- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
الـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الثاني ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدرس
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ التَّوْحِيدِ
- وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: { وما خَلَقْتُ الجنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدونِ } [الذَّارِيَات: 56].
- وَقَوْلُهُ: { ولقدْ بَعَثْنا فِي كلِّ أمَّةٍ رَّسولاً أنِ اعبدُوا اللهَ واجتَنِبُوا الطَّاغوتَ } [النَّحْل: 36].
- وَقَوْلُهُ: { وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَا أوكِلاهُمَا فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وقُل لهما قولاً كَرِيمًا ، واخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُما كَمَا رَبَّيَاني صَغِيرًا } [الإِسْرَاء:23-24].
- وَقَوْلُهُ: { واعبُدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا } [النِّسَاء:36].
- وَقَوْلُهُ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا وبالوَالِدينِ إحسَانًا ولا تقتلُوا أولادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُم وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ وَلا تقتلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتي هِيَ أحسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعهدِ الله أَوفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأَنْعَام:151-153].
- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا } إِلَى قَوْلِه: { وأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيمًا }الآيَةَ .
- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَـارٍ فَقَـالَ لِي : " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ؟ " ، قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ.
الثَّانِيةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوْحِيدُ؛ لأَِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَعْبُدِ اللهَ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ }.
الرَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ كُلَّ أُمَّةٍ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ.
السَّابِعَةُ: الْمَسْأَلَةُ الْكَبِيرَةُ: أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لاَ تَحْصُلُ إِلاَّ بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { فَمَن يَكْفُرْ بالطَّاغوت ويؤمن بالله } الآيَةَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ.
التَّاسِعَةُ: عِظَمُ شَأْنِ ثَلاَثِ الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَفِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: أَوَّلُهَا النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ.
الْعَاشِرَةُ: الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ وَفِيهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ؛ بَدَأَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ: { لا تجعلْ معَ الله إلهًا آخرَ فتقعدَ مذمومًا مخذولاً }، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } ، وَنَبَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ: { ذلكَ مما أوحَى إليكَ ربُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ }.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ الْحُقُوقِ الْعَشَرَةِ بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: { وَاعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ الْعِبَادِ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّوْا حَقَّهُ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لاَ يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ كِتْمَانِ الْعِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِحْبَابُ بَشَارَةِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْخَوْفُ مِنَ الاِتِّكَالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُ الْمَسْئُولِ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
الْعِشْرُونَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ دُونَ الْبَعْضِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم لِرُكُوبِ الْحِمَارِ مَعَ الإِرْدَافِ عَلَيْهِ.
الثَّانِيةُ وَالْعِشْرُونَ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
- وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى: { وما خَلَقْتُ الجنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدونِ } [الذَّارِيَات: 56].
- وَقَوْلُهُ: { ولقدْ بَعَثْنا فِي كلِّ أمَّةٍ رَّسولاً أنِ اعبدُوا اللهَ واجتَنِبُوا الطَّاغوتَ } [النَّحْل: 36].
- وَقَوْلُهُ: { وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وبالوالدَيْنِ إحْسَانًا إمَّا يَبْلُغَنَّ عندَكَ الكِبَرَ أحَدُهُمَا أوكِلاهُمَا فلا تَقُلْ لهما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وقُل لهما قولاً كَرِيمًا ، واخْفِضْ لهما جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحمَةِ وقُل رَّبِّ ارْحَمْهُما كَمَا رَبَّيَاني صَغِيرًا } [الإِسْرَاء:23-24].
- وَقَوْلُهُ: { واعبُدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا بِهِ شَيْئًا } [النِّسَاء:36].
- وَقَوْلُهُ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا وبالوَالِدينِ إحسَانًا ولا تقتلُوا أولادَكُمْ مِنْ إمْلاقٍ نحنُ نَرْزُقُكُمْ وإيَّاهُم وَلا تَقْرَبُوا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنها ومَا بَطَنَ وَلا تقتلُوا النَّفسَ الَّتِي حَرَّم اللهُ إلاَّ بالحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَعقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتي هِيَ أحسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ وَأوفُوا الكَيلَ وَالمِيزَانَ بِالقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَها وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعهدِ الله أَوفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [الأَنْعَام:151-153].
- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّتِي عَلَيْهَا خَاتَمُهُ فَلْيَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ ما حرَّم رَبُّكم عليكم ألاَّ تُشرِكوا بهِ شَيْئًا } إِلَى قَوْلِه: { وأَنَّ هذا صِراطي مُستَقيمًا }الآيَةَ .
- وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَـارٍ فَقَـالَ لِي : " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ ؟ " ، قُلْتُ : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا "، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ.
الثَّانِيةُ: أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ التَّوْحِيدُ؛ لأَِنَّ الْخُصُومَةَ فِيهِ.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَمْ يَعْبُدِ اللهَ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ }.
الرَّابِعَةُ: الْحِكْمَةُ فِي إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
الْخَامِسَةُ: أَنَّ الرِّسَالَةَ عَمَّتْ كُلَّ أُمَّةٍ.
السَّادِسَةُ: أَنَّ دِينَ الأَنْبِيَاءِ وَاحِدٌ.
السَّابِعَةُ: الْمَسْأَلَةُ الْكَبِيرَةُ: أَنَّ عِبَادَةَ اللهِ لاَ تَحْصُلُ إِلاَّ بِالْكُفْرِ بِالطَّاغُوتِ، فَفِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ: { فَمَن يَكْفُرْ بالطَّاغوت ويؤمن بالله } الآيَةَ.
الثَّامِنَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ.
التَّاسِعَةُ: عِظَمُ شَأْنِ ثَلاَثِ الآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي سُورَةِ الأَنْعَامِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَفِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ: أَوَّلُهَا النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ.
الْعَاشِرَةُ: الآيَاتُ الْمُحْكَمَاتُ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ وَفِيهَا ثَمَانِيَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ؛ بَدَأَهَا اللهُ بِقَوْلِهِ: { لا تجعلْ معَ الله إلهًا آخرَ فتقعدَ مذمومًا مخذولاً }، وَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ: { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا } ، وَنَبَّهَنَا اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ: { ذلكَ مما أوحَى إليكَ ربُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ }.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: آيَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ الَّتِي تُسَمَّى آيَةَ الْحُقُوقِ الْعَشَرَةِ بَدَأَهَا اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: { وَاعْبُدُوا اللهَ ولاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: التَّنْبِيهُ عَلَى وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ اللهِ تَعَالَى عَلَيْنَا.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: مَعْرِفَةُ حَقِّ الْعِبَادِ عَلَيْهِ إِذَا أَدَّوْا حَقَّهُ.
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لاَ يَعْرِفُهَا أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: جَوَازُ كِتْمَانِ الْعِلْمِ لِلْمَصْلَحَةِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اسْتِحْبَابُ بَشَارَةِ الْمُسْلِمِ بِمَا يَسُرُّهُ.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: الْخَوْفُ مِنَ الاِتِّكَالِ عَلَى سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُ الْمَسْئُولِ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
الْعِشْرُونَ: جَوَازُ تَخْصِيصِ بَعْضِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ دُونَ الْبَعْضِ.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: تَوَاضُعُهُ صلى الله عليه وسلم لِرُكُوبِ الْحِمَارِ مَعَ الإِرْدَافِ عَلَيْهِ.
الثَّانِيةُ وَالْعِشْرُونَ: جَوَازُ الإِرْدَافِ عَلَى الدَّابَّةِ.
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَضِيلَةُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ.
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: عِظَمُ شَأْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم، كتاب التوحيد وقول الله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] )
أولا: عنوان الكتاب : كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وهذا العنوان دال على مضمون هذا الكتاب ومقصوده وما جمع له، فعنوان الكتاب "كتاب التوحيد"
وكتاب هذه الكلمة هي مصدر للفعل كَتَبَ يَكْتُبُ ومدار هذه الكلمة على الجمع؛ ولهذا يقال للجماعة أو المجموعة من الخيل "كتيبة" والكتابة سميت كتابة لأن ما كتب جمع فيه كلمات وأحرف في عنوان واحد أو في موضوع واحد، فإذا قال الشيخ كتاب التوحيد أي: المكتوب المجموع المؤلف في موضوع التوحيد.
والتوحيد : هو موضوع هذا الكتاب ومجموع ما جمع في هذا الكتاب من معلومات وتقريرات واستدلالات كلها في التوحيد الذي هو حق الله على العبيد .
هذا مؤلف كتبه مؤلفه -رحمه الله تعالى- لبيان التوحيد فضله وحقيقته وأنواعه، وأيضا التحذير مما يضاده ويناقضه أو ينقص كماله الواجب.
أولا: عنوان الكتاب : كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد وهذا العنوان دال على مضمون هذا الكتاب ومقصوده وما جمع له، فعنوان الكتاب "كتاب التوحيد"
وكتاب هذه الكلمة هي مصدر للفعل كَتَبَ يَكْتُبُ ومدار هذه الكلمة على الجمع؛ ولهذا يقال للجماعة أو المجموعة من الخيل "كتيبة" والكتابة سميت كتابة لأن ما كتب جمع فيه كلمات وأحرف في عنوان واحد أو في موضوع واحد، فإذا قال الشيخ كتاب التوحيد أي: المكتوب المجموع المؤلف في موضوع التوحيد.
والتوحيد : هو موضوع هذا الكتاب ومجموع ما جمع في هذا الكتاب من معلومات وتقريرات واستدلالات كلها في التوحيد الذي هو حق الله على العبيد .
هذا مؤلف كتبه مؤلفه -رحمه الله تعالى- لبيان التوحيد فضله وحقيقته وأنواعه، وأيضا التحذير مما يضاده ويناقضه أو ينقص كماله الواجب.
(1) افْتَتَحَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ كِتَابَهُ بالبَسْمَلَةِ، اقْتِدَاءً بالكِتَابِ العَزِيزِ وعَمَلاً بالحَدِيثِ: " كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لاَ يُبْدَأُ فِيهِ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَهُوَ أَقْطَعُ " رَوَاهُ الحَافِظُ عَبْدُ القَادِرِ الرَّهاويُّ في الأَرْبَعِينَ مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الخَطِيبُ في الجَامِعِ بنحوِهِ.
والشيخ -رحمه الله تعالى- قال: "كتاب التوحيد" ودخل مباشرة، وهذا أيضا فيه حكمة وفيه منفعة عظيمة أن يدخل الإنسان مباشرة مع الآيات والأحاديث والأدلة المبينة لكلام الله وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الباب العظيم والمقصد الجليل توحيد الله -سبحانه وتعالى-.
وبَدْءُ المصنف -رحمه الله- بالبسملة في أول كتابه هذا تأس منه -رحمه الله تعالى- بكتاب الله العزيز وبسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تأس منه بما كان عليه الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وبما كان عليه خاتمهم -صلى الله عليه وسلم- في مكاتباته ومراسلاته -صلوات الله وسلامه عليه- وقد قال الله -جل وعلا- عن كتاب سليمان ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿30﴾ [النمل: 30] فهذه سنة ماضية أن يبدأ الإنسان بالبسملة.
والبسملة هي استعانة بالله -سبحانه وتعالى- لأن الباء في "بسم الله" باء الاستعانة ومعنى قولك: "بسم الله" أي: بسم الله أبدأ أو أكتب أو أقرأ أو أؤلف أو حسب الأمر الذي شرعت فيه فتبدأه بـ"بسم الله" أي طالبا عون الله -سبحانه وتعالى- متبركا بذكر اسمه -جل وعلا-.
بسم الله الرحمن الرحيم، وفي البسملة ثلاثة أسماء حسنى لله -تبارك وتعالى- دالة على كماله وجلاله وعظمته -سبحانه وتعالى- وهي "الله" الدالة على الألوهية والعبودية .
والرحمن الرحيم وهما اسمان دالان على ثبوت الرحمة صفة لله -سبحانه وتعالى- والرحمن دال على قيامها به، والرحيم دال على تعلقها بالمرحومين وتأمل ذلك في قوله ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً﴾ [الأحزاب: 43] ولم يأت رحمن ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً﴾ فإذن اسمه الرحمن دال على صفته الرحمة القائمة به، واسمه الرحيم دال على تعلقها بالمرحوم.
وبَدْءُ المصنف -رحمه الله- بالبسملة في أول كتابه هذا تأس منه -رحمه الله تعالى- بكتاب الله العزيز وبسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- تأس منه بما كان عليه الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وبما كان عليه خاتمهم -صلى الله عليه وسلم- في مكاتباته ومراسلاته -صلوات الله وسلامه عليه- وقد قال الله -جل وعلا- عن كتاب سليمان ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿30﴾ [النمل: 30] فهذه سنة ماضية أن يبدأ الإنسان بالبسملة.
والبسملة هي استعانة بالله -سبحانه وتعالى- لأن الباء في "بسم الله" باء الاستعانة ومعنى قولك: "بسم الله" أي: بسم الله أبدأ أو أكتب أو أقرأ أو أؤلف أو حسب الأمر الذي شرعت فيه فتبدأه بـ"بسم الله" أي طالبا عون الله -سبحانه وتعالى- متبركا بذكر اسمه -جل وعلا-.
بسم الله الرحمن الرحيم، وفي البسملة ثلاثة أسماء حسنى لله -تبارك وتعالى- دالة على كماله وجلاله وعظمته -سبحانه وتعالى- وهي "الله" الدالة على الألوهية والعبودية .
والرحمن الرحيم وهما اسمان دالان على ثبوت الرحمة صفة لله -سبحانه وتعالى- والرحمن دال على قيامها به، والرحيم دال على تعلقها بالمرحومين وتأمل ذلك في قوله ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً﴾ [الأحزاب: 43] ولم يأت رحمن ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمً﴾ فإذن اسمه الرحمن دال على صفته الرحمة القائمة به، واسمه الرحيم دال على تعلقها بالمرحوم.
قال بسم الله الرحمن الرحيم ثم حمد الله وحمد الله : هو ثناء عليه مع حبه سبحانه، وصلى وسلم على رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِه وَسَلَّمَ)
أَصَحُّ مَا قِيلَ في مَعْنَى صلاةِ اللهِ عَلَى عبدِهِ ما ذَكَرَهُ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عنْ أَبِي العَالِيَةِ قالَ: صلاةُ اللهِ ثناؤُهُ عَلَيهِ عِندَ الْمَلائكَةِ، وقَرَّرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ونَصَرَهُ في كتابَيْهِ جَلاَءِ الأفْهَامِ وبَدَائعِ الفَوَائِدِ.
وقَدْ يُرَادُ بِها الدُّعاءُ، كما في المُسْندِ عنْ عليٍّ مَرْفوعًا: " الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ " .
قولُهُ: (وَعَلَى آلِهِ) أيْ: أتْباعِهِ عَلَى دِينِهِ ، نَصَّ عليهِ الإمامُ أحمدُ هنا، وعليهِ أكثرُ الأصحابِ ، وعلى هذا فيَشْمَلُ الصَّحابةَ وغيرَهُمْ مِن المُؤْمِنينَ.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِه وَسَلَّمَ)
أَصَحُّ مَا قِيلَ في مَعْنَى صلاةِ اللهِ عَلَى عبدِهِ ما ذَكَرَهُ البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عنْ أَبِي العَالِيَةِ قالَ: صلاةُ اللهِ ثناؤُهُ عَلَيهِ عِندَ الْمَلائكَةِ، وقَرَّرَهُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ونَصَرَهُ في كتابَيْهِ جَلاَءِ الأفْهَامِ وبَدَائعِ الفَوَائِدِ.
وقَدْ يُرَادُ بِها الدُّعاءُ، كما في المُسْندِ عنْ عليٍّ مَرْفوعًا: " الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ: اللهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللهُمَّ ارْحَمْهُ " .
قولُهُ: (وَعَلَى آلِهِ) أيْ: أتْباعِهِ عَلَى دِينِهِ ، نَصَّ عليهِ الإمامُ أحمدُ هنا، وعليهِ أكثرُ الأصحابِ ، وعلى هذا فيَشْمَلُ الصَّحابةَ وغيرَهُمْ مِن المُؤْمِنينَ.
ثم قال -رحمه الله تعالى-: "كتاب التوحيد" وجعل هذا عنوان الترجمة الأولى لكتابه فقال: "كتاب التوحيد"
كتابُ: مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابَةً وكَتْبًا، ومَدَارُ الْمَادَّةِ عَلَى الجَمْعِ ، ومنهُ:تَكَتَّبَ بَنُو فُلاَنٍ: إذا اجْتَمَعُوا ، والكَتِيبَةُ: لِجَمَاعَةِ الخَيْلِ، والكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ لاجْتِمَاعِ الكلماتِ والحروفِ ، وَسُمِّيَ الكتابُ كتابًا لِجَمْعِهِ ما وُضِعَ لَهُ.
التَّوْحِيدُ نوعانِ:
-تَوْحيدٌ في المعرفةِ والإثباتِ، وهوَ توحيدُ الرُّبُوبيَّةِ والأسماءِ والصفاتِ.
-وتوحيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ، وهوَ تَوْحيدُ الإلهيَّةِ والعبادةِ.
قالَ العلاَّمةُ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وأمَّا التَّوحيدُ الذي دَعَتْ إليهِ الرُّسُلُ ونَزَلَتْ بِهِ الكُتُبُ، فهوَ نَوْعانِ:
- تَوْحيدٌ في المَعْرِفَةِ والإثْباتِ.
- وتَوْحِيدٌ في الطَّلبِ والقَصْدِ.
ثم رأسا شرع في ذكر الأدلة على التوحيد .
وكلمة "باب" المدخل إلى الشيء فالشيخ يعقد بابا في كتابه ويليه باب إلى آخر أبواب الكتاب ثم يذكر الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: وقولِ اللهِ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]. ) ، بالجرِّ عَطْفٌ على التَّوْحيدِ ، ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الابْتِدَاءِ.
قَالَ شَيْخُ الإسلامِ: العبادةُ: هيَ طَاعَةُ اللهِ بامْتثالِ ما أمَرَ اللهُ بهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ، وقَالَ أيضًا: العبادةُ: اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاهُ مِن الأقوالِ والأعْمَالِ الظَّاهِرَةِ والباطِنَةِ ، قالَ ابنُ القَيِّمِ: ومَدَارُها عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَها كَمَّلَ مَراتِبَ العُبُودِيَّةِ ؛ وبيانُ ذلكَ: أنَّ العبادَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى القَلْبِ واللّسانِ والجَوارِحِ ، والأَحْكَامُ التي للعُبُودِيَّةِ خَمْسَةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرَامٌ ومَكْرُوهٌ، ومُبَاحٌ، وَهُنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن القَلْبِ واللسانِ والجَوَارِحِ.
وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ العبادةِ التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ، وسُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لأَنَّهُم يَلْتَزِمُونَها ويَفْعَلُونَها خَاضِعِينَ متذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى ، ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الجنَّ والإنسَ إلاَّ لعبادَتِهِ، فهذا هوَ الحِكْمَةُ في خَلْقِهِم.
قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾
كتابُ: مَصْدَرُ كَتَبَ يَكْتُبُ كِتَابًا وكِتَابَةً وكَتْبًا، ومَدَارُ الْمَادَّةِ عَلَى الجَمْعِ ، ومنهُ:تَكَتَّبَ بَنُو فُلاَنٍ: إذا اجْتَمَعُوا ، والكَتِيبَةُ: لِجَمَاعَةِ الخَيْلِ، والكِتَابَةُ بِالْقَلَمِ لاجْتِمَاعِ الكلماتِ والحروفِ ، وَسُمِّيَ الكتابُ كتابًا لِجَمْعِهِ ما وُضِعَ لَهُ.
التَّوْحِيدُ نوعانِ:
-تَوْحيدٌ في المعرفةِ والإثباتِ، وهوَ توحيدُ الرُّبُوبيَّةِ والأسماءِ والصفاتِ.
-وتوحيدٌ في الطَّلَبِ والقَصْدِ، وهوَ تَوْحيدُ الإلهيَّةِ والعبادةِ.
قالَ العلاَّمةُ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وأمَّا التَّوحيدُ الذي دَعَتْ إليهِ الرُّسُلُ ونَزَلَتْ بِهِ الكُتُبُ، فهوَ نَوْعانِ:
- تَوْحيدٌ في المَعْرِفَةِ والإثْباتِ.
- وتَوْحِيدٌ في الطَّلبِ والقَصْدِ.
ثم رأسا شرع في ذكر الأدلة على التوحيد .
وكلمة "باب" المدخل إلى الشيء فالشيخ يعقد بابا في كتابه ويليه باب إلى آخر أبواب الكتاب ثم يذكر الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: وقولِ اللهِ تَعَالَى: { وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات:56]. ) ، بالجرِّ عَطْفٌ على التَّوْحيدِ ، ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلَى الابْتِدَاءِ.
قَالَ شَيْخُ الإسلامِ: العبادةُ: هيَ طَاعَةُ اللهِ بامْتثالِ ما أمَرَ اللهُ بهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ، وقَالَ أيضًا: العبادةُ: اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويَرْضَاهُ مِن الأقوالِ والأعْمَالِ الظَّاهِرَةِ والباطِنَةِ ، قالَ ابنُ القَيِّمِ: ومَدَارُها عَلَى خَمْسَ عَشْرَةَ قَاعِدَةً، مَنْ كَمَّلَها كَمَّلَ مَراتِبَ العُبُودِيَّةِ ؛ وبيانُ ذلكَ: أنَّ العبادَةَ مُنْقَسِمَةٌ عَلَى القَلْبِ واللّسانِ والجَوارِحِ ، والأَحْكَامُ التي للعُبُودِيَّةِ خَمْسَةٌ: واجِبٌ، ومُسْتَحَبٌّ، وحَرَامٌ ومَكْرُوهٌ، ومُبَاحٌ، وَهُنَّ لكلِّ واحِدٍ مِن القَلْبِ واللسانِ والجَوَارِحِ.
وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَصْلُ العبادةِ التَّذَلُّلُ والخُضُوعُ، وسُمِّيَتْ وَظَائِفُ الشَّرْعِ عَلَى المُكَلَّفِينَ عِبَادَاتٍ؛ لأَنَّهُم يَلْتَزِمُونَها ويَفْعَلُونَها خَاضِعِينَ متذَلِّلِينَ للهِ تَعَالَى ، ومَعْنَى الآيةِ: أنَّ اللهَ تعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَا خَلَقَ الجنَّ والإنسَ إلاَّ لعبادَتِهِ، فهذا هوَ الحِكْمَةُ في خَلْقِهِم.
قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴿56﴾ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ﴿57﴾ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾
أنَّ اللهَ خَلَقَ الخَلْقَ ليَعْبُدُوهُ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، فمَنْ أَطَاعَهُ جَازَاهُ أَتَمَّ الجَزَاءِ، ومَنْ عَصَاهُ عَذَّبَهُ أشدَّ العذابِ، وأخْبَرَ أَنَّهُ غيرُ مُحْتاجٍ إليهم، بلْ هم الفُقَرَاءُ إليه في جَمِيعِ أَحْوَالِهم، وهوَ خَالِقُهم ورَازِقُهم.
ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الله -تبارك وتعالى- يقول: يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)[165] رواه مسلم.
إذن طاعة من أطاع، وتوحيد من وحد، وإيمان من آمن لا ينفع الله، وشرك من أشرك، وكفر من كفر، وضلال من ضل لا يضر الله، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وحقيقة الأمر كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَ﴾ [الإسراء: 15] ولهذا كان واجبا على كل إنسان يريد السعادة لنفسه ويريد الخير أن يعرف هذا التوحيد الذي هو الغاية من خلقه وإيجاده، فيعرفه ويتعلمه ويسعى في تحقيقه وتكميله .
إذن هذه الآية الأولى تدل على أن الغاية من خلق الناس وإيجاد الثقلين توحيد الله -جل وعلا-.
5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وقوْلِه: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }[النحل:36] . )
هنا سنلاحظ أن ترتيب المصنف للأدلة فيه متانة ودقة وحسن تحريك، فبدأ أول ما بدأ بذكر الآية الدالة على أن الغاية من خلق الناس توحيد الله، خلقوا لتوحيده، ثم الغاية من بعثة الرسل للناس هي الدعوة إلى هذا التوحيد، فالغاية من بعثة الرسل والحكمة من إرسالهم الدعوة إلى توحيد الله، قال تعالى الطَّاغُوتُ: مُشْتَقٌّ مِن الطُّغْيانِ، وهو مُجَاوَزَةُ الحدِّ ؛ قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطاغوتُ: الشيطانُ ، وقالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّواغيتُ: كُهَّانٌ كانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهم الشياطينُ ، رَوَاهُما ابنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وقَالَ مَالكٌ: الطاغوتُ: كلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ ، قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطانُ وما زَيَّنَهُ مِن عِبادةِ غَيْرِ اللهِ.
وقدْ حَدَّهُ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تَعالى حدًّا جامِعًا: الطاغوتُ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أوْ مَتْبُوعٍ أوْ مُطَاعٍ.
يقول الله تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ طائفةٍ من الناسِ رَسُولاً بهذِهِ الكلمةِ: { أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ } أي: اعْبُدُوا اللهَ وحدَهُ واتْرُكُوا عِبَادَةَ ما سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:256] وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)؛ فإِنَّها هيَ العُرْوةُ الوُثْقَى.
إذن أول ما يقرع سمع الأقوام من أنبيائهم التوحيد، وهذا يدلنا على أن التوحيد هو زبدة دعوة المرسلين وخلاصة رسالتهم والغاية من بعثهم ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ وهذا يدل أيضا على أن حجة الله قائمة ببعثة الرسل، فمن بلغته دعوة المرسلين لا عذر له والحجة عليه قائمة ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ نلاحظ هنا فائدة عظيمة جليلة القدر في هذه الآية وفي نظائرها من الآيات أن التوحيد لابد فيه من أمرين إثبات ونفي لا توحيد إلا بهما إثبات ونفي، كما هو أيضا في كلمة التوحيد العظيمة "لا إله إلا الله" ويجب علينا أن نعلم أنه لا توحيد إلا بالأمرين، فهما ركنان يقوم عليهما التوحيد الإثبات والنفي، الإثبات في الآية في قوله ﴿اعْبُدُوا اللهَ﴾ والنفي في قوله ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ﴿اعْبُدُوا اللهَ﴾ هذا إثبات ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ هذا نهي، إذن لا توحيد إلا بنفي وإثبات.
إذن الأنبياء بعثوا بهذا التوحيد الخالص، وبالدين النقي، وبالعمل الصافي الذي لم يرد به إلا الله -جل وعلا- وهو الحكمة من بعثهم، وهو الدليل كما ذكر المصنف -رحمه الله تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ هل كل الناس امتثلوا واستجابوا؟ قال تعالى ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ﴾ [النحل: 36] بل قال -سبحانه وتعالى- ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾ [يوسف: 104] أكثر الناس -والعياذ بالله- ضل عن هذا الصراط السوي وعن هذه الجادة المستقيمة التي دعا إليها أنبياء الله ورسله.
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: (وقولِهِ تَعَالَى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْ هُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23،24]
هذه الآية من سورة الإسراء فيها بيان أن التوحيد هو وصية الله لعباده .. بل بيان أن التوحيد هو أعظم وصايا الله -جل وعلا- لعباده.
"وقضى" أي: وصى وأمر؛ لأن "قضى" تأتي على معنى التقدير وتأتي على معنى الأمر والوصية .
قول تعالى ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: 12] هذا تقدير وخلق، أما هنا قضى أي: أمر ووصى
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ أي: وصى وأمر ربك إلا تعبدوا إلا إياه.
وقولُهُ تَعَالَى: { أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } المَعْنَى: أنْ تَعْبُدُوهُ وحْدَهُ دونَ مَا سِوَاهُ، وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: والنَّفْيُ المحضُ ليسَ تَوْحيدًا، وكذلكَ الإثباتُ بِدُونِ النفْيِ، فلا يكونُ التوحيدُ إلاَّ مُتَضَمِّنًا للنَّفيِ والإثباتِ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيدِ.
وقولُهُ: { وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }، أيْ: وقَضَى أنْ تُحْسِنُوا بالوالدَيْنِ إحسانًا، كَمَا قَضَى بعبادتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قالَ تَعَالَى في الآيةِ الأُخْرَى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }[لقمان:14].
وقولُهُ: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا } أيْ: لا تُسْمِعْهُمَا قَوْلاً سيِّئًا، حتَّى ولاَ التَّأْفِيفَ الذي هوَ أدْنَى مراتبِ القولِ السيِّئِ، { وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا } أيْ: لاَ يَصْدُرْ منكَ إليْهِما فِعْلٌ قَبِيحٌ، كما قالَ عطاءُ بنُ أَبِي رَباحٍ: لاَ تَنْفُضْ يَدَيْكَ عَلَى وَالِدَيْكَ.
ولَمَّا نَهَاهُ عَن الفعلِ القبيحِ والقولِ القبيحِ أمَرَهُ بالفعلِ الحَسَنِ والقولِ الحَسَنِ، فقالَ: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أيْ: لَيِّنًا طيِّبًا بأَدَبٍ وتوقيرِ .
وقولُهُ: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }، أيْ: تَوَاضَعْ لَهُما
{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أيْ: في كِبَرِهِمَا وعِنْدَ وفاتِهِمَا { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }.
وقدْ وَرَدَ في بِرِّ الوَالِدَيْنِ أحاديثُ كثيرةٌ منها الحديثُ الْمَرْوِيُّ منْ طُرُقٍ عنْ أنسٍ وغيرِه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنبرَ قَالَ: " آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ " ، فَقَالوا: يا رَسُولَ اللهِ، عَلاَمَ أَمَّنْتَ؟ فَقَالَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ "
إذن استفدنا من هذا السياق المبارك أن أعظم الوصايا وأجل الأوامر التوحيد، وأخطر ما نهى الله عنه بالله -سبحانه وتعالى- هو الشرك بالله -سبحانه وتعالى-.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: وقَوْلُهُ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }[النساء:36] )، قالَ العمادُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذِهِ الآيةِ: يَأْمُرُ تَعَالَى عَبَادَهُ بعِبَادَتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فإنَّهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ في جَمِيعِ الحَالاَتِ، وهوَ المُسْتَحِقُّ منهم أنْ يُوَحِّدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. انتهى.
وهذِهِ الآيةُ هيَ التي تُسَمَّى آيةَ الحُقُوقِ العَشْرَةِ، وفي بعضِ النُّسَخِ المُعْتَمَدةِ مِنْ نُسَخِ هذا الكِتَابِ تَقدِيمُ هذِهِ الآيةِ عَلَى آيةِ الأنْعامِ، ولهذا قدمت لِمُناسَبَةِ كَلاَمِ ابنِ مسعودٍ الآتي لآيةِ الأنعامِ؛ ليكونَ ذِكْرُهُ بعدَها أنْسَبَ.
(3) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وقولِهِ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُـوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام:151-153] ).
قَالَ العِمَادُ ابنُ كثيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى لنبيِّهِ ورَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ}لهؤلاءِ المُشْرِكِينَ الذينَ عَبَدُوا غَيرَ اللهِ، وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُم اللهُ: {تَعَالَوْا} أيْ: هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}أَقُصُّ علَيْكُم حقًّا، لا تَخَرُّصًا ولا ظنًّا، بلْ وَحْيًا منهُ وأمرًا مِنْ عِندِهِ، {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}وكأنَّ في الكَلاَمِ مَحْذُوفًا دَلَّ عليهِ السياقُ تَقْدِيرُهُ: وصَّاكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ ولهذَا قَالَ في آخِرِ الآيةِ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ}.
هذه الآية تسمى عند أهل العلم بآية الحقوق أو الحقوق العشرة، لأنها اشتملت على ذكر عشرة حقوق:
الحق الأول: حق الله أعظم حق على الإطلاق وأجله وأهمه وأكبره فهو حق الله على العبيد، فليس في الحقوق حق أعظم منه، فهو أعظم الحقوق وأجلها وأكبرها على الإطلاق، وأخذنا أن هذا الحق هو أعظم الحقوق من تقديمه والبدء به في آية الحقوق العشرة ذكر الله -جل وعلا- حقوقا كثيرة وذكر في مقدمتها وفي صدرها وفي أولها حقه -سبحانه وتعالى- فقال: ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ هذا أعظم الحقوق على الإطلاق أعظم من حق الأبوين، وأعظم من حق الجيران، وأعظم من حق اليتيم، وأعظم من حق المسكين، وأعظم من حق الصاحب إلى غيرها من الحقوق التي ينبغي على العبد أن يحافظ عليها وأن يقوم بها، فأعظم الحقوق حق الله -سبحانه وتعالى-.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}قالَ الْقُرْطُبِيُّ: الإحسانُ إلى الوالدَيْنِ بِرُّهُمَا، وحِفْظُهما، وصيانَتُهما، وامتثالُ أمْرِهما، وإزالةُ الرقِّ عنْهُما، وتَرْكُ السَّلْطَنَةِ عليْهِمَا، و{إِحْسانًا}نُصِبَ عَلَى المصدريَّةِ، وناصبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِنْ لفظِهِ تقديرُهُ: وأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا.
ولهذا جاء في الحديث القدسي أن الله -تبارك وتعالى- يقول: يَاعِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فَيْ مُلْكِيْ شَيْئَاً. يَا عِبَادِيْ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوْا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِيْ شَيْئَاً، يَا عِبَادِيْ لَوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوْا فِيْ صَعِيْدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُوْنِيْ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِيْ إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إَذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِيْ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيْهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيْكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرَاً فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُوْمَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)[165] رواه مسلم.
إذن طاعة من أطاع، وتوحيد من وحد، وإيمان من آمن لا ينفع الله، وشرك من أشرك، وكفر من كفر، وضلال من ضل لا يضر الله، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، وحقيقة الأمر كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَ﴾ [الإسراء: 15] ولهذا كان واجبا على كل إنسان يريد السعادة لنفسه ويريد الخير أن يعرف هذا التوحيد الذي هو الغاية من خلقه وإيجاده، فيعرفه ويتعلمه ويسعى في تحقيقه وتكميله .
إذن هذه الآية الأولى تدل على أن الغاية من خلق الناس وإيجاد الثقلين توحيد الله -جل وعلا-.
5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: (وقوْلِه: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ }[النحل:36] . )
هنا سنلاحظ أن ترتيب المصنف للأدلة فيه متانة ودقة وحسن تحريك، فبدأ أول ما بدأ بذكر الآية الدالة على أن الغاية من خلق الناس توحيد الله، خلقوا لتوحيده، ثم الغاية من بعثة الرسل للناس هي الدعوة إلى هذا التوحيد، فالغاية من بعثة الرسل والحكمة من إرسالهم الدعوة إلى توحيد الله، قال تعالى الطَّاغُوتُ: مُشْتَقٌّ مِن الطُّغْيانِ، وهو مُجَاوَزَةُ الحدِّ ؛ قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطاغوتُ: الشيطانُ ، وقالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الطَّواغيتُ: كُهَّانٌ كانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهم الشياطينُ ، رَوَاهُما ابنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وقَالَ مَالكٌ: الطاغوتُ: كلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ ، قَالَ الْعِمَادُ ابْنُ كَثِيرٍ: الطَّاغُوتُ: الشَّيْطانُ وما زَيَّنَهُ مِن عِبادةِ غَيْرِ اللهِ.
وقدْ حَدَّهُ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تَعالى حدًّا جامِعًا: الطاغوتُ: مَا تَجَاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أوْ مَتْبُوعٍ أوْ مُطَاعٍ.
يقول الله تَعَالَى أَنَّهُ بَعَثَ في كُلِّ طائفةٍ من الناسِ رَسُولاً بهذِهِ الكلمةِ: { أنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الْطَّاغُوتَ } أي: اعْبُدُوا اللهَ وحدَهُ واتْرُكُوا عِبَادَةَ ما سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:256] وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)؛ فإِنَّها هيَ العُرْوةُ الوُثْقَى.
إذن أول ما يقرع سمع الأقوام من أنبيائهم التوحيد، وهذا يدلنا على أن التوحيد هو زبدة دعوة المرسلين وخلاصة رسالتهم والغاية من بعثهم ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ وهذا يدل أيضا على أن حجة الله قائمة ببعثة الرسل، فمن بلغته دعوة المرسلين لا عذر له والحجة عليه قائمة ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ﴾ نلاحظ هنا فائدة عظيمة جليلة القدر في هذه الآية وفي نظائرها من الآيات أن التوحيد لابد فيه من أمرين إثبات ونفي لا توحيد إلا بهما إثبات ونفي، كما هو أيضا في كلمة التوحيد العظيمة "لا إله إلا الله" ويجب علينا أن نعلم أنه لا توحيد إلا بالأمرين، فهما ركنان يقوم عليهما التوحيد الإثبات والنفي، الإثبات في الآية في قوله ﴿اعْبُدُوا اللهَ﴾ والنفي في قوله ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ﴿اعْبُدُوا اللهَ﴾ هذا إثبات ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ هذا نهي، إذن لا توحيد إلا بنفي وإثبات.
إذن الأنبياء بعثوا بهذا التوحيد الخالص، وبالدين النقي، وبالعمل الصافي الذي لم يرد به إلا الله -جل وعلا- وهو الحكمة من بعثهم، وهو الدليل كما ذكر المصنف -رحمه الله تعالى-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ هل كل الناس امتثلوا واستجابوا؟ قال تعالى ﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ﴾ [النحل: 36] بل قال -سبحانه وتعالى- ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾ [يوسف: 104] أكثر الناس -والعياذ بالله- ضل عن هذا الصراط السوي وعن هذه الجادة المستقيمة التي دعا إليها أنبياء الله ورسله.
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: (وقولِهِ تَعَالَى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْكِلاهُمَا فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْ هُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِن الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[الإسراء:23،24]
هذه الآية من سورة الإسراء فيها بيان أن التوحيد هو وصية الله لعباده .. بل بيان أن التوحيد هو أعظم وصايا الله -جل وعلا- لعباده.
"وقضى" أي: وصى وأمر؛ لأن "قضى" تأتي على معنى التقدير وتأتي على معنى الأمر والوصية .
قول تعالى ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: 12] هذا تقدير وخلق، أما هنا قضى أي: أمر ووصى
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ أي: وصى وأمر ربك إلا تعبدوا إلا إياه.
وقولُهُ تَعَالَى: { أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } المَعْنَى: أنْ تَعْبُدُوهُ وحْدَهُ دونَ مَا سِوَاهُ، وهذا مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ)
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: والنَّفْيُ المحضُ ليسَ تَوْحيدًا، وكذلكَ الإثباتُ بِدُونِ النفْيِ، فلا يكونُ التوحيدُ إلاَّ مُتَضَمِّنًا للنَّفيِ والإثباتِ، وهذا هوَ حقيقةُ التوحيدِ.
وقولُهُ: { وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا }، أيْ: وقَضَى أنْ تُحْسِنُوا بالوالدَيْنِ إحسانًا، كَمَا قَضَى بعبادتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قالَ تَعَالَى في الآيةِ الأُخْرَى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ }[لقمان:14].
وقولُهُ: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا } أيْ: لا تُسْمِعْهُمَا قَوْلاً سيِّئًا، حتَّى ولاَ التَّأْفِيفَ الذي هوَ أدْنَى مراتبِ القولِ السيِّئِ، { وَلاَ تَنْهَرْ هُمَا } أيْ: لاَ يَصْدُرْ منكَ إليْهِما فِعْلٌ قَبِيحٌ، كما قالَ عطاءُ بنُ أَبِي رَباحٍ: لاَ تَنْفُضْ يَدَيْكَ عَلَى وَالِدَيْكَ.
ولَمَّا نَهَاهُ عَن الفعلِ القبيحِ والقولِ القبيحِ أمَرَهُ بالفعلِ الحَسَنِ والقولِ الحَسَنِ، فقالَ: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } أيْ: لَيِّنًا طيِّبًا بأَدَبٍ وتوقيرِ .
وقولُهُ: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }، أيْ: تَوَاضَعْ لَهُما
{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أيْ: في كِبَرِهِمَا وعِنْدَ وفاتِهِمَا { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }.
وقدْ وَرَدَ في بِرِّ الوَالِدَيْنِ أحاديثُ كثيرةٌ منها الحديثُ الْمَرْوِيُّ منْ طُرُقٍ عنْ أنسٍ وغيرِه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الْمِنبرَ قَالَ: " آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ " ، فَقَالوا: يا رَسُولَ اللهِ، عَلاَمَ أَمَّنْتَ؟ فَقَالَ: " أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ خَرَجَ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ آمِينَ. ثُمَّ قَالَ: رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ "
إذن استفدنا من هذا السياق المبارك أن أعظم الوصايا وأجل الأوامر التوحيد، وأخطر ما نهى الله عنه بالله -سبحانه وتعالى- هو الشرك بالله -سبحانه وتعالى-.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: وقَوْلُهُ: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا }[النساء:36] )، قالَ العمادُ ابنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذِهِ الآيةِ: يَأْمُرُ تَعَالَى عَبَادَهُ بعِبَادَتِهِ وحدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ فإنَّهُ الخَالِقُ الرَّازِقُ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ في جَمِيعِ الحَالاَتِ، وهوَ المُسْتَحِقُّ منهم أنْ يُوَحِّدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بهِ شيئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ. انتهى.
وهذِهِ الآيةُ هيَ التي تُسَمَّى آيةَ الحُقُوقِ العَشْرَةِ، وفي بعضِ النُّسَخِ المُعْتَمَدةِ مِنْ نُسَخِ هذا الكِتَابِ تَقدِيمُ هذِهِ الآيةِ عَلَى آيةِ الأنْعامِ، ولهذا قدمت لِمُناسَبَةِ كَلاَمِ ابنِ مسعودٍ الآتي لآيةِ الأنعامِ؛ ليكونَ ذِكْرُهُ بعدَها أنْسَبَ.
(3) قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وقولِهِ: { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَو كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُـوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }[الأنعام:151-153] ).
قَالَ العِمَادُ ابنُ كثيرٍ: يَقُولُ تَعَالَى لنبيِّهِ ورَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ}لهؤلاءِ المُشْرِكِينَ الذينَ عَبَدُوا غَيرَ اللهِ، وحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُم اللهُ: {تَعَالَوْا} أيْ: هَلُمُّوا وأَقْبِلُوا، {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}أَقُصُّ علَيْكُم حقًّا، لا تَخَرُّصًا ولا ظنًّا، بلْ وَحْيًا منهُ وأمرًا مِنْ عِندِهِ، {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}وكأنَّ في الكَلاَمِ مَحْذُوفًا دَلَّ عليهِ السياقُ تَقْدِيرُهُ: وصَّاكُمْ ألاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا؛ ولهذَا قَالَ في آخِرِ الآيةِ: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ}.
هذه الآية تسمى عند أهل العلم بآية الحقوق أو الحقوق العشرة، لأنها اشتملت على ذكر عشرة حقوق:
الحق الأول: حق الله أعظم حق على الإطلاق وأجله وأهمه وأكبره فهو حق الله على العبيد، فليس في الحقوق حق أعظم منه، فهو أعظم الحقوق وأجلها وأكبرها على الإطلاق، وأخذنا أن هذا الحق هو أعظم الحقوق من تقديمه والبدء به في آية الحقوق العشرة ذكر الله -جل وعلا- حقوقا كثيرة وذكر في مقدمتها وفي صدرها وفي أولها حقه -سبحانه وتعالى- فقال: ﴿اعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ هذا أعظم الحقوق على الإطلاق أعظم من حق الأبوين، وأعظم من حق الجيران، وأعظم من حق اليتيم، وأعظم من حق المسكين، وأعظم من حق الصاحب إلى غيرها من الحقوق التي ينبغي على العبد أن يحافظ عليها وأن يقوم بها، فأعظم الحقوق حق الله -سبحانه وتعالى-.
{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}قالَ الْقُرْطُبِيُّ: الإحسانُ إلى الوالدَيْنِ بِرُّهُمَا، وحِفْظُهما، وصيانَتُهما، وامتثالُ أمْرِهما، وإزالةُ الرقِّ عنْهُما، وتَرْكُ السَّلْطَنَةِ عليْهِمَا، و{إِحْسانًا}نُصِبَ عَلَى المصدريَّةِ، وناصبُهُ فِعْلٌ مُضْمَرٌ مِنْ لفظِهِ تقديرُهُ: وأَحْسِنُوا بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا.
{وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} الإمْلاَقُ: الفَقْرُ، أيْ: لا تَئِدُوا بَنَاتِكُمْ خَشْيةَ العَيْلَةِ والفقرِ؛ فإنِّي رازِقُكُم وإيَّاهُمْ، وكانَ منهم مَنْ يَفْعلُ ذلكَ بالإناثِ والذُّكورِ خَشْيَةَ الفقرِ.
{وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: نَهْيٌ عامٌّ عنْ جميعِ أنواعِ الفواحشِ، وهيَ المعاصِي، و{ظَهَرَ} و{بَطَنَ}حالتانِ تَسْتَوْفِيَانِ أقسامَ ما جُعِلَتَا لهُ من الأشياءِ. انتهى.
{وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} في الصَّحيحَيْنِ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ " .
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: {ذَلِكُمْ}إشارةٌ إلى هذهِ المُحَرَّمَاتِ، والوَصِيَّةُ: الأمرُ المُؤَكَّدُ المُقَرَّرُ.
وقولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(لَعَلَّ) للتعليلِ، أيْ: أنَّ اللهَ تعالى وصَّانا بهذهِ الْوَصَايَا لِنَعْقِلَها عنهُ ونعملَ بِهَا ، وفي تفسيرِ الطَبَريِّ الحَنَفِيِّ: ذَكَرَ أَوَّلاً: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ثمَّ {تَذَكَّرونَ} ثمَّ {تَتَّقُونَ} لأَنَّهُم إذا عَقَلُوا تَذَكَّروا فإذا تَذَكَّرُوا خَافُوا واتَّقَوْا.
{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا نَهْيٌ عامٌّ عن القُرْبِ الذِي يَعُمُّ وُجُوهَ التصرُّفِ، وفيهِ سدُّ الذَّرِيعَةِ. ثمَّ اسْتَثْنَى ما يَحْسُنُ وهوَ السعيُ في نَمَائِهِ ، قالَ مجاهدٌ: { التي هيَ أَحْسَنُ}، التجارةُ فيهِ ، وقولُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ مالكٌ وغيرُهُ: هوَ الرُّشْدُ وزوالُ السَّفَهِ معَ البلوغِ،
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}قالَ ابنُ كثيرٍ: يَأْمُرُ تعالى بإقامةِ العدلِ في الأخذِ والإعطاءِ {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أيْ: مَن اجتهدَ بأداءِ الحقِّ وَأَخْذِهِ، فإنْ أخْطَأَ بعدَ استفراغِ وُسْعِهِ وبَذْلِ جُهدِهِ فلاَ حَرَجَ عَلَيهِ.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمْرٌ بالعَدْلِ في القَوْلِ والفِعْلِ عَلَى القريبِ والبعيدِ ، قالَ الحنفيُّ: العدلُ في القولِ في حقِّ الوليِّ والعدوِّ ولا يَتَغَيَّرُ في الرِّضَى والغَضَبِ، بلْ يكونُ على الحقِّ وإنْ كانَ ذا قُرْبَى، فلا يَمِيلُ إلى الحبيبِ والقريبِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8]).
{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} قالَ ابنُ جَرِيرٍ: وَبِوَصِيَّةِ اللهِ تَعَالَى التي وصَّاكُم بِهَا فأَوْفُوا وانْقَادُوا لِذلك؛ بأنْ تُطِيعُوه فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ ونَهاكُم عنْه، وتَعْمَلُوا بكتابِهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلكَ هوَ الوفاءُ بِعَهْدِ اللهِ. وكذا قالَ غيرُهُ.
{ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تَتَّعِظُونَ وتَنْتَهُونَ عمَّا كُنْتُم فيهِ.
{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } قالَ القرطبيُّ: هذهِ آيةٌ عظيمةٌ عَطَفَها على ما تَقَدَّمَ، فإنَّهُ لَمَّا نَهَى وأمَرَ حذَّرَ عن اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِ على ما بَيَّنَتْهُ الأحاديثُ الصحيحةُ وأقاويلُ السلفِ ، أيْ: وصَّاكُمْ بهِ وبأنَّ هذا صِرَاطِي، قالَ: والصِّراطُ الطريقُ الذي هوَ دينُ الإسلامِ ، {مُسْتَقِيمًا}ومعناهُ: مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لا اعْوِجاجَ فيهِ ، فأَمَرَ باتِّباعِ طَرِيقِهِ الذي طَرَقَهُ على لسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَرَعَهُ، ونهايتُهُ الجنَّةُ، وتَشَعَّبَتْ منهُ طُرُقٌ، فمَنْ سَلَكَ الجادَّةَ نَجَا، ومَنْ خَرَجَ إلى تلكَ الطُّرُقِ أَفْضَتْ بهِ إلى النارِ ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أيْ: تَمِيلَ.
قالَ العلامةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلْنَذْكُرْ في الصراطِ المستقيمِ قَوْلاً وَجِيزًا؛ فإنَّ الناسَ قدْ تَنَوَّعَتْ عبارَاتُهم عنهُ بِحَسَبِ صِفَاتِهِ ومُتَعَلَّقَاتِهِ، وحَقِيقَتُهُ شَيْءٌ واحدٌ، وهوَ طريقُ اللهِ الذي نَصَبَهُ لعبادِهِ مُوصِلاً لَهُمْ إليهِ، ولا طريقَ إليهِ سِوَاهُ، بل الطُّرُقُ كلُّها مَسدُودَةٌ عَلَى الخلقِ إلاَّ طَريقَهُ الذي نَصَبَهُ على أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وجَعَلَهُ مُوصِلاً لعبادِهِ إليه، وهوَ إفرادُهُ بالعبادةِ، وإفرادُ رُسُلِهِ بالطَّاعَةِ، فَلاَ يُشْرِكُ بِهِ أحدًا في عبوديَّتِهِ، ولا يُشْرِكُ برسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدًا في طاعَتِهِ، فَيُجَرِّدُ التوحيدَ، ويُجَرِّدُ متابعةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلُّهُ مضمونُ شهادةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، فأيُّ شيءٍ فُسِّرَ بِهِ الصراطُ المستقيمُ فهوَ داخلٌ في هذيْنِ الأصلَيْنِ.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: ( قالَ ابنُ مَسْعودٍ: مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عَلَيها خَاتَمُهُ فَليَقْرَأْ قولَهُ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قولِهِ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآيةَ)
الشيخ -رحمه الله تعالى- لما ذكر هذه الآيات الثلاث التي اشتملت على عشر وصايا أعقبها بهذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في بيان مكانة هذه الوصايا العشر وعظم شأنها، فأورد هذا الأثر عن ابن مسعود يقول فيه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات، ومعنى قوله: "عليها خاتمه" شبهها بالوصية التي وضعت في غلاف وأغلقت وأحكمت ووضع عليه الخاتم فلم تتبدل ولم تتغير، وهذا يؤكد على مكانة هذه الوصية، والمعنى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوكان موصيا لأوصى بكتاب الله كما قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلو) وهذه الوصايا العشر هي أعظم الوصايا في كتاب الله -عز وجل-.
إذن هذا يدلنا على فقه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وفقه ابن مسعود في بيانه لمكانة هذه الوصايا وعظم شأنها، وأنها بمثابة الوصية العظيمة المتينة التي كتبت وحررت وختم عليها ولم تتبدل ولم تتغير، وإيراد المصنف لهذا الأثر المقصود منه بيان مكانة هذه الآيات.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وَعَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ قالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى حِمَارٍ، فَقَال لِي: " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ " ، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ ، قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا " ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ في الصَّحِيحَيْنِ )
هذا الحديث العظيم وهو في الصحيحين فيه بيان مكانة التوحيد وأنه حق الله على العباد، والمؤلف ساقه لبيان مكانة التوحيد وأنه حق الله على عباده.
(مُعاذٌ) هوَ: ابنُ جبلِ بنِ عمرِو بنِ أَوْسٍ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ أبو عبدِ الرَّحْمَنِ؛ صحابِيٌّ مشهورٌ مِنْ أَعْيَانِ الصحابةِ، شَهِدَ بدرًا وما بَعْدَها، وكانَ إليهِ المُنْتَهَى في العِلْمِ والأحكامِ والقرآنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُعَاذٌ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ " أيْ: بِخَطْوَةٍ .
وَالرَّتْوةُ: الخَطْوَةُ وشَرَفٌ من الأرضِ، وسُوَيْعَةٌ من الزمانِ، والدَّعْوَةُ، والْقطْرَةُ، وَرَمْيَةٌ بسهمٍ، أوْ نَحْوُ مِيلٍ، أوْ مَدَى البصرِ، والرَّاتِي العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ.
ماتَ سنَةَ ثمانيَ عَشْرَةَ بالشامِ في طَاعُونِ عِمْوَاسَ، وقد اسْتَخْلَفَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهْلِ مَكَّةَ يومَ الفتحِ يُعَلِّمُهم دينَهُم.
( كُنْتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فيهِ : جَوازُ الإِرْدَافِ على الدَّابَّةِ ، وفَضيلةُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(عَلَى حِمَارٍ) في روايةٍ: اسْمُهُ عُفَيْرٌ أَهْدَاهُ إليْهِ المُقَوْقِسُ صَاحبُ مِصْرَ ، وفيهِ: تَواضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكُوبِ الحمارِ والإردافِ عليهِ، وخِلاَفًا لِمَا عليهِ أهلُ الْكِبْرِ.
( " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ" ) أخْرَجَ السؤالَ بصيغةِ الاستفهامِ؛ ليكونَ أوقَعَ في النَّفْسِ وأَبْلَغَ في فَهْمِ المُتَعَلِّمِ و( " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبادِ") هُوَ ما يستحِقُّهُ عليهم ، و(" حَقُّ العِبادِ عَلَى اللهِ" ) معناهُ أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لا مَحالَةَ؛ لأَنَّهُ قدْ وعَدَهم ذلكَ جَزَاءً لهم على تَوحيدِهِ: {وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ}[الروم:6].
( قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فيهِ حُسْنُ الأدَبِ مِن المُتَعَلِّمِ، وأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أنْ يَقُولَ ذلكَ، بِخِلاَفِ أكثرِ المُتَكَلِّفِينَ.
( "أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادةِ .
( "وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادَةِ، فَلاَ بُدَّ مِن التَّجَرُّدِ مِن الشركِ في العبادةِ، ومَنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ مِن الشركِ لمْ يكُنْ آتِيًا بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، بلْ هوَ مُشْرِكٌ قدْ جَعَلَ للهِ نِدًّا ، وهذا مَعْنَى قولِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَفِيهِ أنَّ العبادةَ هيَ التوحيدُ؛ لأنَّ الخُصومَةَ فيهِ)
("وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " ) وهذا يدلنا على فضل التوحيد، فمن فضل التوحيد أن الله -جل وعلا- لا يعذب من لا يشرك به شيئا، و"شيئا" نكرة في سياق النفي فهي تعم، "لا يشرك به شيئا" فالذي لا يشرك بالله شيئا أي شيء أو أي نوع من أنواع الشرك لا يعذبه الله فهذا يدلنا على فضل التوحيد.
( أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ) معاذ -رضي الله تعالى عنه- فرح بهذا الأمر الذي فيه جلالة قدر التوحيد ومكانته .وفيهِ اسْتِحْبابُ بِشَارَةِ المسلمِ بما يَسُرُّهُ ، وفيهِ ما كانَ عليهِ الصحابةُ من الاستبشارِ بمثلِ هذا.
( " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا" ) أيْ: يَعْتَمِدوا على ذلكَ فيَتْرُكوا التَّنَافُسَ في الأعْمَالِ ، وفي رِوايةٍ: فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ؛ أيْ: تَحَرُّجًا مِن الإِثْمِ ، قالَ الْوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ: لمْ يكُنْ يكْتُمُها إلاَّ عَنْ جَاهِلٍ يَحْمِلُهُ جَهْلُهُ عَلَى سُوءِ الأدَبِ بتَرْكِ الخدمةِ في الطاعةِ؛ فأمَّا الأكْياسُ الذينَ إذَا سَمِعُوا بِمِثْلِ هذا زَادُوا في الطَّاعَةِ؛ ورَأَوْا أنَّ زيادَةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زيادَةَ الطَّاعَةِ، فَلاَ وَجْهَ لكِتْمَانِها عنْهُم.
مِن الفوائدِ في هذا الباب:
- الحثُّ على إخلاصِ العبادةِ للهِ تعالى، وأنَّها لاَ تَنْفَعُ مَعَ الشركِ، بلْ لا تُسَمَّى عبادةً.
- والتَّنْبيهُ على عَظَمَةِ حقِّ الوالدَيْنِ، وتَحْريمِ عُقُوقِهِمَا.
- والتنبيهُ عَلَى عَظَمَةِ الآياتِ المُحْكَمَاتِ في سُورَةِ الأنْعَامِ.
- وجَوازُ كِتْمانِ العِلْمِ للمَصْلَحَةِ.
{وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: نَهْيٌ عامٌّ عنْ جميعِ أنواعِ الفواحشِ، وهيَ المعاصِي، و{ظَهَرَ} و{بَطَنَ}حالتانِ تَسْتَوْفِيَانِ أقسامَ ما جُعِلَتَا لهُ من الأشياءِ. انتهى.
{وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} في الصَّحيحَيْنِ عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ إِلاَّ بِإِحْدَى ثَلاَثٍ: الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ " .
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: {ذَلِكُمْ}إشارةٌ إلى هذهِ المُحَرَّمَاتِ، والوَصِيَّةُ: الأمرُ المُؤَكَّدُ المُقَرَّرُ.
وقولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(لَعَلَّ) للتعليلِ، أيْ: أنَّ اللهَ تعالى وصَّانا بهذهِ الْوَصَايَا لِنَعْقِلَها عنهُ ونعملَ بِهَا ، وفي تفسيرِ الطَبَريِّ الحَنَفِيِّ: ذَكَرَ أَوَّلاً: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ثمَّ {تَذَكَّرونَ} ثمَّ {تَتَّقُونَ} لأَنَّهُم إذا عَقَلُوا تَذَكَّروا فإذا تَذَكَّرُوا خَافُوا واتَّقَوْا.
{وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا نَهْيٌ عامٌّ عن القُرْبِ الذِي يَعُمُّ وُجُوهَ التصرُّفِ، وفيهِ سدُّ الذَّرِيعَةِ. ثمَّ اسْتَثْنَى ما يَحْسُنُ وهوَ السعيُ في نَمَائِهِ ، قالَ مجاهدٌ: { التي هيَ أَحْسَنُ}، التجارةُ فيهِ ، وقولُهُ: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قالَ مالكٌ وغيرُهُ: هوَ الرُّشْدُ وزوالُ السَّفَهِ معَ البلوغِ،
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}قالَ ابنُ كثيرٍ: يَأْمُرُ تعالى بإقامةِ العدلِ في الأخذِ والإعطاءِ {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أيْ: مَن اجتهدَ بأداءِ الحقِّ وَأَخْذِهِ، فإنْ أخْطَأَ بعدَ استفراغِ وُسْعِهِ وبَذْلِ جُهدِهِ فلاَ حَرَجَ عَلَيهِ.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمْرٌ بالعَدْلِ في القَوْلِ والفِعْلِ عَلَى القريبِ والبعيدِ ، قالَ الحنفيُّ: العدلُ في القولِ في حقِّ الوليِّ والعدوِّ ولا يَتَغَيَّرُ في الرِّضَى والغَضَبِ، بلْ يكونُ على الحقِّ وإنْ كانَ ذا قُرْبَى، فلا يَمِيلُ إلى الحبيبِ والقريبِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8]).
{وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا} قالَ ابنُ جَرِيرٍ: وَبِوَصِيَّةِ اللهِ تَعَالَى التي وصَّاكُم بِهَا فأَوْفُوا وانْقَادُوا لِذلك؛ بأنْ تُطِيعُوه فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ ونَهاكُم عنْه، وتَعْمَلُوا بكتابِهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلكَ هوَ الوفاءُ بِعَهْدِ اللهِ. وكذا قالَ غيرُهُ.
{ذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تَتَّعِظُونَ وتَنْتَهُونَ عمَّا كُنْتُم فيهِ.
{وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } قالَ القرطبيُّ: هذهِ آيةٌ عظيمةٌ عَطَفَها على ما تَقَدَّمَ، فإنَّهُ لَمَّا نَهَى وأمَرَ حذَّرَ عن اتِّباعِ غيرِ سبيلِهِ على ما بَيَّنَتْهُ الأحاديثُ الصحيحةُ وأقاويلُ السلفِ ، أيْ: وصَّاكُمْ بهِ وبأنَّ هذا صِرَاطِي، قالَ: والصِّراطُ الطريقُ الذي هوَ دينُ الإسلامِ ، {مُسْتَقِيمًا}ومعناهُ: مُسْتَوِيًا قَوِيمًا لا اعْوِجاجَ فيهِ ، فأَمَرَ باتِّباعِ طَرِيقِهِ الذي طَرَقَهُ على لسانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشَرَعَهُ، ونهايتُهُ الجنَّةُ، وتَشَعَّبَتْ منهُ طُرُقٌ، فمَنْ سَلَكَ الجادَّةَ نَجَا، ومَنْ خَرَجَ إلى تلكَ الطُّرُقِ أَفْضَتْ بهِ إلى النارِ ، قالَ اللهُ تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أيْ: تَمِيلَ.
قالَ العلامةُ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَلْنَذْكُرْ في الصراطِ المستقيمِ قَوْلاً وَجِيزًا؛ فإنَّ الناسَ قدْ تَنَوَّعَتْ عبارَاتُهم عنهُ بِحَسَبِ صِفَاتِهِ ومُتَعَلَّقَاتِهِ، وحَقِيقَتُهُ شَيْءٌ واحدٌ، وهوَ طريقُ اللهِ الذي نَصَبَهُ لعبادِهِ مُوصِلاً لَهُمْ إليهِ، ولا طريقَ إليهِ سِوَاهُ، بل الطُّرُقُ كلُّها مَسدُودَةٌ عَلَى الخلقِ إلاَّ طَريقَهُ الذي نَصَبَهُ على أَلْسُنِ رُسُلِهِ، وجَعَلَهُ مُوصِلاً لعبادِهِ إليه، وهوَ إفرادُهُ بالعبادةِ، وإفرادُ رُسُلِهِ بالطَّاعَةِ، فَلاَ يُشْرِكُ بِهِ أحدًا في عبوديَّتِهِ، ولا يُشْرِكُ برسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدًا في طاعَتِهِ، فَيُجَرِّدُ التوحيدَ، ويُجَرِّدُ متابعةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا كلُّهُ مضمونُ شهادةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رسولُ اللهِ ، فأيُّ شيءٍ فُسِّرَ بِهِ الصراطُ المستقيمُ فهوَ داخلٌ في هذيْنِ الأصلَيْنِ.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تعالى: ( قالَ ابنُ مَسْعودٍ: مَنْ أَرادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلى وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي عَلَيها خَاتَمُهُ فَليَقْرَأْ قولَهُ تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى قولِهِ: {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} الآيةَ)
الشيخ -رحمه الله تعالى- لما ذكر هذه الآيات الثلاث التي اشتملت على عشر وصايا أعقبها بهذا الأثر عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في بيان مكانة هذه الوصايا العشر وعظم شأنها، فأورد هذا الأثر عن ابن مسعود يقول فيه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد -صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات، ومعنى قوله: "عليها خاتمه" شبهها بالوصية التي وضعت في غلاف وأغلقت وأحكمت ووضع عليه الخاتم فلم تتبدل ولم تتغير، وهذا يؤكد على مكانة هذه الوصية، والمعنى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لوكان موصيا لأوصى بكتاب الله كما قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلو) وهذه الوصايا العشر هي أعظم الوصايا في كتاب الله -عز وجل-.
إذن هذا يدلنا على فقه الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- وفقه ابن مسعود في بيانه لمكانة هذه الوصايا وعظم شأنها، وأنها بمثابة الوصية العظيمة المتينة التي كتبت وحررت وختم عليها ولم تتبدل ولم تتغير، وإيراد المصنف لهذا الأثر المقصود منه بيان مكانة هذه الآيات.
قال المُصَنِّفُ رَحِمَه اللهُ تَعالَى: ( وَعَنْ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ قالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَى حِمَارٍ، فَقَال لِي: " يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟ " ، قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ ، قَالَ: " حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيئًا " ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: " لاَ تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا " أَخْرَجَاهُ في الصَّحِيحَيْنِ )
هذا الحديث العظيم وهو في الصحيحين فيه بيان مكانة التوحيد وأنه حق الله على العباد، والمؤلف ساقه لبيان مكانة التوحيد وأنه حق الله على عباده.
(مُعاذٌ) هوَ: ابنُ جبلِ بنِ عمرِو بنِ أَوْسٍ الأنصاريُّ الخَزْرَجِيُّ أبو عبدِ الرَّحْمَنِ؛ صحابِيٌّ مشهورٌ مِنْ أَعْيَانِ الصحابةِ، شَهِدَ بدرًا وما بَعْدَها، وكانَ إليهِ المُنْتَهَى في العِلْمِ والأحكامِ والقرآنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مُعَاذٌ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ " أيْ: بِخَطْوَةٍ .
وَالرَّتْوةُ: الخَطْوَةُ وشَرَفٌ من الأرضِ، وسُوَيْعَةٌ من الزمانِ، والدَّعْوَةُ، والْقطْرَةُ، وَرَمْيَةٌ بسهمٍ، أوْ نَحْوُ مِيلٍ، أوْ مَدَى البصرِ، والرَّاتِي العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ.
ماتَ سنَةَ ثمانيَ عَشْرَةَ بالشامِ في طَاعُونِ عِمْوَاسَ، وقد اسْتَخْلَفَهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهْلِ مَكَّةَ يومَ الفتحِ يُعَلِّمُهم دينَهُم.
( كُنْتُ رَدِيفَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) فيهِ : جَوازُ الإِرْدَافِ على الدَّابَّةِ ، وفَضيلةُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
(عَلَى حِمَارٍ) في روايةٍ: اسْمُهُ عُفَيْرٌ أَهْدَاهُ إليْهِ المُقَوْقِسُ صَاحبُ مِصْرَ ، وفيهِ: تَواضُعُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكُوبِ الحمارِ والإردافِ عليهِ، وخِلاَفًا لِمَا عليهِ أهلُ الْكِبْرِ.
( " أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ" ) أخْرَجَ السؤالَ بصيغةِ الاستفهامِ؛ ليكونَ أوقَعَ في النَّفْسِ وأَبْلَغَ في فَهْمِ المُتَعَلِّمِ و( " حَقُّ اللهِ عَلَى العِبادِ") هُوَ ما يستحِقُّهُ عليهم ، و(" حَقُّ العِبادِ عَلَى اللهِ" ) معناهُ أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ لا مَحالَةَ؛ لأَنَّهُ قدْ وعَدَهم ذلكَ جَزَاءً لهم على تَوحيدِهِ: {وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ}[الروم:6].
( قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) فيهِ حُسْنُ الأدَبِ مِن المُتَعَلِّمِ، وأَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سُئِلَ عَمَّا لا يَعْلَمُ أنْ يَقُولَ ذلكَ، بِخِلاَفِ أكثرِ المُتَكَلِّفِينَ.
( "أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادةِ .
( "وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ) أيْ: يُوَحِّدُوهُ بالعبادَةِ، فَلاَ بُدَّ مِن التَّجَرُّدِ مِن الشركِ في العبادةِ، ومَنْ لَمْ يَتَجَرَّدْ مِن الشركِ لمْ يكُنْ آتِيًا بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، بلْ هوَ مُشْرِكٌ قدْ جَعَلَ للهِ نِدًّا ، وهذا مَعْنَى قولِ المُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: (وَفِيهِ أنَّ العبادةَ هيَ التوحيدُ؛ لأنَّ الخُصومَةَ فيهِ)
("وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا " ) وهذا يدلنا على فضل التوحيد، فمن فضل التوحيد أن الله -جل وعلا- لا يعذب من لا يشرك به شيئا، و"شيئا" نكرة في سياق النفي فهي تعم، "لا يشرك به شيئا" فالذي لا يشرك بالله شيئا أي شيء أو أي نوع من أنواع الشرك لا يعذبه الله فهذا يدلنا على فضل التوحيد.
( أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ) معاذ -رضي الله تعالى عنه- فرح بهذا الأمر الذي فيه جلالة قدر التوحيد ومكانته .وفيهِ اسْتِحْبابُ بِشَارَةِ المسلمِ بما يَسُرُّهُ ، وفيهِ ما كانَ عليهِ الصحابةُ من الاستبشارِ بمثلِ هذا.
( " لا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا" ) أيْ: يَعْتَمِدوا على ذلكَ فيَتْرُكوا التَّنَافُسَ في الأعْمَالِ ، وفي رِوايةٍ: فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ؛ أيْ: تَحَرُّجًا مِن الإِثْمِ ، قالَ الْوَزِيرُ أَبُو المُظَفَّرِ: لمْ يكُنْ يكْتُمُها إلاَّ عَنْ جَاهِلٍ يَحْمِلُهُ جَهْلُهُ عَلَى سُوءِ الأدَبِ بتَرْكِ الخدمةِ في الطاعةِ؛ فأمَّا الأكْياسُ الذينَ إذَا سَمِعُوا بِمِثْلِ هذا زَادُوا في الطَّاعَةِ؛ ورَأَوْا أنَّ زيادَةَ النِّعَمِ تَسْتَدْعِي زيادَةَ الطَّاعَةِ، فَلاَ وَجْهَ لكِتْمَانِها عنْهُم.
مِن الفوائدِ في هذا الباب:
- الحثُّ على إخلاصِ العبادةِ للهِ تعالى، وأنَّها لاَ تَنْفَعُ مَعَ الشركِ، بلْ لا تُسَمَّى عبادةً.
- والتَّنْبيهُ على عَظَمَةِ حقِّ الوالدَيْنِ، وتَحْريمِ عُقُوقِهِمَا.
- والتنبيهُ عَلَى عَظَمَةِ الآياتِ المُحْكَمَاتِ في سُورَةِ الأنْعَامِ.
- وجَوازُ كِتْمانِ العِلْمِ للمَصْلَحَةِ.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع
التعديل الأخير: