الشيخ عاطف الفيومي
شيخ فاضل
- إنضم
- 4 يناير 2012
- المشاركات
- 587
- النقاط
- 18
- الإقامة
- الفيوم
- الموقع الالكتروني
- www.alfayyumy.com
- احفظ من كتاب الله
- كاملا بحمد الله
- احب القراءة برواية
- عاصم
- القارئ المفضل
- المنشاوي
- الجنس
- أخ
إليكم يا شباب الإسلام (2)
"البناء والتربية"
"البناء والتربية"
الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد - صلى الله عليه وآله أجمعين -
أما بعد:
فلا يزالُ الحديث معكم - يا شبابَ الإسلام - في تَجدُّد، ولا زلنا معكم نوجه ونرشد، ونؤصِّل ونُقعِّد في سبيلِ بناء جيل إسلامي، سليم العقيدة والمنهج، صحيح العبادة والمعاملة، مُستقيم الأخلاق والسلوك، واسع النظر والأُفُق، دقيق الفهم والعمل، عالي الهمة، قوي البنية، حسن الصلة بربه ودينه.
وهذا كلُّه لا يتحقق إلا بشقِّ الأنفس، وكمال الصَّبر، ودوام التربية والبناء، فمن دون التربية ومن دون البناء لن يتحقق شيءٌ لأمتنا وشبابنا، ومن دون التربية والبناء لن يأتي نصرٌ ولا عِزٌّ ولا تَمكين، ومن دون التربية لا يكون انتصارٌ ولا غلبة على أمم الكفر المعادية لأمة التوحيد والإيمان.
البناء والتربية منهجُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأساس الدعوة والتغيير:
أيها الشباب، إنَّ التربية تعني لنا التكوين والإعداد لتنمية القدرات والملكات والاتِّجاهات الصحيحة لبناء الفرد والمجتمع، وَفْقَ منهج الإسلام، ولإيجاد الجيل المسلم، الذي يحاكي ويقارب جيلَ الصحابة والسلف والتابعين من بعدهم بإحسان.
ولا يكون هذا التكوين والإعداد إلاَّ من خلالِ بناء العقيدة السليمة في النفوس، والعبادة الصحيحة، والأخلاق الفاضلة الكريمة، كما كان الأمر أَوَّلَ دعوة الإسلام الراشدة.
فالتربيةُ إذًا الخطوة الأساسية لبناء مجتمع إسلامي، وإعادة خلافة الإسلام إلى سُلطان السيادة والحكم على منهاج النُّبوة الراشدة.
وإذا تأمَّلنا - أيها الشباب - في سيرةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ظهر لنا هذا جليًّا واضحًا، فرسولُ الله ما قام في أولِ دَعوته ليتسلمَ مَفاتيح القيادة والحكم والتغيير بين قومه وعشريته، كلاَّ، إنَّما قام داعيًا ومربيًا، ومُعلمًا وهاديًا، يدعو إلى عبادة الله - تعالى - دونما سواه من المخلوقات والمعبودات الباطلة، ويربي أهلَ الإيمان والاستجابة على منهج الله - تعالى - وشريعته، حتى اكتملَ له البناء، وتَمَّ لهم التمكين الموعود، والنَّصر المنشود، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45 - 47].
فرسالةُ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بَيِّنَةٌ واضحة، قامتْ على بناءِ الدَّعوة والهداية، والبشارة والنذارة؛ قال السعدي - رحمه الله -: "كونه ﴿ دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾؛ أي: أرسله اللَّه، يدعو الخلق إلى ربِّهم، ويسوقهم لكرامته، ويأمُرهم بعبادته التي خلقوا لها، وذلك يستلزم استقامَتَه على ما يدعو إليه، وذكر تفاصيل ما يدعو إليه، بتعريفهم بربهم بصفاتِه المُقَدَّسة، وتنْزيهه عما لا يليق بجلاله، وذكر أنواع العبودية، والدعوة إلى اللَّه بأقرب طريق موصل إليه، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقه، وإخلاص الدعوة إلى اللَّه، لا إلى نفسه وتعظيمها، كما قد يَعْرِض ذلك لكثير من النُّفوس في هذا المقام، وذلك كله بِإِذْنِ الله - تعالى - له في الدَّعوة وأمره وإرادته وقَدَره"[1].
وقال شيخ المفسرين الطبري - رحمه الله -: "وقوله: ﴿ وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ﴾ يقول: وداعيًا إلى توحيدِ الله، وإفراد الألوهية له، وإخلاص الطاعة لوجهه دون كل مَن سواه من الآلهة والأوثان"[2].
وقال البيضاوي - رحمه الله -: "﴿ وَدَاعِيًا إِلَى الله ﴾ إلى الإِقرار به وبتوحيده، وما يجب الإِيمان به من صفاته"[3].
