيةَ وَجَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جَاءَتهُ امرَأة فَقَالت: إني وَهَبْت نَفْسي لَكَ، فَقَامَتْ طَوِيلا.
فقال رَجُل: يا رسول الله، زوجنيها إنْ لَم يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة.
فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكَ مِِن شيء تُصْدِقُهَا" ؟ فقال: مَا عِنْدِي إلا إزاري هذَا.
فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنْ أعطَيتَهَا إزَارَكَ جَلستَ وََلا إزارَ لكَ، فَالتمس ِ شيئَاً".
قالَ: مَا أجِدُ، قالَ: (التمس ولو خاتما مِنْ حديد).
فَالتمس فََلم يَجِد شَيئاً.
(2/74)
________________________________________
فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هَل مَعَكَ شيء مِنَ القُرآنِ "؟ قال: نعم.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "زَوجتُكَهَا بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآن".
المعنى الإجمالي:
خُص النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام ليست لغيره.
منها: تزوجه من تهب نفسها له بغير صداق، كما في آية الأحزاب {وامرأةً مُؤمنَة إن وَهبتْ نَفْسَهَا للنبي إن أرَادَ النبي أن يسَتنْكِحَهَا خالصة لَك مِنْ دونِ المُؤمِنينَ} فجاءت هذه المرأة واهبة نفسها، لعلها تكون إحدى نسائه.
فنظر إليها فلم تقع في نفسه، ولكنه لمْ يردها، لئلا يخجلها، فأعرض عنها، فجلست، فقال رجل: يا رسول الله، زَوجْنيهَا إن لم يكون لك بها حاجة.
وبما أن الصداق لازم في النكاح، قال له: هل عندك من شيء تصدقها؟.
فقال: ما عندي إلا إزاري.
إذا أصدقها إزاره يبقى عريانا لا إزار له، فلذلك قال له: "التمس، ولو خاتَماً من حديد".
فلما لم يكن عنده شيء قال: "هل معك شيء من القرآن؟" قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن، تعلمها إياه، فيكون صداقها.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز عرض المرأة نفسها، أو الرجل ابنته، على رجل من أهل الخير والصلاح.
2- جواز نظر من له رغبة في الزواج إلى المرأة التي يريد الزواج منها، والحكمة في ذلك، ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "انظر إليها، فهو أحرى أن يؤدم بينكما".
والمسلمون -الآن- بين طَرَفَيْ نقيض.
فمنهم: المتجاوزون حدود الله تعالى، بتركها به خطيبها في المسارح، و المتنزهات، و ا لمرحلات، و الخلوات.
ومنهم: المقضرون الذين يُكِنونَها فلا يصل إلى رؤيِتها من يريد الزواج. وسلوك السبيل الوسط هو الحق كما قال تعالى: { وَكَان بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً }.
3- ولاية الإمام على المرأة التي ليس لها ولي من أقربائها.
4- أنه لابد من الصداق في النكاح، لأنه أحد العوضين.
(2/75)
________________________________________
5- يجوز أن يكون يسيرا جداً للعجز لقوله: "ولو خاتما من حديد". على أنه يستحب تخفيفه للغني والفقير. لما في ذلك من المصالح الكثيرة وقد تقدم بيات ذلك.
6- الأولى ذكر الصداق في العقد ليكون، أقطع للنزاع، فإن لم يذكر، صح العقد، ورجع إلى مهر المثل.
وجرت العادة الآن، أن يرسله الرجل إلى المرأة قبل العقد، فترضى به المرأة وأهلها، وبعد الرضا يكون العقد، فحينئذ لا يكون ثم حاجة إلى ذكره في العقد.
7- أن خطبة العقد لا تجب، حيث لم تذكر في هذا الحديث.
8- أنه يصح أن يكون الصداق منفعة، كتعليم قرآن، أو فقه، أو أدب، أو صنعة، أو غير ذلك من المنافع.
ومنع بعضهم إصداق تعليم القرآن، بدعوى الخصوصية لهذا الرجل، أو التأويل، بأن تزويجه بها لكونه من أهل القرآن.
وليس بشيء لأن الأصل أن الأحكام عامة وأنه قد ورد في ألفاظ الحديث" فَعَلمْهَا من القرآن".
9- أن النكاح ينعقد بكل لفظ دال عليه.
والدليل على ذلك، ألفاظ الحديث. فقد ورد بلفظ "زوجتكها" وبلفظ "مَلَّكْتُكَهَا" وبلفظ "أمكَناكَهَا".
والذين قيدوا العقد بلفظ خاص، يرجحون لفظ التزويج على غيره. قال ابن حجر: الذي تحرر مما قدمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددا ممن رووه بغير لفظ التزويج ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل ذلك.
وما دام ورد في ألفاظ الحديث -وهو محتمل- فليس هناك مانع من أن الألفاظ الثلاثة وقعت بمناسبة سياق الكلام.
والمحاورة مع الخاطب وألفاظ العقود والفسوخ في جميع المعاملات، ليست ألفاظاً مقيداً بها، كالأذان وتكبير الصلاة، وإنما جاءت ليستدل بها على معانيها.
فأي لفظ أدَّى المعنى المراد، فهو صالح.
وهو قول الحنفية والمالكية واختيار شيخ الإسلام (ابن تيميه) و (ابن القيم).
10- في الحديث حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يردها حين لم يرغب فيها، بل سكت حتى طلبها منه بعض أصحابه.
(2/76)
________________________________________
11- قال بعض العلماء: لا دلالة بحديث الكتاب على جواز لبس خاتم الحديد، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد، فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه. وقد أخرج هذا الحديث أصحاب السنن.
الحديث الثالث
عَنْ أنَس بن مالِكٍ رَضي اللّه عَنْهُ: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأى عبد الرحمن بن عَوف وَعَلَيْهِ ردع زعفران، فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم (مَهْيَم )؟.
فَقَالَ يا رسول الله، تَزَوَّجْتُ امْرَأةً.
فَقَالَ: "مَا أصْدَقْتَهَا"؟ قالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهبَ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:" بَارَكَ الله لَكَ، أولم وَلَو بشاة ".
الغريب:
ردع: بفتح الراء، ودال مهملة، ثم عين مهملة. وقال الزركشي.
ولو قرىء بالمعجمة لصح من جهة المعنى، وهو أثر الزعفران وخضابه
قال في القاموس. و(الردع، الزعفران أو لطخ منه وأثر الطيب في الجسد).
ْمَهْيَمْ: بفتح الميم، وسكون الهاء، بعدها ياء مفتوحة، ثم ميم ساكنة، اسم فعل أمر بمعنى (أخبرني) عند ابن مالك.
وقال الخطابي: (كلمة يمانية، معناها: مالك وما شأنك)؟.
وكأنه أنكر عليه الصفرة التي عليه، والطيب الذي يظهر أثره، فيليق بالنساء، فلما علم أنه أصابه من زوجه، رَخص له.
وزن نواة من ذهب. معيار للذهب معروف لديهم. قالوا: إنه وزن خمسة دراهم.
أولم: فعل أمر، مشتق من الوليمة، وهو طعام الإملاك.
المعنى الإجمالي:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم على (عبد الرحمن بن عوف) شيئاً من أ ثر الزعفران، وكان الأولى بالرجال أن يتطيبوا بما يظهر ريحه، ويخفي أثره.
فسأله- بإنكار- عن هذا الذي عليه. فأخبره أنه حديث عهد بزواج، و قد أصابه من زوجه، فرخص له في ذلك.
ولما كان صلى الله عليه وسلم حَفِيا بهم، عطوفاً عليهم، يتفقد أحوالهم ليقرهم على الحسن منها، وينهاهم عن القبيح، سأله عن صداقه لها.
فقال: ما يعادل وزن نواة من ذهب.
(2/77)
________________________________________
فدعا اللّه له صلى الله عليه وسلم بالبركة، وأمره أن يولم من أجل زواجه ولو بشاة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كراهة التطيب بالزعفران وما يظهر أثره من الطيب، للرجال.
2- تفقد الوالي والقائد لأصحابه، وسؤاله عن أحوالهم وأعمالهم.، التي تعنيه وتعنيهم.
3- استحباب تخفيف الصداق. فهذا عبد الرحمن بن عوف، لم يصدق زوجته إلا وزن خمسة دراهم من ذهب.
4- الإشارة إلى أصل الصداق في النكاح، بناء على مقتضي الشرع و العادة.
5- الدعاء للمتزوج بالبركة. وقد ورد الدعاء للمتزوج بهذا الدعاء "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما بخير".
6- مشروعية الوليمة من الزوج، وأن لا تقل عن شاة إذا كان من ذوى اليسار. قال ابن دقيق العيد: الوليمة: الطعام المتخذ لأجل العرس، وهو من المطلوبات شرعا ولعل من فوائده إشهار النكاح باجتماع الناس للوليمة.
7- أن يدعي إليها أقارب الزوجين، والجيران، والفقراء، وأهل الخير ليحصل التعارف والتآلف، والبركة، وأن يجتنب السرف، والمباهاة، والخيلاء.
8- قال شيخ الإسلام: أجمع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم.
9- وقال أيضا: وإذا أصدقها ديناَ كثيرا في ذمته، وهو ينوي ألا يعطيها إياه كان ذلك حراماً عليه.
وما يفعله بعض أصحاب الخيلاء والكبرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي ألا يعطيهم إياه، فهذا منكر قبيح مخالف للسنة، خارج عن الشريعة.
وإن قصد الزوج أن يؤديه، وهو في الغالب لا يطيقه، فقد حمل نفسه و شغل ذمته وتعرض لنقص حسناته، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه.
9
كتاب النكاح 2/43 – 2 /77
كِتَاب الّنَكَاح (1)
النكاح حقيقته - لغَة- الوطء. ويطلق - مجازاً- على العقد، من إطلاق المسبب على السبب.
وكل ما ورد في القران من لفظ (النكاح)، فالمراد به العقد إلا قوله تعالى : {فَلا تَحِل لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَه} فالمراد به الوطء.
والأصل في مشروعيته، الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النسَاءِ} وغيرها من الآيات.
وأما السنة، فآثار كثيرة، قولية، وفعلية، وتقريرية، ومنها حديث الباب "يا معشر الشباب ... إلخ" .
وأجمع المسلمون على مشروعيته وقد حث عليه الشارع، الحكيم لما يترتب عليه من الفوائد الجليلة، ويدفع به من المفاسد الجسيمة، فقد قال الله تعالى {وانكحوا الأيَامَى مِنْكُم} وهذا أمر، وقال: {فَلا تَعْضُلوهُنَّ أن يَنْكحنَ أزْوَاجَهُن} وهذا نَهْي.
وقال صلى الله عليه وسلم :"النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" وقال:"تناكحوا تكثروا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
كل هذا لما يترتب عليه من المنافع العظيمة، التي تعود على الزوجين، والأولاد، والمجتمع، والدين، بالمصالح الكثيرة.
فمن ذلك، ما فيه من تحصين فرجي الزوجين : وقصر كل منهما بهذا العهد نظره على صاحبه عن الخلان والخليلات.
ومن ذلك ما في النكاح من تكثير الأمة بالتناسل ليكثر عباد الله تعالى، وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم فتتحقق المباهاة ويتساعدوا على أعمال الحياة.
ومنها : حفظ الأنساب، التي يحصل بها التعارف، والتآلف ، والتعاون، والتناصر.
ولولا عقد النكاح وحفظ الفروج به، لضاعت الأنساب ولأصبحت الحياة فوضى، لا وراثة، ولا حقوق، ولا أصول، ولا فروع.
ومنها : ما يحصل بالزواج من الألفة والمودة والرحمة بين الزوجين.
__________
(1) من هنا إلى باب الصداق، لم يجعل المؤلف بين أحاديثه ترجمة : بما أن أحاديثه متثعبة البحوث، فقد جعلت لها تراجم تناسبها- اهـ. شارح.
(2/43)
________________________________________
فإن الإنسان لا بد له من شريك في حياته، يشاطره همومه وغمومه، ويشاركه في أفراحه وسروره.
وفي عقد الزواج سر إلهي عظيم يتم عند عقده- إذا قدّر الله الألفة فيحصل بين الزوجين من معاني الود والرحمة مالا يحصل بين الصديقين أو القريبين إلا بعد الخلطة الطويلة.
وإلى هذا المعنى أشار تبارك وتعالى بقوله :{وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَق لَكُمْ مِن أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةَ وَرَحْمَةً إِن فِي ذلِكَ لآيات لِقومٍ يتفكرون}.
ومنها : ما يحصل في اجتماع الزوجين من قيام البيت والأسرة، الذي هو نواة قيام المجتمع وصلاحه.
فالزوج يَكِدُّ ويكدح ويتكسب، فينفق ويعول.
والمرأة، تدبر المنزل، وتنظم المعيشة وتربي الأطفال، وتقوم بشئونهم.
وبهذا تستقيم الأحوال، وتنتظم الأمور.
وبهذا تعلم أن للمرأة في بيتها عملا كبيرا، لا يقل عن عمل الرجل في خارجه، وأنها إذا أحست القيام بما نيط بها فقد أدت للمجتمع كله خدمات كبيرة جليلة.
فتبين أن الذين يريدون إخراجها من بياتها ومقر عملها، لتشارك الرجل في عمله، قد ضلوا عن معرفة مصالح الدين والدنيا، ضلالا بعيداً.
وفوائد النكاح، لا تحصيها الأقلام ولا تحيط بها الإفهام، لأنه نظام شرعي إلهي، سُن ليحقق مصالح الآخرة والأولى.
ولكن له آداب وحدود، لابد من مراعاتها والقيام بها من الجانبين، لتتم به النعمة، وتتحق السعادة، ويصفو العيش، وهي أن يقوم كل واحد من الزوجين بما لصاحبه من حقوق، ويراعى ماله من واجبات.
فمن الزوج، القيام بالإنفاق، وما يستحق من كسوة ومسكن بالمعروف، وأن يكون طيب النفس، وأن يحسن العشرة باللطف واللين، والبشاشة والأنس، وحسن الصحبة.
وعليها أن تقوم بخدمته وإصلاح بيته، وتدبير منزله ونفقته، وتحسن إلى أبنائه وتربيهم، وتحفظه في نفسها وبيته وماله، وأن تقابله بالطلاقة والبشاشة
(2/44)
________________________________________
وتهيئ له أسباب راحته، وتدخل على نفسه السرور، ليجد فى بيته السعادة والانشراح والراحة، بعد نَصبَ العمل وتعبه.
فإذا قام كل من الزوجين بما لصاحبه من الحقوق والواجبات، صارت حياتهما سعيدة، واجتماعهما حميداً. ورفرف على بيتهما السرور والحبور، ونشأ الأطفال فى هذا الجو الهادئ الوادع، فشبوا على كرم الطباع، وحسن الشمائل، ولطيف الأخلاق.
وهذا النكاح الذى أتينا على شيء من فوائده، ثم ذكرنا ما يحقق من السعادة، هو النكاح الشرعي الإسلامي الذى يكفل صلاح البشر، وعمار الكون، وسعادة الدارين.
فإن لم يحقق المطلوب، فإن النظم الإلهية التي أمر بها وحث عليها لم تراع فيه، وبهذا تدرك سُمُّو الدين، وجليل أهدافه ومقاصده.
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "يَا مَعْشَرَ الشباب ، مَن استطاع مِنْكُمُ البَاعَةَ فلْيَتزَوج، فَإنه أغض لِلبَصَرِ، وَأحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يستطع فعَليهِ بالصوم، فَإنَّهُ لَهُ وِجَاء".
الغريب :
معشر الشباب : المعشر، هم الطائفة الذين يشملهم وصف.
الباءة: فيها لغات، أشهرها بالمد والهاء، اشتقت للنكاح من المباءة " وهى المنزل للملازمة بينهما، لأن من تزوج امرأة بَوّأها منزلا.
فعليه بالصوم: قيل إنه من قبيل إغراء الغائب وسهل ذلك فيه أن المُغْرى به تقدم ذكره في قوله: "من استطاع منكم الباءة" فصارَ كالحاضر. وقيل: إن الباء زائدة، ويكون معنى الحديث، الخبر، لا الأمر.
الوِجاء: بكسر الواو والمد هو رض عروق الخصيتين حتى تنفضخا، فتذهب بذهابهما شهوة الجماع، وكذلك الصوم، فهو مُضعِف لشهوة الجماع، ومن هنا تكون بينهما المشابهة.
المعنى الاجمالي:
(2/45)
________________________________________
بما أن التحصن والتعفف واجب، وضدهما محرم، وهو آتٍ من قبل شدة الشهوة مع ضعف الإيمان، والشباب أشد شهوة، خاطبهم النبى صلى الله عليه وسلم مرشدا لهم إلى طريق العفاف، وذلك أن من يجد منهم مؤنة النكاح من المهر والنفقة والسكن، فليتزوج لأن الزواج يغض البصر عن النظر المحرم ويحصن الفرج عن الفواحش وأغرى من لم يستطع منهم مؤنة النكاح وهو تائق إليه- بالصوم، ففيه الأجر، وقمع شهوة الجماع وإضعافها بترك الطعام والشراب، فتضعف النفس وتنسد مجارى الدم التي ينفذ معها الشيطان، فالصوم يكسر الشهوة كالوجاء للبيضتين اللتين تصلحان المنى فتهيج الشهوة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- حث الشباب القادر على مؤنة النكاح [المهر والنفقة] حثه على النكاح لأنه مظنة القوة وشدة الشهوة.
2- قال شيخ الإسلام: واستطاعة النكاح هو القدرة على المؤنة وليس هو القدرة على الوطء، فإن الخطاب إنما جاء للقادر على الوطء, ولذا أمر من لم يستطع بالصوم، فإنه له وجاء.
3- من المعنى الذي خوطب لأجله الشباب، يكون الأمر بالنكاح لكل مستطيع لمؤنته وقد غلبته الشهوة، من الكهول والشيوخ.
4- التعليل في ذلك أنه أغض للبصر وأحصن للفرج عن المحرمات.
5- إغراء من لم يستطع مؤنة النكاح بالصوم، لأنه يضعف الشهوة، لأن الشهوة تكون من الأكل، فتركه يضعفها.
6- قال شيخ الإسلام : ومن لا مال له هل يستحب له أن يقترض ويتزوج وفيه نزاع في مذهب الإمام أحمد وغيره، وقد قال تعالى : {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله}.
الحديث الثاني
عن أنس بن مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ أن نَفَرا مِنْ أصحَابِ النَبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزوَاجَ النَبي صلى الله عليه وسلم عَنْ عَمَلِهِ في السِّرِّ.
فَقالَ بَعضُهُم : لا أتَزَوجُ النسَاءَ، وقَالَ بعضهم : لا آكل اللحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُم ْ: لا أنَام عَلَى فِرَاش.
(2/46)
________________________________________
فَبَلَغَ النَبي صلى الله عليه وسلم ذلِكَ، فَحَمِدَ الله وأثنى عليه وقَالَ : "مَا بَالُ أقواَم قالُوا: كَذَا وكَذا ؟ وَلكني أصَلي وأنَامُ، وَأصُومُ وأفْطر، وأتَزَوجُ النسَاء، فَمَن رَغِبَ عَنْ سنتي فَليسَ مِني(1)}.
المعنى الإجمالي :
بنيت هذه الشريعة السامية على السماح واليسر، وإرضاء النفوس بطيبات الحياة وملاذِّها المباحة به، وكرهها للعنت والشدة والمشقة على النفس، وحرمانها من خيرات هذه الدنيا.
ولذا فإن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حملهم حب الخير والرغبة فيه إلى أن يذهبوا فيسألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وسلم في السر الذي لا يطلع عليه غير أزواجه فلما أعلمنهم به استقلوه، وذلك من نشاطهم على الخير وَجَدهم فيه.
فقالوا : وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! فهو- في ظنهم- غير محتاج إلى الاجتهاد في العبادة.
فعول بعضهم على ترك النساء، ليفرغ للعبادة.
وعول بعضهم على ترك أكل اللحم، زهادةً في ملاذ الحياة
وصمم بعضهم على أنه سيقوم الليل كله، تَهَجُّدا أو عبادة.
فبلغت مقالتهم من هو أعظمهم تقوى، وأشدهم خشية، وأعرف منهم بالأحوال والشرائع.
فخطب الناس، وحمد الله، وجعل الوعظ والإرشاد عاما، جريا على عادته الكريمة.
فأخبرهم أنه يعطى كل ذي حق حقه، فيعبد الله تعالى، ويتناول ملاذ الحياة المباحة، فهو ينام ويصلى، ويصوم ويفطر، ويتزوج النساء، فمن رغب عن سنته السامية، فليس من أتباعه، وإنما سلك سبيل المبتدعين.
ما يؤخذ من الحديث :
1- حب الصحابة رضي الله عنهم للخير، ورغبتهم فيه وفى الإقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم.
2- سماح هذه الشريعة ويسرها، أخذاً من عمل نبيها صلى الله عليه وسلم وهديه.
3- أن الخير والبركة فى الإقتداء به، وإتباع أحواله الشريفة.
__________
(1) هذا اللفظ لمسلم خاصة، وللبخاري نحوه، ولهذا قال المصنف في (عمدته الكبرى) متفق عليه.
(2/47)
________________________________________
4- أن أخذ النفس بالعنت والمشقة والحرمان، ليس من الدين في شيء، بل هو من سنن المبتدعين المتنطعين، المخالفين لسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
5- أن ترك ملاذ الحياة المباحة، زهادة وعبادةً، خروج عن السنة المطهرة واتباع لغير سبيل المؤمنين.
6- في مثل هذا الحديث الشريف بيان أن الإسلام ليس رهبانية وحرمانا، وإنما هو الدين الذي جاء لإصلاح الدين والدنيا، وأنه أعطى كل ذي حق حقه.
فلله تبارك وتعالى حق العبادة والطاعة بلا غُلُو ولا تنطع.
وللبدن حقه من ملاذ الحياة والراحة.
بهذا تعلم أن الدين أنزل من لدن حكيم عليم، أحاط بكل شيء علما.
علم أن للإنسان ميولا، وفيه غرائز ظامئة، فلم يحرمه من الطيبات، وعلم طاقته في العبادة، فلم يكلفه شططاً وعسرا.
7- السنة هنا تعنى الطريقة، ولا يلزم من الرغبة عن السنة- بهذا المعنى- الخروج من الملة لمن كانت رغبته عنها لضرب من التأويل يعذر فيه صاحبه.
8- الرغبة عن الشيء تعني الإعراض عنه. والممنوع أن يترك ذلك تنطعا ورهبانية، فهذا مخالف للشرع. وإذا كان تركه من باب التورع لقيام شبهة فى حله، ونحو ذلك من المقاصد المحمودة لم يكن ممنوعا.
الحديث الثالث
عَنْ سَعد بْنِ أبى وَقاص رَضيَ الله عَنْهُ قَالَ : رَدّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمانَ بْنِ مَظعُون التَبَتلَ، وَلَوْ أذنَ لَهُ لاخْتَصيْنَا.
التبتل : ترك النكاح، ومنه قيل لمريم عليها السلام : البتول.
الغريب :
التبتل : أصل التبتل القطع والإبانة، والمراد- هنا- الانقطاع عن النساء للعبادة.
المعنى الاجمالى:
روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن عثمان بن مظعون من شدة رغبته في الإقبال على العبادة، أراد أن يتفرغ لها ويهجر ملاذَ الحياة.
فاستأذن النبي صلى الله عليهوسلمف في أن ينقطع عن النساء ويقبل على طاعة الله تعالى فلا يأذن له، لأن ترك ملاذ الحياة والانقطاع للعبادة، من الغُلو في الدين والرهبانية المذمومة.
(2/48)
________________________________________
وإنما الدين الصحيح هو القيام بما لله من العبادة مع إعطاء النفس حظها من الطيبات.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أذن لعثمان، لاتبعه كثير من المُجدّين في العبادة. وتقدم معنى الحديث، في الذي قبله.
فائدة :
في حاشية الصنعاني على شرح العمدة ما يلي :
أخاف على الزاهد أن تكون شهوته انقلبت إلى الترك، فصار يشتتهي ألا يتناول. وللنفس في هذا مكر خفي رياء دقيق، فإن سلمت من الرياء للخلق كانت إلى خير.
ولقد دخل المتزهدون في طرق لم يسلكها النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه من إظهار التخشع الزائد عن الحد، وتخشين الملبس، وأشياء صار العوام يستحسنونها، وصارت لأقوام كالمعاش، يجتنون من ثمراتها تقبيل اليد والتوقير، وأكثر في خلوته على غير حالته في جلوته، يتناول في خلوته الشهوات، ويعكف على اللذات ويرى الناس أنه متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظرت إلى أحواله فعنده كبر فرعون.
باب المحرمات من النكاح
المحرمات من النكاح قسمان :
1- قسم يحرم إلى الأبد 2- وقسم يحرم إلى أمد.
فالأول : سبع من النسب هن :
1- الأمهات وإن علون.
2- والبنات وإن نزلن.
3- والأخوات من أبوين، أو أب، أو أم.
4- وبناتهن.
5- وبنات الإخوة.
6- والعمات.
7- والخالات.
ودليل تحريم هؤلاء قوله تعالى {حرمت عليكم أمهاتكم... إلخ}.
ويحرم ما يماثلهن من الرضاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم : "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
ويحرم أربع بالمصاهرة وهن :
1- أمهات الزوجات وإن علون.
2- وبناتهن وإن نزلن إن كان قد دخل بهن.
3- و زوجات الآباء والأجداد وإن عَلَوا.
4- وزوجات الأبناء وإن نزلوا.
ويحرم ما يماثلهن من الرضاع ، ودليل هذا قوله تعالى: { وَأمهَاتُ نِسَائِكُم .... } الخ.
(2/49)
________________________________________
أما المحرمات إلى أمد، فهن أخت الزوجة، وعمتها وخالتها،والخامسة للحر الذي عنده أربع زوجات، والزانية حتى تتوب، ومطلقته ثلاثا حتى تنكح زوجاً غيره، والمُحْرمة بنسك حتى تحل، والمعتدة من غيره. حتى تنقضي عدتها.
وماعدا هؤلاء فهو حلال، كما قال تعالى- حين عدد المحرمات- { وأحِل لَكُم ما وراء ذلِكُم }.
وفي هذين الحديثين الآتيين في هذا الباب، الإشارة إلى بعض ما تقدم
الحديث الأول
عَنْ أم حَبِيبَةَ بنْتِ أبي سُفْيَانَ رَضي الله عَنْهُمَا أنَهَا قَالَتْ: يا رسول الله، أنكح أختي ابنةَ أبي سُفيَانَ، فقال: " أوَ تُحِبينَ ذلِكَ " ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ ، وَأحَبُ مَنْ شَارَكَنِي في خَيْر، أختي.
فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم : "إن ذلِكَ لاَ يَحِلُّ لي ".
قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أم سلمة" ؟ قلت: نعم، فقال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن".
قال(1) عروة: وثوبية مولاة لأبي لهب، كان أبو لهب أعتقها، فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما مات أبو لهب رآه بعض أهله بشر حيبة، فقال له: ماذا لقيت ؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم خيرا، غير أني سقيت في هذه بعتاقتي ثوبية.
الحيبة، بكسر الحاء: الحالة.
الغريب:
بمخلية : بضم الميم، وسكون الخاء المعجمة، وكسر اللام. اسم فاعل من "أخلى يخلى" أي لست بمنفردة بك، ولا خالية من ضرة.
نحدث : بضم النون وفتح الخاء، بالبناء للمجهول.
بنت أم سلمة : استفهام قصد به التثبت لرفع الاحتمال في إرادة غيرها.
ربيبتي في حجري : الربيبة مشتقة من الرب وهو الإصلاح، لأنه يقوم بأمرها.
__________
(1) قوله: [قال عروة... الخ] يوهم أنه من المتفق عليه، وليس كذلك، فهو من أفراد البخاري خاصة، كما قاله (عبد الحق) في جمعه بين الصحيحين.
(2/50)
________________________________________
والحجر بفتح الحاء وكسرها، وليس له مفهوم، بل لمجرد مراعاة- لفظ الآية.
ثويبة : بالمثلثة المضمومة، ثم واو مفتوحة، ثم ياء التصغير، ثم باء موحدة ثم هاء.
بشر حيبة : بكسر الحاء المهملة، وسكون الياء التحتية، ثم باء موحدة. أي بسوء حال. ووقع مضبوطاً في بعض نسخ البخاري بالخاء المعجمة.
المعنى الإجمالي:
أم حبيبة(1) بنت أبي سفيان هي إحدى أمهات المؤمنات رضى الله عنهن وكانت حظية وسعيدة بزواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم -وحق لها ذلك- فالتمست من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أختها.
فعجب صلى الله عليه وسلم، كيف سمحت أن ينكح ضرة(2) لها، لما عند النساء من الغيرة الشديدة في ذلك، ولذا قال -مستفهما متعجبا-: أو تحبين ذلك؟ فقالت: نعم أحب ذلك.
ثم شرحت له السبب الذي من أجله طابت نفسها بزواجه من أختها، وهو أنه لابد لها من مشارك فيه من النساء، ولن تنفرد به وحدها، فإذا فليكن المشارك لها في هذا الخير العظيم هو أختها.
وكأنها غير عالمة بتحريم الجمع بين الأختين، ولذا فإنه أخبرها صلى الله عليه وسلم أن أختها لا تحل له(3).
فأخبرته أنها حدثت أنه سيتزوج بنت أبي سلمة.
فاستفهم منها متثبتاً : تريدين بنت أم سلمة؟ قالت: نعم.
فقال : مبينا كذب هذه الشائعة:- إن بنت أم سلمة لا تحل لي لسببين.
أحدهما: أنها ربيبتي التي قمت على مصالحها في حجري، فهي بنت زوجتي.
والثاني: أنها بنت أخي من الرضاعة، فقد أرضعتني، وأباها أبا سلمة، ثويبة -وهي مولاة لأبي لهب- فأنا عمها أيضاً، فلا تعرضْنَ علي بناتِكن وأخواتكن، فأنا أدرى وأولى منكن بتدبير شأني في مثل هذا.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم نكاح أخت الزوجة، وأنه لا يصح.
__________
(1) قيل اسمها: (رمله) وقيل: عزة.
(2) ضرة المرأة، هي امرأة زوجها.
(3) يعني لا تحل له أختها مادامت هي زوجة، فهي من المحرمات إلى أمد.
(2/51)
________________________________________
2- تحريم نكاح الربيبة، وهى بنت زوجته التي دخل بها. و المراد بالدخول- هنا- الوطء، فلا يكفي مجرد الخلوة.
3- ليس ( الحجر ) -هنا- مرادا، وإنما ذكر لقصد التبشيع والتنفير.
4- تحريم بنت الأخ من الرضاعة، لأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب.
5- أنه ينبغي للمفتي- إذا سئل عن مسألة يختلف حكمها باختلاف أوجهها- أن يستفصل عن ذلك.
6- أنه ينبغي توجيه السائل ببيان ما ينبغي له أن يعرض عنه وما يقبل عليه، لاسيما إذا كان ممن تجب تربيته وتعليمه، كالولد والزوجة.
7- الظاهر أن أم حبيبة فهمت إباحة أخت الزوجة للرسول صلى الله عليه وسلم من باب الخصوصية له. ذلك أنه لا قياس بين أخت الزوجة والربيبة، وإنما- لما سمعت أنه سيتزوج بربيبته وهي محرمة عليه بنص الآية التي حرم فيها الجمع بين الأختين- ظننت الخصوصية من هذا العموم.
الحديث الثاني
عَنْ أبي هريرة رَضي اللَه عَنْهُ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يُجْمَعُ بين المرأة و عمتها، ولا بَيْنَ المرأة وَخَالتِهَا ".
المعنى الإجمالي:
جاءت هذه الشريعة المطهرة بكل ما فيه الخير والصلاح وحاربت كل فيه الضرر والفساد ومن ذلك أنها حثت على الألفة والمحبة والمودة، ونهت عن التباعد، والتقاطع، والبغضاء.
فلما أباح الشارع تعدد الزوجات لما قد يدعو إليه من المصالح، وكان- غالبا- جمع الزوجات عند رجل، يورث بينهن العداوة والبغضاء، لما يحصل من الغيرَةِ، نهى أن يكون التعدد بين القريبات، خشية أن تكون القطيعة بين الأقارب.
فنهى أن تنكح الأخت على الأخت، وأن تنكح العمة على بنت الأخ وابنة الأخت على الخالة وغيرهن، مما لو قدر إحداهما ذكرا والأخرى أنثى، حرم عليه نكاحها في النسب. فإنه لا يجوز الجمع والحال هذه.
وهذا الحديث يخصص عموم قوله تعالى: {وأحِلَّ لكم ما وَرَاءَ ذلِكم} وأدمجنا أحكامه، فلا حاجة إلى تفصيلها، لوضوحها من المعنى الإجمالي.
فائدة:
(2/52)
________________________________________
الجمع بين الأختين، و بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، قال ابن المنذر. لست أعلم في ذلك خلافا اليوم، واتفق أهل العلم على القول به، ونقل ابن عبد البر وابن حزم والقرطبي والنووي الإجماع. قال ابن دقيق العيد. وهو مما أخذ من السنة، وإن كان إطلاق الكتاب يقتضي الإباحة لقوله تعالى. { وأحل لكم ما وراء ذلكم } إلا أن الأئمة من علماء الأمصار خصصوا ذلك العموم بهذا الحديث، وهو دليل على جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو مذهب الأئمة الأربعة.
قال الصنعاني: ليس المراد بالواحد الفرد، بل ماعدا المتواتر، فالحافظ ابن حجر ذكر أن هذا الحديث رواه من الصحابة ثلاثة عشر نفراً، وعدهم، ففيه رد على من زعم أنه لم يروه إلا أبو هريرة.
فائدة ثانية:
نكاح الكتابية جائز بآية المائدة، وهو مذهب جماهير السلف والخلف من الأئمة الأربعة وغيرهم. فإن قيل:فقد وصفهم (أي أهل الكتاب) بالشرك بقوله: {اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله... } قيل: إن أهل الكتاب ليس في أصل دينهم شرك، وحيث وصفوا بأنهم أشركوا فلأجل ما ابتدعوا من الشرك. فأصل دينهم اتباع الكتب المنزلة التي جاءت بالتوحيد لا بالشرك ا هـ من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه.
بَابُ الشروط في النكاح
الشروط في النكاح قسمان:
1- صحيح وهو: مالا يخالف مقتضى العقد، وأن يكون للمشترط من الزوجين غرض صحيح، ويأتي شيء من أمثلته.
2- وباطل وهو: ما كان مخالفا لمقتضي العقد.
والميزان في هذه الشروط ونحوها، قوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم، إلا شرطاً حرم حلالا أو أحل حراماً" ولا فرق بين أن يقع اشتراطها قبل العقد أو معه.
الحديث الأول
عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن تُوفُوا بِهِ مَا استحللتم بِهِ الفرُوج".
المعنى الإجمالي:
لكل واحد من الزوجين مقاصد و أغراض في إقدامه على عقد النكاح.
(2/53)
________________________________________
فيشترط على صاحبه شروطاً ليتمسك بها ويطلب تنفيذها، عدا ما هناك من شروط هي من مقتضيات عقد النكاح.
لأن شروط النكاح عظيمة الحرمة، قوية اللزوم -لكونها استحق بها استحلال الاستمتاع بالفروج- فقد حث الشارع الحكيم العادل على الوفاء بها، فقال: إن أحق شرط يجب الوفاء به وأولاه، هو ما اسْتحِل به الفرج- وبُذِلَ من أجله البضع.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الوفاء بالشروط التي التزم بها أحد الزوجين لصاحبه، وذلك كاشتراط زيادة في المهر أو السكنى بمكان معين من جانب المرأة، وكاشتراط البكارة والنسب، من جانب الزوج.
2- أ ن وجوب الوفاء، شامل للشروط التي هي من مقتضى العقد، والتي من مصلحة أحد الزوجين.
3- يقيد عموم هذا الحديث بوجوب الوفاء بالشروط، بمثل حديث [لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها].
4- أن الوفاء بشروط النكاح آكد من الوفاء بغيرها، لأن عوضها استحلال الفروج.
5- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والصحيح الذي عليه أكثر نصوص أحمد و عليه أكثر السلف أن ما يوجب العقد لكل واحد من الزوجين على الآخر كالنفقة والاستمتاع والمبيت للمرأة وكالاستمتاع للزوج ليس بمقدر، بل المرجع في ذلك إلى العرف، كما دل عليه الكتاب في مثل قوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } والسنة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم لهند "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" وإذا تنازع الزوجان فرضه الحاكم باجتهاده.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بن عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا: أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهى عَنْ نِكاحِ الشغَارِ.
وَالشغَارُ: أنْ يُزَوجَ الرَّجُلُ ابنتَهُ عَلى أنْ يُزَوجَهُ الآخر ابنتهُ وَلَيس بيَنَهُمَا صَدَاقٌ .
الغريب:
الشغار: بكسر الشين المعجمة والغين المعجمة، أصله -في اللغة- الرفع، فأخذ منه صورة هذا النكاح لرفع كل واحد من الولييِن عن موليته لصاحبه بلا صداق ولا نفع يعود عليها.
المعنى الإجمالي:
(2/54)
________________________________________
الأصل في عقد النكاح أنه لا يتم إلا بصداق للمرأة، يقابل ما تبذله من بضعها.
ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا النكاح الجاهلي، الذي يظلم به الأولياء مولياتهم، إذ يزوجونهن بلا صداق يعود نفعه عليهن، وإنما يبذلونهن بما يرضى رغباتهم وشهواتهم، فيقدمونهن إلى الأزواج، على أن يزوجوهم مولياتهم بلا صداق.
فهذا ظلم وتصرف في أبضاعهن بغير ما أنزل الله. وما كان كذلك فهو محرم باطل.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهى عن نكاح الشغار، والنهى يقتضي الفساد، فهو غير صحيح.
2- أن العلة في تحريمه وفساده، هو خلوه من الصداق المسمى، ومن صداق المثل، وأشار إليه بقوله: [وليس بينهما صداق].
3- وجوب النصح للمولية. فلا يجوز تزويجها بغر كفء، لغرض الوَلي ومقصده.
4- بما أنهم جعلوا العلة في إبطال هذا النكاح، هي خُلُوُّهُ من الصداق، فإنه يجوز أن يزوجه موليته على أن يزوجه الآخر موليته بصداق غير قليل مع الكفاءة بين الزوجين والرضا منهما.
5- قوله: [والشغار: أن يزوج الرجل.. إلخ] قال ابن حجر: اختلفت الروايات عن مالك فيمن ينسب إليه تفسير الشغار، فالأكثر لم ينسبوه لأحد، وبهذا قال الشافعي، فقد قال: لا أدرى التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك وجعله بعضهم من تفسير نافع وليس خاصا بالابنة، بل كل مولية. وقال القرطبي: تفسير الشغار صحيح موافق لما ذكر أهل اللغة، فإن كان مرفوعا فهو المقصود. و إن كان من قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأفقه بالحال.
6- أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح، واختلفوا في بطلانه. فعند أبي حنيفة أن النكاح يصح ويفرض لها مهر مثلها.
وعند الشافعي وأحمد. أن النكاح غير صحيح، لأن النهيَ يقتضي الفساد.
(2/55)
________________________________________
وحكى في الجامع رواية عن الإمام أحمد بطلانه ولو مع صداق، اختارها (الخِرَقي) لعموم ما روى الشيخان عن ابن عمر. "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار" ومثله في مسلم عن أبي هريرة.
ولأن أبا داود جعل التفسير وهو قوله " وليس بينهما صداقط من كلام نافع.
واختار هذا القول العلامة الأثري ( الشيخ عبد العزيز بن باز ) حفظه الله في رسالة له في الأنكحة الباطلة. و الله أعلم.
الحديث الثالث
عَنْ عَلى بْنِ أبي طالب رَضيَ الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية.
المعنى الإجمالي:
سَن الشارع النكاح لقصد الاجتماع و الدوام، والألفة، وبناء الأسرة، وتكوينها.
ولذا كان أبغض الحلال إلى الله الطلاق، لكونه هدما لهذا البناء الشريف.
وكل قصد أو شرط يخالف هذه الحكمة من النكاح، فهو باطل.
و من هنا حرم نكاح (المتعة)، وهو أن يتزوج الرجل المرأة إلى أجل، بعد أن كان مباحا في أول الإسلام لداعي الضرورة.
ولكن ما في هذا النكاح من المفاسد، من اختلاط في الأنساب؛ واستئجار للفروج، ومجافاة للذوق السليم والطبيعة المستقيمة، هذه المفاسد ربَتْ على ما فيه من لذة قضاء الشهوة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم نكاح المتعة وبطلانه، وعليه أجمع العلماء. قال ابن دقيق العيد: وفقهاء الأمصار كلهم على المنع، وأكثر الفقهاء على الاقتصار في التحريم على العقد المؤقت.
2- كان مباحا في أول الإسلام للضرورة فقط، ثم جاء التأكيد والتأبيد لتحريمه ولو عند الضرورة.
3- نهى الشارع الحكيم عنه، لما يترتب عليه من المفاسد، منها:اختلاط الأنساب، واستباحة الفروج بغير نكاح صحيح.
4- النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية فهي رجس، بخلاف الحمر الوحشية، فهي حلال بالإجماع.
فائدة:
(2/56)
________________________________________
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل يسير في البلاد، ويخاف أن يقع في المعصية، فهل له أن يتزوج في مدة إقامته في تلك البلدة فإذا سافر طلق من تزوجها؟
فأجاب بأن له أن يتزوج، ولكن على أن ينكح نكاحا مطلقا، يمكنه من إمساكها أو تطليقها إن شاء، وإن نوى طلاقها حتما عند انقضاء سفره كره في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع.
ثم ببن رحمه الله رأيه في نكاح المنعة، فقال: إن قصد أن يستمتع بها إلى مدة ثم يفارقها، مثل المسافر إلى بلد يقيم به مدة فيتزوج وفي نيته إذا عاد إلى وطنه أن يطلقها، ولكن النكاح عقده عقداً مطلقا فهذا فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد.
1- قيل: هو نكاح جائز، وهو اختيار الموفق وقول الجمهور.
2- وقيل: إنه نكاح تحليل لا يجوز، وروى عن الأوزاعي ونصر القاضي و أصحابه.
3- وقيل مكروه وليس بمحرم.
والصحيح أن هذا ليس بنكاح متعة ولا يحرم، وذلك أنه قاصد للنكاح وراغب فيه، بخلاف المحلل، لكن لا يريد دوام المرأة معه وهذا ليس بشرط، فإن دوام المرأة معه ليس بواجب، بل له أن يطلقها، فإذا قصد أن يطلقها بعد مدة فقد قصد أمرا جائزا بخلاف نكاح المتعة، فإنه مثل الإجارة تنقضي فيه بانقضاء المدة، ولا ملك له عليها بعد انقضاء الأجل، وأما هذا فملكه ثابت مطلق، وقد تتغير بنية فيمسكها دائما، وذلك جائز له، كما لو تزوج بنية إمساكها دائماً، ثم بدا له طلاقها جاز ذلك.
اختلاف العلماء:
أجمع العلماء على تحريم هذا النكاح وبطلانه.
واختلفوا في الوقت الذي حرم فيه، تبعا للآثار التي وردت في تحريمه.
فبعضهم يرى أن التحريم كان يوم (خيبر) مستدلا بحديث الباب، ثم أنها أبيحت، ثم حرمت يوم فتح مكة.
(2/57)
________________________________________
وبعضهم يرى أنها لم تحرم إلا يوم الفتح، وقبله كانت مباحة، ويقولون: إن علياً رضي الله عنه لم يرد في هذا الحديث أن تحريم المتعة وقع مع تحريم لحوم الحمر الأهلية يوم (خيبر) وإنما قرنهما جميعا ردا على ابن عباس الذي يجيز المتعة للضرورة ويبيح لحوم الحمر الأهلية. وهذا القول أولى.
قال النووي: الصواب أن تحريمها وإباحتها وقعا مرتين فكانت مباحة قبل خيبر، ثم حرمت فيها، ثم أبيحت عام الفتح، وهو عام أوطاس، ثم حرت تحريما مؤبدا. قال: ولا مانع من تكرير الإباحة(1).
بَابُ ما جاء في الاستئمار وَالاستئذان
عَنْ أبي هريرة رَضيَ الله عَنْهُ أنَ رَسُولَ الله صلى لله عليه وسلم قَال: "لا تُنْكَحُ الأيِّمُ حَتى تستأمر، وَلا تُنْكَحُ البِكْرُ حَتًى تُستأذَن ، قالُوا: يا رسول الله، وَكيفَ إذنها ؟ قَال: أن تسكت".
الغريب:
الأيم : بفتح الهمزة وتشديد الياء التحتية المثناة، بعدها ميم، أشهر وأكثر ما تستعمل، في المرأة المفارقة من زوجها، وهو متعين هنا، لمقابلتها للبكر.
