إليكم يا شباب الإسلام (1)

طباعة الموضوع
إنضم
4 يناير 2012
المشاركات
587
النقاط
18
الإقامة
الفيوم
الموقع الالكتروني
www.alfayyumy.com
احفظ من كتاب الله
كاملا بحمد الله
احب القراءة برواية
عاصم
القارئ المفضل
المنشاوي
الجنس
أخ
إليكم يا شباب الإسلام (1)


الشباب والوقت نعمتان يجب اغتنامهما

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد - صلى الله عليه وآله – أجمعين.
أما بعد:
فإليكم يا شباب الإسلام، وعماد الأمة، وطريق العطاء، ومعقل البناء، وجيل النصر والتمكين، إليكم هذه الكلمات، وإليكم هذه الوصايا والتوجيهات، أقدِّمها لكم؛ عسى الله - تعالى - أن ينفع بها أنفسًا، ويَهدي بها قلوبًا، ويرفع بها هِمَمًا، فاسمعوا أيُّها الشباب المسلم، وخذوا من الكلام أطيبه، ومن الحديث أصحه وأثبته.
وإنِّي لأوجز مقالي ورسالتي في نقاطٍ ومَحاور محددة إليكم، فأقول:
1 - الشباب والوقت نعمتان يجب اغتنامهما:
الشباب نعمة واختبار:
عليكم - أيها الشباب المسلم - أن تعلموا أولاً أنَّ وُجودكم في الحياة الدُّنيا نعمة من الله - تعالى - عليكم، تستوجب شكرَ الله عليها، كما قال تعالى في كتابه: ﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 29]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الروم: 40]، وقال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].
وأنَّ هذا الوجودَ في دار الدنيا ليس الوجود الخالد الباقي، كلاَّ، بل إنَّه وجودٌ مُؤقت وقليل، وأمَّا النعيم الحق، والخلود الدائم الباقي، فهو في الآخرة عند لقاء الله - تعالى - هنالك؛ حيث يُجازى كلُّ مكلف من الإنس والجن بعمله، ورحمة رَبِّه، وقد أخبرنا الله - تعالى - عن هذا كله في كتابه، وعلى لسان رسوله محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما قال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لاَ يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 18 - 22].
كما أنَّ عليكم أن تعلموا أنَّ الشباب فترة وجزء من العمر الذي وهبه الله - تعالى - لكم، وأنَّكم محاسبون عليه، مجزيون به، مسؤولون عنه أمامَ الله - تعالى - فيجب عليكم اغتنامُ هذه الدرة الثمينة من أعماركم، وشغلها بطاعة ربكم ونبيكم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد جاء في الحديث: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجل وهو يعظه: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك))؛ [رواه الحاكم، وقال: "صحيح على شرطهما"، وصححه الألباني: 1077 في صحيح الجامع].
وعن أبي بَرْزَة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تزول قدما عبد يومَ القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عمره، فيمَ أفناه؟ وعن علمه، ما عمل به؟ وعن ماله، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟ وعن جسمه، فيمَ أبلاه؟))؛ [رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني].
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره، فيمَ أفناه؟ وعن شبابه، فيمَ أبلاه؟ وعن ماله، من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه؟ وعن علمه، ماذا عمل فيه؟))؛ [رواه البزار والطبراني بإسناد صحيح واللفظ له، وصححه الألباني].
بل قد ورد أيضًا أنَّ في الجنة شبابًا، وكذلك كل أهلها، وأن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - سَيِّدا شباب الجنة، ففي الحديث عن أبي سعيد الخدري وحذيفة بن اليمان، وعلي بن أبي طالب وغيرهم أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة))؛ [أخرجه الحاكم والترمذي، وصححه الألباني في الصحيحة، 2/ 438].
وهذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُخاطِب الشباب، ويُناديهم بطاعة الله - تعالى - ويعدهم بالجزاء الأوفى في جَنَّاتِ النعيم؛ ففي الحديث عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يا شبابَ قريش، احفظوا فروجَكم، لا تزنوا، ألاَ من حفظ فرجَه، فله الجنة))؛ [رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني].
وفي رواية حسنة للبيهقي: ((يا فتيانَ قريش، لا تزنوا، فإنَّه من سلم له شبابه، دخل الجنة)).
ألاَ فاجعلوا من شبابكم طريقًا نحو المعالي، واجعلوا من شبابكم طريقًا نحو الخير والإحسان، واجعلوا من شبابكم طريقًا نحو العز والنصر والتمكين.
الحذر من إضاعة الأعمار والأوقات:
واحذروا أشدَّ الحذر من هدر الشباب والعمر في غير طاعة واجتهاد، أو إضاعته في الذُّنوب والسيئات، فإنَّ الخاسر يومَ القيامة من يَجد نفسَه بلا حسنات تثقل ميزانه، فيرجو يومَها ويتمنَّى العودة إلى دار العمل، فلا يُجاب، كما أخبر الله - تعالى - عن هذا الصنف في كتابه؛ فقال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 99 - 104].
كما يجب عليكم أن تعلموا أنَّ وقتكم هو رأس مالكم، فإنْ ضاع الوقت والزمان في غير فائدة وثمرة مرجوة، فقد خَسِر الإنسان جزءًا من عمره وشبابه؛ لأنَّ استثمار الأوقات والساعات في طاعة الله ورضاه وعبادته، هو الخير كله، وهو السعادة كلها، كما أنَّ إضاعتها هو الغبن كله؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ))؛ [رواه البخاري].
وإذا تدبرنا آياتِ القرآن رأينا أنَّ الله قد أقسم بالليل والنهار، والفجر والصبح والضحى، والعصر وغيرها من الأوقات من الليل والنهار، وما ذاك إلا لنعلمَ آيات قدرته في الخلق، واستثمار هذه الأوقات فيما شرعه - سبحانه - قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191].
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْيَوْمَ أَسْرَعُ ذَاهِبٍ
وَأَنَّ غَدًا لِلنَّاظِرِينَ قَرِيبُ

وقد سأل الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له: كم أتت عليك؟ قال: ستون، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، توشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ومما يؤسف القلبَ أنَّ كثيرًا من المسلمين اليومَ أصبح لا يهتم بوقتِه، وصار يهدره في غير فائدة مرجُوَّة، أو ربما في كثير من الذنوب والسيئات، والجلوس في أماكن الفارغين والمقاهي، أو مع رفقة السوء والغيبة والنميمة، أو يقطع النهار والليل أمامَ بعض القنوات والمواقع الإباحية، والتي فيها من مشاهد العُري والفاحشة والزنا ما الله به عليم، وفيها من إماتة الغَيْرة والرجولة والحياء ما فيها، وفيها من نشر الفاحشة والمنكرات بين المسلمين ما فيها، وهذا أمرٌ قبيحٌ في حق المسلم العاقل.
قال علي - رضي الله عنه -: "إنَّما أخشى عليكم اثنتين: طول الأمل، واتباع الهوى، فإن طولَ الأمل يُنسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصدُّ عن الحق".
وقال عون: "كم من مُستقبلِ يومٍ لا يستكمله، ومُنتظرٍ غدًا لا يبلغه، لو تنظرون إلى الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره".
وقال الشاعر:
دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ
إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

إنَّ الغفلةَ عن الوقت والاستفادة من الأزمان خطرٌ عظيم؛ لأنَّ الغفلة آفةٌ قاتلة، وداءٌ عُضال فتَّاك، وطريق يكثُر فيه السالكون إلاَّ مَن رَحِم الله - تعالى - دبَّ هذا الداء في جَسَد الأمَّة الإسلامية منذ عدَّة قرون، وأقعَدها عن سبيلها، وأوْهن مِن قُواها، وشغلها أيَّما شغل عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدُّنيا، والمتأمِّل في آيات القرآن يرى أنَّ الله - تعالى - قد أنذر وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك، الذي أصابَ الأُمم، وأقعدَها عن السَّبِيل الأَمَمِ، بل وحلَّ بها عقاب الله - تعالى - المعجَّل، كما قال - تعالى - في كتابه لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يس: 6 - 7].