وقال ابنُ الجوزي - رحمه الله - في "زاد المسير": "﴿ وداعيًا إِلى الله ﴾؛ أي: إِلى توحيده وطاعته"[4].
إذًا فالدَّعوة إلى الله - تعالى - والصبر عليها منهجٌ نبوي رشيد، يهدفُ لبناء وتربية النفس البشريَّة على القيام بواجبات الله - تعالى - وفرائضه، وأحكامِه وشرائعه، وتقديم العمل الصالح بين يدي الإيمان بالله ورسوله، فكان الظفر والتمكين، كما قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النور: 55 - 56].
واعلموا - أيُّها الشباب - أنَّه قد عُرض على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الملك والسلطان، والمال والسيادة أولَ أمرِه ودعوته، لكنَّه أعرض عن كل هذا، واتَّجه نحو البناء والتغيير للنفس البشريَّة مباشرة، دون تدخُّلِ واسطةٍ ليس لها في النفس شأن ولا بُنيان، وصمد حتى أُذِنَ له بالهجرة المباركة إلى المدينة، فكانت هناك السيادة والملك والسلطان، ولكن بأهلِ العقيدة الراسخة، والأنفس الزَّكية الطاهِرة، التي أرادَتِ الحقَّ، وبذلتْ له أرواحَها وأموالَها، وكل ما لديها من مقومات الحياة.
وقد روى الإمامُ عبد بن حميد في - مسنده - بسنده عن جابر بن عبدالله قال: "اجتمعتْ قريش يومًا، فقالوا: انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشِّعر، فليأتِ هذا الرجل الذي فرَّق جماعَتَنا، وشَتَّت أمرَنا، وعاب دينَنا، فليكلمه، ولينظر ماذا يرد عليه؟
فقالوا: ما نعلم أحدًا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة، فقال: يا محمد، أنت خير أم عبدالله؟ فسكت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: أنت خير أم عبدالمطلب؟ فسكت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم قال: إن كنتَ تزعُم أنَّ هؤلاء خيرٌ منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبتَ، وإن كنت تزعُم أنَّك خير منهم، فتكلم حتى نسمعَ قولك، إنَّا والله ما رأينا سَخْلَةً قَطُّ أشأم على قومك منك، فرَّقْتَ جماعَتَنا، وشتَّتَّ أمرَنا، وعبت دينَنا، وفضحْتَنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أنَّ في قريش ساحرًا، وأن في قريش كاهنًا، والله ما ننتظر إلاَّ مثل صيحة الحُبلى أنْ يقومَ بعضنا إلى بعضٍ بالسيوف حتى نتفانى.
أيُّها الرجل، إنْ كان إنَّما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحدًا، وإن كان إنَّما بك الباءة، فاخترْ أيَّ نساء قريش شئتَ، فلنُزوجك عشرًا، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فرغت؟))، قال: نعم، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ إلى أن بلغ: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 1 - 13]".
فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟ قال: ((لا))، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئًا أرى أنَّكم تكلمونه إلاَّ كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ فقال: نعم، ثم قال: لا والذي نصبها بينة، ما فهمت شيئًا مما قال غير أنَّه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود".
قال الألباني - رحمه الله - في صحيحِ السيرة النبوية: "وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم بسنده عن الأجلح به، وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنَّما بك الرياسة، عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسًا ما بقيت، وعنده أنَّه لما قال: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، أمسك عتبة على فيه، وناشده الرحم أن يكفَّ عنه، ولَم يخرج إلى أهله، واحتبس عنهم"[5].
هذا ما فعله رسولُ الله مع عُتبة ومع قريش، في سبيلِ ردِّ تلك الإغراءات الدَّنيئة، والعروض الرخيصة لتركِ الرِّسالة والدعوة والتوحيد، إلاَّ أنَّ رسولَ الله ما أجاب إلا بالقرآن المنزل، والقول الفصل، الذي لا مراءَ فيه ولا هزْل، فكان الجواب القاصم لأهل الكفر والشرك.
فلا سبيلَ إذًا إلى حقيقةِ الإصلاح والنُّهوض - اليومَ - في كلِّ مَجالات الحياة الإسلامية وصُورها، إلاَّ أن تقومَ جماعة - أعني: فريقًا من الأمة بالمعنى الشرعي - تَحمل على عَاتِقها أمانة العودة والتغيير والإصلاح على منهاجِ النُّبوة الأول، ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بالأصْل الأصيل، والطريق القويم - الدعوة إلى الله تعالى - على منْهج السلَف الصالح، مع كمال الاستِقامة عليه؛ ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
والواقف بعَيْن البصيرة مع السيرة النبويَّة المباركة يتجلَّى له بوُضُوح هذه الحقيقة الكبيرة، حقيقة إقامة الحياة الإسلامية بمنْهج الدَّعْوة إلى الله تعالى.
فبَعْثة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كانتْ في جزيرة العرب، التي حَلَّتْ بها كثيرٌ من البلايا والرَّزايا في الاعتقاداتِ والمعامَلات، والأخلاق والسلوكيات، مع وجود بقايا لا تنكر من المروءة والأخلاق، لكنَّ حياتَهم ساد فيها صورٌ وألوان من الترَدِّي في العقل والمعتقد؛ مِمَّا جعلهم يعبدون حجرًا لا يسمع ولا يُبصر من دون الله - تعالى - بل وتعددت الآلهة بتعدُّد أصحابها، حتى سخروا من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقالوا: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5].
وكذلك أكلهم الرِّبا، والظُّلم الاجتماعي، وانتشار الفواحش والمنكرات المعلَنة بلا حياءٍ أو خجل أو خوف مِن عقوبة، فاستلزم ذلك بَعثة ربانيَّة تُعيد البشريَّة إلى مَسارها، وتقوِّم ما اعْوَجَّ مِن دينها، وما فسد من أخلاقِها ومُعاملاتِها، وما انحرفت فيه بأفهامِها، فكانت دَعوةُ التغيير والإصلاح، ودعوة البناء والهداية، ودعوة الخير والرَّشاد - دعوةَ الإسلام؛ ﴿ وَبِالْحَق أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 105].
فبدأ التكوين النبوي لجيل هذه الدعوة، ورعيلها الأول من خيار الصحابة - رضي الله عنهم - وكان ذلك باصطفاء مَن يدعوهم للإسلام، وقوة تأثيرهم على أفراد ذلك المجتمع الجاهلي؛ يقول أبو الحسن الندوي - رحمه الله تعالى -: "لقد وضع محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -مِفتاحَ النبوة على قفل الطبيعة البشرية، فانفتح على ما فيها من كنوز، وعجائب، وقوى، ومواهب، أصاب الجاهليةَ في مقتلها أو صميمها، فأصمى رميتَه، وأرغم العالم العنيدَ بحول الله على أنْ ينحوَ نَحوًا جديدًا، ويفتتح عهدًا سعيدًا، ذلك هو العهد الإسلامي، الذي لا يزال غرة في جبين التاريخ"[6].
فقام النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُعلنًا عبوديةَ الله - تعالى - وحْدَه من دون الآلهة الباطلة، وصبر وثبت وأوذي كثيرًا، وظلَّ في دَعوته ومَنهجه، يدعو الناس، ويعلم الناس، ويذكر الناس، حتى قامتْ دعوتُه خَيْرَ قيام على ثرى المدينة المنورة، وما شرع الجهاد في سبيل الله - تعالى - إلاَّ بعد هذا الميدان الكبير من الدَّعوة الخالصة، والصَّبْر على عنت أهْل الكُفر وضلالهم، والمشككون في هذا الطريق اليومَ ليسوا على شيء؛ لأنَّ التاريخَ خيرُ شاهِد، والقرآن والسنة خيرُ دليل، والواقع الأليم اليومَ يُثْبِت كلَّ ذلك، فلا سبيلَ اليوم إلا طريق المصلحين السابقين من الأنبياء والمرسلين، وفي مُقَدِّمتهم النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه - رضي الله عنهم.
وبعد هذا أقول لكم يا شباب الإسلام:
يجب علينا إذًا - أيها الشباب - أنْ نَخوض الطريق من أوله، لا من آخره، وأن نسلكَ طريق التربية والبناء نحو تغيير واقعِ أُمَّتِنا اليوم وإصلاحها، وحسبكم في ذلك أنَّه طريقُ الأنبياء والمرسلين، والدُّعاة والمصلحين، وحسبكم أنَّه الطريقُ الأوحد، الذي سلكه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في تبليغ دعوته، وبناء أمته، وإقامة دولته.
وهذا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يرسم الطريق لأصحابه - رضي الله عنهم - أيضًا، ويخط لهم معالِمَه، ويُؤصِّل لهم منهاجه، كما جاء في الحديث عن معاذ وابن عباس - رضي الله عنهما -: ((إنَّك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ اللهَ قد فرض عليهم خمسَ صلوات في كلِّ يوم وليلة، فإنْ هُم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخَذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإنْ هم أطاعوا لك بذلك، فإيَّاك وكرائم أموالهم، واتَّقِ دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))؛ [رواه النسائي والترمذي، وصححه الألباني في "صحيح الجامع": 2296].
فالواجبُ علينا بعد هذا أنْ نسلُكَ مسلك التربية والبناء لأنفسنا، وأن يكونَ لدينا منهجٌ عمليٌّ صحيح، نأخذ به، ونسترشد بأصولِه ومَعالِمه، ونسير عليه حتى يأذنَ الله - تعالى - لنا بفجر من التمكين الموعود؛ لتَحقيقِ العبودية له وَحْدَه - سبحانه -: ﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ﴾ [النور: 55].
حاجتنا إلى منهج الإسلام في البناء والتربية:
ونحن - أيُّها الشباب - في حاجة إلى منهجٍ تربوي صحيح، وفي حاجةٍ إلى مَنهج الإسلام الهادي، وشبابنا اليوم في حاجة إلى مَنهج القرآن والسنة؛ للخروج من هذه الفتن الحالكة المحيطة بهم، والأهواء والأفكار الباطلة من حولهم، والمغريات والمستغربات، من الشهوات والشبهات الباطلة، وذلك لعدة أسباب منها:
1- أنَّ الشباب المسلم في حاجةٍ مُلِحَّة وماسة إلى منهجٍ يُصحح لهم عقائدهم وأخلاقَهم، التي ربَّما يشوبها شيء من الشُّبهات والانحرافات؛ بسبب تعدُّد مناهج التربية، وربَّما تناقُضها كثيرًا، واضطرابها في عرض تصوُّر صحيح عن مفاهيم العقيدة الإسلامية ومَباحثها، وبيان سُبُل الوقاية من خطر الزيغ والانحراف عنها؛ ذلك أنَّنا نرى حولَنا من الفِرَق والمذاهب المختلفة والمتناقضة، وهي اتِّجاهات مُعادية ومُحاربة للإسلام وشريعته، فمنها ما هو عَلماني مادي، ومنها ما هو فكري تصوري، ومنها ما هو وجودي إلحادي، ومنها ما هو مُتحلل إباحي، وهكذا مَخاطر كثيرة ومُتعددة المناهج والمعتقدات.
وقد تكون هذه الاتجاهات من الجماعات المحسوبة على الاتجاه الإسلامي والدعوي، إلاَّ أنها لم تأخذ منهجًا صافيًا واضحًا، في عَقيدتها ومنهجها وتصوُّرها نحو الإسلام، فنراها تَجمع في صفوفها بين المتناقضات، فيُحدث هذا نوعًا من الخلل في التربية والتلقي لمنهج الإسلام الصحيح، كما أنَّه يُحدث أنواعًا من الضَّعف في الصف الإسلامي.
وجُلُّ هذه الفرق والمذاهب فيها ما فيها من مَزالق الانحراف والزَّيغ ما حذَّر الله - تعالى - منه ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم، وحينما ترى شابًّا في مُقتبل عمره يَعتنق مَذهبًا منها يأسف القلب كمدًا عندها؛ لما وصل إليه هذا وغيره من هذا الخَلَل والانحراف عن التصور الصحيح عن الكون والحياة وعن الدين والإله.
ولا رَيْبَ أنَّ العاصمَ من كلِّ ذلك مُلازمة منهج القرآن الصحيح الصافي، الذي جعله الله - تعالى - عِصْمَةً من كل ضلالة وزيغ وفتنة، وفي مُتابعة السنة النبوية: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15 - 16].
2- مكر الأعداء بشباب الأُمَّة الإسلامية، والكيد لهم في الليل والنهار؛ بُغيةَ إفسادهم وإبعادهم عن حقيقة دينهم ومَحاسنه السامية، وما كل ذلك إلا ليتمكنوا من خلق أجيال تنتسب إلى الإسلام شَكلاً، ولا تعرفُ عن حقيقة الإسلام شيئًا يُذكر، ومن ثَمَّ تُحقق أمثال هذه الأجيال مآرب الأعداء، بلا جهد منهم ولا مَشقة ولا عناء، فتنقلب مَوازينُ الأخلاق والقيم في النفوس، ويصبح الحال كما قال القائل:
مَا كَانَ فِي مَاضِي الزَّمَانِ مُحَرَّمًا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مُبَاحُ
صَاغُوا نُعُوتَ فَضَائِلٍ لِعُيُوبِهِمْ فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ وَالإِصْلاَحُ
فَالْفَتْكُ فَنٌّ وَالخِدَاعُ سِيَاسَةٌ وَغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعَةٌ وَنَجَاحُ
وَالعُرْيُ ظُرْفٌ وَالْفَسَادُ تَمَدُّنٌ وَالْكِذْبُ لُطْفٌ وَالرِّيَاءُ صَلاَحُ
صَاغُوا نُعُوتَ فَضَائِلٍ لِعُيُوبِهِمْ فَتَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ وَالإِصْلاَحُ
فَالْفَتْكُ فَنٌّ وَالخِدَاعُ سِيَاسَةٌ وَغِنَى اللُّصُوصِ بَرَاعَةٌ وَنَجَاحُ
وَالعُرْيُ ظُرْفٌ وَالْفَسَادُ تَمَدُّنٌ وَالْكِذْبُ لُطْفٌ وَالرِّيَاءُ صَلاَحُ
ولا ريبَ أنَّ هؤلاء ناصبوا الأمةَ العداء والكيد، بكثير من غرسِ الشَّهوات المنحرفة في النفوس، من حُبِّ جمع الأموال والثَّروات، من خلال صُورٍ اقتصادية وتِجارية، لا تَعرِف الإسلامَ في تعامُلها ولا تِجارتها، فتأكل من الرِّبا والغش والاحتيال بصُورٍ كثيرة، وكذلك فتحهم لأسباب الانحراف، وحُبِّ الشهوات المحرمة من الإباحية، وحب النساء، بلا ضوابطَ أو قيود، تنظم للناس معاشهم، وتَحفظهم من الوقوع في حمأة الشَّهوات الجارفة، والفتن والرذيلة، ففتحوا دورَ السينما، والأفلام الفاجرة، والأغاني الهابطة، ولا يزالون يضربون على هذا الوتر إلى اليوم، مع نفث شيء من المسكرات والمخدِّرات؛ لإضعاف الأبدان عن التطلُّع إلى العافية واليقظة، والدِّفاع عن الأوطان والدين والشريعة، والجهاد في سبيل الله تعالى.