تستأمر : أصل الاستئمار: طلب الأمر. فالمعنى لا يعقد عليها إلا بعد طلب الأمر منها، وأمرها به.
لا تنكح : برفع الفعل المضارع بعد لا النافية، وإن كان الغرض النهي وهذا أسلوب معروف من أساليب البلاغة العربية.
المعنى الإجمالي:
عقد النكاح عقد خطير، يستبيح به الزوج أشد ما تحافظ عليه المرأة،: هو بضعها.
وتكون بهذا العقد أسيرة عند زوجها، يوجهها حيث يشاء ويريد، لهذا جعل لها الشارع العادل الرحيم الحكيم الأمر، في أن تختار شريك حياتها، وأن تصطفيه بنظرها. فهي التي تريد أن تعاشره، وهى أعلم بميولها ورغبتها.
فلهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوج الثيب حتى يؤخذ أمرها فتأمر.
كما نهى عن تزويج البكر حتى تستأذن في ذلك أيضا فتأذن.
__________
(1) أي في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم لا بعد التحريم المؤبد.
(2/58)
________________________________________
بما أنه يغلب الحياء على البكر، اكتفى منها بما هو أخف من الأمر، وهو الإذن، كما اكتفى بسكوتها، دليلا على رضاها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- النهي عن نكاح الثيب قبل استئمارها وطلبها ذلك وقد ورد النهى بصيغة النفي، ليكون أبلغ، فيكون النكاح بدونه باطلا.
2- النهْيُ عن نكاح البكر قبل استئذانها، ومقتضى طلب إذنها، أن نكاحها بدونه باطل أيضا.
3- يفيد طلب إذنها: أن المراد بها البالغة، وإلا لم يكن لاستئذانها فائدة، لو كان المراد الصغيرة. قال ابن دقيق العيد: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن، ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة، و يختص الحديث بالبوالغ، فيكون أقرب إلى التأكد وقال الشافعي في القديم: أستحب ألا تزوج البكر الصغيرة حتى تبلغ و تستأذن
4- عبر عن البكر بالاستئذان لغلبة الحياء عليها، فلا تكون موافقتها بأمر كالثيب.
5- يكفى في إذنها السكوت لحيائها -غالبا- عن النطق. و الأحسن أن يجعل لموافقتها بالسكوت أجلا، تعلم به أنها بعد انتهاء مدته يعتبر سكوتها إذنا منها وموافقة.
6- لا يكفي في استئمار الثيب واستئذان البكر مجرد الإخبار بالزواج، بل لا بد من تعريفها بالزوج تعريفا تاما، عن سنه، وجماله، ومكانته، ونسبه، وغناه، وعمله، وضد هذه الأشياء، وغير ذلك مما فيه مصلحة لها.
7- قال شيخ الإسلام: من كان لها ولي من النسب وهو العصبة فهذه يزوجها الولي بإذنها، ولا يفتقر ذلك إلى حاكم باتفاق العلماء. وأما من لا ولي لها فإن كان في القرية أو المحلة نائب حاكم زوجها، وهو أمير الأعراب ورئيس القرية وإذا كان فيهم إمام مطاع زوجها أيضا بإذنها. والله أعلم.
(2/59)
________________________________________
8- وقال شيخ الإسلام الإشهاد على إذن المرأة ليس شرطا في صحة العقد عند جماهير العلماء، وإنما فيه خلاف شاذ في مذهب أحمد والشافعي، والمشهور من المذهبين كقول الجمهور وأن ذلك لا يشترط والذي ينبغي لشهود النكاح أن يشهدوا على إذن الزوجة قبل العقد لوجوه ثلاثة، ليكون العقد متفقا على صحته، وللأمان من الجحود، وخشية أن يكون الولي كاذبا في دعوى الاستئذان.
اختلاف العلماء:
ليس هناك نزاع بين العلماء، في أن البالغة العاقلة الثيب لا تجبر على النكاح ودليل ذلك واضح.
وليس هناك نزاع أيضا في أن البكر التي دون التسع، ليس لها إذن، فلأبيها تزويجها بلا إذنها ولا رضاها بكفئها. قال شيخ الإسلام فإن أباها يزوجها ولا إذن لها.
ودليلهم زواج عائشة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم وهى ابنة ست. واختلفوا في البالغة.
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن لأبيها إجبارها، وهو مذهب مالك، والشافعي، وإسحاق.
ودليلهم ما رواه داود عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليهوسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن وإذنها صِماتها(1)". فحيث قسم النساء قسمين، وأثبت لأحدهما الحق، دل على نفيه عن الآخر وهو البكر، فيكون وليها أحق منها.
الرواية الثانية عن الإمام أحمد، ليس له إجبارها وهو مذهب الإمام أبي حنيفة والأوزاعى، والثوري، وأبي ثور.
واختار هذه الرواية من الأصحاب: أبو بكر، والشيخ تقي الدين ابن تيميه، وابن القيم وصاحب الفائق، وشيخنا (عبد الرحمن آل سعدي) ومال إليه الشيخ عبد الله أبا بطين، مفتى الديار النجدية في زمنه.
ودليل هذا القول، حديث الباب، إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تزويجها بدون إذنها، ولو لم يكن إذنها معتبراً، لما جعله غاية لإنكاحها.
__________
(1) بكسر الصاد:- هو السكوت.
(2/60)
________________________________________
وبما رواه أبو داود، وابن ماجة، عن ابن عباس: أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهى كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأذن".
ففي حديث الباب النهيُ، وحديث الجارية فيه الحكم بخيارها، وفى الحديث الثالث، الأمر باستئذانها وهو يقتضي الوجوب.
وهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الشرع الحكيمة العادلة.
فإذا كان أبوها لا يتصرف بالقليل من مالها بدون إذنها، فكيف يكرهها على بَذْل بضعها وَعشرةِ من تكرهه، ولا ترغب في البقاء معه؟.
إن إرغامها على الزواج بمن تكره، هو الحبس المظلم لنفسها، وقلبها، وبدنها وعقلها.
والقول به، ينافي العدل والحكمة.
وما الفرق بينها وبين الثيب، التي عرفوا لها هذا الحق؟.
إن التفريق بينهما، من التفريق بين المتماثلين، الذي يأباه القياس.
وما استدل به للقول الأول من قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها" مفهوم، وعلى القول بكونه حجة، فدليل المنطوق مقدم عليه.
تتمة:
عقد النكاح، كبير خطير، وضرره ونفعه عائد على الأسرة كلها. لذا أرى العمل بقوله تعالى {وأمرهم شورى بينهم} وهو أن يبحث من أطرافه، ويتدوال الرأي فيه بين جميع أفراد الأسرة المعتبرين، وأن يستخيروا الله تعالى، ويسألوه التسديد والتوفيق، ويعملوا بما يرون أنه الأحسن والأولى.
ويكون للزوجة الرأي الأخير بعد تعريفها وتفهيمها. وإذا تم على هذا، فهو أحرى أن يؤدم بين الزوجين والأسرتين.
بَابُ لا ينكح مطَلقته ثَلاثاً حتى تنكح زوجاً غيره
عَن عَاِئشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَت: جَاءتِ امْرَأةُ رِفَاعَةَ القُرَظِي إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَت: كُنْتُ عِندَ رِفَاعَةَ القُرَظِي فَطَلقني فَبَتَّ طلاقي فتزوَّجت بَعْدَهُ عَبْدَ الرحمن بنَ الزُّبير وإنَّمَا مَعَهُ مِثلُ هُدْبَةِ الثوبِ.
(2/61)
________________________________________
فَتَبَسَّمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "أتريدين أنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لا، حَتَّى تَذوقي عُسيلَتَهُ وَيَذُوق عُسَيْلَتك".
فَقَالَت: وأبو بَكر عِنْدَه، وخالد بنُ سَعِيدٍ بالبابِ يَنتظِرُ أنْ يُؤذَنَ لَهُ، فنادى: "يَا أبَا بَكْر، ألا تَسْمَعُ إلى هذِهِ مَا تَجْهَرُ بهِ عِنْدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم؟.
الغريب:
فبت طلاقي: بتشديد التاء المثناة. أصله: القطع، والمراد طلقها الطلقة الأخيرة من الطلقات الثلاث، كما في صحيح مسلم "فطلقها آخر ثلاث تطليقات(1).
الزبيِر: بفتح الزاي، بعدها باء مكسورة، ثم ياء، ثم راء.
هُدْبة: بضم الهاء، وإسكان الدال. بعدها موحدة: هي طرف الثوب الذي لم ينسج، شبهوها بهدب العين. أرادت أن ذَكرَه، يشبه الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار.
عسَيلته: بضم العين، وفتح السين. تصغير عسلة، وهي كناية عن الجماع. شبه لذته بلذة العسل وحلاوته.
المعنى الإجمالي:
جاءت امرأة رفاعة القرظي شاكية حالها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فأخبرته أنها كانت زوجاً لرفاعة، فبتَّ طلاقها بالتطليقة الأخيرة، وهي الثالثة من طلقاتها، وأنها تزوجت بعده (عبد الرحمن بن الزبِير) فلم يستطع أن يمسها لأن ذكرَه ضعيف رِخْو، لا ينتشر.
فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم من جهرها وتصريحها بهذا الذي تستحي منه النساء عادة، وفهم أن مرادها، الحكم لها بالرجوع إلِى زوجها الأول رفاعة. حيث ظنت أنها بعقد النكاح من عبد الرحمن قد حلت له.
__________
(1) ذهل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد عن هذه الرواية التي ساقها المصنف محتملة لإرسال الثلاث دفعة، ومحتملة لأن تكون آخر طلقة، و محتملة لأن يكون بإحدى الكنايات التي تحمل على البينونة عند بعض الفقهاء. ولو فطن لهذه الرواية، لعلم أنها مفسرة لها، وأن المراد- هنا- طلقها الثالثة من التطليقات- ا هـ . شارح.
(2/62)
________________________________________
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى عليها ذلك، وأخبرها بأنه لابد- لحل رجوعها إلى رفاعة- من أن يطأها زوجها الأخير.
وكان عند النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر، وخالد بن سعيد، بالباب ينتظر الإذن بالدخول فنادى خالد أبا بكر، متذمرا من هذه المرأة التي تجهر بمثل هذا الكلام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا، لما له في صدورهْم من الهيبة والإجلال. صلى الله عليه وسلم ورضي اللَه عنهم وأرضاهم، ورزقنا الأدب معه، والإتباع له.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن المراد ببَت الطلاق هنا، الطلقة الأخيرة من الثلاث، كما بينته الرواية الأخرى كما تقدم في شرح [ الغريب].
2- أنه لا يحل بعد هذا البت المذكور هنا أن ينكحها زوجها، الذي بت طلاقها إلا بعد أن تتزوج غيره، ويطأها الزوج الثاني، فيكون المراد بقوله تعالى: {حَتى تَنكِح زوجا غَيْرَهُ } الوطء، لا مجرد العقد قال ابن المنذر: أجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول، فلا تحل له حتى يجامعها الثاني.
3- المراد بالعسيلية، اللذة الحاصلة بتغيب الحشفة ولو لم يحصل إنزال مَني، وعليه إجماع العلماء، فلابد من الإيلاج لأنه مظنة اللذة.
4- أنه لابد من الانتشار، وإلا لم تحصل اللذة المشترطة.
5- أنه لا بأس من التصريح بالأشياء التي يستحي منها للحاجة، فقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وتبسم من كلامها.
6- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وطيب نفسه. اللهم ارزقنا اتباعه، والإقتداء به. آمين.
اختلاف العلماء:
موضع ذكر هذا الخلاف هو (باب الطلاق) وبما أن المؤلف لم يأت هناك بما يشير إليه وجاءت مناسبته هنا، فإني أذكره لقوته، وللحاجة إليه.
(2/63)
________________________________________
فقد اختلف العلماء فيمن أوقع الطلاق الثلاث دفعة واحدة، أو أوقعها بكلمات ثلاث لم يتخللها رجعة، فهل تلزمه الطلقات الثلاث، فلا تحل له زوجته إلا بعد أن تنكح زوجا غيره، وتعتد منه، أم أنها تكون طلقة واحدة، له رجعتها مادات في العدة، وبعد العدة يعقد عليها ولو لم تنكح زوجاً غيره؟.
اختلف العلماء في ذلك اختلافا طويلا عريضا، وعُذب من أجْل القول بالرجعة بها جماعة من الأئمة والعلماء، منهم شيخ الإسلام، ابن تيميه، وبعض أتباعه.
وما ذلك إلا لأن القول بوقوعها، هو المشهور من المذاهب الأربعة. وكأن من خرج عنها لقوة دليل أو لاتباع إمام من سَلَفِ الأمة ليس على الحق. قاتل الله التعصب والهوى، وهى مسألة طويلة.
ولكننا -نسوق- هنا- ملخصا فيه الكفاية.
ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة، وجمهور الصحابة والتابعين: إلى وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة إذا قال (أنت طالق ثلاثا) ونحوه أو (بكلمات) ولو لم يكن بينهن رجعة.
ودليلهم حديث ركانة بن عبد الله (أنه طلق امرأته البتة) فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " والله ما أردتَ إلا واحدة؟ ".
قال ركانة: (والله ما أردتُ إلا واحدة) يستحلفه ثلاثا.
وهذا الحديث أخرجه الشافعي، وأبو داود، والترمذي وصححه، و ابن حبان، و الحاكم.
ووجه الدلالة من الحديث، استحلافه صلى الله عليه وسلم للمطلق أنه لم يرد بالبتة إلا واحدة، فدل على أنه لو أراد بها أكثر، لوقع ما أراده.
واستدلوا أيضا بما في صحيح البخاري عن عائشة " أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت فطلقت".
فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟.
قال: " لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول" ولو لم تقع الثلاث لم يمنع رجوعها إلى الأول إلا بعد ذوق الثاني عسيلتها.
واستدلوا أيضا بعمل الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم على إيقاع الثلاث بكلمة واحدة ثلاثا، كما نطق بها المطلق. وكفى بهم قدوة وأسوة.
(2/64)
________________________________________
ولهم أدلة غير ما سقْنَا، ولكن ما ذكرنا، هو الصريح الواضح لهم.
وذهب جماعة من العلماء: إلى أن موقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة، أو بكلمات لم يتخللها رجعة، لا يقع عليه إلا طلقة واحدة. وهو مروي عن الصحابة، والتابعين، وأرباب المذاهب.
فمن الصحابة القائلين بهذا القول، أبو موسى الأشعري، وابن عباس، و عبد الله بن مسعود، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.
ومن التابعين، طاوس، وعطاء، وجابر بن زيد، وغالب أتباع ابن عباس، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن إسحاق.
ومن أرباب المذاهب، داود وأكثر أصحابه، وبعض أصحاب أبي حنيفة، و بعض أصحاب مالك، و بعض أصحاب أحمد، منهم المجد عبد السلام بن تيميه، وكان يفتي بها سرا، وحفيده شيخ الإسلام (ابن تيميه) يجهر بها ويفتي بها في مجالسه، وقد عذِّبَ من أجل القول بها، هو وكثير من أتباعه.
ومنهم ابن القيم الذي نصرها نصرا مؤزرا في كتابيه [ الهدى] و[ أعلام الموقعين] فقد أطال البحث فيها، واستعرض نصوصها، وردَ على المخالفين بما يكفى و يشفى.
واستدل هؤلاء بالنص، والقياس.
فأما النص، فما رواه مسلم في صحيحة [أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وفي صدر من إمارة عمر؟ قال: نعم] وفي لفظ [ ترد إلى واحدة؟ قال: نعم].
فهذا نص صحيح صريح، لا يقبل التأويل والتحويل.
وأما القياس، فإن جَمْعَ الثلاث محرم وبدعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد] وإيقاع الثلاث دفعة واحدة ليس من أمر الرسول، فهو مردود مسدود.
وأجاب هؤلاء عن أدلة الجمهور بما يأتي.
أما حديث ركانة، فقد ورد في بعض ألفاظه (أنه طلقها ثلاثا) وفى لفظ (واحدة) وفى لفظ (البتة) ولذا قال البخاري: إنه مضطرب.
وقال الإمام أحمد: طرقه كلها ضعيفة، وقال بعضهم: في سنده مجهول، وفيه من هو ضعيف متروك.
(2/65)
________________________________________
قال شيخ الإسلام: وحديث ركانة ضعيف عند أئمة الحديث، ضعفه أحمد والبخاري وأبو عبيد وابن حزم بأن رواته ليسوا موصوفين بالعدل والضبط. وأما حديث عائشة فالاستدلال به غير وجيه، إذ من المحتمل مرادها بالثلاث نهاية ما للمطلق من الطلقات الثلاث، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال، وهو مجمل يحمل على حديث ابن عباس المبين كما جاء في الأصول.
وأما الاستدلال بعمل الصحابة، فما أولاهم بالاقتداء والاتباع.
ونحن نقول: إنهم يزيدون عن مائة ألف، وكل هذا الجمع الغفير- وأولهم نبيهم- يعدون الثلاث واحدة حتى إذا توفى صلى الله عليه وسلم وهي على ذلك، وجاء خليفته الصديق فاستمرت الحال على ذلك حتى توفى، وخلفه عمر رضي الله عنه، فمضى صدر خلافته والأمر كما هو على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصديق، بعد ذلك جعلت الثلاث واحدة كما بَينا سببه وبيانه.
فصار جمهور الصحابة ممن قضى نحبه قبل خلافة عمر، أو نزحت به الفتوحات فبل مجلسه الذي عقده لبقية الصحابة المقيمين عنده في المدينة.
فعلمنا -حينئذ- أن الاستدلال بعمل الصحابة منقوض بما يشبه إجماعهم في عهد الصديق على خلافه.
وعمل عمر بن الخطاب رضي اللَهْ تعالى عنه حاشاه وحاشا من معه أن يعملوا عملا يخالف ما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رأى أن الناس تعجلوا، وأكثروا من إيقاع الطلاق الثلاث وهو بدعة محرمة، فرأى أن يلزمهم بما قالوه، تأديبا وتعزيرا على ما ارتكبوا من إثم، وما أتوه عن ضيق هم في غنى عنه ويسر وسعة.
وهذا العمل من عمر رضي الله عنه اجتهاد من اجتهاد الأًئمة، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، ولا يستقر تشريعاً لازما لا يتغير، بل المستقر اللازم هو التشريع الأصلي لهذه المسألة.
(2/66)
________________________________________
قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإن طلقها ثلاثا في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات، مثل (أنت طالق ثلاثا) أو (أنت طالق وطالق وطالق) أو (أنت طالق ثم طالق ثم طالق) أو يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق، ثم يقول: أنت طالق. أو عشر طلقات، أو مائة طلقة، ونحو ذلك من العبارات. فهذا للعلماء من السلف والخلف فيه ثلاثة أقوال، سواء كانت مد خولا بها أو غير مدخول بها.
أحدها: أنه طلاق مباح لازم، وهو قول الشافعي وأحمد في الرواية القديمة عنه، اختارها الخرقي.
الثاني: أنه طلاق محرم لازم، وهو. قول مالك وأبي حنيفة وأحمد، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف والخلف من الصحابة والتابعين.
الثالث: أنه محرم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة، وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف من الصحابة، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد.
وهذا القول (الثالث) هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة. وليس في الكتاب والسنة مايو جب الإلزام بالثلاث بمن أوقعها جملة بكلمة أو كلمات بدون رجعة أو عقد. بل إنما في الكتاب والسنة الإلزام بذلك من طلق الطلاق الذي أباحه الله ورسوله. وعلى هذا يدل القياس والاعتبار بسائر أصول الشرع... (و) لا نزاع بين المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يبلغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضا معصومة أن تجتمع على ضلالة.
(2/67)
________________________________________
وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر: والفرق ظاهر بين الطلاق والحلف به، وبين النذر والحلف بالنذر، فإذا كان الرجل يطلب من الله حاجة فقال: إن شفى الله مريضي أو قضى دينيٍ أو خلصني من هذه الشدة فلله علي أن أتصدق بألف درهم أو أصوم شهرا أو أعتق رقبة، فهذا تعليق نذر يجب عليه الوفاء به بالكتاب والسنة والإجماع. وإذا علق النذر على وجه اليمين فقال: إن سافرت معكم أو إن زوجت فلانا فعلي الحج، أو فمالي صدقة، فهذا عند الصحابة وجمهور العلماء هو حالف بالنذر ليس بناذر، فإذا لم يف بما الزمه أجزأه كفارة يمين.
هذه خلاصة سقناها في بيان هذه المسألة الشهيرة الطويلة الأطراف.
وعلى كلا القولين، فالقول به لا يوجب هذه الثورات التي قسمت المسلمين طالما أنها مسألة فرعية خلافية. والله أعلم.
باَبُ عشرَة النسَاء
في هذا الباب يتكلم العلماء على معاشرة كل واحد من الزوجين لصاحبه.
فيبينون شيئا من حقوق الرجل، وبعضا من حقوق المرأة على زوجها، وقد تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك في مقدمة [ كتاب النكاح].
وخلاصة ما نقوله هنا: أن لكل من الزوجين على صاحبه حقوقا، فليحرص كل منهما على أداء ما عليه، تاما غير منقوص.
ومع هذا فالأولى أن لا يشدد صاحبها باستيفائها واستقصائها.
فإذا راعى كل واحد منهما هذه المعاملة الرشيدة الحكيمة، استقامت أمورهم وصلحت أحوالهم.
وإن تشدد كل منهما في طلب حقه كاملا، وتساهل من عليه الحق في أدائه، فثمرة ذلك العيش النكد، والعشرة المُرة، التي يعقبها الفراق، و تفكك الأسر، وينزع عنهم الرحمة، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو (سمح إذا قضى، سمح إذا اقتضى).
الحديث الأول
(2/68)
________________________________________
عَنْ أنَس بن مالك رَضي الله عَنْهُ قَالَ: مِن السنةِ إذَا تزَوَّجَ البِكْرَ عَلى الثيب أقَامَ عِنْدَهَا سبعا ثم قَسَمَ. وإذَا تَزَوج الثيبَ أقام عِنْدَهَا ثَلاثاً ثُم قَسَم. قَالَ أبو قِلابَة: ولَو شئتُ لقُلْتُ: إنَ أنَسا رفَعَهُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
المعنى الإجمالي:
العدل في القسم بين الزوجات واجب، والميل إلى إحداهن ظلم. ومن مال جاء يوم القيامة وشِقه مائل، وذلك من جنس عمله.
فيجب العدل بينهن فيها هو من مُكْنة الإنسان وطاقته.
وما لا يقدر عليه -مما هو في غير استطاعته كالوطء ودواعيه مما يكون أثر المحبة- فهذا خارج عن طوقه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ومن القَسْمِ الواجب، ما ذكر في هذا الحديث، من أنه إذا تزوج البكر على الثيب، أقام عندها سبعا يؤنسها، ويزيل وحشتها وخجلها، لكونها حديثة عهد بالزواج، ثم قسم لنسائه بالسوية.
وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا، لكونها أقل حاجة إلى هذا من الأولى.
وهذا الحكم الرشيد، جَاء في هذا الحديث الذي له حكم الرفع، لأن الرواة إذا قالوا: من السنة، فلا يقصدون إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثاني
عَنِ ابنِ عباس رضي الله عَنْهمَا قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحَدَكُم إذَا أرَادَ أن يأتي أهْلَهُ قَال: بسْمِ الله، اللَّهمَّ جنبنا الشيطان وجَنبِ الشيطَانَ ما رزقتنا فَإنهُ إن يقدر بَينهُمَا وَلَدْ في ذلك لم يضره الشيطان أبَدَاً".
المعنى الإجمالي:
يبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف شيئا من آداب الجماع، وهو أنه ينبغي للرجل إذا أراد جماع زوجته أو أمته أن يقول: "بسم اللّه" فإن كل أمر لا يبدأ فيه بـ "بسم الله" فهو أبتر.
(2/69)
________________________________________
وأن يقول الدعاء النافع "اللَّهُم جَنبْنَا الشيطان وَجَنب الشيطان مَا رَزَقْتَنَا" فإن قدر الله تعالى لهما ولدا من ذلك الجماع، فسَيكون -ببركة اسم الله تعالى وهذا الدعاء المبارك- في عصمة، فلا يضره الشيطان.
وبمثل هذه الآداب الشريفة تكون عادات الإنسان عبادات، حينما تقترن بالآداب الشرعية، والنية الصالحة في إتيان هذه الأعمال.
تنبيه:
ذكر القاضي عياض: أنه لم يحمل هذا الحديث على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء. ذكر (ابن دقيق العيد) أنه يحتمل حمله على عموم الضرر، حتى الديني، ويحتمل أن يؤخذ خاصا بالنسبة للضرر البَدَني، وقال: هذا أقرب، وإن كان التخصيص على خلاف الأصل، لأننا لو حملناه على العموم، اقتضى ذلك أن يكون. معصوما من المعاصي كلها، وقد لا يتفق ذلك، ولابد من وقوع ما أخبر به صلى الله عليهوسلم .
وأحسن ما يقال في هذا المقام وأمثاله: أن الشارع جعل لكل شيء أسبابا ومواقع.
فإن وُجِدَت الأسباب، وانتفت الموانع، وُجدَ المسبب الذي رتب عليه.
وإن لم توجد الأسباب، أو وجِدَتْ، ولكن حصلت معها الموانع، لم يقع.
فهنا قد يُسَمي المجامع، ويستعيذ، ولكن توجد موانع تقتضي إبطال السبب أو ضعفه، فلا تحقق المطلوب.
وبهذا يندفع الإشكال الذي تحير فيه (تقي الدين بن دقيق العيد) في هذه المسألة.
فائدة:
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وأما العزل فقد حرمه طائفة من العلماء، لكن مذهب الأئمة الأربعة أنه يجوز بإذن المرأة.
فائدة ثانية:
وقال أيضا: المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب، فليس لها أن تخرج من منزله إلا بإذنه، سواء أمرها أبوها أو أمها باتفاق الأئمة. وإذا أراد الرجل أن ينتقل بها من مكان إلى مكان آخر مع قيامه بما يجب عليه وحفظ حدود الله فيها ونهاها أبوها عن طاعته في ذلك، فعليها أن تطيع زوجها دون أبويها، فإن الأبوين هما ظالمان، ليس لهما أن ينهياها عن طاعة مثل هذا الزوج.
(2/70)
________________________________________
بَابُ النّهي عن الخلْوَة بِالأجنبية
عَنْ عُقْبَةَ بن عَامِر: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إياكم وَالدُّخُولَ عَلَى النسَاءَ ".
فَقَالَ رجل مِنَ الأنصار: يا رسول اللّه، أفرأيت الْحَموَ؟ قَالَ: "الحموُ الْمَوتُ".
ولـ (مسلم) عن أبى الطَّاهِرِ عنِ ابن وهْبٍ قَالَ: سمعت الليثَ يَقُولُ: الحَمْوُ أخو الزَّوْجِ وَمَا أشبهه مِن أقَارِب الزوْج، ابن الْعَمٌ وَنَحْوه.
الغريب:
إياكم : مفعول بفعل مضمر، تقديره، اتقُوا الدخول. نصب على التحذير، وهو:- تنبيه المخاطب على محذور، ليتحرز عنه.
وتقدير الكلام: قوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء،: النساء أن يدخلن عليكم.و (الدخول) معطوف على المنصوب.
أرأيت الحمو : يعنى أخبرنا عن حكم خلوة الحمو.
والحمو : بفتح الحاء وضم الميم وبعدها واو لم يهمز، هو: قريب الزوج، من أخ، وابن عم، ونحوهما. قال النووي: اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة، كأبيه وعمه وأخيه وابن عمه ونحوهم.
الحمو الموت : شبه (الحمو) بالموت، لما يترتب على دخوله الذي لا ينكر، من الهلاك الديني. قال في فتح الباري: والعرب تصف الشيء المكروه بالموت.
المعنى الإجمالي:
يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول على النساء الأجنبيات، والخلوة بهن، فإنه ماخلا رجل بامرأة، إلا كان الشيطان ثالثهما فإن النفوس ضعيفة، والدوافع إلى المعاصي قوية،فتقع المحرمات، فنهى عن الخلوة بهن ابتعادا عن الشر وأسبابه.
فقال رجل: أخبرنا يا رسول الله، عن الحمو الذي هو قريب الزوج، فربما احتاج، إلى دخول بيت قريبه الزوج وفيه زوجته، أما له من رخصة؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت، لأن الناس قد جروا على التساهل بدخوله، وعدم استنكار ذلك، فيخلو بالمرأة الأجنبية، فربما وقعت الفاحشة وطالت على غير علم ولا ريبه، فيكون الهلاك الديني، والدمار الأبدي، فليس له رخصة، بل احذروا منه ومن خلواته بنسائكم، إن كنتم غيورين.
(2/71)
________________________________________
ما يستفاد من الحديث:
1- النهي عن الدخول على الأجنبيات والخلوة بهن، سدا لذريعة وقوع الفاحشة.
2- أن ذلك عام في الأجانب من أخي الزوج وأقاربه، الذين ليسوا محارم للمرأة. قال ابن دقيق العيد: ولا بد من اعتبار أن يكون الدخول مقتضيا للخلوة، أما إذا لم يقتض ذلك فلا يمتنع.
3- التحريم -هنا- من باب تحريم الوسائل، والوسائل لها أحكام المقاصد.
4- الابتعاد عن مواطن الزلل عامة، خشية الوقوع في الشر.
5- قال شيخ الإسلام: كان عمر بن الخطاب يأمر العزاب ألا يسكنوا بين المتأهلين، وألا يسكن المتأهل بين العزاب، وهكذا فعل المهاجرون لما قدموا المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
بَابُ الصَّدَاق
هو العِوَضُ الذي في النكاح أو بعده، للمرأة. بمقابل استباحة الزوج بضعها وله عدة أساء، وفيه عدة لغات.
وهو مشروع فْي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَآتوا النِّسَاءَ صَدُقاتهِن نِحْلَة} وغيرها من الآيات.
وأما السنة، ففعله، وتقريره، وأمره. كقوله: "التمس ولو خاتما من حديد".
و أجمع العلماء على مشروعيته، لتكاثر النصوص فيه.
وهو مقتضي القياس، فإنه لابد من الاستباحة بالنكاح، ولابد لذلك من العوض.
ولم يجعل الشرع حدا لأكثره ولا لأقله، إلا أنه يستحب تخفيفه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أعظم النساء بركة، أيسرهن مؤنة".
ولما رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب قال: "ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه "، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية".
والصالح العام يقتضي تخفيفه، فإن في ذلك مصلحة كبيرة للزوجين وللمجتمع.
فكم من نساء جلسن بلا أزواج، وكم من شبان، قعدوا بلا زوجات. بسبب المغالاة في المهور والنفقات، التي خرجت إلى حَد السرف والتبذير.
وجلوس الجنسين بلا زواج، يحملهم على ارتكاب الفواحش والمنكرات.
(2/72)
________________________________________
وكم من مفاسد وأضرار، تولدت عن هذا السرف، فمنها الاجتماعية، و الأخلاقية، والمالية وغيرهما.
وإذا بلغت الحال إلى ما نرى ونسمع، فالذي نعتقد أنه لابد من تدخل الحكومات في هذه المسألة، لِحَل هذه الأزمة، وإلزام الناس بطرق عادلة مستقيمة، والله ولي التوفيق.
الحديث الأول
عَن أنَس بن مَالِكٍ رَضي الله عَنْة أن النبي صلىالله عليه وسلم أعتَقَ صَفيةَ وَجَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
المعنى الإجمالي:
كانت صفية بنت حُيي، أحد زعماء بنى النضير وكانت زوجة كنانة بن أبي الحقيق فقتل عنها يوم خيبر.
وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم (خيبر) عنوة، فصار النساء والصبيان أرقاء للمسلمين بمجرد السبي.
ووقعت صفية في قسم دِحْيةَ بن خليفة الكلبي، فعوضه عنها غيرها واصطفاها لنفسه، جبراً لخاطرها، ورحمة بها لعزها الذاهب.
ومن كرمه إنه لم يكتف بالتمتع بها أمة ذليلة، بل رفع شأنها، بإنقاذها من ذُل الرقِّ وجعلها إحدى أمهات المؤمنين.
وذلك: أنه أعتقها، وتزوجها، وجعل عتقها صداقها.
ما يؤخذ من الحديث:
1- جواز عتق الرجل أمته، وجعل عتقها صداقاً لها، و تكون زوجته.
2- أنه لا يشترط لذلك إذنها ولا شهود، ولا ولي، كما لا يشترط التقيد بلفظ الإنكاح، ولا التزويج.
3- فيه دليل على جواز كون الصداق منفعة دينية أو دنيوية:
4- و في مثل هذه القصة في زواج النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على كمال رأفته وشفقته وعمله بما يقول، حيث قال: "ارحموا عزيز قوم ذل".
فهذه أرملة فقدت أباها مع أسرى بني قريظة المقتولين، وزوجها في معركةْ خيبر وهما سيدا قومهما، ووقعت في الأسر والذل. وبقاؤها تحت أحد أتباعه زوجة أو أمة، ذل لها وكسر لِعزها، ولا يرفع شأنها، ويجبر قلبها إلا أن تنقل من سيد إلى سيد، فكان هو أولى بها.
(2/73)
________________________________________
وبهذا تعلم أن هذا التعدد الذي وقع له صلى الله عليه وسلم في الزوجات، ليس إرضاء لرغبة جنسية، كما يقول أعداء هذا الدين و الكائدون له، وإلا لقصد إلى الأبكار الصغار، ولم يكن زواجه من ثيبات انقطعن لفقد أزواجهن.
ولو استعرضنا قصة زواجه بهن، واحدة واحدة، لوجدنها لا تخرج عن هذه المقاصد الرحيمة النبيلة، فحاشاه وما أبعده عما يقول المعتدون الظالمون!! وقد صنف في هذا الموضوع عدد من الكتاب المحدثين مثل عباس محمود العقاد وبنت الشاطئ.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في جواز جعل العتق صداقا.
فذهب الإمام أحمد وإسحاق: إلى جوازه، عملا بقصة زواج صفية، وبأنه القياس الصحيح، لأن السيد مالك لرقبة أمَته ومنفعتها ومنفعة وطئها.
فإذا أعتقها واستبقى شيئا من منافعها، التي هي تحت تصرفه، فما المانع من ذلك، وما هو المحذور؟
وذهب الأئمة الثلاثة: إلى عدم جواز ذلك. وتأولوا الحديث بما يخالف ظاهره، أو حملوه على الخصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم.
وحمل الحديث على خلاف ظاهره أو جعله خاصا، يحتاج إلى بيان ودليل، لأن الأصل بقاء الحديث على الظاهر، كما أن الأصل في الأحكام، العموم. ولو كان خاصا، لنقِل.
الحديث الثاني
عَنْ سَهل بن سَعدٍ الساعِدِي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتَقَ صَفيةَ وَجَعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا.
أن رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جَاءَتهُ امرَأة فَقَالت: إني وَهَبْت نَفْسي لَكَ، فَقَامَتْ طَوِيلا.
فقال رَجُل: يا رسول الله، زوجنيها إنْ لَم يَكُنْ لَك بِهَا حَاجَة.
فَقَالَ: "هَلْ عِنْدَكَ مِِن شيء تُصْدِقُهَا" ؟ فقال: مَا عِنْدِي إلا إزاري هذَا.
فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنْ أعطَيتَهَا إزَارَكَ جَلستَ وََلا إزارَ لكَ، فَالتمس ِ شيئَاً".
قالَ: مَا أجِدُ، قالَ: (التمس ولو خاتما مِنْ حديد).
فَالتمس فََلم يَجِد شَيئاً.
(2/74)
________________________________________
فَقَال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هَل مَعَكَ شيء مِنَ القُرآنِ "؟ قال: نعم.
فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "زَوجتُكَهَا بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآن".
المعنى الإجمالي:
خُص النبي صلى الله عليه وسلم بأحكام ليست لغيره.
منها: تزوجه من تهب نفسها له بغير صداق، كما في آية الأحزاب {وامرأةً مُؤمنَة إن وَهبتْ نَفْسَهَا للنبي إن أرَادَ النبي أن يسَتنْكِحَهَا خالصة لَك مِنْ دونِ المُؤمِنينَ} فجاءت هذه المرأة واهبة نفسها، لعلها تكون إحدى نسائه.
فنظر إليها فلم تقع في نفسه، ولكنه لمْ يردها، لئلا يخجلها، فأعرض عنها، فجلست، فقال رجل: يا رسول الله، زَوجْنيهَا إن لم يكون لك بها حاجة.
وبما أن الصداق لازم في النكاح، قال له: هل عندك من شيء تصدقها؟.
فقال: ما عندي إلا إزاري.
إذا أصدقها إزاره يبقى عريانا لا إزار له، فلذلك قال له: "التمس، ولو خاتَماً من حديد".
فلما لم يكن عنده شيء قال: "هل معك شيء من القرآن؟" قال: نعم.
قال صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن، تعلمها إياه، فيكون صداقها.
ما يستفاد من الحديث:
1- جواز عرض المرأة نفسها، أو الرجل ابنته، على رجل من أهل الخير والصلاح.
2- جواز نظر من له رغبة في الزواج إلى المرأة التي يريد الزواج منها، والحكمة في ذلك، ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: "انظر إليها، فهو أحرى أن يؤدم بينكما".
والمسلمون -الآن- بين طَرَفَيْ نقيض.
فمنهم: المتجاوزون حدود الله تعالى، بتركها به خطيبها في المسارح، و المتنزهات، و ا لمرحلات، و الخلوات.
ومنهم: المقضرون الذين يُكِنونَها فلا يصل إلى رؤيِتها من يريد الزواج. وسلوك السبيل الوسط هو الحق كما قال تعالى: { وَكَان بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً }.
3- ولاية الإمام على المرأة التي ليس لها ولي من أقربائها.
4- أنه لابد من الصداق في النكاح، لأنه أحد العوضين.
(2/75)
________________________________________
5- يجوز أن يكون يسيرا جداً للعجز لقوله: "ولو خاتما من حديد". على أنه يستحب تخفيفه للغني والفقير. لما في ذلك من المصالح الكثيرة وقد تقدم بيات ذلك.
6- الأولى ذكر الصداق في العقد ليكون، أقطع للنزاع، فإن لم يذكر، صح العقد، ورجع إلى مهر المثل.
وجرت العادة الآن، أن يرسله الرجل إلى المرأة قبل العقد، فترضى به المرأة وأهلها، وبعد الرضا يكون العقد، فحينئذ لا يكون ثم حاجة إلى ذكره في العقد.
7- أن خطبة العقد لا تجب، حيث لم تذكر في هذا الحديث.
8- أنه يصح أن يكون الصداق منفعة، كتعليم قرآن، أو فقه، أو أدب، أو صنعة، أو غير ذلك من المنافع.
ومنع بعضهم إصداق تعليم القرآن، بدعوى الخصوصية لهذا الرجل، أو التأويل، بأن تزويجه بها لكونه من أهل القرآن.
وليس بشيء لأن الأصل أن الأحكام عامة وأنه قد ورد في ألفاظ الحديث" فَعَلمْهَا من القرآن".
9- أن النكاح ينعقد بكل لفظ دال عليه.
والدليل على ذلك، ألفاظ الحديث. فقد ورد بلفظ "زوجتكها" وبلفظ "مَلَّكْتُكَهَا" وبلفظ "أمكَناكَهَا".
والذين قيدوا العقد بلفظ خاص، يرجحون لفظ التزويج على غيره. قال ابن حجر: الذي تحرر مما قدمته أن الذين رووه بلفظ التزويج أكثر عددا ممن رووه بغير لفظ التزويج ولا سيما وفيهم من الحفاظ مثل ذلك.
وما دام ورد في ألفاظ الحديث -وهو محتمل- فليس هناك مانع من أن الألفاظ الثلاثة وقعت بمناسبة سياق الكلام.
والمحاورة مع الخاطب وألفاظ العقود والفسوخ في جميع المعاملات، ليست ألفاظاً مقيداً بها، كالأذان وتكبير الصلاة، وإنما جاءت ليستدل بها على معانيها.
فأي لفظ أدَّى المعنى المراد، فهو صالح.
وهو قول الحنفية والمالكية واختيار شيخ الإسلام (ابن تيميه) و (ابن القيم).
10- في الحديث حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم، إذ لم يردها حين لم يرغب فيها، بل سكت حتى طلبها منه بعض أصحابه.
(2/76)
________________________________________
11- قال بعض العلماء: لا دلالة بحديث الكتاب على جواز لبس خاتم الحديد، لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من حديد، فقال: مالي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه. وقد أخرج هذا الحديث أصحاب السنن.
الحديث الثالث
عَنْ أنَس بن مالِكٍ رَضي اللّه عَنْهُ: أنَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم رَأى عبد الرحمن بن عَوف وَعَلَيْهِ ردع زعفران، فَقالَ النبي صلى الله عليه وسلم (مَهْيَم )؟.
فَقَالَ يا رسول الله، تَزَوَّجْتُ امْرَأةً.
فَقَالَ: "مَا أصْدَقْتَهَا"؟ قالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهبَ.
قَالَ صلى الله عليه وسلم:" بَارَكَ الله لَكَ، أولم وَلَو بشاة ".
الغريب:
ردع: بفتح الراء، ودال مهملة، ثم عين مهملة. وقال الزركشي.
ولو قرىء بالمعجمة لصح من جهة المعنى، وهو أثر الزعفران وخضابه
قال في القاموس. و(الردع، الزعفران أو لطخ منه وأثر الطيب في الجسد).
ْمَهْيَمْ: بفتح الميم، وسكون الهاء، بعدها ياء مفتوحة، ثم ميم ساكنة، اسم فعل أمر بمعنى (أخبرني) عند ابن مالك.
وقال الخطابي: (كلمة يمانية، معناها: مالك وما شأنك)؟.
وكأنه أنكر عليه الصفرة التي عليه، والطيب الذي يظهر أثره، فيليق بالنساء، فلما علم أنه أصابه من زوجه، رَخص له.
وزن نواة من ذهب. معيار للذهب معروف لديهم. قالوا: إنه وزن خمسة دراهم.
أولم: فعل أمر، مشتق من الوليمة، وهو طعام الإملاك.
المعنى الإجمالي:
رأى النبي صلى الله عليه وسلم على (عبد الرحمن بن عوف) شيئاً من أ ثر الزعفران، وكان الأولى بالرجال أن يتطيبوا بما يظهر ريحه، ويخفي أثره.
فسأله- بإنكار- عن هذا الذي عليه. فأخبره أنه حديث عهد بزواج، و قد أصابه من زوجه، فرخص له في ذلك.
ولما كان صلى الله عليه وسلم حَفِيا بهم، عطوفاً عليهم، يتفقد أحوالهم ليقرهم على الحسن منها، وينهاهم عن القبيح، سأله عن صداقه لها.
فقال: ما يعادل وزن نواة من ذهب.
(2/77)
________________________________________
فدعا اللّه له صلى الله عليه وسلم بالبركة، وأمره أن يولم من أجل زواجه ولو بشاة.
ما يؤخذ من الحديث:
1- كراهة التطيب بالزعفران وما يظهر أثره من الطيب، للرجال.
2- تفقد الوالي والقائد لأصحابه، وسؤاله عن أحوالهم وأعمالهم.، التي تعنيه وتعنيهم.
3- استحباب تخفيف الصداق. فهذا عبد الرحمن بن عوف، لم يصدق زوجته إلا وزن خمسة دراهم من ذهب.
4- الإشارة إلى أصل الصداق في النكاح، بناء على مقتضي الشرع و العادة.
5- الدعاء للمتزوج بالبركة. وقد ورد الدعاء للمتزوج بهذا الدعاء "بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما بخير".
6- مشروعية الوليمة من الزوج، وأن لا تقل عن شاة إذا كان من ذوى اليسار. قال ابن دقيق العيد: الوليمة: الطعام المتخذ لأجل العرس، وهو من المطلوبات شرعا ولعل من فوائده إشهار النكاح باجتماع الناس للوليمة.
7- أن يدعي إليها أقارب الزوجين، والجيران، والفقراء، وأهل الخير ليحصل التعارف والتآلف، والبركة، وأن يجتنب السرف، والمباهاة، والخيلاء.
8- قال شيخ الإسلام: أجمع العلماء على جواز عقد النكاح بدون فرض الصداق، وتستحق مهر المثل إذا دخل بها بإجماعهم.
9- وقال أيضا: وإذا أصدقها ديناَ كثيرا في ذمته، وهو ينوي ألا يعطيها إياه كان ذلك حراماً عليه.
وما يفعله بعض أصحاب الخيلاء والكبرياء من تكثير المهر للرياء والفخر، وهم لا يقصدون أخذه من الزوج، وهو ينوي ألا يعطيهم إياه، فهذا منكر قبيح مخالف للسنة، خارج عن الشريعة.
وإن قصد الزوج أن يؤديه، وهو في الغالب لا يطيقه، فقد حمل نفسه و شغل ذمته وتعرض لنقص حسناته، وأهل المرأة قد آذوا صهرهم وضروه.
9
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع