كتاب الصيام

طباعة الموضوع

الصحبة الطيبة

عضو مميز
إنضم
16 أبريل 2013
المشاركات
199
النقاط
16
الإقامة
القاهرة - مصر
الموقع الالكتروني
nasrtawfik.blogspot.com
احفظ من كتاب الله
اللهم أعينني علي دوام التلاوة والتدبر وحفظ القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص عن عاصم
القارئ المفضل
محمد صديق المنشاوي والحصري والسديسي
الجنس
أخ وأسرتي
تيسير العلام شرح عمدة الأحكام
كتاب الصيام 287/ 330

أصله في اللغة : الإمساك.
وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات مع النية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وصيام شهر رمضان، هو الركن الثالث من أركان الإسلام.
والصيام من أفضل العبادات، لأنه تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة :
1- الصبر على طاعة الله 2- والصبر عن معاصي الله 3- والصبر على أقدار الله المؤلمة.
ولأن الله تعالى نسب الصوم إلى نفسه، ووعد بالجزاء عليه من قِبَلِه سبحانه.
ولأنه سرٌّ بين الرب وببن عبده، فهو من أعظم الأمانات.
أما حِكَمه وأسراره فليس في مقدور هذه النبذة المختصرة أن تبين ذلك.
وإنما أشير إلى قليل من كثير، ليعلم القارئ شيئاً من أسرار الله في شرعه، فيزداد إيماناً ويقيناً في وقت تزعزعت فيه العقائد، وتضعضع فيه الإيمان. فإنا لله، وإنا إليه راجعون.
فمن تلك الحكم السامية عبادة الله، والخضوع له، ليكون الصائم مُقْبلاً على الله تعالى، خاضعاً خاشعاً بين يديه، حينما ينكر سلطان الشهوة.
فإن القوة تغرى بالطغيان والبطر{كَلاَّ إِنَّ الإنسانَ لَيَطْغَى أنْ رآهُ استغنى}.
فليعلم أنه ضعيف فقير، بين يدي الله حينما يرى ضعفه وعجزه فينكر في نفسه الكبر والعظمة، فيستكين لربه، ويلين لخلقه.
(1/287)
________________________________________
ومنها، حكم اجتماعية، من اجتماعهم على عبادة واحدة، في وقت واحد، وصبرهم جميعاً، قويهم وضعيفهم، شريفهم ووضيعهم، غنيهم وفقيرهم، على معاناتها وتحملها، مما يسبب ربْطَ قلوبهم وتآلف أرواحهم، وَلَمِّ كلمتهم.
وليس شيء أقوى من هذه الإرادة المتينة، التي لا تحكمها أقوى الدعايات.
كما أنه سبب عطف بعضهم على بعض، ورحمة بعضهم بعضاً، حينما يُحِس الغنَي ألم الجوع ولَدْغَ الظَّمأ.
فيتذكر أن أخاه الفقير يعاني هذه الآلام دَهْرَه كله، فيجود عليه من ماله بشيء يزيل الضغائن والأحقاد، ويحل محلها المحبة والوئام، وبهذا يتم السِّلْمُ بين الطبقات.
ومنها، حكم أخلاقية تَربوِية، فهو يعلِّم الصبر والتحمل، ويقوي العزيمة والإرادة، ويُمَرِّن على ملاقاة الشدائد وتذليلها، والصعاب وتهوينها.
ومنها حكم صِحَّيَّة، فإن المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء.
ولابد للمعدة أن تأخذ فترة استراحة واستجمام، بعد تعب توالي الطعام عليها، واشتغالها بإصلاحه.
هذه نبَذة يسيرة إلى شيء من حكم الله تعالى وأسراره.
واستقصاء ما يحيط به العقل البشري يحتاج إلى تصانيف مستقلة، وفضلاً عما لا يعلمه إلا الله تعالى من الأسرار الحكيمة الرشيدة.
الحديث الأول
عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قال: قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تَقَدَّمُوا رَمَضَان بِصَومْ يوم أوْ يَوْمَئن، إِلا رَجلاً كانَ يَصُومُ صَوماً فَلْيَصُمْهُ".
الغريب :
لا تَقَدَّموا : بفتح التاء والدال، على حذف تاء المضارعة، لأن أصله لا تتقدموا..
المعنى الإجمالي :
الشارع الحكيم يريد التمييز بين العبادات والعادات، ويريد أن يميز بين فروض العبادات ونوافلها ليحصل الفرق ببن هذا وذاك.
(1/288)
________________________________________
لذا فإنه نهى عن تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين أو نحو ذلك ليكون مفطراً مستعداً لصيام شهر رمضان، إلا من كان له عادة من صوم كيوم الخميس أو الاثنين أو قضاء تضايق وقته، أو نذر لزمه، فليصمه لأنه تعلق بسببه. بخلاف نفل الصيام المطلق فأقل ما فيه الكراهة.
ما يؤخذ من الحديث :
1- النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين.
2- الرخصة في ذلك لمن صادف قبل رمضان له عادة صيام، كيوم الخميس والاثنين.
3- من حكمة ذلك- والله أعلم- تمييز فرائض العبادات من نوافلها، والاستعداد لرمضان بنشاط ورغبة، وليكون الصيام شعار ذلك الشهر الفاضل المميز به.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضي الله عنهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلىالله عليه وسلم يقول :
" إذا رَأَيْتمُوه فَصُومُوا، وَإذا رَأَيْتُمُوه فَأفْطِروُا، فَإنْ غُمَّ عَليْكم فاقْدُرُوا لَهُ".
الغريب :
غم عيكم: بالبناء للمجهول استتر عليكم بحاجب، من غيم وغيره (غم) بضم الغين المعجمة، وتشديد الميم.
فاقدروا له: يعني قدروا له في الحساب، فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
وقيل : معناه "اقدروا" ضيقوا، بأن يضيق على شعبان، فيجعل تسعاً وعشرين يوماً.
وعلى هذين التفسيرين، حصل الخلاف الآتي:
ويجوز الضم والكسر في (دال)- اقدروا له.
قوله: "فصوموا" يريد أن ينوى الصيام وتبيت تلك النية إلى الغد. وكذلك في قوله : "فأفطروا".
المعنى الإجمالي :
أحكام الشرع الشريف تبني على الأصل، فلا يعدل عنه إلا بيقين.
ومن ذلك أن الأصل بقاء شعبان، وأن الذمة بريئة من وجوب الصيام، مادام أن شعبان لم تكمل عدته ثلاثين يوماً، فيعلم أنه انتهى، أو يرى هلال رمضان، فيعلم أنه دخل.
ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أناط صيام شهر رمضان، وفطره برؤية الهلال.
فإن كان هناك مانع من غيم، أو قتر، أو نحوهما، أمرهم أن يقدروا حسابه.
(1/289)
________________________________________
وذلك بأن يتموا شعبان ثلاثين، ثم يصوموا. لأن هذا بناء على أصل "بقاء ما كان على ما كان".
اختلاف العلماء :
اختلف العلماء في حكم صيام يوم الثلاثين من شعبان إذا كان في مغيب الهلال غيم، أو قتر، أو نحوهما من الأشياء المانعة لرؤيته.
فالمشهور في مذهب الإمام "أحمد" الذي قال كثير من أصحابه: إنه مذهبه- هو وجوب صومه من باب الظن والاحتياط، واستدلوا على ذلك بقوله: "فاقدروا له" وفسروها بمعنى: ضيقوا على شعبان، فقدروه تسعة وعشرين يوماً.
وهذه الرواية عن الإمام "أحمد" من المفردات، وهي مروية عن جملة من الصحابة، منهم أبو هريرة، وابن عمر، وعائشة، وأسماء.
وذهب جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة "أبو حنيفة " و"مالك" و"الشافعي" إلى أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه.
واختار هذا القول، شيخ الإسلام "ابن تيمية" وقال: المنقولات الكثيرة المستفيضة عن أحمد، على هذا.
وقال صاحب "الفروع": لم أجد عن أحمد صريح الوجوب ولا أمر به ولا يتوجه إضافته إليه.
واختار هذه الرواية من كبار أئمة المذهب "أبو الخطاب"، و"ابن عقيل".
ودليل هذا القول ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً : " صُومُوا لِرُؤيتهِ، وأفْطِروُا لِرؤيتهِ، فَإن غُمَّ عَلَيكم فَأكْمِلوا عِدَّةَ شعْبَانَ ثَلاِثين يَوماً".
وهذا الحديث وأمثاله يبين أن معنى " فاقدروا له، يعني قدروا حسابه بجعل شعبان ثلاثين يوماً.
(1/290)
________________________________________
وقد حقق " ابن القيم" هذا الموضوع في كتابه "الهدي" ونصر قول الجمهور، ورد غيره، وبين أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة قول صريح، إلا عن ابن عمر الذي مذهبه الاحتياط والتشديد. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن إيجاب صوم يوم الشك لا أصل له في كلام أحمد، ولا كلام أحد من أصحابه وإن كان بعضهم قد اعتقد أن من مذهبه إيجاب صومه. ومذهبه الصريح المنصوص عليه هو جواز فطره وجواز صومه وهو مذهب أبي حنيفة ومذهب كثير من الصحابة والتابعين. وأصول الشريعة كلها مستقرة على أن الاحتياط ليس بواجب ولا محرم.
واختلفوا فيما إذا رُئي الهلال ببلد، فهل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.
فالمشهور عن الإمام، "أحمد" وأتباعه، وجوب الصوم على عموم المسلمين في أقطار الأرض، لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه، فوجب صيامه، وهو من مفردات مذهب أحمد، وهو مذهب أبي حنيفة أيضاً.
وذهب بعضهم إلى عدم وجوبه، وأن لكل أهل بلد رؤيتهم، وهو مذهب القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وإسحاق.
لما روى كريب: قال قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة.
ثم قدمت المدينة في آخر الشهر. فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته.
فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه.
فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟.
فقال: لا. "هكذا أمرنا رسول صلى الله عليه وسلم" رواه مسلم.
وذهب الشافعي في المشهور عنه إلى التفصيل.
وهو أنه، إن اختلفت المطالع، فلكل قوم حكم مطلعهم. وإن اتفقت المطالع، فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية". وذكر الشيخ محمد بن عبد الواهب ابن المراكشي في كتابه "العذب الزلال في مباحث رؤية الهلال" أنه إذا كان البعد بين البلدين أقل من 2226 من الكيلو مترات فهلالهما واحد، وإن كان أكثر فلا.
ما يؤخذ من الحديث :
(1/291)
________________________________________
1- أن صيام شهر رمضان معلق برؤية الناس أو بعضهم للهلال، وردَّ ابن دقيق العيد تعليق الحكم به على حساب المنجمين وبين الصنعاني أنه لو توقف الأمر على حسابهم لم يعرفه إلا قليل من الناس. والشرع مبني على ما يعرفه الجماهير.
2- وكذلك الفطر معلق بذاك.
3- أنه إن لم يُرَ الهلال لم يصوموا إلا بتكميل شعبان ثلاثين يوماً. وكذلك لم يفطروا إلا بتكميل رمضان ثلاثين يوماً.
4- إنه إن حصل غيم أو قتر، قدروا عدة شعبان تمام ثلاثين يوماً. وقال الصنعاني: جمهور الفقهاء وأهل الحديث على أن المراد من "فاقدروا له"، إكمال عدة شعبان ثلانين يوماً كما فسره في حديث آخر.
5- أنه يجب الصيام يوم الثلاثين من شعبان، مع الغيم ونحوه.
الحديث الثالث
عَنْ أنس ْبنِ مَالِكٍ رَضي الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسول اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمْ :
"تَسَحًرُوا فَإن في السَّحُور بَرَكَةً"
الغريب :
سحور بفتح السين، ما يتسحر به، وبضمها الفعل.
والبركة مضافة إلى كل من الفعل وما يتسحر به جميعاً.
المعنى الإجمالي :
يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتسحر، الذي هو الأكل والشرب وقت السحر، استعداداً للصيام، ويذكر الحكمة الإلهية فيه، وهى حلول البركة، والبركة تشمل منافع الدنيا والآخرة.
فمن بركة السحور، ما يحصل به من الإعانة على طاعة الله تعالى في النهار.
فإن الجائع والظامئ، يكسل عن العبادة.
ومن بركة السحور أن الصائم إذا تسحر لا يمل إعادة الصيام، خلافاً لمن لم يتسحر، فإنه يجد حرجاً ومشقة يثقلان عليه العودة إليه.
ومن بركة السحور، الثواب الحاصل من متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
ومن بركته أيضاً، أن المتسحر يقوم في آخر الليل، فيذكر الله تعالى، ويستغفره، ثم يصلي صلاة الفجر جماعة.
بخلاف من لم يتسحر. وهذا مشاهد.
فإن عدد المصلين في صلاة الصبح مع الجماعة في رمضان أكثر من غيره من أجل السحور.
(1/292)
________________________________________
ومن بركة السحور، أنه عبادة، إذا نوي به الاستعانة على طاعة الله تعالى، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولله في شرعه حكم وأسرار.
ما يؤخذ من الحديث :
1- استحباب السحور وامتثال الأمر الشرعي بفعله.
2- لما يحصل فيه من البركة، فلا ينبغي تركه، والبركة تُحْمَلُ على الفعل وعلى المتسحر به. ولا يعدُّ هذا من باب حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين وإنما يستفاد من صيغتي الفتح والضم.
3- ظاهر الأمر الوجوب، ولكن ثبوت الوصال عن النبي صلى الله عليهوسلمإ يصرف الأمر إلى الاستحباب.
4- يرى الصوفية أن مدة تناول السحور كمدة لإفطار، وهذا مخل بالحكمة من الصوم وهي كسر شهوتي الطعام والنكاح، ولا يمكن ذلك إلا بتقليل الغذاء. وأجاب عليهم الآخرون بأن حكمة الصوم ليست منوطة بتقليل الطعام والشراب بل بامتثال أمر الله تعالى.
الحديث الرابع
عَنْ انس بْنِ مَالِكٍ عَنْ زيْد بْن ثَابِتٍ رَضَي الله عَنْهُمَا قال: تَسَحَّرْنَا مَع رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَامَ إلى الصَّلاةِ.
قال أنس: قُلْتُ لِزيْدٍ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الأذَانِ وَالسُّحُورِ؟ قال: قَدْرُ خَمْسِينَ آيةٍ .
الغريب :
الأذان : يريد به. الإقامة.
ويبين ذلك ما في الصحيحين عن أنس عن زيد قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قمنا إلى الصلاة.
قلت: كم كان بينهما؟ قال: قدر خمسين آية.
المعنى الإجمالي :
يروي أنس بن مالك، عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما: أن زيداً تسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان من سنته صلى الله عليه وسلم أن يتسحر قبيل الصبح.
ولذا فإنه ـ لما تسحر- قام إلى صلاة الصبح، فسأل أنس زيداً: كم كان بين الإقامة والسحور؟ قال: قدر خمسين آية.
ما يؤخذ من الحديث :
1- أفضلية تأخير السحور إلى قبيل الفجر.
2- المبادرة بصلاة الصباح، حيث قربت من وقت الإمساك.
(1/293)
________________________________________
3- أن وقت الإمساك هو طلوع الفجر، كما قال الله تعالى: {كُلُوا واشْرَبُوا حتَّى يَتَبَيَّنَ لكُمُ الخَيْطٌ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}
بهذا نعلم أن ما يجعله الناس من وقتين، وقت للإمساك، ووقت لطلوع الفجر، بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي وسوسة من الشيطان، ليلبس عليهم دينهم، وإلا فإن السنة المحمدية أن الإمساك يكون على أول طلوع الفجر.
الحديث الخامس
عَنْ عَائِشَةَ وَأمُّ سَلَمَةَ رَضْيَ الله عَنْهُمَا:
أنً رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُدْركُهُ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنٌبٌ مِنْ أهلِهِ. ثُمَّ يَغتَسِلُ وَيصُومُ.
المعنى الإجمالي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم بجامع في الليل، وربما أدركه الفجر وهو جنب لم يغتسل،
ويتم صومه ولا يقضي.
وهذا الحكم في رمضان وغيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يخالفهم إلا قليل ممن لا يعتد بخلافهم، وقد حكى بعضهم الإجماع على هذا القول.
ما يؤخذ من الحديث :
1- صحة صوم من أصبح جنباً، من جماع في الليل.
2- يقاس على الجماع الاحتلام بطريق الأولى، لأنه إذا كان مرخصاً فيه من المختار، فغيره أولى.
3- أنه لا فرق بين الصوم الواجب والنفل ، ولا بين رمضان وغيره.
4- جواز الجماع في ليالي رمضان، ولو كان قبيل طلوع الفجر.
وأخذ بعضهم جواز الصيام من الجنب من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِيَامِ الرَفَثُ إلى نِسَائِكم} لأن الآية تقتضي جواز الجماع في ليل الصيام كله. ومن جملته، الجزء الذي قبيل الفجر. بحيث لا يتسع للغسل، فمن ضرورته الإصباح جنباً، وهذه دلالة الإشارة عند الأصوليين.
5- فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وإحسانهن إلى الأمة.
فقد نقلن عن النبي صلى الله عليه وسلم من العلم الشيء الكثير النافع، لا سيما الأحكام الشرعية المنزلية التي لا يطلع عليها إلا هن من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم فرضي الله عنهن وأرضاهن.
الحديث السادس
(1/294)
________________________________________
عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عَنْهُ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"مَنْ نَسيَ وهُوَ صَاِئمٌ فَأكَلَ أوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فإنَّمَا أطعَمَهُ الله وَسَقَاهُ ".
المعنى الإجمالي :
بنيت هذه الشريعة على اليسر والسهولة، والتكليف بقدر الطاقة، وعدم المؤاخذة بما يخرج عن الاستطاعة أو الاختيار.
ومن ذلك أن من أكل أو شرب. أو فعل مفطراً غيرهما في نهار رمضان أو غيره من الصيام، فليتم صومه، فإنه صحيح، لأن هذا ليس من فعله المختار، وإنما هو من الله الذي أطعمه وسقاه.
اختلاف العلماء :
الجمهور من العلماء على أن الأكل والشرب من الناسي لا يفسد الصيام.
والخلاف بينهم في الجماع: هل له حكم الأكل والشرب بعدم الإفساد أم لا؟.
فذهب الإمام " أحمد" وأتباعه إلى أن الجماع مفسد للصيام، ولو كان من الجاهل أو الناسي.
وإذا كان في نهار رمضان فهو موجب للكفارة، وهو من مفردات مذهب أحمد.
ودليلهم على ذلك مفهوم الحديث الذي اقتصر على الأكل والشرب دون الجماع، مما يدل على مخالفته لهما.
ولأن النسيان في الجماع بعيد، بخلاف الأكل والشرب.
وذهب الأئمة، أبو حنيفة، والشافعي، وداود، وابن تيمية وغيرهم، إلى أنه لا يفسد الصيام. واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولاً: لما روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : "من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة"
قال ابن حجر: "وهو صحيح". والإفطار عام في الجماع وغيره.
ثانياً: العمومات الواردة في مثل قوله تعالى: {ربَّنَا لا تُؤاخِذْنَا إن نسينا أو أخطأنا} "وعفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"
ثالثاً: أن المخالفين في صحة الصوم يوافقون على سقوط الإثم عنه.
وإذا كان معذوراً فإن العذر شامل، ولا وجه للتفريق.
وأجابوا عن دليل الحنابلة بأن تعليق الحكم في الأكل والشرب من باب تعليق الحكم باللقب، فلا يدل على نفيه عما عداه.
ما يؤخذ من الحديث :
(1/295)
________________________________________
1- صحة صوم من أكل أو شرب أو جامع ناسياً.
2- أنه ليس عليه إثم في أكله وشرابه، لأنه ليس له اختيار.
3- معنى إطعامه من الله تعالى وسقيه، أنه وقع من غير اختيار، وإنما الله الذي قدر له ذلك بنسيانه صيامه.
الحديث السابع
عَنْ أبي هُريرة رضي الله عَنْهُ قَال : بَينماَ نَحن جُلُوسْ عِنْدَ النبي صلى الله عليه وسلم إذ
جَاءه رَجلٌ فقَالَ: يَا رَسولَ الله، هَلَكتُ. فقال: "ما أهلَكَكَ؟" أو مَالكً؟.
قال: وَقَعْتُ على امْرَأْتِي، وأنا صائمٌ " وفي رواية: أصبتُ أهلي في رَمَضَانَ".
فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :"هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تعتقها؟" قال: لا.
قال: "فهل تستطِعُ أن تصوم شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعْين؟" قال: لا .
قال : "فهل تجد إطعام ستين مسكيناً؟" قال : لا.
قال: فَسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم .
فبينما نَحْنُ على ذلك إذْ أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بِعَرَق فيهِ تَمرٌ" والعرق: المَكْتَلُ..
قال: "أَيْنَ السَّائِلُ؟" قالَ: أنا. قال: " خُذْ هذَا فتصَدَّق بِهِ، فقال: أعلى أفقَرَ منِّي يَا
رَسُولَ اللّه؟ فَوَ الله مَا بَيْنَ لا بَتَيْها ـ يريد الحَرَّتَيْنِ ـ أهْلُ بَيْتٍ أفْقَر مِنْ أهل بَيْتي.
فَضَحِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ أنيابُهُ، ثمَّ قَالَ: "أطْعِمْهُ أهْلَكَ" .
الحَرَّةُ: الأرْضُ، َتَرْكَبُهَا حجارة سود.
الغريب :
بينما: ظرف زمان يغلب أن يضاف إلى جملة اسمية.
بعرق: "العرق" بفتحتين: هو الزنبيل، يعمل من سعف النخل، وقدروها- هنا- بما يسع خمسة عشر صاعاً.
اللابة: هي الحرة : وهي الأرض التي تعلوها حجارة سود.
والمدينة النبوية بين حرتين، شرقية وغربية.
المِكْتَل: القفة من الخوص وهي قفص من ورق النخل.
المعنى الإجمالي:
جاء سلمة بن صخر البياضي إلى النبي صلى الله عليه وسلم خائفاً فقال: هلكت.
(1/296)
________________________________________
فقال له: ما أهلكك؟ قال: إنه وقع على امرأته وهو صائم في نهار رمضان فلم يعنِّفْه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: هل تجد رقبة تعتقها كفارة لما وقع منك؟ قال: لا. قال: فهل تستطيع صيام شهرين متتابعين؟ قال: لا، وهل أصابني ما أصابني إلا من صيام(1)، لأن به شبقاً لا يقدر معه على ترك الجماع وهو نوع مرض.
قال: فهلِ تجد طعام ستين مسكيناً، لكل مسكين مُدٌّ مِنْ بُرٍّ أو غيره؟
قال : لا.
فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ومكث، وإذا بأحد من الصحابة - على عادتهم ـ
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بزنبيل من تمر، يسع خسة عشر صاعاً ليتصدَّق به النبي صلى الله عليه وسلم : فقال أين السائل؟ فقال: أنا.
فقال: خذ هذا التمر فتصدق به ليكون كفارة على ما اقترفت من الإثم.
فما كان من الرجل الذي جاء خائفاً مبهوتاً- بعد أن وجد عند رسول الله الأمن والطمأنينة - إلا أن طمع في فضل الله تعالى، على يد أرحم الناس بالناس، فقال: أأتصدق به على أفقر مني يا رسول الله؟.
ثم أقسم أنه ليس في المدينة أحد أفقر منه لما يراه من شدة الضيق عليه.
عند ذلك تعجب النبي صلى الله عليه وسلم من حاله، كيف جاء خائفاً يلتمس السلامة فرجع آمناً، معه ما يطعمه أهله، ثم أذن له بإنفاقه على أهله.
فصلوات الله وسلامه عليه.
اختلاف العلماء :
يرى عامة العلماء، وجوب الكفارة على من جامع متعمداً.
واختلفوا في الناسي، وتقدم أن الصحيح أنه ليس عليه كفارة.
واختلفوا : هل وجوب الكفارة على التخيير أو الترتيب؟.
فذهب مالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنهما: إلى أنها على التخيير لما في الصحيحين عن أبي هريرة : "أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره النبي صلى اللهعليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً" وأوجب تخييره.
__________
(1) جاء في بعض روايات الحديث لفظ : "وهل أتيت إلا من الصوم".
(1/297)
________________________________________
وذهب الجمهور من العلماء، كالشافعي وأبي حنيفة، والمشهور من مذهب أحمد، والثوري والأوزاعي: إلى أنها على الترتيب، مستدلين بحديث الباب وجعلوا حديث التخيير مجملاً، يبينه حديث الترتيب ليحصل العمل بهما جميعاً.
ولو أخذ بحديث التخيير لم يمكن العمل بحديث الترتيب مع أن كليهما صحيح.
واختلفوا هل تسقط الكفارة مع العجز عنها، كما هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو أحد قَولي الشافعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرجل أن يطعم التمر أهله. ولو كان كفارة عنه ما جاز ذلك.
وذهب الجمهور إلى أنها لا تسقط بالإعسار، لأنه ليس في الحديث ما يدل على ذلك، بل ظاهره عدم سقوطها لأنه لما سأله عن أنزل درجات الكفارة ـ وهي الإطعام وقال : لا أجد- سكت ولم يبرئ ذمته منها، والأصل أنها باقية وقياساً لهذه الكفارة على سائر الكفارات والديون، من أنها لا تسقط بالإعسار.
أما الترخيص له في إطعامه أهله، فقد قال بعض العلماء: إن المكفر إذا كفر عنه غيره، جاز أن يأكل منه ويطعم أهله.
لأحكام المأخوذة من الحديث :
1- أن الوطء في نهار رمضان من الفواحش المهلكات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّه على قوله : "هلكت" و لم يكن كذلك، لهوَّن عليه الأمر.
2- أن الواطئ عمداً يجب عليه الكفارة، وهي على الترتيب، عتق رقبة فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكيناً.
3- أن الكفارة لا تسقط مع الإعسار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عنه بفقره، وليس في الحديث ما يدل على السقوط.
4- جواز التكفير عن الغير ولو من أجنبي.
5- أن له الأكل منها وإطعامها أهله ما دامت مخرجة من غيره.
6- ظاهر الحديث أنه لا فرق في الرقبة بين الكافرة والمؤمنة، وبهذا أخذ الحنفية.
والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لابد من إيمانها، ويكون الحديث مقيَّداً بالنصوص التي فيها كفارة القتل، فإنه ذكر فيها الإيمان.
(1/298)
________________________________________
7- حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وكرم الوفادة عليه فقد جاءه هذا الرجل خائفاً وجلاً، فراح فرحاً، معه ما يطعم منه أهله.
8- أن من ارتكب معصية لا حدَّ فيها، ثم جاء تائباً نادماً، فإنه لا يعزر.
خلاصة فوائد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قال:
يُفطِّر بالنص والإجماع الأكلُ والشربُ والجماعُ. وثبت بالسنة والإجماع أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، ولكن تقضي الصيام. وقال صلى الله عليه وسلم : "وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما" فدل على أن نزول الماء من الأنف يفطر الصائم. فال الخطابي : لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وفي أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ومن احتلم بغير اختياره، كالنائم لم يفطر بالاتفاق، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر. قد ثبت بدلالة الكتاب السنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، ويكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومثل هذا لا تبطل عبادته، فالصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف.
(1/299)
________________________________________
وأما الكحل والحقنة وما يقطر في الإحليل، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويُفْسَدُ الصوم بها لكان هذا مما يجب بيانه على الرسول، ولو ذكر ذلك لعلِمَهُ الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلا علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك والحديث المروي في الكحل ضعيف. والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر لم يكن معهم حجة إلا القياس، وأقوى ما احتجوا به "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً" وهو قياس ضعيف، وذلك أن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزيل العطش، فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب. فالصائم نهي عن الأكل والشرب لأن ذلك سبب التقوِي، وليس كذلك الكحل والحقنة، ومداواة الجائفة والمأمومة، فإنها لا تغذي البتة.
أما الجماع فإنه إحدى الشهوتين، فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال تعالى في الحديث القدسي : "يدع شهوته وطعامه من أجلى" فترك الإنسان شهوته عبادة مقصودة يثاب عليها، وإنزال المني يجري مجرى الاستفراغ، فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب ، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وكونه يضعف البدن يجعل إفساده للصوم أعظم من إفساده الأكل.
(1/300)
________________________________________
والعلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر أو لا؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : "أفطر الحاجم والمحجوم" كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ. وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، والقول بأنها تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث، وهؤلاء أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله : "وهو صائم" وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم، وبأنه بأي وجه أراد إخراج الدم فقد أفطر.
والسواك جائز بلا نزاع، لكن اختلف العلماء في كراهيته بعد الزوال، ولكن لم يقم على تلك الكراهية دليل شرعي يصلح أن يخصص عموم نصوص السواك.
وذوق الطعام يكره لغير حاجة، لكن لا يفطر. وأما للحاجة فلا يكره.
بَاب الصَّوم في السَّفر
جاءت هذه الشريعة بالأحكام الميسرة السمحة تحقيقاً لقوله تعالى:{مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِّيْنِ مِنْ حَرَج} وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُم اليسر ولا يُريِدُ بِكُمُ العُسْرَ}.
فلما كان السفر- غالباً- فيه مشقة وصعوبة، وأنه قطعة من العذاب، خفف فيه.
ومن تلك التخفيفات، الرخصة في الفطر في نهار رمضان.
وهي رخصة مستحبة، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ".
وهى رخصة، تعم الذي يناله بالسفر مشقة، وغيره ممن تكون أسفارهم راحة ومتعة، لأن الحكم للغالب.
وبمثل هذه الأحكام اللطيفة نعلم مدى ما تراعيه هذه الشريعة الكريمة من تخفيف ورحمة وملاءمة للأوقات والظروف، بمطالبة الناس بقدر ما يستطيعون.
رضينا بالله ربا، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ الله عَنْهَا: أنَ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرو الأسلمي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :
أأصُوْمُ في السًفَرِ (وكان كثير الصيام).
(1/301)
________________________________________
قال : " إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإنْ شِئْتَ فَأَفْطِر" .
المعنى الإجمالي :
علم الصحابة رضي الله عنهم أن الشارع الرحيم، ما رخص في الفطر في السفر إلا رحمة بهم وإشفاقاً عليهم.
فكان حمزة الأسلمي عنده جَلَدٌ وقوة على الصيام، وكان محباً للخير، كثير الصيام رضي الله عنه.
فسأل رسول الله : "أيصوم في السفر؟".
فخيَّره النبي صلى الله عليه وسلم بين الصيام والفطر، فقال: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر.
ما يؤخذ من الحديث :
1- الرخصة في الفطر في السفر، لأنه مظنة المشقة.
2- التخيير بين الصيام والفطر، لمن عنده قوة على الصيام. والمراد بذلك صوم رمضان، ويوضحه ما أخرجه أبو داود والحاكم من أن حمزة بن عمرو، قال: يا رسول الله إني صاحب ظهر أعالجه، أسافر وأكريه، وربما صادفني هذا الشهر ـ يعني رمضان – وأنا أجد القوة عليه وأجدني أن أصوم أهون على من أن أؤخره، فيكون ديناً على. فقال: "أي ذلك شئت يا حمزة".
الحديث الثاني
عَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ رضي الله عَنْهُ قال:
كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَعِبِ الصَّائِمُ عَلَى المُفطِرِ، وَلا الْمُفطِرُ
عَلَى الصًائِمِ .
المعنى الإجمالي :
كان الصحابة يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فيفطر بعضهم، ويصوم بعضهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، لأن الصيام هو الأصل والفطر رخصة، والرخصة ليس في تركها إنكار، ولذا فإنه لا يعيب بعضهم على بعض في الصيام أو الفطر.
ما يؤخذ من الحديث :
1- جواز الفطر في السفر.
2- إقرار النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه على الصيام والفطر في السفر، مما يدل على إباحة الأمرين.
الحديث الثالث
عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضيَ الله عَنْهُ قال:
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في شَهْرِ رَمضَانَ في حَرِّ شَدِيدٍ ، حَتَّى إنْ كَانَ
(1/302)
________________________________________
أحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَه عَلَى رَأسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، ومَا فِيْنَا صَائِمٌ إلا رَسُولُ الله صلى الله عليه
وسلم، وعبْدُ الله بْنُ رَوَاحَة.
المعنى الإجمالي:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في رمضان، في أيام شديدة الحر.
فمن شدة الحر، لم يصم منهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه.
فهما تحمَّلا الشدة وصاما، مما يدل على جواز الصيام في السفر وإن كان ذلك مع المشقة التي لا تصل إلى حَدِّ التهلكة.
الحديث الرابع
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَه رَضْيَ الله عَنْهُ قال:
كانَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فرَأى زِحَاماً، ورَجُلاً قَدْ ظُلِّل عَلَيْهِ، فَقَالَ:
"ما هذا؟" قالوا: صائم. قال: لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصيامُ في السَّفَرِ".
وفي لفظٍ لمسلم "عَلَيْكُم بِرُخْصَةِ الله الَّتي رَخَصَ لَكُمْ".
المعنى الإجمالي :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فرأى الناس متزاحمين ورجلا قد ظلل عليه، فسألهم عن أمره. قالوا : إنه صائم وبلغ به الظمأ هذا الحد.
فقال الرحيم الكريم صلى الله عليه وسلم : إن الصيام في السفر ليس من البر، ولكن عليكم برخصة الله التي رخص لكم.
فهو لم يرد منكم بعبادته تعذيب أنفسكم.
ما يؤخذ من الحديث :
1- جواز الصيام في السفر. وجواز الأخذ بالرخصة بالفطر.
2- أن الصيام في السفر ليس براً، وإنما يجزئ ويسقط الواجب.
3- أن الأفضل إتيان رخص اللَه تعالى، التي خفف بها على عباده.
اختلاف العلماء :
اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر.
فشدد بعض السلف، كالزهري، والنخعي : وذهبوا إلى أن صيام المسافر لا يجزئ عنه، وهو مروي عن عبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، وابن عمر، وهو مذهب الظاهرية.
وذهب جماهير العلماء ، ومنهم الأئمة الأربعة، إلى جواز الصيام والفطر.
(1/303)
________________________________________
واحتج الأولون بقوله تعالى :{ فَمّنْ شَهِدَ مِنكُمُ الْشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيْضَاً أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
وَوَجْهُهُ : أن الله لم يفرض الصوم إلا على من شهده، وفرض على المريض والمسافر، في أيام أخر.
وما رواه مسلم عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم ، فصام الناس ، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ، ثم شرب ، فقيل له بعد ذلك : إن بعض الناس قد صام، فقال : "أؤلئك العصاة ، أؤلئك العصاة" فنسخ قوله : "أؤلئك العصاة" لصيامه.
وما رواه البخاري عن جابر : "لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ في السَّفَرِ" .
واحتج الجمهور بحجج قوية، منها أحاديث الباب.
الأول: حديث حمزة الأسلمى: "إن شِئْتَ فَصُم، وَإنْ شِئْتَ فَأفْطِر".
الثاني: حديث أنس: ثم كُنًا نُسَافِر مَعَ رَسُول الله فَلَمْ يَعِبِ الصَّائمُ عَلَى الُمُفطِرِ ولا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّاِئمِ".
الثالث: حديث أبي الدر داء، فيه صيام رسول الله، وعبد الله بن رواحة.
وأجابوا عن أدلة الأولين بما يأتي:
أما الآية: فالذي أُنْزِلَتْ عليه، صام بعد نزولها، وهو أعلم الخلق بمعناها فيتحتم أن معناها غير ما ذكرتم.
وأكثر العلماء ذكروا أن فيها مُقَدَّراً تقديره : "فأَفْطَرَ".
أما قول: "أولئك العصاة" فهي واقعة عين لأناس شقَّ عليهم الصيام، فأفطر هو عليه الصلاة والسلام ليقتدوا به، فلم يفعلوا فقال: "أولئك العصاة" لعدم اقتدائهم به عليه الصلاة والسلام.
وأما حديث "ليس من البر الصيام في السفر" فمعناه أن الصيام في السفر ليس من البر الذي يتسابق إليه ويتنافس فيه.
فقد يكون الفطر أفضل منه، إذا كان هناك مشقة، أو كان الفطر يساعد على الجهاد، والله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتي معاصيه.
والجمهور الذين يرون جواز الصيام في السفر، اختلفوا، أيهما أفضل، الصيام أم الفطر؟.
(1/304)
________________________________________
فذهب الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي،: إلى أن الصوم أفضل لمن لا يلحقه مشقة.
وذهب الإمام أحمد إلى أن الفطر في رمضان أفضل ولو لم يلحق الصائم مشقة.
ويقول باستحباب الفطر أيضاً، سعيد بن المسيب، والأوزاعي وإسحاق.
استدل الأئمة الثلاثة بأحاديث:
منها ما رواه أبو داود عن سلمة بن المحبق، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من كانت له حُمُوْلَةٌ يأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه"
"والحمولة" بالضم : الأحمال التي يسافر بها صاحبها.
أما أدلة الحنابلة، فمنها حديث "ليس من البر الصيام في السفر" متفق عليه.
وحديث " إن الله يحب أن تؤتى رخصه ".
فائدة :
أما مقدار السفر الذي يباح فيه الفطر وقصر الصلاة، فقد اختلف العلماء في تحديده.
والصحيح أنه لا يفيد بهذه التحديدات التي ذكروها، لأنه لم يرد فيه شيء عن الشارع.
فالمشرع أطلق السفر، فنطلقه كما أطلقه.
فما عُدَّ سفراً، أبيح فيه الرخص السفرية ، وتقدم بأبسط من هذا في "صلاة أهل الأعذار".
الحديث الخامس
عَن أنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضْي الله عَنْهُ قال: كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في سَفر،
فمِنَا الصَّائِمُ وَمِنَا الْمُفْطِرُ.
قال: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حَارٍّ وَأكْثَرُنَا ظِلاَّ صَاحِبُ الكساء وَمِنًا مَنْ يَتقى الشَّمْسَ بِيَدِه.
قال: فَسَقَطَ الصُّوَّمُ وَقَامَ الْمُفْطِرُون، فَضَرَبوُا الأَبْنَيَة وَسَقُوا الركابَ.
فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ المفْطِرُون اليوْمَ بالأجر"
المعنى الإجمالي :
كان الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أسفاره، فبعضهم مفطر، وبعضهم صائم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقر كلا منهم على حاله.
فنزلوا في يوم حار ليستريحوا من عناء السفر وحر الهاجرة.
وكانوا ـ رضي الله عنهم- متقشفين، لا يجد أكثرهم ما يظله عن الشمس إلا أن يضع يده على رأسه أو أن يضع كساء فوق عود أو شجرة فيستظل به.
(1/305)
________________________________________
فلما نزلوا في هذه الهاجرة، سقط الصائمون من الحر والظمأ فلم يستطيعوا العمل.
وقام المفطرون، فضربوا الأبنية بنصب الخيام والأخبية، وسقوا الإبل، وخدموا إخوانهم الصائمين.
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم وما قاموا به من خدمة الجيش شجعهم، وبين فضلهم وقال: " ذهب المفطرون اليم بالأجر"
ما يؤخذ من الحديث :
1- جواز الإفطار والصيام في السفر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر كلاً على ما هو عليه.
2- ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من رقة الحال في الدنيا، ومع ذلك لم تمنعهم رقة الحال من ارتكاب الصعاب في الجهاد في سبيل الله تعالى.
3- فضل خدمة الإخوان والأهل، وأنها من الدين ومن الرجولة التي سبقنا فيها صفوة هذه الأمة، خلافاً لفعل كثير من المترفعين المتكبرين.
4- أن الفطر في السفر أفضل لا سيما إذا اقترن بذلك مصلحة من التقوي على الأعداء ونحوه. فإن فائدة الصوم تلزم صاحبها، أما فائدة الإفطار في مثل ذلك اليوم فإنها تتعدى المفطر إلى غيره. ومن هنا كان الإفطار أولى.
5- حث الإسلام على العمل وترك الكسل، فقد جعل للعامل نصيباً كبيراً من الأجر، وفضله على المنقطع للعبادة
وأين هذه من الناعقين الذين يرونه ديناً عائقاً عن العمل والتقدم والرقي؟ قبحهم الله، فإنهم يهرفون بما لا يعرفون.
الحديث السادس
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عَنْهَا قَالَتْ: كانَ يَكُونُ عَلَيَّ الْصَّوْمُ في رَمَضَان فَمَا أسْتَطِيعُ أَنْ أقْضِيَ
إلا في شَعْبَانَ(1).
المعنى الإجمالي :
تذكر عائشة رَضيَ اللَه عنها أنه يكون عليها الصوم قضاءً من رمضان.
ولمحبة النبي لها وحسن أدبها في مراعاته ومعاشرته، تؤخر صيامها إلى شعبان، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر الصيام فيه، فيعلم ذلك ويقرها عليه.
ما يؤخذ من الحديث :
1- جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان مع العذر.
__________
(1) زاد "مسلم" في صحيحه :وذلك لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/306)
________________________________________
2- أن الأفضل التعجيل مع غير العذر. فعائشة رضي الله عنها قد بيَّنت عذرها في ذلك.
3- أنه لا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان التالي.
واختلف العلماء في وجوب الكفارة مع التأخير إلى دخول رمضان الآخر.
ومذهب الحنابلة أن عليه الكفارة إذَا أخر لغير عذر.
4- حسن عشرة عائشة رضي الله عنها. رزق الله نساءنا القدوة بها.
الحديث السابع
عَنْ عَاِئشَةَ رضي الله عَنْهَا: أنَّ رَسُوْلَ الله قال :
"مَنَ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَام صَامَ عَنْه وَلِيُّه".
وأخرجه أبو داود وقال: هذَا في النًذْر خاصَّة، وهو قول أحمد بن حنبل(1).
المعنى الإجمالي :
الديون التي على الأموات يجب قضاؤها، سواء أكانت لله تعالى كالزكاة والصيام، أم للآدميين، كالديون المالية.
وأولى من يتولى ذلك، ورثتهم، ولذا قال صلى الله عليه وسلم:
"من مات وعليه صيام، صام عنه وليه ".
ما يؤخذ من الحديث :
1- ظاهر الحديث وجوب قضاء الصيام عن الميت سواء أكان نذراً، أم واجباً بأصل الشرع، خلافاً لتقييد أبي داود. وذكر ابن دقيق العيد أن إلحاق غير الصوم به هو من باب القياس وليس في هذا الحديث نص عليه.
2- أن الذي يتولى الصيام، هو وليُّه
والمراد به الوارث الذي انتفع بمخلفاته.
فمن مقتضى القيام بواجبه قضاء ديون الله عنه.
اختلاف العلماء :
اختلف العلماء فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال أحدها: لا يقضى عنه بحال، لا في النذر ولا في الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي في الجديد.
الثاني : يصام عنه النذر دون الواجب بأصل الشرع.
وهذا مذهب الإمام أحمد، وأبي عبيد، والليث، وإسحاق، ونصره ابن القيم.
الثالث: أنه يصام عن الميت النذر والواجب بأصل الشرع.
__________
(1) قال ابن دقيق العيد ليس هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان.
وليس كما قال ابن دقيق العيد ، فقد أخرجه البخاري ومسلم جميعاً ، كما نبه عليه عبد الحق في ((الجمع بين الصحيحين)) والمجد في ((المنتقى))
(1/307)
________________________________________
وهو قول أبي ثور وأصحاب الحديث، ونصره ابن حزم، ورد قول من خالفه، وجماعة من محدثي الشافعية، وهو قول الشافعي في القديم، وعلق القول به على صحة الحديث.
قال البيهقي: ولو وقف الشافعي على جميع طرق الأحاديث وتظاهرها لم يخالفها إن شاء الله.
واختار هذا القول شيخنا "عبد الرحمن السعدي" وقال : إنه اختيار شيخ الإسلام "ابن تيمية" في جميع الديون التي على الميت لله، أو للآدميين، أوجبها على نفسه، أو وجبت بأصل الشرع.
استدل المانعون- مطلقاً- بأدلة.
منها:- قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى}.
وبما روي عن ابن عباس : "لا يُصَلِّ أحد عن أحد، ولا يصم أحد عن أحد".
وروي عن عائشة، نحو ما روي عن ابن عباس، وهما راويان لِحدِيثَي الصيام عن الميت، وخالفاها، فاتبع رأيهما لا روايتهما، لأنهما أعلم بمعنى الحديث.
واستدل المجيزون للقضاء- مطلقاً- بحديث الباب، فإنه عام في الواجب بأصل الشرع والواجب بالنذر، وبحديث ابن عباس الآتي بعد هذا الحديث وهو : "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟."
فقال:، لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم. قال: " فدين الله أحق أن يقضى" قال ابن حجر: إن أحمد ومن معه حملوا العموم في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى يجمع بينهما، فحديث ابن عباس صورة منفصلة يسأل عنها من وقعت له، وأما حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة.
أما المفصلون وهم الذين يرون القضاء في النذر دون الواجب بأصل الشرع، فيرون أن حديث الباب، وحديث ابن عباس الذي بعده، مقيدان بالرواية الثانية عن ابن عباس المذكورة في هذا الباب.
ونصر "ابن القيم" هذا القول في كتابه "إعلام الموقعين" "وتهذيب السنن" وقال: إنه أعدل الأقوال، وعليه يدل كلام الصحابة.
(1/308)
________________________________________
وقال: وتعليل حديث ابن عباس الذي قال فيه: "لا يصوم أحد عن أحد ويطعم عنه" مراده في الفرض الأصلي.
وأما النذر فيصام عنه، وما روي عن عائشة في إفتائها في التي ماتت وعليها صوم: أنه يطعم عنها، إنما هو في الفرض لا في النذر.
وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأن النذر ليس واجباً بأصل الشرع. وإنما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّيْنِ الذي استدانه.
ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدَّيْنِ في حديث ابن عباس.
ثم قال أيضاً: وسر الفرق أن النذر التزام المكلف لما شغل به ذمته لا أن الشارع ألزمه به ابتداء، فهو أخف حكماً مما جعله الشارع حقاً له عليه، شاء أم أبى، والذمة تسع المقدور عليه، والمعجوز عنه.
بخلاف واجبات الشرع فإنها على قدر طاقة البدن ا.هـ. ملخصاً منه.
فائدة :
قضاء وَلِيِّه عنه من باب الاستحباب عند جماهير العلماء ماعدا الظاهرية فقد أوجبوه.
وقالت الحنابلة: إن كان الميت خلف تركة، وجب القضاء، وإلا استحب وقالوا : إن صام غير الوارث أجزأه.
الحديث الثامن
عَنْ عَبْدِ الله بِنِ عَبَّاس رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال:
جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّ أمي مَاتَت وَعَلَنهَا صَوْمُ
شَهْرٍ: أفأَقضِيهِ عَنْهَا؟
قال: " لَوْ كانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْن أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا؟".
قال: نعم: قال: " فَدَيْنُ الله أحَقُّ أنْ يُقْضَى".
وفي رواية: جَاءَتْ امْرَأة إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله، إن أُمِّي
مَاتَت وَعَلَيْهَا صَوْمُ نَذرٍ، أَفَأَصُوْمُ عَنْهَا؟
قال: "أَفَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتيِهِ، أَكَانَ يُؤَدَّى ذَلِكَ عَنْهَا؟
قالت: نعم. قال: " فَصُومِي عَنْ أُمِّك".
المعنى الإجمالي :
وقع في هذا الحديث روايتان، والظاهر من السياق، أنهما واقعتان لا واقعة واحدة.
(1/309)
________________________________________
فالأولى :- أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أمه ماتت وعليها صوم شهر فهل يقضيه عنها.
والرواية الثانية : أن امرأة جاءت إليه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أمها ماتت وعليها صوم نذر: فهل تصوم عنها؟
فأفتاهما جميعاً بقضاء ما على والديهما من الصوم، ثم ضرب لهما مثلاً يقرب لهما المعنى؛ ويزيد في التوضيح.
وهو: أنه لو كان على والديهما دين لآدمي، فهل يقضيانه عنهما؟ فقالا: نعم.
فأخبرهما أن هذا الصوم دين لله على أبويهما، فإذا كان دين الآدمي يقضى، فدين الله أحق بالقضاء.
ما يؤخذ من الحديث :
1- عموم الرواية الأولى تفيد أن الصيام يقضى عن الميت، سواء أكان نذراً. أم واجباً أصلياً.
2- الرواية الثانية تدل على قضاء الصيام المنذور عن الميت.
3- الظاهر أنهما واقعتان لرجل وامرأة، فتبقى كل منهما على مدلولها، ولا تقيد الأولى بالثانية، بل تبقى على عمومها.
4- عموم التعليل الذي في الحديث يشمل الديون التي لله ، والتي للخلق، والواجبة بنذر، والواجبة بأصل الشرع، بأنها كلها تقضى عن الميت، وهذا ما حكاه شيخنا "عبد الرحمن آل سعدي" عن "تقي الدين ابن تيمية " رحمهما الله تعالى.
5- فيه إثبات القياس، الذي هو أحد أصول الجمهور في الاستدلال. وقد ضرب لهما النبي عليه الصلاة والسلام المثل بما هو معهود لهما، ليكون الفهم أبلغ، وليقربه من أذهانهما، فإن تشبيه البعيد بالقريب، يسهل إدراكه وفهمه.
6- قوله: " فدين الله أحق بالقضاء" فيه دليل على تقديم الزكاة وحقوق الله المالية إذا تزاحمت حقوقه وحقوق الآدميين في تركة المتوفى. وبعضهم قال بالمساواة ببن الحقوق.
الحديث التاسع
عَنْ سَهْلِ بِنْ سَعْدٍ السَّاعِدِي رَضْيَ الله عَنْهُ:
أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يَزَالُ النَّاسُ بَخَيْر مَا عَجَّلُوْا الفِطْرَ
وَأَخَّرُّوا السُّحُوْر".
المعنى الإجمالي:
(1/310)
________________________________________
الشارع الحكيم يحث على تمييز العبادة ووقتها عن غيره، ليتبين النظام والطاعة، في امتثال أوامره، والوقوف بها عند حدودها.
ولذا فإنه لما جعل غروب الشمس هو وقت إفطار الصائم، حثَّه على مبادرة الفطر عند أول ذلك الوقت، وأخبر: أن الناس لا يزالون بخير، ما عجلوا الفطر، لأنهم ـ بذلك- يحافظون على السنة.
فإذا أخروا الفطر فهو دليل على زوال الخير عنهم لأنهم تركوا السنة التي تعود عليهم بالنفع الديني وهو المتابعة، والدنيوي الذي هو حفظ أجسامهم وتقويتها بالطعام والشراب، اللذين تتوق أنفسهم إليهما.
ما يؤخذ من الحديث :
1- استحباب تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس برؤية، أو خبر ثقة.
2- أن تعجيل الفطر، دليل على بقاء الخير عند من عجله، وزوال الخير عمن أجله.
3- الخير المشار إليه في الحديث، هو اتباع السنة، مع أنه من محبوبات النفوس.
4- الحديث من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
فاٍن تأخير الإفطار عمل به الشيعة، الذين هم إحدى الفرق الضالة.
وليس لهم قدوة في ذلك إلا اليهود، الذين لا يفطرون إلا عند ظهور النجم.
الحديث العاشر
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَابِ رَضْيَ الله عَنْهُ قال:
قال رَسُولُ الله : "إذَا أَقْبَلَ الْلَيْلُ مِنْ ههُنَا، وَأَدْبَرَ الْنَّهَارُ مِنْ هَهُنَا، فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ".
المعنى الإجمالي :
تقدم أن وقت الصيام الشرعي، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
ولذا فقد أفاد النبي صلى الله عليه وسلم أمته: أنه إذا أقبل الليل من قبل المشرق، وأدبر النهار من قبل المغرب- بغروب الشمس - فقد دخل الصائم في وقت الإفطار الذي لا ينبغي له تأخيره عنه، بل يعاب بذلك، امتثالاً لأمر الشارع، وتحقيقاً للطاعة، وتمييزاً لوقت العبادة عن غيره، وإعطاء للنفس حقها، من مُتَعِ الحياة المباحة.
ما يؤخذ من الحديث :
1-استحباب تعجيل الفطر، إذا تحقق غروب الشمس.
2-أنه لابد من وجود إقبال الليل الذي يقارنه إدبار النهار للإفطار.
(1/311)
________________________________________
فإن مجرد الظُلمة من قبل المشرق مع وجود الشمس، ليس معناه إقبال الليل.
فاٍن إقبال الليل حقيقة، مقارن لإدبار النهار، فهما متلازمان.
3- قوله: " فقد أفطر الصائم " يحتمل معنيين:
أ- إما أنه أفطر حكماً بدخول الإفطار ولو لم يتناول مفطراً، ويكون الحث على تعجيل الفطر في بعض الأحاديث معناه الحث على فعل الإفطار حساً ليوافق المعنى الشرعي.
ب- وإما أن يكون دخل في وقت الإفطار، كما تقول: أنْجَدَ، لمن دخل "نجد" وأتهمَ لمن دخل "تهامة" ويكون الحث على تعجيل الفطر على بابه وهذا أولى. ويؤيده رواية البخاري "فقد حلَّ الإفطار".
4- يبني على هذين المعنيين حكم الوصال.
فإن قلنا: معنى " فقد أفطر الصائم" أفطر حكماً ، فالوصال باطل، لأنه لا يمكن
وإن قلنا: معناه فقد دخل في وقت الفطر، فيكره مع اقترانه بالنَّهي عن الوصال.
بَابُ أفضَل الصِّيامِ وَغَيرِه
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عَنْهُمَا قال: نَهَى رَسُولُ الله عَن الْوِصَالِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ
الله إنَكَ تُوَاصِلُ.
قال: "إنِّي لَسْتُ كهَيْئَتِكُمْ، إنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى".
ورواه أبو هريرة، وعائشة، وأنس بن مالك رضي الله عنهم.
ولـ"مسلم" عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ رضي الله عَنْهُ: " فأَيُّكُمْ أرادَ أَنْ يُواصِلَ فَلْيُوَاصِل
إلَى السَّحَرِ(1)"
المعنى الإجمالي :
الشريعة الإسلامية سمحة مُيَسَّرة لا عَنَتَ فيها ولا مشقة.
ومشرعها الحكيم، يكره الغٌلُوُّ والتعمق، لأن في ذلك تعذيباً للنفس وإرهاقاً لها، واللَه لا يكلف نفساً إلا وسعها.
__________
(1) حديث أبي سعيد من أفراد البخاري،ووهم المصنف حيث نسبه إلى مسلم كما نبه عليه "عبد الحق" و"المجد" و"الحافظ". وأحاديث كل من ابن عمر ، وأبي هريرة، وعائشة في الصحيحين.
رواه الشيخان والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر.
(1/312)
________________________________________
ولأن التيسر والتسهيل أبقى للعمل وأسلم من السأم والملل، وفيه العدل الذي وضعه الله في الأرض، وهو إعطاء الله ما طلبه من العبادة، وإعطاء النفس حاجتها من مقوماتها.
لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصيام، وهو ترك ما يفطر بالنهار عمداً، في ليالي الصيام.
وكان صلى الله عليه وسلم ـ لما أعطاه الله ما لم يعطه غيره – يواصل الصيام.
فقال الصحابة: إنك تواصل، ولنا فيك قدوة. وذلك قبل أن يعلمهم بميزته عليهم.
فقال: إني لست مثلكم، لأني أبيت يطعمني ربي ويسقيني، وليس لكم هذا، فتقوون على الوصال.
وما دمتم راغبين في الوصال، فمن وجد من نفسه قوة عليه، ورغبة فيه فَلْيُوَاصِلْ إلى السحر، لأنه تأخير لعشائه، فيكون طعامه في ليالي الصيام وجْبَة واحدة، ومن حِكَمْ الصيام، التخفف من الطعام.
اختلاف العلماء :
اختلفوا في الطعام والشراب المذكورين على قولين:
أحدهما:- أنه طعام وشراب حسِّيٌ تمسُّكاً باللفظ.
والثاني:- أنه ما يفيض على قلبه من لذيذ المناجاة والمعارف، فإنَّ توارد هذه المعاني الجليلة على القلب، يشغله عن الطعام والشراب فيستغني عنهما.
ولو كان طعاماً حسِياً لم يكن مواصلاً، ولم يقل: "لست كهيئتكم" وقد بسط القول فيه "ابن القيم" في الهدي.
واختلفوا في حكم الوصال على ثلاثة أقوال: محرم، ومكروه، وجائز مع القدرة.
فذهب إلى جوازه مع القدرة، عبد الله بن الزبير وبعض السلف كعبد الرحمن بن أبي نعم، وإبراهيم بن زيد التيمي وأبي الجوزاء.
وذهب إلى تحريمه، الأئمة الثلاثة، أبو حنيفة، ومالك، والشافعي.
وذهب إلى التفصيل في ذلك، الإمام أحمد، وإسحاق. وابن المنذر وابن خزيمة وجماعة من المالكية، فهو عندهم جائز إلى السحر، مع أن الأولى تركه تحقيقاً لتعجيل الإفطار، ومكروه بأكثر من يوم وليلة.
(1/313)
________________________________________
استدل المجيزون بأنه صلى الله عليه وسلم واصل بأصحابه يومين، فهو تقرير لهم عليه، ولو كان حراماً، لم يقرهم، وبأن عائشة قالت : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة بهم".
فنهيهم عنه كنهيهم عن قيام الليل، خشية أن يفرض عليهم، ولم ينكر على من بلغه أنه فعله، ممن لم يشق عليه.
فإذا كان المواصل لم يرد التشبه بأهل الكتاب، ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
واستدل المحرمون بنهيه صلى الله عليه وسلم، والنَّهْيُ يقتضي التحريم.
وأما مواصلته بهم، فلم يقصد به التقرير، وإنما قصد به التنكيل، كما هو مبين في بعض ألفاظ الحديث.
فحين نهاهم فلم ينتهوا بل ألحُّوا في الطلب، واصل بهم لتأكيد النَّهي والزجر، وبيان الحكمة في نهيهم، وظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها، فبعد بيان هذا يحصل منهم الإقلاع عنه، وهو المطلوب.
وأما قول عائشة: "نهى عن الوصال رحمة بهم" فلا يمنع أن يكون النهي للتحريم، بل يؤكده، فإن من رحمته بهم أن حرمه عليهم، وكل الأوامر والنواهي الشرعية مبنية على الرحمة والشفقة.
وأما التفصيل الذي اختاره "أحمد" فذكر "ابن القيم" أنه أعدل الأقوال، لحديث أبي سعيد " لا تواصلوا، وأيكم أراد أن يواصل، فلْيُوَاصِل إلى السحر" رواه البخاري.
فهو أعدل الوصال وأسهله، لأنه - في الحقيقة- أخَّر عشاءه.
والصائم له ـ في اليوم والليلة- أكلة، ولكن الأحسن والأولى ترك الوصال مطلقاً، ولو لم يكن فيه إلا ترك تعجيل الإفطار المرغب فيه لكفى.
ما يؤخذ من الحديث :
1- تحريم الوصال.
2- جوازه للقادر عليه إلى السحر، وتركه أولى.
3- رحمة الشارع الحكيم الرحيم بالأمة، إذ حرَّم عليهم ما يضرهم.
4- النهي عن الغلو في الدين، فإن هذه الشريعة سمحة مقسطة، تعطي الربَّ حقه، والبدن حقه. فإن الواجبات الشرعية وجبت لمصالح تعود إلى العبد في دينه ودنياه، وإن ملاحظة الشارع لتلك المصلحة هي السبب في الإيجاب على العبد.
(1/314)
________________________________________
- أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم لأنه الذي يقدر عليه وحده، ولا يلحقه أحد في هذا المقام.
6- أن معنى الطعام والشراب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، هو لذة المناجاة وسرور النفس الكبيرة بلقاء محبوبها، وله شواهد في الناس، وهذا المعنى الذي يحصل لخليل الرحمن وحبيبه، محمد صلوات الله وسلامه عليه لا يلحقه فيه أحد.
7- أن غروب الشمس وقت للإفطار، ولا يحصل به الإفطار- كما تقدم - وإلا لما كان للوصال معنى إذا صار مفطراً بغروب الشمس.
8- فيه ثبوت الخصائص للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكون مخصصة لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.
الحديث الثاني
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال: أُخْبِرَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أنِّي
أقُوْلُ والله لأَصُوْمَنَّ النًهَارَ ولأَقُوْمَنَّ اللَيْلَ مَا عِشْتُ.
فقال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : أنْتَ الَّذِي قُلْتَ ذَلِكَ؟"
فقلت لَهُ: قَدْ قُلْتُهُ بِأَبِي أنْتَ وَأُمِي.
قال: " فَإنَكَ لا تَسْتَطِيْعُ ذلِكَ فَصُمْ وأَفْطِرْ، وَنَمْ وَقُمْ، وَصُمْ مِنَ الشًهْرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، فإنَّ
الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَهْرِ".
قُلْتُ : إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ.
قال: " فَصُمْ يَوْماً وَافطِرْ يَوْمَيْن " قُلْتُ : إنِّي لأُطِيْق أفْضَلَ مِن ذلِكَ.
قَالَ: فَصُمْ يَؤماً وَأفْطِر يَؤماً فَذلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ علَيْه السَّلامُ، وَهُوَ أفضَلُ الصِّيَامِ".
فَقُلْت: إنِّي لأُطِيْقُ أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ. فقال: لا أَفْضَلَ مِنْ ذلِكَ".
وفي رواية قال: لا صَوْمَ فَوْقَ صَوْمِ أخِي دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ شَطْرِ الدَّهْرِ فصُمْ يوماً
وَأفطِر يَوْمَاً".
المعنى الإجمالي :
(1/315)
________________________________________
مجمل معنى هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ أن عبد الله بن عمرو أقسم على أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام كل عمره، فسأله: هل قال ذلك؟ فقال: نعم.
فقال: إن هذا يشق عليك ولا تحتمله، وأرشده إلى الطريق المثلى وهو أن يصوم بعض الأيام، ويفطر بعضها، ويقوم بعض الليل، وينام بعضه، وأن يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ليكون كمن صام الدهر.
فأخبره أنه يطيق أكثر من ذلك، ومازال يطلب الزيادة من الصيام حتى انتهى إلى أفضل الصيام، وهو صيام داود عليه السلام، وذلك أن يصوم يوماً، ويفطر يوماً.
فطلب المزيد لرغبته في الخير رضي الله عنه. فقال. لا صوم أفضل من ذلك.
ما يؤخذ من الحديث :
1- رغبة عبد الله بن عمرو بن العاص في الخير وقوتِهِ فيه، إذ أقسم على صيام الدهر وقيام كل الليل.
2- معرفة النبي صلى الله عليه وسلم مَدَى القدرة على العمل وعاقبته، إذ أخبره أنه لا يستطيع ذلك، بمعنى أنه سيشق عليه، وقد كان.
فإن عبد الله تمنى في آخر أيامه أنه لو قام مع النبي صلى الله عليه وسلم على عمل يديمه ويقدر عليه.
3- تقدير النبي صلى الله عليه وسلم العمل بقدرة صاحبه، إذ قصر عبد الله أولاً على ثلاثة أيام من كل شهر، فلما طلب المزيد ورأى النبي صلى الله عليه وسلم فيه الرغبة والقدرة، قال: "فصم يوماَ وأفطر يومين".
فلما أظهر الرغبة في طلب الزيادة، أرشده إلى أفضل الصيام فقال: "فصم يوماً وأفطر يوماً".
4- أن آخر حد للصيام الفاضل، هو صيام يوم، وفطر يوم، وهو صيام داود عليه السلام.
5- كراهة صيام الدهر، لأنه مخالفة لقوله عليه الصلاة والسلام " فصم وأفطر" ولحديث "لا صام من صام الأبد(1)"
6- سماحة هذه الشريعة، حيث يكره فيها التعمق والتنطع، ويطلب فيها السهولة واليسر، لأنه أنشط على العمل، وأدوم عليه.
الحديث الثالث
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْن العَاصْ رَضْيَ الله عَنْهُمَا قال:
__________
(1) رواه الشيخان والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر.
(1/316)
________________________________________
قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم : "إنَ أحَبَّ الصِّيَامِ إلى الله صِيَامُ دَاوُدَ، وَأحَبَّ
الصَّلاةِ إلَى الله صلاةَ دَاوُدَ، كانَ يَنَامُ نِصْفَ الْلَيْلِ وَيَقوُمُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وكانَ
يَصُومُ يَوْماً ويُفطِرُ يَؤماً".
المعنى الإجمالي:
تقدم ذكر سماحة هذه الشريعة ويسرها، فإن الذي خلق الثقلين لعبادته أحب أن يعبدوه بما يسهل عليهم بلا كُلفَةٍ ولا مشقة.
فإن أحب الصيام إليه والصلاة ، ما كان النبي داود عليه الصلاة والسلام يتعبد بهما، وذلك أنه كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام النصف الأول من الليل، ليقوم نشيطاً خفيفاً على العبادة، فيصلي ثلثه، ثم ينام سدسه الأخير ليكون نشيطا لعبادة أول النهار، وهذه الكيفية هي التي رغبها المشرع الحكيم.
ما يؤخذ من الحديث:
1- أن صيام يوم وفطر يوم ، هو أفضل الصيام بما فيه صيام الدهر.
2- أن نوم النصف الأول من الليل، وقيام ثلثه، ثم نوم سدسه، أفضل القيام، لما فيه من أخذ النفس حاجتها من الراحة أولا، ثم القيام وقت النزول الإلهي، ثم نوم السدس الأخير ليكون أنشط لصلاة الصبح وأذكاره .
3- أن العبادة قسط وعدل، فلا يغفل عن عبادته، لا يغلو فيها ؛لأن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرع جاء بالعدل في كل شيء والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات، ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشرع، والأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها.
4- أن الله تبارك وتعالى يتعبدك بأنواع كثيرة من العبادات.
فإذا أوغلت في نوع منها، تركت الباقي، فينبغي إبقاء شيء من القوة لسائر العبادات.
(1/317)
________________________________________
كما أن العبادات التي على الإنسان من معاشرة أهله، وزيارة أصدقائه، وطلبه الرزق في الدنيا، ومحادثة أولاده ونومه، إذا نوى بذلك الأجر وأداء الحقوق، كانت هذه العادات عبادات. ففضل الله واسع، وبِرِّه كبير.
الحديث الرابع
عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضيَ الله عنهُ قَالَ:
أوْصَانِي خليلي بثلاث صيام ثلاثة أَيَّام مِنْ كُل شَهْرٍ، وَرَكْعَتَي الضُّحَى، وَأن أوْتِرَ قَبْلَ أن أنَامَ.
المعنى الإجمالي:
اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاث وصايا نبوية كريمة:
الأولى : الحث على صيام ثلاثة أيام من كل شهر، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فيصير صيام ثلاثة الأيام كصيام الشهر كله.
والأفضل أن تكون الثلاثة، الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر.
كما ورد في بعض الأحاديث، وفي تخصيصها بهذه الأيام فوائد طبية.
الثانية: أن يصلي الضحى، وأقلها ركعتان، لاسيما في حق من لا يصلي من الليل، كأبي هريرة الذي اشتغل بدراسة العلم أول الليل.
وأفضل وقتهما، ارتفاع الضحى حين ترمض الفصال(1) كما جاء في حديث آخر.
الثالثة: أن من لا يقوم آخر الليل، فليوتر قبل أن ينام، كيلا يفوت وقته وكانت هذه الوصية في حق أبي هريرة وأمثاله، ممن ينامون عن الوتر آخر الليل.
ما يؤخذ من الحديث :
1- استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. والأولى أن تكون الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. وقد ورد في تعيينها حديث قتادة بن ملحان الذي أخرجه أهل السنن قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نصوم أيام البيض ثالث عشرة ورابع عشرة وخامس عشرة، وقال: هي كهيئة الدهر".
2- استحباب صلاة الضحى والمواظبة عليها لمن لم يقم لصلاة الليل، لئلا تفوته صلاة الليل والنهار.
__________
(1) الفصال : جمع فصيل، وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه، ورمضها : هو أن نحمي الرمضاء، أي الرمل، فتترك الفصال من شدة وإحراقها أخفافها.
(1/318)
________________________________________
3- الوتر قبل النوم في حق من يغلب على ظنه أنه لا يقوم آخر الليل. آما من غلب على ظنه القيام، فيؤخره إليه، وإن فاته بنوم أو نسيان، فالمستحب أن يقضيه.
4- أن هذه الأحكام الثلاثة المذكورة، من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم الغالية، التي ينبغي أن يعتنى بها ويحرص عليها، لأنها عظيمة النفع، جليلة القدر.
الحديث الخامس
عَنْ محمَّد بْنِ عبَّاد بن جَعْفَر قال:
سَألتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ الله: أنَهَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عن صَوْم الجُمُعَةِ؟ قال: نَعَمْ.
وزاد مسلم (وَرَبِّ الْكَعْبَة).
الحديث السادس
عَنْ أبي هُريرة رَضْيَ الله عَنْهُ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُول: "لا يَصُومَنَّ أحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إلاَّ أنْ
يَصُومَ يَوْماً قَبْلَهُ أو يَوْمَاً بَعْدَهُ".
المعنى الإجمالي:
لما كان يوم الجمعة عيد الأسبوع ، كما أن عيد الفطر وعيد الأضحى ، عيد السنة والعيد فيه الفرح وإظهار السرور ، وفيه إعلان شكر الله على نعمه ، وطلب المزيد، كان الأولى في هذا اليوم أن يكون الإنسان مفطرا ، ليقوى على أدائها.
فشرع إفطار يوم الجمعة ، ولكن يبيحه ، ويزيل كراهة صومه ، أن يقرن به صوم يوم قبله أو بعده ، أو يكون ضمن صوم معتاد ، لئلا يظن العامة أيضاً تخصيص يوم الجمعة بزيادة عبادة على غيره، فيعتقدوها ـ لفضل ذلك اليوم - واجبة.
ما يؤخذ من الحديثين :
1- النهى عن صوم يوم الجمعة.
2- جواز صومه إذا قرن بصيامٍ قبله أو بعده، أو كان في صوم معتاد.
3- يحمل النهي في صومه على التنزيه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصومه في جملة صومه الذي يصوم.
ورخص بصومه إذا قرن بغيره، ولو كان حراماً ما صيم، كعيد الفطر والنحر.
الحديث السابع
عَنْ أبي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أزْهَرَ، وَاسْمُهُ سَعْدُ بْنُ عُبيْدِ، قَال:
(1/319)
________________________________________
شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْن الْخطَّابِ رَضْيَ الله عَنْهُ فَقَالَ: هذَانِ يَوْمَانِ(1) نَهَى رَسُوْل الله
صلى الله عليه وسلم عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْم فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ، وَاليَوْم الآخَرُ اَّلذي تَأكُلُوْنَ
فِيهِ مِنْ نسُكِكُمْ(2).
المعنى الإجمالي:
عيد الفطر وعيد النحر، هما العيدان الإسلاميان، اللذان جعلهما الشارع الحكيم الكريم يوْمَيْ فرح وسرور، وبهجة وحبور، يأتي فيهما المسلمون أنواع المتع المباحة من الأكل والشراب واللباس والزينة وغيرهما.
وقد حرم صومهما، لأن الفطر هو تحليل الصيام، كالسلام للصلاة، ولأن الأضحى يوم الأكل من الضحايا والهدايا، التي أمر الله تعالى بالأكل منهما.
فالخلق في هذين اليومين أضياف الله، فلْيقبلوا ضيافته، وليفطروا فيهما.
ما يؤخذ من الحديث:
1- تحريم صوم يَوْمَيْ الفطر والأضحى.
2- أن الصوم فيهما لا ينعقد، فلا يصح، سواء كان لقضاء أو نفل أو نذر.
3- حكمة النهي عن صومهما، ما أشار إليه في الحديث، من أن عيد الفطر هو اليوم الذي انتهى بدخوله شهر رمضان، فلتميز ولتعرف حدود الصوم الواجب بالفطر.
كما نهى عن صيام يوم أو يومين قبله، تمييزاً له عن غيره.
وأما الأضحى، فلأنه يوم النسك الذي أمر بالأكل منه، فليبادر إلى امتثال أمره، بالتناول من طيبات رزقه، فليس من الأدب واللياقة، الإعراض عن ضيافة الكريم.
4- أنه يستحب للخطيب أن يذكر في خطبته ما يتعلق بوقته من الأحكام ويتحرى المناسبات.
الحديث الثامن
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضيَ الله عَنْه قَالَ:
نَهَى رَسُولُ الله عَنْ صَوم يوْمَيْن : النَّحْرِ، والْفِطْرِ وَعَن اشْتِمَالِ الصَّمَّاء وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ
__________
(1) هذا كلام عمر في أحد العيدين، ولكنه جاء بالإشارة إلى الحاضر من العيدين تغليباً على الغائب منهما.
(2) نسككم : هو النسيكة ، وهي الذبيحة.
(1/320)
________________________________________
في الْثَّوْبِ الوَاحِدِ وَعَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ.
أخرجه "مسلم " بتمامه، وأخرج "البخاري" الصوم فقط(1).
الغريب :
الاحتباء: هو أن يقعد الرجل على إليتيه وينصب ساقيه يدير عليهما ثوباً واحداً.
الصماء: هو أن يرد الرجل الكساء من قبل ميمنته على يده اليسرى، وعاتقه الأيسر ثم يرده ثانية من خلفه على يده اليمنى وعاتقه الأيمن فيغطيهما جميعاً بثوب ليس له منافذ.
المعنى الإجمالي :
نهى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، عن صيام يومين، وعن لبستين، وعن صلاتين.
فأما اليومان المحرم صومهما، فيوم الفطر، ويوم النحر وتقدم شيء منْ حكمة تحريم الصيام فيهما.
وأما اللبستان، فاشتمال الثوب الأصم، الذي ليس له منافذ، فإن لبسه يضر بالصحة، لعدم المنافذ المهوية فيه، ولأنه عنوان الكسل والبطالة، فلبسه يشل الحركة والعمل المطلوبين.
وأما الاحتباء بثوب واحد، فلأنه يخشى معه انكشاف العورة.
وأما الصلاتان، فالصلاة بعد صلاة الصبح، والصلاة بعد صلاة العصر.
فإن الوقتين اللذين بعدهما، وقتا عبادة المشركين، وقد تقدم الكلام عليهما.
ما يؤخذ من الحديث :
1- النهي عن هذه الأشياء المعدودة في الحديث.
2- النهي عن صيام العيدين، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر، من باب التحريم.
والنهي عن اللبستين، للكراهة، ما لم يغلب على الظن انكشاف العورة، فيحرم.
3- مراعاة الشارع مصالح العباد في كل شيء.
الحديث التاسع
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم :
" مَنْ صَامَ يَوْماً في سبيل اللّه بَعَّدَ اللّه وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفاً".
المعنى الإجمالي:
الصيام من العبادات البدنية الشاقة، والجهاد من العبادات المالية والبدنية الصعبة.
__________
(1) الحق أن البخاري أخرجه بتمامه في هذا الباب، وكأن المصنف لم ينظره إلا في باب سترة العورة، فإنه ذكر طرفاً منه بدون ذكر الصوم والصلاة.
(1/321)
________________________________________
فمن قوي عليهما جميعأ، فقام بهما في آن واحد ، فهذا من الذين تركوا راحة الحياة والتلذذ بنعيمها، رغبة فيما عند اللَه تعالى من النعيم، وهرباً من عذابه الأليم، فجزاؤه عند الله تعالى أن يبعده بصوم اليوم الواحد في سبيل اللَه عن النار سبعين سنة.
وإبعاده عن النار، يقتضي تقريبه من الجنة، إذ ليس هناك إلا طريق للجنة وطريق للسعير.
ما يؤخذ من الحديث:
1- فضل الصيام إبَّانَ الجهاد في سبيل الله تعالى، وما يترتب عليه من الثواب العظيم.
2- يقيد استحباب الصيام في سبيل الله بعدم الإضعاف عن الجهاد.
فإن أضعفه فالمستحب له تركه، لأن الجهاد من المصالح العامة، والصوم مصلحة مقصورة على الصائم، وكلما عمت مصلحة العبادة، كانت أولى.
بَابُ لَيلَة القَدْرِ
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللّه بْنِ عمَرَ رَضْيَ اللَه عَنْهُمَا:
أنً رِجَالاً مِنْ أصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المنام. في السْبعِ
الأوَاخِرِ. فقال رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم : "أرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأًتْ في
السَّبْعِ الأوَاخِرِ، فمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فَلْيَتَحَرًهَا في السَّبْع الأوَاخِرِ".
الحديث الثاني
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"تَحَّرَوْا ليْلَةَ الْقَدْرِ فَي الوِتْرِ(1) مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ" .
الغريب :
1- أروا فعل ماضٍ مبني للمجهول من الرؤية.
2- ليلة القدر ليلة مباركة من ليالي رمضان سميت "ليلة القدر" لعظيم قدرها وشرفها. وقيل: لأن للطاعات فيها قدراً، والمعنيان متلازمان.
3- العشر الأواخر: يعني الليالي العشر الأخيرة من شهر رمضان، لأن لها فضلاً ومزية.
__________
(1) لفظة الوتر ليست متفقاً عليها، كما يوهم صنيع المصنف، بل هي من أفراد البخاري .
(1/322)
________________________________________
5- قد تواطأت: أصله أن يطأ الرجل برجله مكان وطئه من قبْله فنقلت هنا إلى معنى موافقة رؤيا الرجل، لرؤيا الآخر.
فتواطأت: مثل توافقت لفظاً ومعنى.
المعنى الإجمالي :
ليلة القدر، ليلة شريفة عظيمة، فيها تضاعف الحسنات وتكفر السيئات، وتقدر الأمور.
ولما علم الصحابة رضي الله عنهم فضلها وكبير منزلتها، أحبوا الاطلاع على وقتها.
ولكن الله سبحانه وتعالى - بحكمته ورحمته بخلقه - أخفاها عنهم ليطول تلمسهم لها في الليالي، فيكثروا من العبادة التي تعود عليهم بالنفع.
فكان الصحابة يرونها في المنام، واتفقت رؤاهم على أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر، فمن كان متحرياً فليتحرها في العشر الأواخر، خصوصاً في أوتار تلك العشر، فإنها أرجى.
وأرجاها وأكثرها علامات ودلالات هي ليلة سبع وعشرين من رمضان.
فليحرص على رمضان، وعشره الأخير أكثر، وليلة سبع وعشرين أبلغ. وفقنا الله لنفحاته الكريمة.
اختلاف العلماء:
اختلف العلماء في تعيين ليلة القدر، وحكى فيها الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" سبعة وأربعين قولاً.
وقد قصد بذلك المشاركة في إبهامها وتعميقها، ولكنه رجح منها أنها في أوتار العشر الأخيرة من رمضان.
وقال الإمام أحمد: أرجاها ليلهَ سبع وعشرين. وهذا القول أرجحها دليلاً.
ما يؤخذ من الحديث :
1- فضل ليلة القدر، لما ميزها الله تعالى من ابتداء نزول القرآن، وتقدير الأمور، وتنزيل الملائكة الكرام فيها.
فصارت في العبادة عن ألف شهر، لمزيد المضاعفة.
2- أن الله تبارك وتعالى- من حكمته ورحمته- أخفاها لِيَجِدَّ الناس في العبادة، طلباً لها، فيكثر ثوابهم.
3- أنها في رمضان وفي العشر الأخير أقرب. خصوصاً، ليلة سبع وعشرين.
1- أن الرؤيا الصالحة حقٌّ، يعمل بها إذا لم تخالف القواعد الشرعية.
(1/323)
________________________________________
فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل تواطؤ رؤياهم على أنها في العشر الأخير، دليلاً على كونها فيها.
5- استحباب طلبها، والتعرض فيها لنفحات الله تعالى.
فهذه ليلة مباركة تضاعف فيها الأعمال، ويستجاب فيها الدعاء، ويسمع النداء.
والمحروم، من حرم طلبها والتعرض لرحمة الله في مظانها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان والليالي العشر إلا واحداً من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيم: إذ تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيا كافيا فإنه ليس من أيامٍ العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة. وأما ليالي عشر رمضان فهي الليالي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يحييها كلها. فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
الحديث الثالث
عَنْ أبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضْيَ الله عَنْهُ: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ
فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فاعْتَكَفَ عَاماً حَتَّى(1) إِذا كَانَتْ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ -
وَهِيَ الْلَيْلَةُ الْتِي يَخْرُجُ مِنْ صَبِيْحَتِهَا مِنَ اعْتِكَافِهِ- قَالَ:
مَنِ اعْتَكَفَ معِي فَلْيَعْتَكِفْ في العَشْرِ الأوَاخِرِ. فَقَدْ أُرِيْتُ هذِهِ الْليْلةَ ثُمَّ أنْسِيتهَا، وَقَدْ
رَأَيْتُنِي أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِيْنٍ مِنْ صَبِيحَتِهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ، والْتَمِسُوهَا فِي
كُل وِتْرٍ.
قَال: فَمَطَرَتِ السَّمَاءُ تِلكَ الْلَيْلَةَ، وَكَانَ الْمَسْجِدُ عَلى عَرِيشٍ فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ،
فَأبْصَرَتْ عَيْنَايَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَبْهَتِهِ أَثَرُ المَاءِ وَالطِّين مِنْ صُبْحِ
إحْدَى وَعشْرِيْنَ.
الغريب :
__________
(1) قوله : حتى إذا كانت .. إلخ : لم يخرجه "مسلم" وإنما هو في بعض روايات البخاري.
(1/324)
________________________________________
في العشر الأوسط : قياسه "الوسطى" لأن العشر مؤنثة، وتوجيه صحته أنه أراد اليوم.
فوكف المسجد: أي قطر من سقفه، ومنه: وكف الدمع.
أريت هذه الليلة ثم أنسيتها: معناه أخبرت في موضعها ثم نسيت كيف أخبرت لحكمة إلهيَّةٍ لا أنه رآها عياناً.
المعنى الإجمالي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الوسطى من شهر رمضان ابتغاء ليلة القدر وتحرياً لمصادفتها لأنه يظن أنها في تلك العشر.
فاعتكف عاماً- كعادته- حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه، علم أن لليلة القدر في العشر الأواخر، فقال لأصحابه:
من اعتكف معي في العشر الوسطى، فليواصل اعتكافه وليعتكف العشر الأواخر.
فقد رأيت في المنام هذه الليلة وأنسيتها وقد رأيتني فيها في المنام أسجد في ماء وطين، وهي رؤيا حق ولم يأت تأويلها، فلابد أنها أمامكم في العشر الأواخر فالتمسوها فيها.
فصدق الله رؤيا نبيه صلى الله عليه وسلم . فمطرت السماء تلك الليلة.
وكان مسجده صلى الله عليه وسلم مبنيا كهيئة العريش، عمده من جذوع النخل، وسقفه من جريدها، فوكف المسجد من أثر المطر، فسجد صلى الله عليه وسلم صبيحة إحدى وعشرين، في ماء وطين.
ما يؤخذ هن الحديث:
1-كون النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسطى، طلباً لليلة القدر، قبل علمه أن وقتها في العشر الأواخر.
2- هذا الحديث من أدلة الذين يرونها في ليلة إحدى وعشرين.
3- يدل هذا الحديث على أنها في العشر الأواخر، وفي أوتارها آكد.
4- أن الرؤيا حق لا سيما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
5- صفة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه، وكونه عريشاً قد سقف بالجريد الملبد بالطينِ، وحيطانه بعسبان النخل، وسواريه بجذوع النخل. فعمارتهم المساجد، بالطاعة فيها، لا بالتشييد والزخرفة.
بَاب الاعتِكَاف
(1/325)
________________________________________
الاعتكاف: في اللغة، لزوم الشيء وحبس النفس عليه، ومنه قوله تعالى: {يَعْكُفُوْنَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ} أي يلازمونها ويقيمون عليها.
وهو في الشرع: "المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة لطاعة الله".
أما حكمه: فقد أجمع العلماء على مشروعيته، وأجمعوا أيضاً على أنه مستحب ليس بواجب.
وأما حكمته وفائدته:- فقد قال "ابن القيم " في "الهدى" لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولمِّ شعثه بإقباله بالكلية على الله تعالى، شرع الاعتكاف الذي مقصوده وروحه، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به، والخطرات كلها بذكره، والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله، بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.
وذكر عقيب الصيام لمناسبتين:
الأولى: أن جملة الكلام على الصيام سيتناول صيام شهر رمضان، وهو الذي يتأكد استحباب الاعتكاف فيه، لما يرجى فيه من ليلة القدر.
الثانية : اتفاق العلماء على مشروعية الصيام مع الاعتكاف لأن تمام قطع العلائق عن الدنيا يكون بالصيام.
وقد اشترط الحنفية والمالكية لصحة الاعتكاف، الصيام. ورد عليهم الصنعاني بأنه لا دليل لهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتكف إلا صائماً. والفعل المجرد لا يكون دالاً على الشرطية. وقد اعتكف في شوال ولم ينقل أنه صام أيام اعتكافه.
الحديث الأول
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ رَسُولَ اللَه صلىالله عليه وسلم كَانَ يَعْتَكِفُ في الْعَشْرِ
(1/326)
________________________________________
الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ حَتًى تَوَفَّاهُ الله تَعَالى. ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدَهُ.
وفي لفظٍ : "كَانَ رَسُولُ الله يَعْتَكِفُ في كلِّ رَمَضَانَ، فَإذَا صلَّى الْغَدَاةَ، جَاءَ مَكَانَهُ
الَّذِي اعْتَكَفَ فِيْهِ".
المعنى الإجمالي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، طلباً لليلة القدر، بعد أن علم أنها في تلك العشر، واستمر يعتكفهن كل سنة، حتى توفاه الله تعالى.
ثم اعتكف أزواجه رضي الله عنهن، من بعده يطلبن ما طلب.
وإذا صلى الصبح دخل معتكفه، وهو ما يحتجزه من المسجد للخلوة وقطع العلائق عن الخلائق.
ما يؤخذ من الحديث :
1- مشروعية الاعتكاف، وأنه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، التي يحرص عليها.
2- فائدته وثمرته: هي أن يقطع المعتكِف علائقه عن الدنيا وما فيها، ويخلو بربه، ويتلذذ بمناجاته وجمعه نفسه وخواطره وأفكاره، عليه وعلى عبادته.
3- أن اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم استقر- أخيراً- على العشر الأواخر من رمضان، لما يُرجَى فيهن من ليلة القدر.
4- أن الاعتكاف سنة مستمرة لم تنسخ إذ اعتكف أزواجه صلى الله عليه وسلم بعده.
5- أن وقت دخول المعتكِف مكان اعتكافه، يكون بعد صلاة الصبح.
6- أنه لا بأس من أن يحتجز المعتكف ما يخلو به إذا لم يضيق على المصلين. لما أخرج الشيخانْ عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يعتكف أمر بضرب خبائه فضرب.
7- يؤخذ من معنى الاعتكاف، ومن مقصده أن المعتكف يجتنب الجماع ودواعيه، والخروج من معتكفه لغير حاجة، ويجتنب أعمال الدنيا من المعاوضات والصنائع ونحوها، وأن يُقِلَّ من مخالطة الناس لغير اجتماع في ذكر أو قرآن، لأن هذه الأشياء وأشباهها، منافية للاعتكاف.
8- أن شرط الاعتكاف أن يكون في مسجد تقام فيه الجماعة لقوله تعالى : {وأنتم عاكفون في المساجد} لئلا يفضي اعتكافه إلى ترك الجماعة، أو إلى تكرار الخروج إليها كثيراً.
(1/327)
________________________________________
الحديث الثاني
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّها كَانَتْ ترَجِّلُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهِيَ حَائِضٌ،
وَهُوَ مُعْتَكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وهِيَ فِي حُجْرَتِهَا، يُنَاوِلُهَا رَأسَهُ.
وفي رواية: "وَكَانَ لا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِحَاجَةِ الإنْسَانِ".
وفي رواية: " أنَ عَائِشَةَ قَالَتْ: إني كُنْت لا أدْخُلُ الْبَيْتَ إلاَّ لِلْحَاجَةِ والْمَرِيضُ فِيهِ، فَمَا
أَسْأَلُ عَنْهُ إلاَّ وَأَنَا مَارَّة.
الترجيل: تسريح الشعر.
المعنى الإجمالي:
اليهود يتشددون في أمر الحائض فيجتنبون منها ما أباحه الله، من المباشرة والمضاجعة، بل يعتزلونها ويرونها رجساً نجساً.
والنصارى على نقيضيهم، فلا يتحاشون عنها، بل يعاملونها معاملة الطاهرة.
أما الإسلام دين السماح واليسر، ودين العدل والتوسط، فيراها طاهرة في بدنها وعرقها وثوبها. فالمؤمن لا ينجس، لا حيا ولا ميتاً
فلا بأس من مباشرتها للأشياء الرطبة واليابسة. بل لا بأس من أن يباشرها زوجها بما دون الفرج.
أما الجماع فيحرمه لما فيه من الخبث، الذي يعود بالضرر على المجامع وعلى الولد إن قُدِّر في ذاك الجماع.
لذا كانت عائشة رضي الله عنها تصلح رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهى حائض.
فكان اعتكافه لا يمنعه من ترجيل شعره، وتنظيف بدنه، وكان لا يخرج من المسجد لذلك، بل يناولها رأسه وهو في المسجد وهي في بيتها.
فقد كان اعتكافه يمنعه من الخروج إلا لما فيه حاجته من طعام أو شراب، أو قضاء حاجة ونحو ذلك.
فالاعتكاف لزوم المسجد. والخروج ينافيه، لذا حكت عائشة عن نفسها أنها لا تدخل البيت إلا لحاجةٍ إذا اعتكفت.
ومن اهتمامها بسرعة الرجوع، يكون المريض في طريقها فلا تقف لتواسيه، بل تسأل عنه وهي في طريقها بالذهاب أو الإياب إلى المسجد.
ما يؤخذ من الحديث :
1- أن الاعتكاف لا يمنع من ترجيل الشعر وغسله وأنواع التنظيف.
2- أنه لا بأس من ملامسة الحائض ومباشرتها للأشياء.
(1/328)
________________________________________
3- أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد.
4- أن المعتكف لا يخرج من المسجد إلا لحاجة، كالطعام والشراب.
5- أن إخراج بعض البدن من المسجد، لا يعد خروجا.
6- أن الحائض لا تمكث في المسجد، لئلا تلوثه.
7- أن من خرج لقضاء حاجة فَلْيَعُدْ إليه سريعاً، ولا يشتغل بغير حاجته التي أباحت له الخروج.
8- أن لمس المرأة لغير شهوة، لا يضر في الاعتكاف.
الحديث الثالث
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطًابِ رَضيَ الله عَنْهُ قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنِّي كُنْتُ نَذَرْتُ في الجَاهِلية
أَنْ أعْتَكِفَ لَيْلَةً "وفي رواية: يَوْمَاً فِي المَسْجِدِ الْحَرَامِ".
قال: " فَأوْفِ بِنَذْرِكَ " ولم يذكر بعض الرواة "يوماً" ولا "ليلة".
المعنى الإجمالي :
نذر عمر بن الخطاب في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة في المسجد الحرام، فسأل النبي عن حكم نذره.
فلما كان مطالباً بوفائه، سواء عقده في حال كفره أو إسلامه، أمره أن يوفي بنذره، لأنه وإن كان عقده مكروهاً إلا أن الوفاء به واجب.
ما يؤخذ من الحديث:
1- وجوب الوفاء بالنذر، ولو عقد في حال الكفر.
2- إذا عيَّن لاعتكافه المسجد الحرام تعيَّن، فإن عيَّن ما دونه من المساجد أجزأه عنها، وكل مسجد فاضل يجزئ عما دونه بالفضل.
3- أن الاعتكاف يجب بالنذر، ويلزم الوفاء به.
4- ورد في الحديث نذر " ليلة " وورد "يوماً" وورد مطلقاً. فمن أخذ برواية الليل أجزأه الاعتكاف بدون صوم.
ومن جعل المراد بالليل أو اليوم ما يشملهما جميعاً، اشترط الصوم في الاعتكاف، وهما قولان للعلماء، والأحوط الصيام معه.
الحديث الرابع
عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُييٍّ رضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُوْل الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً
في المَسْجِدِ، فَأَتَيْتُهُ أَزُورَهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ. ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي - وَكَانَ
مَسْكَنُهَا فِي بَيْتِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.
(1/329)
________________________________________
فَمَرّ رَجُلانِ مِنَ الأنْصَارِ، فَلَمَّا رأَيَا رَسُوْلَ اللّه صلى الله عليه وسلم أسْرَعَا في المَشْي.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : (عَلَى رِسْلِكُمَا، إنًهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ).
فَقَالا: سُبْحَانَ الله يَا رَسُولَ الله.
فَقَالَ:"إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإنِّي خِفْتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا
شَرَّاً (أو قال: شَيْئاً).
وفي رواية: أنَّهَا جَاءَتْ تَزُورُهُ في اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ
رَمَضَانَ، فتَحدََّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً ثُمَّ قَامَتْ تَنقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَعَهَا
يَقْلِبُهَا. حَتَّى إذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عَنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَة" ثُمَّ ذَكَرَهُ بِمَعْنَاهُ.
الغريب :
حُيي : بضم الحاء. هو ابن أخطب اليهودي زعيم بني النضير قتل مع بني قريظة صبراً.
ليقلبني: بفتح الياء وسكون القاف، ليردني ويرجعني إلى منزلي.
في بيت أسامة: نسب البيت إلى أسامة بن زيد، فإنه صار له بعد ذلك.
على رسلكما: بكسر الراء: أي على هينتكما، أي تمهلا ولا تسرعا.
فقالا: سبحان الله، تسبيحٌ وردَ مورد التعجب.
المعنى الإجمالي :
كان النبي صلى الله عليه وسلم معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان.
وكان ينقطع في معتكفه عن الناس إلا قليلاً للمصلحة.
ولذا فإن زوجه صفية رضي الله عنها زارته في إحدى الليالي فحدثته ساعة، ثم قامت إلى بيتها.
فلِمَا جبله الله عليه من كرم الأخلاق واللطف العظيم، وجبر القلوب، قام معها ليشيعها ويؤنسها من وحشة الليل.
وفي أثناء سيره معها، مرَّ رجلان من الأنصار، فاستحييا أن يسايرا النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أهله، فأسرعا في مشيهما.
فقال لهما: تمهلا ولا تسرعا، فإن التي معي زوجي صفية.
فتعجبا وكبر عليهما ذلك وقالا: سبحان الله! كيف تظن يا رسول الله أننا نظن شيئاً؟!
(1/330)
________________________________________
فأخبرهما أنه لم يظن بهما ذلك، وإنما أخبرهما أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم، وله قدرة عليهم عظيمة فإنه يجري منهم مجرى الدم من لطف مداخله، وخَفِيِّ مسالكه. أعاذنا الله منه، بحمايته آمين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الاعتكاف، لاسيما في العشر الأواخر من رمضان.
2- أن المحادثة اليسيرة لا تنافي الاعتكاف، خصوصاً لمصلحة، كمؤانسة الأهل مثلاً.
3- وفيه حسن خلقه ولطفه صلى الله عليه وسلم، إذ آنسها، ثم قام ليشيعها إلى بيتها.
فكذا ينبغي أن يتحلَّى المسلمون بمثل هذه الأخلاق النبوية الكريمة.
4- وفيه أنه ينبغي أن يريل الإنسان ما يلحقه من تهمة، لئلا يظن به شيء هو بريء منه، أي ينبغي التحرز مما يسبب التهمة.
5- أن الشيطان له قدرة وتمكن قَوِيٌّ من إغواء بني آدم، فهو يجري منهم مجرى الدم.
قال "ابن دقيق العيد": وهذا متأكد في حق العلماء، ومن يقتدى بهم.
6- وفيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته:
فإنه يعلم من ظاهر الحال أن الرجلين لم يظنا شيئا، وإنما علم كيد الشيطان الشديد، فخاف عليهما أن يوسوس لهما بشيء يكون سبب هلاكهما
7- قال بعض العلماء: ومنه ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافياً عليه، نفياً للتهمة.
8- جواز خلوة المعتكف بزوجه ومحادثتها، إذا لم يُثِرْ ذلك شهوته المنافية للاعتكاف.
9- قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس. وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. قال الصنعاني: الوساوس تطرق القلب، فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك، وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه.
5
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 
إنضم
23 يونيو 2011
المشاركات
2,069
النقاط
38
الإقامة
مصر
احفظ من كتاب الله
القرآن كاملا
احب القراءة برواية
حفص
القارئ المفضل
الشيخ محمود خليل الحصري
الجنس
أخ
جزاكم الله كل خير
نسأل الله أن يجعله فى موازين حسناتكم
وأن يمن عليكم برضاه والفردوس
الاعلى من الجنة


 
أعلى