ولا يعني هذا أيضًا أنَّنا نُلقي بالتَّبِعَة والواقع المتردي - اليومَ - على أعدائنا؛ لنبرِّئ أنفسنا وأمتنا من أخطائها الكبيرة في واقعنا المعاصر، كلاَّ، لكننا نؤكد على سُنَّةٍ من سنن الله الجارية في الصراع بين الخير والشر، والإيمان والكفر، وقد أكَّد ذلك ربنا في عِدَّة مواضع من القرآن، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 100]، وقال تعالى: ﴿ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 89]، وقال تعالى: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 149].
فهل بعد هذا البيانِ بَيان؟ وهل بعد هذا البُرهان برهان؟ إلاَّ أنه لا يقع ذلك من أعدائنا، إلاَّ في حالةِ تَضييع شرائع الإسلام والعمل بها، وفي غَفلة المسلمين وأَمْنِهم مكرُ أعدائهم.
وقد جاء في السنة النبوية ما يؤكِّد هذا الصراع أيضًا، كما أخبر بذلك النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - منذ ألف وأربعمائة وثلاثين سنة في حديث القصعة المشهور والمحفوظ، فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يوشِك أن تداعَى عليكم الأمم من كلِّ أفق، كما تداعَى الأكلة على قصعتها))، قلنا: يا رسول الله، أمن قلَّة منَّا يومئذ؟ قال: ((أنتم يومئذ كثير، ولكنَّكم غُثاء كغُثاء السيل، تُنزَع المهابة من قلوبِ عدوِّكم، ويُجعَل الوهن))، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهة الموت)).
وها نحن اليوم نرى تلك الهجمة الشرسة الجديدة من أعداءِ الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الشيوعية المادية المُلحِدة، والصهيونِيَّة العالمية الماكرة، والصليبية الجديدة الخادعة، وغيرهم من العُملاء والأذناب.
وكما قال صاحبُ كتاب "حتى يعلمَ الشباب": "إنَّ المخططات التي تُتَّخذ في أوكار الصهيونية، والماسونية، والصليبية، والشيوعية... كلُّها تستهدف إفسادَ المجتمعات الإسلامية عن طريق الخمر، والجنس، وإطلاق العنان للغرائز والشَّهوات، والجري وراء المظاهر، والتقليد الأعمى... والمرأة عند هؤلاء هي أول الأهداف في هذه الدعوة الإباحية، والميدان الماكر، فهي العُنصر الضعيف العاطفي، الذي ينساق وراء الدعاية والفتنة بلا رَوِيَّة ولا تفكير، وهي ذات الفعالية الكبيرة، والتأثير المباشر في إفساد الأخلاق.
يقول كبير من كبراء الماسونية الفجرة: "يَجب علينا أن نكسب المرأة، فأي يوم مدت إلينا أيدِيَها، فُزْنَا بالحرام، وتبَدَّد جيشُ المنتصرين للدين".
ويقول أحدُ أقطاب المستعمرين: "كأس وغانية تفعلان في تحطيم الأمة المحمدية أكثر مما يفعله ألف مدفع، فأغرقوها في حبِّ المادة والشهوات".
وجاء في "بروتوكولات حكماء صهيون" ما يلي: "يَجب أن نعملَ؛ لتنهارَ الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا، إنَّ "فرويد" منا، وسيظلُّ يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس؛ لكي لا يبقى في نظر الشباب شيءٌ مقدس، ويصبح هَمُّه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه...".
ومن وراء هذه القوى المعادية والتخطيط المدمر - اليهود؛ فهم الذين آلَوْا على أنفُسِهم أنْ يتبنوا كلَّ باطل من الآراء الفكرية في مَجال ما وراء الطبيعة، وفي مَجال الأخلاق، وفي مجال تحطيم القيم الدينية غير اليهودية؛ ليُفسدوا العالم في عقيدته وفكره وأخلاقه.
وليتمكنوا من وراء ذلك من قيادته، واستعباده، والسيطرة عليه، ولقد أعلن اليهودُ في بروتوكولاتهم أنَّهم يعملون جاهدين لإفساد الضَّمائر البشرية عن طريق التشكيك في الأخلاق والعقائد، ويعملون جاهدين لإفساد العقول عن طريق تزييف الحق، وترويج الباطل، ويتبنون شخصيات إبليسِيَّة ماكرة خبيثة تدعو إلى هدم العقيدة الدينية تارة، وهدم الأخلاق تارة أخرى.
بل قد وصل الأمر باليهود أنْ رَسَموا لإفساد الإنسانية مَنهجًا، أخذوا في تنفيذه عن طريق وسائل الإعلام، ودور النشر، وعن طريق المسرح والسينما، والبرامج الإذاعِيَّة والتلفزيونية، وعن طريق كل عميل خائن، وكاتب مأجور؛ لتتِمَّ لهم القيادة الفكرية، والنفسية، والفلسفية في العالم كله، فعلينا أنْ نعلمَ أن التخنُّث في شبابنا، والفجور في نسائِنا، وانتشار الخمر، والعهر، والقمار، والميوعة في بلادنا - هو من مخططات اليهود.[7]
وبهذا - أيها الشباب - نُدرك خطر مكر أعداء الأمة الإسلامية، وخطر ما يسوقون العالم إليه، وقد قال القائل:
مُؤَامَرَةٌ تَدُورُ عَلَى الشَّبَابِ لِيُعْرِضَ عَنْ مُعَانَقَةِ الْحِرَابِ
مُؤَامَرَةٌ تَقُولُ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى الشَّهَوَاتِ فِي ظِلِّ الشَّرَابِ
مُؤَامَرَةٌ مَرَامِيهَا عِظَامٌ تُدَبِّرُهَا شَيَاطِينُ الْخَرَابِ
مُؤَامَرَةٌ تَقُولُ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى الشَّهَوَاتِ فِي ظِلِّ الشَّرَابِ
مُؤَامَرَةٌ مَرَامِيهَا عِظَامٌ تُدَبِّرُهَا شَيَاطِينُ الْخَرَابِ
3- ونحن في حاجةٍ ماسَّة أيضًا إلى منهجِ الإسلام التربوي؛ بسببِ اضطراب مَناهج التربية نفسها، فالمناهجُ التربوية اليوم متَخَبِّطة كثيرًا، ومتأثِّرة بالغرب، والولع بتقليده، في كل ما يأتي به، حقًّا كان أم باطلاً، صوابًا كان أم خطأً.
4- ونحن في حاجةٍ ماسَّة لمنهج الإسلام؛ لأَنَّه هو المنهج التربوي الشامل، الكامل، والمحفوظ من كل تغيير، أو تحريف، أو تبديل، أو نقص، أو خلل، ولأنَّه المنهج المنزل من عند الله - تعالى - الذي يعلم النفسَ البشرية، ويعلم ما يهذبُها ويصلحها، ويعلم ما ينفعها ويضرها، ويعلم ما يهديها ويقومها، وما يغويها ويشقيها، ولأنَّه ليس من عند أفكار أو تصورات قاصرة، وليس من عند مناهج بشرية تُغلِّب النفسَ وشهواتِها على مرضاة ربها وموجدها، أو تُغلِّب العقلَ على الوجدان، أو الوجدان على العقل، أو على العاطفة وهكذا، لكنَّه منهجُ الله وحْدَه، الذي أقام به وفيه كل مقومات البناء العقدي، والأخلاقي، والتعبُّدي، والحياتي، كلها على أحسن وأكمل وجوهِها، بل كان ذلك واقعًا مرئيًّا وبشريًّا، أقامه الله وجعله حقًّا في حياةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه - رضوان الله عليهم - فحملوا هداياته وإشراقاتِه، وعلومه وأخلاقه، وتشريعاته الكاملة الشاملة، ففتحوا به الدنيا، ونالوا به حسن الثواب في الآخرة، فما أجله وأكرمه من منهج رَبَّاني محفوظ؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
5- وكذلك جهل كثير من المسلمين بمحاسن الشَّريعة الإسلامية، وبما جاءت به، من الحثِّ على مكارم الأخلاق، والإعلاء من شأن أصحابِ الأخلاق الحسنة عند الله - تعالى - في الدنيا والآخرة.
6- وكذلك حب الدنيا، والانغماس في طلبها، واللهث الدَّائم خلفها؛ بُغية الطمع فيما لا يدوم ولا يبقى، ولكنه الشيطان وشهوات النفوس الزائغة عن الرضا بما قسم الله - تعالى - من أجل ذلك يبيع كثيرٌ من الناس أخلاقَهم ومبادئَهم بالسبِّ والشتم واللعن والكذب والغش والظُّلم؛ بُغيةَ جَمع شيء من حطام الدُّنيا الفانية.