حال السلف مع الوقت وحفظه:
وقد كان سلفنا الصالح يَحرصون على حفظ أوقاتِهم وأيامهم فيما يرجع عليهم بالفائدة في الدُّنيا والآخرة، فهذا أبو الوفا بن عقيل - رحمه الله - يقول: "إنِّي لا يَحل لي أنْ أضيع ساعةً من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن المذاكرة، وتعطل بصري عن المطالعة، أعملت فكري في حال راحتي، وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره".
وكان ابن الجوزي - رحمه الله - إذا دخل عليه مَن يظن فيه تضييع وقته، كان يشغل نفسه بالقيام ببَرْيِ الأقلام، وقص الأوراق حتى لا يضيع وقته.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".
وقال ابن القيم - رحمه الله -: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأنَّ إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".
وقال الحسن البصري: "لقد أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ حرصًا منكم على أموالكم".
معرفة الصحابة غايتهم ورسالتهم:
ولا تنسوا - أيها الشباب - أنَّ الذين أسلموا مع رسول الله في أولِ دَعوته، والذين نصروه وهاجروا وجاهدوا معه كان جُلُّهم من الشباب.
فأبو بكر الصديق كان أصغرَ من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذلك مُصعب بن عمير من الشباب، وعلي بن أبي طالب، والأرقم بن أبي الأرقم، وغيرهم كثير، ممن أسلموا في أول العهد المكي، ثم انطلقوا يَحملون رسالةَ التوحيد والعبودية لله - تعالى - لكل العالمين، وكانت العبادة وتعبيد الناس لله - تعالى - هي الغاية والمنطلق عندهم، ففتحوا البلادَ شرقًا وغربًا بالإسلام والإيمان، يبلغون رسالاتِ الله ويَخشونه، ولا يَخشون من أحدٍ سواه - تعالى - لأنَّهم علموا غايتهم ورسالتهم في الحياة، وعلموا لماذا أوجدهم الله - تعالى - وعلموا صدق ما أعد لهم في دار كرامته وفي جنته في الآخرة، فانطلقوا نحو غايتهم ورسالتهم، وقد أخبر الله عنهم في كتابه الخالد، فقال تعالى: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22 - 24].
ولما ثبت النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومن معه من جيل الدعوة الأول، وصبروا على الكيد والمكر، والصد والاستهزاء، والإعراض والإغراء، وتركوا كلَّ متاعهم وأموالهم، بل نساءهم وأبناءهم وعشيرتهم لله ورسوله، وكانوا مثالاً واقعيًّا للثبات على المبادئ والحق، والتضحية الصادقة من أجله ونصرته، لما كان هذا حالَهم، مَكَّن الله لهم في الأرض، وأَذِنَ لهم بالتمكين الموعود لأهل الحق والإيمان، والتوحيد والمتابعة، فلقد أذن لهم بالهجرة إلى المدينة ولرسوله؛ تَمهيدًا لعالم ومجتمع إسلامي جديد، مجتمع لا يعرف الجاهلية، ولا يعرف الشرك والوثنية، ولا يعترف بألوهية المخلوقات، ولا بفساد المعاملات، ولا بقيام الحروب والعداوات من أجل لا شيء، ولا يستمد شرائعه وأخلاقه من تصوُّرات بشرية، أو عقائد وأفكار رومانية أو نصرانية، مجتمع لا تتملقه النفوس الدنيئة من أصحاب الشهوات الرخيصة.
لقد أزالت الهجرةُ كلَّ ذلك، فالهجرة تَجبُّ ما قبلها، لقد قام صرحٌ شامخ للإسلام ودعوته بعد عِدَّة محاولات للهجرة والبناء للحبشة، وزالت غربةُ الإسلام والرسالة الأولى، ولم تعُد غريبة على أرض الجزيرة، بل ظهرت كالشَّمس المنيرة في رابعة النهار، وعلا صوتُ الحق والإيمان على أبواق الجاهلية الخاوية، زالت الغربة بهذا التمكين، الذي قام على أكتاف خِيَرَةِ البشر بعد الرُّسل، إنَّهم أصحاب الرسول وأتباعه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم مَن قضى نَحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلاً، وكما جاء في الحديث النبوي: ((بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا، فطوبى للغرباء)).
فالمقصود: أنَّ الصحابةَ الكرام أدركوا حقيقةَ وجودهم في الحياة، فقاموا بغايَتِهم خيرَ قيام، وجاهدوا في الله خَيْرَ جهاد، وهم القدوة والأسوة لنا في ذلك، فعلينا أن نَجعلهم مثلاً أعلى بعد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بهم نحتذي، وبهم نقتدي.
وفرقٌ بعدَ هذا بين شبابٍ لا يعلمون لهم في هذه الحياة غايةً يسعَوْن إليها، ويَجدُّون من أجلها، أو يَجعلون لهم غاياتٍ وأهدافًا خسيسة هزيلة، من العشقِ المُحرَّم مع النساء، واللهو والطرب، والتسكُّع في الطرقات بلا رقيب، وحصول المعاكسات والعبارات القاتلة لمعاني الإيمان والحياء، فرق بين هؤلاء وبين شَبابٍ عَلِموا غايتَهم ورسالتَهم، فأعلوا الهِمَم إليها، وشَمَّروا عن ساعد الجد والعمل لتحقيقها، ولا ريب أنَّ هؤلاء هم الفائزون الرابحون في خاتمة المطاف؛ ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
وإنَّ من أجَلِّ ما تستفاد به الأوقات والأزمان أن يعلم المسلم غايتَه وأهدافه في حياته، فيعمل على تحقيقها، والقيام بحَقِّها، وشغل الوقت والجوارح بها.
والعبادة: هي غايتنا الكبرى، ورسالتنا في الحياة، وفي العبادة شغلٌ أيّما شغل، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
2 - تحقيق العبادة الغاية الكبرى للوجود:
فعلى الشباب المسلم أنْ يُدرك هذه الحقيقة المهمة والكبيرة، إنَّها حقيقة خلقنا في دار الدنيا، فالله - تعالى - خلقنا وأوجدنا؛ لحكمة جليلة، وغاية نبيلة، وهي: "عبادة الله وحدَه لا شريك له".
وقد بين ذلك الله - تعالى - في كتابه؛ حَتَّى لا يكونَ لأحد حجة أو معذرة يومَ القيامة فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، فالله - تعالى - ما خلقنا للعب واللهو الباطل، والانشغال بالشَّهوات المحرمة، والانغماس في الدنيا وحطامها الفاني، كلاَّ، إنَّما خلقنا لشرف العبادة والعبودية له وحدَه تعالى.
والعبادة لله تعني: أنْ تكونَ حياتنا كلها لله - تعالى - قائمة بأمره، وما شرعه على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما أخبر تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163]، فلا ذبح، ولا نذر، ولا قربان، ولا تعبد، ولا شيء من ذلك إلاَّ لمستحقه - سبحانه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "العبادة: هي اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة"؛ اهـ.
فالعبادة بهذا المعنى: عبادة شاملة وعامَّة، ففي الإيمان بالله - تعالى - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره - عِبادة، وفي إقامة الصلوات، وإيتاء الزَّكَوات، وصوم رمضان، وحج البيت، وتلاوة القرآن، وصلة الأرحام، وبر الوالدين، وإماطة الأذى عن الطريق، وذكر الله، والإحسان للناس - عبادة، وفي الحكم بما أنزل الله عبادة، وفي أموالنا واقتصادنا عبادة، وفي العمل الصالح عبادة، وفي كلِّ شؤوننا عبادة؛ لأنَّها عبادة شاملة كاملة من لدن حكيم خبير.
وهذه العبادة توقيفِيَّة: بمعنى أنَّه لا يشرع منها إلاَّ بدليل من الكتاب والسنة، وما لم يشرع يُعَدُّ بدعة مردودة، كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث المتفق عليه: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد))؛ أي: مردود عليه عمله، لا يقبل منه، بل يأثم عليه؛ لأنَّه معصية وليس طاعة.
ثم اعلموا أنَّ المنهج السليم في أداء العبادات المشروعة هو الاعتدال: بين التساهل والتكاسُل، وبين التشدد والغلو؛ قال تعالى لنبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [هود: 112]، فهذه الآية الكريمة فيها رسم لخطة المنهج السليم في فعل العبادات[1]، ومبنى العبادة في الشريعة الإسلامية يقوم على قاعدتين مهمتين:
الأولى: ألا يعبد إلا الله وحدَه.
الثانية: ألا يعبد إلا بما شُرِعَ على لسان رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فالعبودية لله - تعالى - هي غاية الوجود الإنساني في الحياة الدُّنيا، وقد تعرَّض القرآن الكريم لها، وبَيَّنَ ما اشتملت عليه من المقامات العالية، وأشار القرآنُ إليها في كثيرٍ من آياته، ودعا إليها، وحَثَّ عليها، ومدح أهلَها القائمين بها وبحقوقها، وأثنى بها على أنبيائه ورُسله - عليهم السلام - ووعدهم بالأمن يومَ القيامة من الفزع والأهوال، وبالفوز بجنَّات النعيم في دار الخلود الأبدي، ومن ثَمَّ أمر بها عبادَه الصالحين، بَدْءًا من الأنبياء والمرسلين، وشرعها لهم ولأتباعهم من بعدهم، وأمرَهم بالإخلاص فيها، وجعل دعوتَهم جميعًا إليها:
كما قال الله - سبحانه -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وقال - سبحانه -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36].
وبهذه العبادة أرسل جميع الرسل، كما قال نوح - عليه السَّلام - لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59]، وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم - عليهم السلام - لأقوامهم.
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 24]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92]، وقال أيضًا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99]، واليقين هنا هو: الموت.
كما وصف - سبحانه - ملائكتَه وأنبياءَه بالعبودية، فقال تعالى: ﴿ وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ﴾ [الأنبياء: 19 - 20].
وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
ومن هنا ندرك - أيُّها الشباب - أنَّ تقريرَ حقيقةِ العبودية في حياة الناس يُصحِّح تصوراتِهم ومشاعرهم، كما يصحح حياتهم وأوضاعهم، فلا يُمكن أن تستقرَّ التصورات والمشاعر، ولا أن تستقر الحياة والأوضاع على أساسٍ سليم قويم، إلاَّ بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار، وما يتبع الإقرار من آثارٍ عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس، وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته، ويستشعرون العِزَّةَ أمام المتجبرين والطُّغاة، حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه، ولا يذكرون أحدًا إلا الله، تصلح حياتهم وترقى، وتكرم على هذا الأساس.
إنَّ استقرارَ هذه الحقيقة الكبيرة في نفوسِ المسلمين، وتعليق أنظارهم بالله وحدَه، وتعليق قلوبهم برضاه، وأعمالهم بتقواه، ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه، في هذه الحياة.
فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين للصالحات في الآخرة، فهو كرم منه وفضل في حقيقة الأمر، وفيض من عطاء الله[2].
من هنا نعلم جيدًا أن الغاية الكبرى، والمنطلق القويم إنَّما هو من العبادة وللعبادة والتوحيد الخالص لله - تعالى - لأنَّ تَحقيق هذه الغاية، وهذا المنطلق هو طريقُ إقامة خلافة الإسلام الراشدة على مِنْهاجِ النبوة، كما أخبر - تعالى - في كتابه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 55 - 56].
3 - النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثل الأعلى في العبادة:
وعندما نتأمَّل - أيها الشباب - في سيرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - نعلم من خلالها أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ضرب لأمته المثلَ الأعلى في العبادة والاتباع لأمر ربه - تعالى - حتى إنَّ الله - تعالى - جعله المثل الأعلى، والقدوة الصالحة، التي ينبغي على كل مسلم الاقتداء بها إلى يوم القيامة، فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
حال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عبادته -:
فهذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في العهد المكي يقوم من الليل، ويقرأ كتابَ الله - تعالى - ويرتل آياته، ويتمعن في معانيه، ويأخذ منه الزاد والإيمان؛ ليتقوى به على عبادة ربه، والدعوة إلى سبيله، وحمل رسالة الإسلام، وتبليغها للعالمين، ومن تأمَّل سورة المزمل، أدرك ذلك أيما إدراك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً ﴾ [المزمل: 1 - 11].
قال صاحب "الظلال" - رحمه الله تعالى -: "ولا بد لأي روح يراد لها أنْ تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى... لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعضَ الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بُدَّ من فترة للتأمُّل والتدبر والتعامُل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة، فالاستغراق في واقع الحياة يَجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تُحاول تغييره، أمَّا الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسْرِ الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة، فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدربه على الشعور بتكامُل ذاته دون حاجة إلى عُرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العُرف الشائع.
وهكذا دبر الله لمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو يعده لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ"[3].
وقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم من الليل حتى تتورمَ قدماه من طول القيام، وهو متبتِّل قانت قائم باكٍ بين يدي الله - تعالى - فعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا، يا رسول الله، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))؛ [متفقٌ عليه].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصلي من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعةٍ))؛ [متفقٌ عليه].
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئًا؛ وكان لا تشاء أن تراه من الليل مُصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته"؛ [رواه البخاري].
فلنتأمَّل كيف كانت عبادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكيف أنَّه لا يكلُّ ولا يفتر عنها من قيام، أو تلاوة للقرآن، أو ذكر، أو تسبيح، أو صيام، أو غير ذلك.
حث النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للصحابة والشباب على العبادة:
بل إنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم، أيها الشباب - كان يحث أصحابَه على العبادة والقيام، وغير ذلك من سائر العبادات، وكان يأمرهم بها، ويُربِّيهم على الاستزادة منها، والحرص عليها، ويعلمهم فيها ما ينفعهم، ويُحذِّرهم من التكاسُل عنها، واقرؤوا معي هذه الأحاديث؛ لتعلموا فقهَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في تربية وتوجيه الصَّحابة الكرام - رضي الله عنهم -:
فعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - طرقه وفاطمة ليلاً، فقال: ((ألاَ تصليان))؛ [متفقٌ عليه].
وعن سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - عن أبيه: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((نعم الرجل عبدالله لو كان يصلي من الليل))، قال سالمٌ: "فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً"؛ [متفقٌ عليه].
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عبدالله، لا تكن مثل فلانٍ، كان يقوم الليل فترك قيام الليل))؛ [متفقٌ عليه].
وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: ذكر عند النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ نام ليلةً حتى أصبح، قال: ((ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنيه))، أو قال: ((في أذنه))؛ [متفقٌ عليه].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم، إذا هو نام - ثلاثَ عقدٍ، يضرب على كل عقدةٍ: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ، فذكر الله - تعالى - انحلت عقدةٌ، فإن توضأ، انحلت عقدةٌ، فإن صلى، انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيبَ النفس، وإلاَّ أصبح خبيثَ النفس كسلان))؛ [متفقٌ عليه].
وعن عبدالله بن سلام - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلامٍ))؛ [رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ].
قال ابن عثيمين - رحمه الله -: "((وصلوا بالليل والناس نيام))، اللهم اجعلنا من هؤلاء، ربَّما كان أحسن وألذ النوم ما كان من بعد منتصف الليل إلى الفجر، فإذا قام الإنسانُ في هذا الوقت لله - عزَّ وجلَّ - يتهجد، يتقرب إليه بكلامه، وبدُعاءٍ خاشع بين يديه، والناس نائمون، فهذا من أفضل الأعمال.
((صلوا بالليل والناس نيام))، وهذا محل الشاهد من هذا الحديث أنَّ الرسولَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - جعل الصلاةَ بالليل من أسبابِ دخول الجنة، والثَّواب، قال: ((تدخلوا الجنة بسلام)) تسلم عليك الملائكة؛ ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23 - 24] يهنئونهم بما صبروا وبهذا الثواب العظيم"[4].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل))؛ [رواه مسلم].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدةٍ))؛ [متفقٌ عليه].
فهذه الأحاديث والنصوص تبين لنا كيف كان رسول الله المثل الأعلى في امتثاله لأمر الله - تعالى - وقيامه بالعبادة في الليل، وكيف أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يربي أصحابه عليها، ويَحثهم ويرشدهم إلى فعلها.
وفي هذا درس تربوي جليل لكل مربٍّ وكل داعية إلى الله - تعالى - ألاَّ يأمر الناس حتى يفعل، وألاَّ يدعو الناسَ إلى شيء يقوم هو بفعل ما ينقضه أو يخالفه، فإنَّ هذا من القبح عند الله - تعالى - بمكان، كما قال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].
وفي هذا عبرة لنا أنَّ العبادة من القيام بالليل، وتلاوة القرآن، وتدبره - زادٌ من الإيمان، وزاد من التربية والإعداد، وزاد من الهداية والثبات على حمل الرِّسالة وأدائها، كما بَيَّنَ الله - تعالى - في آيات المزمل: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6].
قال الشنقيطي - رحمه الله تعالى -: "قوله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6]؛ أي: ما تنشئه من قيام الليل أشدُّ مُواطأةً للقلب، وأقوم قيلاً في التلاوة والتدبر والتأمُّل، ومِن ثَمَّ بالتأثر، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة"[5].
وفي هذا التعبد والقيام بالليل ثمرة أخرى، وحصاد آخر؛ فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عليكم بقيام الليل، فإنَّه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم))؛ [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
____________________
[1] "العقيدة الإسلامية"، أحمد آل سبالك.
[2] "في ظلال القرآن"، (2/280).
[3] "في ظلال القرآن"، المجلد السادس، تفسير سورة المزمل.
[4] "شرح رياض الصالحين"، (3/443).
[5] "أضواء البيان"، تفسير سورة المزمل.



نشر بالألوكة
من كتاب إليكم يا شباب الإسلام
تأليف
أبو شهاب الدين عاطف بن عبد المعز السلمي الفيومي
يتوجب عليك تسجيل الدخول او تسجيل لروئية الموضوع
 

إدارة المعهد

لا إله إلا الله
إنضم
30 ديسمبر 2010
المشاركات
1,683
النقاط
38
الإقامة
بلجيكا
احب القراءة برواية
ورش عن نافع عن طريق الازرق
القارئ المفضل
عبد الجليل خالد-القزابري
الجنس
أخ
خذ من شبابك قبل الموت والهرم
وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعلم بأنك مجزي ومـــرتهن
وراقب الله واحذر زلة القـدم




والوقت أنفسُ ما عُنيتَ بحفظه
وأراه أسهل ما عليك يضيعُ

نسأل المولى تعالى ان يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه
احسن المولى تبارك وتعالى اليكم واجزل لكم العطاء
 
أعلى