لكل هذه الأسباب وغيرها نَحن في حاجة إلى منهج تربوي عاصم، منهجٍ فيه الجمع بين خيري الدُّنيا والآخرة، وفيه المفاهيم العقدية الصحيحة عن الكون والإنسان والحياة، وفيه الوقاية من الانحراف والفساد الأخلاقي، مع تَهذيب النفس، والارتقاء بها إلى حيث مكانة الإنسان السامية.
وكل ذلك جاء به القرآن المنزل على قلب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جاء بمنهاجه القويم، الذي أخرج به الناس من الظُّلمات إلى النور، وهداهم إلى مَعرفة خالقهم وعبادته وحْدَه لا شريك له، وفتح لهم به الدُّنيا وخيراتها وكنوزها، تحت سيف الجهاد في سبيل الله وحْدَه، وليس في سبيل الدُّنيا القليلة الفانية، وجاء بالعلم، وكشف مغاليق الكون والحياة، والكثير مما لم يكن يعلمه الإنسان، لولا هداية الله - تعالى - وحْدَه، فحكموا الدنيا، وصاروا أسيادَها وقادتها، فهل لنا إليهم من سبيل؟
وصدق الله - تعالى - إذ يقول في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9].
الغاية المنشودة من التربية:
ثم عليكم - أيها الشباب - أنْ تعلموا أنَّ الغايةَ المنشودة من التربية والبناء للفرد والمجتمع، بعد بناء المجتمع الإسلامي الفاضل - إنَّما تكمُن في غايات عظيمة:
الأولى: في تحقيق العبودية لله - تعالى - في الأرض.
الثانية: الاستحقاق للخلافة الموعودة، والتمكين للأمة الإسلامية.
الثالثة: دفع عذاب الله - تعالى - عن الأمة والمجتمع.
أمَّا غاية تَحقيق العبودية لله - تعالى - قد أكَّد الله على هذه الغاية الجليلة في كتابه، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
قال السعدي - رحمه الله -: "هذه الغاية، التي خلق الله الجنَّ والإنس لها، وبعث جميع الرُّسل يدعون إليها، وهي عبادته المتضمنة لمعرفته ومَحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه، وذلك يتضمن مَعرفة الله - تعالى - فإنَّ تَمام العبادة متوقف على المعرفة بالله، بل كلما ازداد العبد معرفةً لربه، كانت عبادته أكمل، فهذا الذي خلق الله المكلفين لأجله، فما خلقهم لحاجة منه إليهم"[8].
وقال الشنقيطي - رحمه الله -: "التحقيقُ - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة ﴿ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ أي: إلاَّ لآمُرهم بعِبادتي وأبتليهم؛ أي: أختبرهم بالتكاليف، ثم أجازيهم على أعمالهم، إنْ خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وإنَّما قلنا: إنَّ هذا هو التحقيق في معنى الآية؛ لأَنَّه تدل عليه آياتٌ مُحكمات مِن كتاب الله، فقد صرَّح تعالى في آياتٍ من كتابه أنَّه خلقهم؛ ليبتليَهم أيهم أحسن عملاً، وأنَّه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم.
قال تعالى في أولِ سورة هود: ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ﴾ [هود: 7]، ثُم بيَّن الحكمة في ذلك، فقال: ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [هود: 7].
وقال تعالى في أول سورة الملك: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].
وقال تعالى في أول سورة الكهف: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7] الآية.
فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأنَّ حِكمةَ خلقه للخلق هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، يفسر قوله: ﴿ لِيَعْبُدُونِ ﴾"[9].
فإذا تَحقَّقت العبادةُ ابتداءً، وقام المسلمون بحقِّها قَدْرَ الاستطاعة، تَحَقَّق لهم وَعْدُ الله - تعالى - ورسوله بالظهور والتمكين، والعزِّ والسيادة.
وأمَّا التمكينُ الموعود بتحقيق مقام العبودية لله - تعالى - فإنه قادمٌ بأمر الله لا مَحالة؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
وقد روى الإمامُ أحمد عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه-قال: "كنا جلوسًا في المسجد، فجاء أبو ثعلبة الخشني، فقال: يا بشير بن سعد، أتحفظ حديثَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الأمراء؟ فقال حذيفة:أنا أحفظ خطبته، فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة:قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرِيَّةً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت))".
والذي عليه كثيرٌ من أهلِ العلم اليومَ أنَّ الملك الجبري يدخُل فيه هذه الحقبة الزَّمنيَّة، التي تَمُرُّ الأمة الإسلامية بها الآن، وأنَّ اللهَ - تعالى - جاعِلٌ للأمة الإسلامية طَريقًا للعودة لهذه الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الأولى.
والخلافة الإسلامية والتمكين تعني: التمكين للمؤمنين المتبعين للكتاب والسنة، والسائرين على طريق الصَّحابة والسلف الصالح من بَعدهم، والتمكين لهم بأَنْ يُقيموا العقائدَ والشعائر والشرائع التي أمر الله - تعالى - بها ورسوله في جميع مَجالات الحياة البشرية.
والتمكين لهم بالإعلان عن عُبودِيَّتِهم لله وحْدَه لا شريكَ له في حُكمه ولا في أمره، في حرية كاملة دون خوف من الطُّغاة أو الظالمين، أو وَجَلٍ من أعْداءِ الله المُتربِّصين والمنافقين.
والتمكين لهم أن يَملكوا زمامَ قيادة العالم من جديد، كما كانوا في القرون الماضية، وأنْ يفتحوا قلوبَ العالمين بنُورِ هذا الدين الحق، ويفتحوا كنوزَ الأرض وخيراتِها بالجهاد في سبيله وحْدَه، وإعلاء كلمة دينه، والتمكين لهم بأن يَحكموا الناس بشريعة الله، وأنْ يَرفعوا ظلمَ الظالمين، وفسادَ المفسدين، وأن يقيموا ميزانَ الحق والعدل بين الناس بما أنزل الله - تعالى - وأن يرفعوا عنهم الذُّلَّ والمهانة، التي طالما عاشوا فيها سنينَ طويلة، يَذِلُّون فيها لأعداءِ الله من اليهود والنصارى والمنافقين، ويُحَكِّمون قوانين الظلم والجور بين العالمين.
إنَّ الخلافةَ تعني الكثير والكثير من تَحرير البشرية كلها من قبضة الطُّغاة والمنافقين، الذين يُحاربون شريعةَ الله ومنهجه، وتَحريرها من أن تذل لغير خالقها ومُوجدها، وأنْ تَستمد أحكامَها وشرائِعَها إلاَّ من منهاج ربِّها وشريعته الإسلامية.
وهذه الخلافةُ قادمة لا مَحالة، ولكنَّها تأتي بالتربية والبناء، وبذل الجهود، وإعداد العُدَّة، وتطهير القلوب، وتزكية النُّفوس، واستعلاء الإيمان في قلوب أصحابه، إنَّها قادمة بإذن الله، ولكن بالسنن التي تعمل في الكون والحياة، وليس بترك الدَّعوة والتخاذُل عن نُصْرة الإسلام والمستضعفين في الأرض، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
وجاء في الحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي قَوَّامَة على أمر الله، لا يضرها من خالفها))؛ [أخرجه ابن ماجه، وصححه الألباني: 4/ 603].
وفي روايةٍ لأحمد: ((لا تزال أُمَّةٌ مِن أمتي ظاهرين على الحقِّ لا يضرهم مَن خالفهم حتى يأتِيَ أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).
وعن جابر قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة))، قال: ((فينزل عيسى ابن مريم، فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا، فيقول: لا، إنَّ بعضَكُم على بعض أمراء؛ تَكْرِمَةَ الله هذه الأُمَّةَ))؛ [رواه مسلم].
وفي حديثٍ آخر لمُسلم: ((لا تزالُ عصابة من أمتي يُقاتلون على أمرِ الله قاهرين لعدُوِّهم، لا يضرُّهم مَن خالفَهم، حتى تأتِيَهم الساعة وهم على ذلك))، فالصبرَ الصبر، والثباتَ الثباتَ، حتى يأتي وعدُ الله لكم.
وأما الغاية الثالثة: فهي دفع وقوع العذاب والعقاب من الله - تعالى - لأَنَّ الأمة الإسلامية لا تزال بخير ما أَمَرت بالمعروف، ونَهت عن المنكر، وإلا حَقَّ بها وعيدُ الله - تعالى - ما حق على الأمم التي عَصَتِ الله من قبلُ، وخالفتْ أمرَ رُسُله، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 116 - 117].
_______________________________
[1] "تيسير الكريم الرحمن" (667).
[2] "جامع البيان"؛ (20/281).
[3] "أنوار التنزيل"؛ لناصر الدين البيضاوي.
[4] "زاد المسير"؛ لابن الجوزي.
[5] "صحيح السيرة النبوية"، للألباني.
[6] انظر: "ماذا خسر العالم"، لأبي الحسن الندوي (82).
[7] "حتى يعلم الشباب"، عبدالله علوان، بتصرف.
[8] انظر: "تفسير السعدي"، تفسير سورة الذاريات.
[9] انظر: "أضواء البيان"، تفسير سورة الذاريات.
نشر بالألوكة
من كتاب إليكم يا شباب الإسلام
تأليف
أبو شهاب الدين عاطف بن عبد المعز السلمي الفيومي
من كتاب إليكم يا شباب الإسلام
تأليف
أبو شهاب الدين عاطف بن عبد المعز السلمي الفيومي
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع