- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
سورة التكاثر
هذه السورة الكريمة سورة مكيَّة.
وموضوع هذه السورة هو: النهي عن التشاغل بما يشغل الإنسان عن حقيقة الحياة، أو عن الاستعداد للقاء الله -عز وجل-، نهي الناس عامة عن انشغالهم بما لم يُخلقوا من أجله، وأكثر ما يشتغل به الناس في حياتهم هو التكاثر.
لو تأملنا ما يشتغل به الناس في حياتهم لوجدتم أنهم يتكاثرون، ترى الإنسان عنده ما يكفيه من الدنيا من القوت، من الطعام، من الشراب، من السَّكن، طيب ما الذي يحملك أن تعمل الكثير وتترك عبادة الله وتترك ما فيه منفعتك ومنفعة العباد وما فيه الاستعداد لدار المعاد؟
ينظر ويُجيبك بأنه لن يكون أقل من فلان وفلان. أليس هذا تكاثرًا؟!
ترى الواحد عنده القدر الجيد مما يقيمه في الدنيا من متاع وأثاث وسكن وولد، ولكنه مع ذلك يطمع بالمزيد، ويريد الكثير، وكل ما جاءه ما يريد طلب المزيد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب».
فابن آدم فيه هذه الخصلة -خصلة الطمع والتكاثر- وليس التكاثر في الأموال بل كل ما يشغل الإنسان عن الدار الآخرة.
أحيانًا تجد الإنسان يُكاثر الناس بشيء لا فائدة فيه أصلًا لا دنيوية ولا دينية ولا أخروية، تجد الإنسان يُكاثر في الأسفار، فهو يتبجَّح في المجالس بأنه أكثر الناس سفرًا وهكذا .....
سبحان الله! وماذا في هذا من النفع؟! ماذا فيه من الخير؟! ماذا فيه العلم؟! ماذا فيه من القربة؟! ألهذا خُلقت؟! أمن أجل هذا جئت إلى هذه الحياة؟! أهذا هو حظك من حياتك؟! ألا تعتبر؟!
سبحان الله! ما هذا؟ تكاثـر.
إذن هذه السورة تُبيِّن لنا خطورة التكاثر علينا، وأننا ما خُلقنا من أجل أن نتكاثر، إنما خُلقنا من أجل أن نعمل لِمَا فيه منفعتنا في الآخرة.
السورة اسمها التكاثر، وتسمى في بعض التفاسير: ألهاكم التكاثر، وتسمى أيضًا: سورة المقبرة، أخذًا من قوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، وإن كان هذا الاسم ليس مشهورًا ولكن ذكره الألوسي في روح المعاني.
وعدد آياتها: ثلاث آيات.
ومناسبتها للسورة التي قبلها، السورة التي قبلها قسمت الناس إلى قسمين:
- من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية.
- مَن خفَّت موازينه فأمه هاوية.
كيف تخف موازينه؟ عندما يشتغل بشيء لم يُخلق من أجله، ويكون همُّه فيما يشتغل به أن يُكاثر، فهذا هو سبب البلاء، وبهذا يخف ميزان الإنسان يوم القيامة، وبذلك نقول: هذه سورة واعظة للقلوب الحيَّة، مَن كان له قلب حيّ وعظته هذه السورة العظيمة.
يقول الله -عز وجل: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾، أي أشغلكم أيها الناس عمَّا خُلقتم لأجله.
﴿التَّكَاثُرُ﴾، أي تكاثركم.
وأطلق، لم يقل: "ألهاكم التكاثر بالأموال"، أو "ألهاكم التكاثر بالأولاد"، لماذا؟ ليُبيِّن أنه يدخل فيها كل لون من ألوان التكاثر مما هو موجود عند نزول الآية ومما يوجد إلى آخر الدهر، يدخل في هذا الإطلاق، كل ما تتكاثر به أو تُكاثِر به غيرك مما لا ينفعك في الدار الآخرة، ولا يكون حجة لك بين يدي الله، ولا يكون قربة من القُرَب، فاعلم أنه مُلهٍ، وأنك تشتغل بشيء لا ينفعك وستندم عليه أشد الندم.
قال ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، يعني حتى مُتُّم ثم دُفِنتم في مقابركم، ولذلك قال: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ﴾.
وسمَّى الدخول في القبر زيارة لماذا؟ {لأنه سبيل للآخرة}.
نعم، أنه سبيل للآخرة، وأن الذهاب إلى المقبرة والدفن فيها سيكون وقتًا يسيرًا بالنسبة لما بعده، ولم يقل: "حتى دفنتم في المقابر"، أو "حتى ذهبتم إلى المقابر"؛ وإنما اختار لفظ "الزيارة"، لأن الزيارة في العادة تكون وقتًا قليلًا إذن هؤلاء سيذهبون إلى المقابر يزورونها ويجلسون فيها وقتًا يسيرًا جدًّا ثم ينتقلون إلى دارٍ هي الدار التي سيكون فيها القرار.
ما رُويَ في بعض التفاسير أن حيَّين من قريش أو من الأنصار اختلفوا وتفاخروا، فحملهم تفاخرهم إلى أن يذهبوا إلى المقبرة ليقولوا: منَّا فلان، ويقول الآخرون: منَّا فلان -من المقبورين- هذا مذكور ويمكن دخوله في معنى الآيات، لكن ليس هو سبب نزول هذه الآيات، وليس هو المعنى بها بالدِّقة.
قال: ﴿كَلاَّ﴾، هذه ردع وزجر.
قد ذكرنا قاعة في "كلا"، وقلنا أنه إذا جاء قبلها شيء يُنهى عنه أو شيء يُزجر عنه، فإنها تكون للزجر. وإذا كانت لم تُسبَق بشيء من ذلك، فإنها تكون بمعنى حقًّا.
هنا لما جاء قبلها ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، جاءت بمعنى الردع والزجر.
﴿كَلاَّ﴾، انتهوا عن هذا الذي تفعلونه، اتركوا هذا التكاثر الذي لا ينفعكم يوم أن تلقوا ربكم.
قال: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تعلمون عاقبة تكاثركم وأنه لن ينفعكم، مهما كانت الاملاك عندكم .
هل يُنادى يوم القيامة يقال هذا مجلس لأصحاب الأرصدة الضخمة؟! هل تركب يوم القيامة مركب فاخر أو فاره أو توضع في مقدمة الناس بسبب كثرة أموالك في الدنيا؟! أبدًا لن يكون شيء من ذلك.
ولذلك يقول: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة تكاثركم، وأن هذا التكاثر كان مشغلة وملهاةً أي تلهيتم به عمَّا خُلقت لأجله.
ثم يؤكد ذلك فيقول: ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تأكيدًا على أن الناس سيدركون حقيقة هذا التكاثر في الدار الآخرة.
قال بعضهم: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، أي عندما تدخلون قبوركم، ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عندما تبعثون بين يدي الله -عز وجل.
فهذا التكرار له أكثر من مكان، الأول في المقبرة أو في دار البرزخ، والثاني في الدار الآخرة.
ثم قال: ﴿كَلاَّ﴾، "كلا" أيضًا ردع وزجر لهؤلاء، وهذا يدلنا على خطورة هذا الأمر الذي يتشاغل الناس عنه ولا ينتبهون له، وتذهب أعمارهم وهم غير ملتفتين لهذا الأمر وهو أن التكاثر هو أكثر ما يقضي على أعمار الناس ويذهب بلبِّ حياتهم فلا ينتفعون بها في الدار الآخرة.
ولذلك قال: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، هذه الكلمة يظن بعض الناس عندا يقرأها أنها مرتبطة بالآية التي بعدها من حيث أن الآية هذه جواب لـ "لو"، يعني: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم. .
هذه "لو" جاءت ولم يأتِ جوابها، ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ لَمَا تكاثرتم. هذا جوابها، لَمَا ألهاكم التكاثر.
يعني: لو علمتم علم يقينٍ بأن رأيتم الجنة والنار، ورأيتم دار القرار، ورأيتم الجزاء والحساب، ما اشتغلتم بهذا الشيء الذي كنتم تشتغلون به، ولَمَا تكاثرتم بهذا الذي أشغلتم وألهيتم حياتكم به، ولذلك قال: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، أي لو تعلمون الأمور علمًا يقينيًّا ما تشاغلتم بما تشاغلتم به مما لا ينفعكم في الدار الآخرة.
إذن "لو" جوابها محذوف للعلم به، وهذا أسلوب من أساليب القرآن وهو أن يُحذف جواب "لو" للعلم به أو لتهويل الأمر.
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى﴾ [الرعد: 31]، لم يأتِ جواب، لماذا؟ لأن الجواب: "لكان هذا القرآن".
قال: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، هذا ابتداء قسم من الله -سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، أي أقسم أنكم سترون الجحيم جميعًا.
﴿لَتَرَوُنَّ﴾، والنون هنا للتوكيد، فجاءت مؤكدة مع القسم.
طيب، إذا رأينا الجحيم ماذا سيكون؟
معناه: إذا رأيتم الجحيم ورأيتم هول العذاب؛ عرفتم أنه لا ينفعكم ولا ينجيكم من ذلك الجحيم إلا انشغالكم بما تدرؤون به العذاب عن أنفسكم، وليس تلهِّيكم بالامور الدنيوية التى أذهبت عليك لبَّ حياتك.
﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، ثم يؤكد فيقول: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، في تلك الحالة الخلق كلهم يذهلون ويصيبهم الفزع والرهبة العظيمة، ولا ينفعهم في تلك اللحظة إلا ما قربوه لربهم -سبحانه وتعالى.
هنا: جاءنا بعلم اليقين، وهنا جاء بعين اليقين.
علم اليقين: هو ما تعلمه يقينًا بأنه واقع، فأنت تعلم الآن أن هناك قارة اسمها استراليا، أليس كذلك؟
هذا بيقين أم فيه شك؟ بيقين.
لكن هل رأيتها؟ لم ترها، فإذا رأيتها بنفسك يسمى "عين اليقين"، فإذا دخلت فيها يسمى "حق اليقين". وهذه مراتب اليقين المذكورة في القرآن، علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
قال: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، ولم يقلك "لترونها حق اليقين"، لأنه ليس كل مَن يراها يدخلها.
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، يعني فإذا رأيتموها عين اليقين عرفتم أن ما كنتم تتلهون به وتكاثرون غيركم به لن يكون نافعًا لكم في تلك اللحظة.
قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.
﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ قسم، أي والله لتسألن جميعًا عن النعيم.
وأطلق النعيم ولم يحدده بنعيم معين، فقال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، أي يوم القيامة نسأل عن كل شيء أنعم الله به علينا، الصحة، الفراغ، الزوجة، الولد، الماء البارد، الهواء، الأمن، الوطن، النسب، الدين، اللغة، اللون، العين، الأذن، السيارة، كل هذا تسأل عنه.
كيف تسأل عنه؟ تُسأل عنه هل أديت شكره؟ هل قمت بما يجب لله فيه؟ هل استعملته في طاعة الله؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يُقال له: ألم نُصحَّ لك جسمك ونرويك من الماء البارد».
وقد ورد عن السلف خلاف في النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان، لكن كل هذا خلاف يعتبر من باب اختلاف التنوع، وهو أمثلة لهذا النعيم. منهم مَن قال النعيم يعني الصحة، ونهم مَن قال الطعام، ومنهم مَن قال الماء البارد، وغير ذلك مما ذكره السلف -رضوان الله تعالى عليهم.
سورة العصر
هذه السورة قصيرة لكنها عظيمة قال فيها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هي؛ لكفتهم"، ولو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. لأنها اشتملت على الأسباب المنجية من الخسران، فمن أراد أن ينجو من الخسران فلينظر إلى أسباب النجاة من الخسران في هذه السورة، ولذلك كان السلف -رضوان الله تعالى عليهم- يتعاهدون في مجالسهم، فيقرؤونها في مجالسهم لأن الإنسان يتذكر بها الأسباب التي ينجو بها من النار، لن ينجو إلا بأربعة:
- إيمان مبني على علم.
- وعمل صالح.
- وتواصٍ بالحق، يوصي بعضهم بعضًا بالحق، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر.
- وتواصوا بالصبر.
فمن عمل بهذه الأربعة نجا من النار، ومَن قصَّر أو فرَّط فيها أو في بعضها فهو على شفا هلكة.
هذه السورة مكية، وتسمى سورة العصر، أو والعصر.
وعدد آياتها ثلاث آيات.
محورها: أسباب النجاة من الخسران، فهي سورة جامعة من أراد أن ينجو من الخسار، وأن ينجو من النار.
أما مناسبتها لما قبلها من السور فهي ظاهرة لأن الله -عز وجل- ذكر في سورة التكاثر سبب من أسباب الخسران وهو تكاثر الناس بما لم يُخلقوا من أجله، وأن هذا خطير عليهم، فجُمع هنا ما ينجي الإنسان من الخسار كله وهو الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
افتُتِحَت هذه السورة بالقسم، وهو قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، أقسم الله بالعصر، وقد اختلف الناس هل المراد به العصر الذي هو الوقت المعروف من النهار، الذي هو آخر النهار؟ أو العصر بمعنى الزمن؟
قولان مشهوران عند المفسرين، والظاهر أن القسم هنا بالزمن، لأنه هو محل النجاة ومحل الخسار، هو محل العمل الذي تكون به النجاة من الخسران، فالله يُقسم به.
كيف تنجو من الخسران؟ أن تستثمر هذا الزمن في الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
لذلك قال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، الإنسان هنا هل المراد به الإنسان الكافر أو جميع الناس؟
{جميع الناس}.
لماذا كل الناس خاسرون؟
{كل الناس خاسرين واستثنى الله بـ "إلا"}.
هذه اللفظة "الإنسان" تحتمل أن تكون يُراد بها الكفار وحدهم ويراد بها العموم.
والمراد بها العموم؛ لأنه قال: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ﴾، فلما قال: ﴿إِلاَّ﴾، عرفنا أن الإنسان هنا عام، لأنه لو كان الإنسان الكافر ما صحَّ الاستثناء، يعني "إن الكفار لفي خسر إلا الذين آمنوا" ما يصح الاستثناء هنا، إلا أن يحمل على أنه استثناء منقطع، والاستثناء هنا بمعناه المعروف.
إذن الإنسان هنا: جميع الناس.
ذكرنا قاعدة سابقة هي: أن "الإنسان" يرد كثيرًا في السور المكية مرادًا به الكافر، ومرَّ بنا في سورة ماضية قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، أي جحود، كفور بالنعم. هل المراد بها الإنسان الكافر أو المراد بها عموم الناس؟
الذي يظهر أن المراد بها الإنسان الكافر، ولا مانع أن يكون في الإنسان المؤمن شيء من التلبس بهذا الجحود بقدره لكنه لا يصل إلى الجحود التام الذي هو عند الكافر الذي يجحد نعمة الله جملة وتفصيلًا، فما تلبَّث به المؤمن من الجحود يُعتبر نقصًا في إيمانه .
والمؤمن -في العادة- لا يمكن أن يسمى مؤمنًا وهو جحود، لأن الكنود هو المبالغ في الجحود وفي الكفران لنعمة الله -عز وجل.
فالظاهر أن قوله ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ أنها في الإنسان الكافر.
وهذا يبيِّن لنا أن كلمة الإنسان تخضع للسياق، فتارة تُفسَّر بعموم الناس، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: 1]، الإنسان: عموم لناس.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: عموم الناس.
لكن ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 6]، أي الإنسان الكافر.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6] : الإنسان الكافر.
﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، أي في خسارٍ وهلاك.
مَن الذي ينجو يا رب؟
قال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، تحققوا بالإيمان.
والإيمان كما يعرفه أهل السنة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
هذا الاعتقاد لابد أن يكون مبنيًّا على علم، ليس المقصود أن تعتقد أن الجدر قائم، وأن الليل قد حضر، وأن النهار سيأتي، وأن أمس يوم كذا وغدًا يوم كذا، إنما على شيء تعتقده يصح فيه البلاء، وهو الشيء الغائب عنك.
ولذلك أول ما وُصف به المؤمنون في القرآن في قوله -عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة 1، 2]، ماذا قال من أوصاف المتقين؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3 ]، لأن أركان الإيمان كلها مبنية على الغيب، الإيمان بالله غيب، الإيمان بالملائكة غيب، الإيمان بالرسل بالنسبة لنا غيب، لولا أن رسول الله حدثنا عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ما عرفناهم، فنحن مؤمنون بالغيب.
الإيمان باليوم الآخر غيب، الإيمان بالقدر غيب، الإيمان بالكتب أيضًا غيب، نحن نعلم أن الله أنزل كتبًا كثيرة على رسله، لكننا نؤمن بها بناءً على خبر الصادق عنها، وبهذا يحصل البلاء، لأنه لو كان شيئًا مشاهدًا ما أنكره الناس، إنما يُنكر الناس شيءٌ غاب عن أعينهم، جاء الصادق فأخبرهم عنه، منهم مَن يُكذِّب بهذا الصادق، ومنهم مَن يؤمن به.
إذن الإيمان مبناه هو العلم، ولذلك نقول: العلم مدلول عليه بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فلا يمكن للإنسان أن يؤمن إيمانًا صحيحًا، ولا أن يعتقد اعتقادًا صالحًا إلا أن يكون عنده علم نافع، وهو العلم الذي جاء به الوحي وأنزله الله -سبحانه وتعالى- على الرسل في الكتب أو عبر الوحي إليهم.
﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إيمانًا صحيحًا.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لم يكتفوا بمجرد الاعتقاد؛ بل قرنوا الاعتقاد بالعمل، ووصف العمل بأنه ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ لأنه ليس كل عمل ينفع الإنسان لينجو من الخسران؛ بل الذي ينجي الإنسان من الخسران هو العمل الصالح، والعمل لا يكون صالحًا حتى يتوفر فيه أمران:
- أن يكون خالصًا لله -عز وجل.
- وأن يكن على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان خالًا ولم يكن على هدي رسول اله فليس بصالح، وإذا كان على هدي رسول الله ولم يكن خالصًا فليس بصالح، ولذلك يوصف العمل دائمًا في القرآن بقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني عملوا الأعمال الصالحات التي يقبلها الله وهي ما توفر فيها هذا الشرطان الرئيسان.
ثم جاء بالوصف الثالث قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾.
تواصوا صيغة تفاعل، صيغة التفاعل تدل على أن كل واحد منهم يقوم بما يجب عليه في إيصاء الآخرين بالحق، فأنا أوصيك بالحق وأنت توصيني بالحق، تركًا أو فعلًا، أوصيك بالحق في فعل الصلاة، وأوصيك بالحق في أمر الربا، الربا تنتهي عنه، والصلاة تأتيها وتمتثلها، فنحن نتواصى بالحق، ولذلك لا ينجو الإنسان إلا بالتواصي.
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] الفائزون الذي ظفروا بالمطلوب، فلا بد أن يوصي كل واحد منا صاحبه بالحق، الحق يعني الهدى والخير والإيمان والطاعة.
قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، هذه المسألة الرابعة، ﴿وَتَوَاصَوْا﴾ أي وصَّى بعضهم بعضًا بالصبر. الصبر على أي شيء؟ جاء مطلقة، فيشمل الصبر على الحق، أوصيك بالصبر على الصلاة، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
نصبر على التواصي بالحق أيضًا، الصبر على الحق، والصبر على التواصي بالحق، لأن التواصي بالحق أمر صعب، ولذلك جاء في وصايا لقمان: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]، لماذا قال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ بعد قوله ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ﴾؟
لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لابد أن يناله من الخلق شيء من المكروه، هذه قاعدة.
فليصبر الأنبياء خير منك، الرسل والصالحون قبلك قد سلكوا هذا المسلك وأوذوا، ما سلم أحد منهم من الأذى، فأنت لست بخير منهم، بل إنك إذا أوذيت علمت أنك على الجادة، فأنا أحثك على الصبر.
ويدخل فيها أيضًا الصبر على أقدار الله المؤلمة، تصبر على ما يأتيك من مُرِّ القضاء ومن حرِّ البلاء، موت عزيز، ذهاب مال، فأوصيك بالصبر. ثم سورة الهمزة.
سورة الهمزة سورة مكيَّة، وهي مكوَّنة من تسع آيات بغير خلاف.
هذه السورة محورها حول لونٍ من ألوان الخسار، ألم يقل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ ما هي صور هذه الخسارة؟
منها: همز الناس ولمزهم، والاعتداد بالمال، والسخرية بالخلق. هذا من ألوان الخسار.
فهو يصور لنا جملة من الخاسرين، الخاسرون هم خلق كثيرون جدًا، منهم أولئك الذين يلمزون الناس ويهمزونهم، ويسخرون منهم ويجمعون المال جمعًا شديدًا ويعددونه، ولا ينفقونه في سبيله، فهي سورة تعد لنا شيئًا من ألوان الخسار المذكور في قوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
قال: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾.
﴿وَيْلٌ﴾: ذكر فيها قولان:
- أنه وادٍ في جهنم.
- أنها كلمة تهديد وعذاب ووعيد، وهذا أظهر وأقرب إلى الدلالة اللغوية خصوصًا وأن المعنى الآخر لم يرد فيه أحاديث صحيحة.
فنقول: تهديد شديد. لمن؟ قال: ﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، يعني همَّاز لمَّاز.
مَن هم الهزة ومَن هم اللمزة؟
اختلف المفسرون فيهم:
فقيل:
- الهمزة: المغتاب الذي يغتاب الناس.
- واللمزة: الطعَّان الذي يطعن فيهم، فلان كذا، طويل، قصير، غبي، بخيل، هذه الأوصاف التي يذكرها هؤلاء، إرهابي، أصولي، وكلمات كثيرة، متزمِّت، مجرد أنه يُلقي الكلام على عواهنه ويطعن الناس، هذا يسمى الطعَّان. هذا قول.
ومن المفسرين مَن قَلَب، قال:
- الهمزة: هو الطعَّان.
- واللمزة: هو المغتاب.
ومنهم من قال:
- الهمزة: الذي يهمز الناس بيده.
- واللمزة: الذي يسخر منه بلسانه.
السخرية باليد تسمى همزة .
واللمزة باللسان، كما قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79].
وعلى كلٍ على أيِّ الأقوال الهمزة واللمزة تُطلق على العيَّاب الطعَّان المغتاب الذي يسخر من الناس بلسانه ويده، طيب، ما الذي يحمل هؤلاء على أن يهمزوا الناس ويلمزوهم ويسخروا منهم؟
كِبرٌ في قلوبهم يحملهم على احتقار الخلق وذمِّهم والطعن فيهم، فليس له همٌّ إلا أن يطعن، وليس له شغل إلا أن يعيب، ويؤذي الناس بلسانه وبحركاته، وإشارات يده وعينه وخده ووجهه.
وهذه سورة متخصصة في بيان عقوبة هؤلاء الخاسرين الذين يسخرون من الناس ويتكبرون عليهم.
الكبر «الكبر هو بطر الحق غمط -وفي رواية أخرى: غمص- الناس».
معنى «غمص الناس»؟ استصغارهم احتقارهم،يحتقرهم بما لا يكن احتقارًا في الحقيقة، لكن هو يراه احتقار.
قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ﴾ هذا هو سبب الغمص، وسبب الهمز واللمز، لأن عنده مال، ماله كثير جدًا، أرقام خيالية، أرقام فلكية، وتحمله على أن يفخر على فلان وفلان وأن يتعالى على هؤلاء الخلق .
قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن أن هذا المال هو مصدر القوة العظمى، وأنه سيمنع عنه الموت، وأن سيجلب له الخير والسعادة، وأنه سيجعله أعلى من بقية الخلق.
ولذلك يرى أن هذا المال هو سبب أو سر هذا الوجود، وهو سبب العلو في الأرض، فهو يتعالى على الناس كلهم، مثل ما ضرب الله لنا المثل بالرجلين في سورة الكهف لما قال: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً﴾ [الكهف: 34- 36] كثرة المال والاغترار به جعله يغيِّر حتى التصورات والاعتقادات إلى أنه لو بعث في الآخرة سيكون مآله الجنة، انظر إلى أي درجة من درجات الانشغال العظيم بهذا المال، والتغيُّر الداخلي للقلب بسبب أن الإنسان ركن إلى هذا المال الذي بيده.
قال: ﴿يَحْسَبُ﴾ أي يظن. ﴿أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾.
قال الله منكرًا عليه: ﴿كَلاَّ﴾، ليس الأمر كما تعتقد و ردع وزجر عن الهمز واللمز، وجمع المال وتعداده والركون إليه والظن أنه سبب للخلود، كلا، بل الذي سيحصل ما يلي: ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾، أي ليُطرحنَّ طرحًا من غير مبالاة، النبذ هو: الإلقاء من غير مبالاة.
﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ﴾، أي ليُلقينَّ في النار التي تحطم مَن يُلقَى فيها.
سميت "حطمة" هذا هو الاسم الذي ورد مفردًا في القرآن ولم يتكرر في سورة أخرى، سمت لنار حُطمة لأنها تحطم مَن يُلقى فيها، لا تبقي فيه شيئًا من شدة حطبها له، يعني تكسر عظامه وتحطِّم لحمه وتحرق جلده، وتدخل جوفه -نسأل الله العافية والسلامة- ولا تبقي فيه ولا تذر، ما تدع فيه شيئًا إلا أوصلت إليه العذاب.
قال: ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾، أي شيء هذه الحطمة؟ إنها شيء مهول عظيم، وهذا أسلب من أساليب التهويل والتفخيم والتعظيم للشيء، وقد مرَّ بنا كثيرًا في هذا الجزء، هو من أكثر ما يدور في القرآن يدور في هذا الجزء، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾.
قال: ﴿نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ﴾، يبيِّن ما هي الحطمة، أنها نار الله، ونسبة النار إلى الله أو إضافة النار إلى الله من باب التفخيم والتهويل؛ لأن الشيء يُنسَب إلى الله -سبحانه وتعالى- إما أن يكون من صفاته كما يُقال: يد الله، وجه الله. وإما أن يكون من مخلوقاته، كما يُقال: بيت الله، وناقة الله، نار الله. فما تُنسب إلى الله إلا لفخامتها وهولها وعظمها، وإلا فكل شيء في الكون هو لله -عز وجل- لكن ما نسبت إليه إلا لتفخيمها.
لاحظ: ما قال: "نار الرب الموقدة" لأن الرب يقتضي لتربية والإنعام والعطف والرحمة. قال: ﴿نَارُ اللَّهِ﴾، ذو الهيبة والجلال الذي ينتقم من هؤلاء الذي يحتقرون الناس ويعتدون بالأموال.
﴿المُوقَدَةُ﴾، التي أوقدت، أوقد عليه ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى أصبحت كما هي عليه سوداء مظلمة -نسأل الله العافية.
ثم قال: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾، النار تطلع على الأفئدة.يعني تنفذ إلى داخل أجوافهم حتى تصل إلى قلوبهم، ما تكتفي بـ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: 56]، لا تكتفي بالجلود؛ بل ينفذ عذابها وحرَّها إلى الأفئدة.
لماذا خصَّ الأفئدة في هذه السورة؟ لماذا لم يقل: "يعذبهم الله بها، يحرق أجسادهم بها"، إلى غيره من الأساليب الدالة على العذاب فقط؟
{لأن الأفئدة هي السبب في كثرة ما يشتغل به في الذنوب والمعاصي}.
{ولأن الاعتقاد يكون في القلب في الجحود والنكران فيكون في القلب، فالإيمان قلبيًّا}.
و الهمزة واللمزة مشكلة قلبية أم لسانية؟ هي أصلها قلبية، يعني السخرية بالناس والاستصغار لهم يحمل الإنسان على أن يعيبهم ويحتقرهم ويؤذيهم بلسانه.
﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن ظنًّا قلبيًّا أن ماله سيُخلده، إذن هذه ذنوب قلبية تستحق عذابًا يصل إلى أفئدتهم، وهذا من عدل الله -عز وجل- أن العذاب يذهب إلى المكان الذي صدر منه الكفران والجحود والبلاء.
ولذلك قال: ﴿إِنَّهَا﴾ أي النار.
﴿عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾، أي مطبقة، لا يستطيعون الخروج منها ولا الانفكاك عنها.
ثم قال: ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾، ﴿فِي عَمَدٍ﴾ هل هي متعلقة بمقدر مأخوذ من اللام السابق أي يُعذبون في عمد؟ فأهل النار يوضعون في عمد تخترق أجسادهم وأجوافهم حتى يشتد عليهم العذاب، فهم يُصلون بالنار صليًا؟ أو أن هذه الأبواب أو هذه النار مؤصدة، والإيصاد في عمد؟ يعني كأنه قال: "مؤصدة بعد ممددة"، أي مطبقة عليهم إطباقًا بعمدٍ ممددة بحيث لا يستطيعون الخروج من أبوابها.
إما أن يقال هذا، وإما أن يقال هذا، وكلا المعنيين محتمل أو تحتمله الآية، والعلم عند الله -سبحانه وتعالى.
سورة الفيل
هي سورة مكيَّة، و تشير إلى حادثة وقعت في العام الذي ولد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أراد أبرهة أن يصرف الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة ليذهبوا إلى البيت الذي بناه وسمَّاه القُلَّيس، وغار من هذه الكعبة فجاء يريد هدمها فانتقم الله -سبحانه وتعالى- منه.
صلتها بسورة الهمزة {سبب نزول سورة الهمزة، كان كفار قريش يكذبون -صلى الله عليه وسلم- مثل أبي بن خلف وغيرهم، ونزلت سورة الفيل جاء تصديقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الواقعة في زمن ولادته ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودًا في زمنه تصديقاً له}.
هذا ممكن يكون من الأسباب أومن المناسبات، لكن أظهر منه -والله أعلم- أن يُقال: إن هؤلاء الذين وعدوا بالعذاب في الآخرة بسبب خسارهم وفعلهم لأسباب الخسار يمكن أن يعجل لهم العقوبة كما عجلها لأصحاب الفيل، وأن اعتدادك بالمال واعتدادك بالقوة لن ينفعك، ولا تظن أن الله يجعل عقوبتك مُدَّخرة في الآخرة فقط؛ بل قد تكون العقوبة معجلة كما حصل لأبرهة الذي اعتمد على قوته وغرَّه ماله، وغرَّه الفيل الذي يملكه وليس معروفًا عند العرب، جاء بهذا الفيل يُخيف العرب به، وظن أنه بهذا يستطيع يفعل ما لا يفعله أحد سواه.
فقيل لهم: انتبهوا، العقوبة قد تكون معجلة، وهذه القوة التي تركنون إليها وتفخرون بها، وتسخرون من سواكم لأجلها قد يجعلها الله -عز وجل- حطامًا بين أيديكم مثلما فعل بأبرهة وقوته التي كان يفخر بها.
هذه السورة تسمى سورة الفيل، وهي مكية بالإجماع، وعدد آياتها خمس آيات أيضًا بلا خلاف بين العادِّين.
قال الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، هذا استفهام تقريري، أي قد رأيت.
لكن هل الرؤية هنا رؤية بصرية أو علمية؟
علمية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِد في ذلك العام، فهو لم يرَ لكنه علم؛ لأن الناس قد نقلوا هذا الخبر إليه بالاستفاضة، وهو مشاع عند العرب ويعرفه الناس جميعًا ولا يختلفون فيه.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾، ولاحظ هنا اختار قوله ﴿رَبُّكَ﴾، لماذا؟ لأنه فيه لون من ألوان التربية للناس، فهو لما فعل ذلك بهم كان ذلك رحمة بأهل مكة، وكان ذلك حماية لبيته المعظم، وكان ذلك آية ودلالة على أن الله -سبحانه وتعالى- يحمي بيته وعبده وجنده من أن يعتديَ عليهم أحد، وينتصر لهم بأسباب ليست بأيديهم، فهذا المتكبر المتجبر الذي جاء يريد أن يحطم بيت الله؛ الله وحده قادر على أن ينتقم منه، وأن يخلص عباده من شره.
قال: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾ الكفار ينسبون للبهائم، "أصحاب الفيل"، لكن في سورة الكهف ماذا قال الله -عز وجل؟ ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: 22]، نسب الكلب إليهم، ولم ينسبهم إلى الكلب، ما قال: "أصحاب الكلب".
وهنا يقول: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾. لأن الفيل خير منهم، فهم أصحاب له، وليس هو صاحب لهم الفيل خير منهم، الفيل مطيع لله -عز وجل-، قائم بما خلقه الله له، أما هم فلم يقوموا بما خلقهم الله من أجله، ولذلك نسبهم إليه ولم ينسبه إليهم.
قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، ذاك الكيد العظيم الذي كادوا به بيت الله -عز وجل- والتخطيط الضخم الذي فعله أبرهة كدولة عظمى من دول المنطقة، وجاء يريد أن يرعب العرب وأن يبسط هيمنته على الجزيرة العربية.
قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- يُحبط مكائد أعدائنا، ويجعل كيدهم الذي خططوا له من خمسين ومئة سنة في تضليل أي في خسارٍ وهلاك.
﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾، أرسل على أبرهة وجنده طيرًا من السماء، من أين جاءت؟ لا أحد يعلم.
﴿أَبَابِيلَ﴾، أي فِرَق مجتمعة ومتتابعة يتبع بعضها بعضًا، تحمل في أيديها حجارة ترمي بها هؤلاء، سبحان الله ! عجيبة هذه، وهذه تدل على أن أفضل أنواع المقاتلة للآخرين عبر الرمي وعبر الطيران.
قال: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾، أي من طين.
قال: ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾، أي جعل هؤلاء المستكبرين الذين يريدون ببيت الله سوءً.
﴿كَعَصْفٍ﴾، أي كورق شجر قد يبس.
﴿مَّأْكُولٍ﴾، أي قد أُكِلَ وديس، داسته البهائم.
والعادة أن العصف من التبن والورق، ورق الشجر وورق الحنطة وغيرها، إذا داسته البهائم يصبح متهشِّم ومتكسِّر تكسرًا شديدًا، فتجده ذرات متفرقة، فهذا وصف الله لهم ماذا حصل لهم بعد هذه العقوبة الإلهية.
نسأل لله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بكتابه
هذه السورة الكريمة سورة مكيَّة.
وموضوع هذه السورة هو: النهي عن التشاغل بما يشغل الإنسان عن حقيقة الحياة، أو عن الاستعداد للقاء الله -عز وجل-، نهي الناس عامة عن انشغالهم بما لم يُخلقوا من أجله، وأكثر ما يشتغل به الناس في حياتهم هو التكاثر.
لو تأملنا ما يشتغل به الناس في حياتهم لوجدتم أنهم يتكاثرون، ترى الإنسان عنده ما يكفيه من الدنيا من القوت، من الطعام، من الشراب، من السَّكن، طيب ما الذي يحملك أن تعمل الكثير وتترك عبادة الله وتترك ما فيه منفعتك ومنفعة العباد وما فيه الاستعداد لدار المعاد؟
ينظر ويُجيبك بأنه لن يكون أقل من فلان وفلان. أليس هذا تكاثرًا؟!
ترى الواحد عنده القدر الجيد مما يقيمه في الدنيا من متاع وأثاث وسكن وولد، ولكنه مع ذلك يطمع بالمزيد، ويريد الكثير، وكل ما جاءه ما يريد طلب المزيد، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لو أن لابن آدم واديين من ذهب لابتغى إليهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب».
فابن آدم فيه هذه الخصلة -خصلة الطمع والتكاثر- وليس التكاثر في الأموال بل كل ما يشغل الإنسان عن الدار الآخرة.
أحيانًا تجد الإنسان يُكاثر الناس بشيء لا فائدة فيه أصلًا لا دنيوية ولا دينية ولا أخروية، تجد الإنسان يُكاثر في الأسفار، فهو يتبجَّح في المجالس بأنه أكثر الناس سفرًا وهكذا .....
سبحان الله! وماذا في هذا من النفع؟! ماذا فيه من الخير؟! ماذا فيه العلم؟! ماذا فيه من القربة؟! ألهذا خُلقت؟! أمن أجل هذا جئت إلى هذه الحياة؟! أهذا هو حظك من حياتك؟! ألا تعتبر؟!
سبحان الله! ما هذا؟ تكاثـر.
إذن هذه السورة تُبيِّن لنا خطورة التكاثر علينا، وأننا ما خُلقنا من أجل أن نتكاثر، إنما خُلقنا من أجل أن نعمل لِمَا فيه منفعتنا في الآخرة.
السورة اسمها التكاثر، وتسمى في بعض التفاسير: ألهاكم التكاثر، وتسمى أيضًا: سورة المقبرة، أخذًا من قوله: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، وإن كان هذا الاسم ليس مشهورًا ولكن ذكره الألوسي في روح المعاني.
وعدد آياتها: ثلاث آيات.
ومناسبتها للسورة التي قبلها، السورة التي قبلها قسمت الناس إلى قسمين:
- من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية.
- مَن خفَّت موازينه فأمه هاوية.
كيف تخف موازينه؟ عندما يشتغل بشيء لم يُخلق من أجله، ويكون همُّه فيما يشتغل به أن يُكاثر، فهذا هو سبب البلاء، وبهذا يخف ميزان الإنسان يوم القيامة، وبذلك نقول: هذه سورة واعظة للقلوب الحيَّة، مَن كان له قلب حيّ وعظته هذه السورة العظيمة.
يقول الله -عز وجل: ﴿أَلْهَاكُمُ﴾، أي أشغلكم أيها الناس عمَّا خُلقتم لأجله.
﴿التَّكَاثُرُ﴾، أي تكاثركم.
وأطلق، لم يقل: "ألهاكم التكاثر بالأموال"، أو "ألهاكم التكاثر بالأولاد"، لماذا؟ ليُبيِّن أنه يدخل فيها كل لون من ألوان التكاثر مما هو موجود عند نزول الآية ومما يوجد إلى آخر الدهر، يدخل في هذا الإطلاق، كل ما تتكاثر به أو تُكاثِر به غيرك مما لا ينفعك في الدار الآخرة، ولا يكون حجة لك بين يدي الله، ولا يكون قربة من القُرَب، فاعلم أنه مُلهٍ، وأنك تشتغل بشيء لا ينفعك وستندم عليه أشد الندم.
قال ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، يعني حتى مُتُّم ثم دُفِنتم في مقابركم، ولذلك قال: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ﴾.
وسمَّى الدخول في القبر زيارة لماذا؟ {لأنه سبيل للآخرة}.
نعم، أنه سبيل للآخرة، وأن الذهاب إلى المقبرة والدفن فيها سيكون وقتًا يسيرًا بالنسبة لما بعده، ولم يقل: "حتى دفنتم في المقابر"، أو "حتى ذهبتم إلى المقابر"؛ وإنما اختار لفظ "الزيارة"، لأن الزيارة في العادة تكون وقتًا قليلًا إذن هؤلاء سيذهبون إلى المقابر يزورونها ويجلسون فيها وقتًا يسيرًا جدًّا ثم ينتقلون إلى دارٍ هي الدار التي سيكون فيها القرار.
ما رُويَ في بعض التفاسير أن حيَّين من قريش أو من الأنصار اختلفوا وتفاخروا، فحملهم تفاخرهم إلى أن يذهبوا إلى المقبرة ليقولوا: منَّا فلان، ويقول الآخرون: منَّا فلان -من المقبورين- هذا مذكور ويمكن دخوله في معنى الآيات، لكن ليس هو سبب نزول هذه الآيات، وليس هو المعنى بها بالدِّقة.
قال: ﴿كَلاَّ﴾، هذه ردع وزجر.
قد ذكرنا قاعة في "كلا"، وقلنا أنه إذا جاء قبلها شيء يُنهى عنه أو شيء يُزجر عنه، فإنها تكون للزجر. وإذا كانت لم تُسبَق بشيء من ذلك، فإنها تكون بمعنى حقًّا.
هنا لما جاء قبلها ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾، جاءت بمعنى الردع والزجر.
﴿كَلاَّ﴾، انتهوا عن هذا الذي تفعلونه، اتركوا هذا التكاثر الذي لا ينفعكم يوم أن تلقوا ربكم.
قال: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تعلمون عاقبة تكاثركم وأنه لن ينفعكم، مهما كانت الاملاك عندكم .
هل يُنادى يوم القيامة يقال هذا مجلس لأصحاب الأرصدة الضخمة؟! هل تركب يوم القيامة مركب فاخر أو فاره أو توضع في مقدمة الناس بسبب كثرة أموالك في الدنيا؟! أبدًا لن يكون شيء من ذلك.
ولذلك يقول: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة تكاثركم، وأن هذا التكاثر كان مشغلة وملهاةً أي تلهيتم به عمَّا خُلقت لأجله.
ثم يؤكد ذلك فيقول: ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، تأكيدًا على أن الناس سيدركون حقيقة هذا التكاثر في الدار الآخرة.
قال بعضهم: ﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾، أي عندما تدخلون قبوركم، ﴿ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عندما تبعثون بين يدي الله -عز وجل.
فهذا التكرار له أكثر من مكان، الأول في المقبرة أو في دار البرزخ، والثاني في الدار الآخرة.
ثم قال: ﴿كَلاَّ﴾، "كلا" أيضًا ردع وزجر لهؤلاء، وهذا يدلنا على خطورة هذا الأمر الذي يتشاغل الناس عنه ولا ينتبهون له، وتذهب أعمارهم وهم غير ملتفتين لهذا الأمر وهو أن التكاثر هو أكثر ما يقضي على أعمار الناس ويذهب بلبِّ حياتهم فلا ينتفعون بها في الدار الآخرة.
ولذلك قال: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، هذه الكلمة يظن بعض الناس عندا يقرأها أنها مرتبطة بالآية التي بعدها من حيث أن الآية هذه جواب لـ "لو"، يعني: لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم. .
هذه "لو" جاءت ولم يأتِ جوابها، ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾ لَمَا تكاثرتم. هذا جوابها، لَمَا ألهاكم التكاثر.
يعني: لو علمتم علم يقينٍ بأن رأيتم الجنة والنار، ورأيتم دار القرار، ورأيتم الجزاء والحساب، ما اشتغلتم بهذا الشيء الذي كنتم تشتغلون به، ولَمَا تكاثرتم بهذا الذي أشغلتم وألهيتم حياتكم به، ولذلك قال: ﴿لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، أي لو تعلمون الأمور علمًا يقينيًّا ما تشاغلتم بما تشاغلتم به مما لا ينفعكم في الدار الآخرة.
إذن "لو" جوابها محذوف للعلم به، وهذا أسلوب من أساليب القرآن وهو أن يُحذف جواب "لو" للعلم به أو لتهويل الأمر.
﴿وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى﴾ [الرعد: 31]، لم يأتِ جواب، لماذا؟ لأن الجواب: "لكان هذا القرآن".
قال: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، هذا ابتداء قسم من الله -سبحانه وتعالى يقول: ﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، أي أقسم أنكم سترون الجحيم جميعًا.
﴿لَتَرَوُنَّ﴾، والنون هنا للتوكيد، فجاءت مؤكدة مع القسم.
طيب، إذا رأينا الجحيم ماذا سيكون؟
معناه: إذا رأيتم الجحيم ورأيتم هول العذاب؛ عرفتم أنه لا ينفعكم ولا ينجيكم من ذلك الجحيم إلا انشغالكم بما تدرؤون به العذاب عن أنفسكم، وليس تلهِّيكم بالامور الدنيوية التى أذهبت عليك لبَّ حياتك.
﴿لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، ثم يؤكد فيقول: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، في تلك الحالة الخلق كلهم يذهلون ويصيبهم الفزع والرهبة العظيمة، ولا ينفعهم في تلك اللحظة إلا ما قربوه لربهم -سبحانه وتعالى.
هنا: جاءنا بعلم اليقين، وهنا جاء بعين اليقين.
علم اليقين: هو ما تعلمه يقينًا بأنه واقع، فأنت تعلم الآن أن هناك قارة اسمها استراليا، أليس كذلك؟
هذا بيقين أم فيه شك؟ بيقين.
لكن هل رأيتها؟ لم ترها، فإذا رأيتها بنفسك يسمى "عين اليقين"، فإذا دخلت فيها يسمى "حق اليقين". وهذه مراتب اليقين المذكورة في القرآن، علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
قال: ﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، ولم يقلك "لترونها حق اليقين"، لأنه ليس كل مَن يراها يدخلها.
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، يعني فإذا رأيتموها عين اليقين عرفتم أن ما كنتم تتلهون به وتكاثرون غيركم به لن يكون نافعًا لكم في تلك اللحظة.
قال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.
﴿لَتُسْأَلُنَّ﴾ قسم، أي والله لتسألن جميعًا عن النعيم.
وأطلق النعيم ولم يحدده بنعيم معين، فقال: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، أي يوم القيامة نسأل عن كل شيء أنعم الله به علينا، الصحة، الفراغ، الزوجة، الولد، الماء البارد، الهواء، الأمن، الوطن، النسب، الدين، اللغة، اللون، العين، الأذن، السيارة، كل هذا تسأل عنه.
كيف تسأل عنه؟ تُسأل عنه هل أديت شكره؟ هل قمت بما يجب لله فيه؟ هل استعملته في طاعة الله؟
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يُقال له: ألم نُصحَّ لك جسمك ونرويك من الماء البارد».
وقد ورد عن السلف خلاف في النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان، لكن كل هذا خلاف يعتبر من باب اختلاف التنوع، وهو أمثلة لهذا النعيم. منهم مَن قال النعيم يعني الصحة، ونهم مَن قال الطعام، ومنهم مَن قال الماء البارد، وغير ذلك مما ذكره السلف -رضوان الله تعالى عليهم.
سورة العصر
هذه السورة قصيرة لكنها عظيمة قال فيها الإمام الشافعي: "لو ما أنزل الله على خلقه حجة إلا هي؛ لكفتهم"، ولو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم. لأنها اشتملت على الأسباب المنجية من الخسران، فمن أراد أن ينجو من الخسران فلينظر إلى أسباب النجاة من الخسران في هذه السورة، ولذلك كان السلف -رضوان الله تعالى عليهم- يتعاهدون في مجالسهم، فيقرؤونها في مجالسهم لأن الإنسان يتذكر بها الأسباب التي ينجو بها من النار، لن ينجو إلا بأربعة:
- إيمان مبني على علم.
- وعمل صالح.
- وتواصٍ بالحق، يوصي بعضهم بعضًا بالحق، يأمرهم بالمعروف، ينهاهم عن المنكر.
- وتواصوا بالصبر.
فمن عمل بهذه الأربعة نجا من النار، ومَن قصَّر أو فرَّط فيها أو في بعضها فهو على شفا هلكة.
هذه السورة مكية، وتسمى سورة العصر، أو والعصر.
وعدد آياتها ثلاث آيات.
محورها: أسباب النجاة من الخسران، فهي سورة جامعة من أراد أن ينجو من الخسار، وأن ينجو من النار.
أما مناسبتها لما قبلها من السور فهي ظاهرة لأن الله -عز وجل- ذكر في سورة التكاثر سبب من أسباب الخسران وهو تكاثر الناس بما لم يُخلقوا من أجله، وأن هذا خطير عليهم، فجُمع هنا ما ينجي الإنسان من الخسار كله وهو الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
افتُتِحَت هذه السورة بالقسم، وهو قوله: ﴿وَالْعَصْرِ﴾، أقسم الله بالعصر، وقد اختلف الناس هل المراد به العصر الذي هو الوقت المعروف من النهار، الذي هو آخر النهار؟ أو العصر بمعنى الزمن؟
قولان مشهوران عند المفسرين، والظاهر أن القسم هنا بالزمن، لأنه هو محل النجاة ومحل الخسار، هو محل العمل الذي تكون به النجاة من الخسران، فالله يُقسم به.
كيف تنجو من الخسران؟ أن تستثمر هذا الزمن في الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
لذلك قال: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، الإنسان هنا هل المراد به الإنسان الكافر أو جميع الناس؟
{جميع الناس}.
لماذا كل الناس خاسرون؟
{كل الناس خاسرين واستثنى الله بـ "إلا"}.
هذه اللفظة "الإنسان" تحتمل أن تكون يُراد بها الكفار وحدهم ويراد بها العموم.
والمراد بها العموم؛ لأنه قال: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ﴾، فلما قال: ﴿إِلاَّ﴾، عرفنا أن الإنسان هنا عام، لأنه لو كان الإنسان الكافر ما صحَّ الاستثناء، يعني "إن الكفار لفي خسر إلا الذين آمنوا" ما يصح الاستثناء هنا، إلا أن يحمل على أنه استثناء منقطع، والاستثناء هنا بمعناه المعروف.
إذن الإنسان هنا: جميع الناس.
ذكرنا قاعدة سابقة هي: أن "الإنسان" يرد كثيرًا في السور المكية مرادًا به الكافر، ومرَّ بنا في سورة ماضية قول الله -عز وجل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6]، أي جحود، كفور بالنعم. هل المراد بها الإنسان الكافر أو المراد بها عموم الناس؟
الذي يظهر أن المراد بها الإنسان الكافر، ولا مانع أن يكون في الإنسان المؤمن شيء من التلبس بهذا الجحود بقدره لكنه لا يصل إلى الجحود التام الذي هو عند الكافر الذي يجحد نعمة الله جملة وتفصيلًا، فما تلبَّث به المؤمن من الجحود يُعتبر نقصًا في إيمانه .
والمؤمن -في العادة- لا يمكن أن يسمى مؤمنًا وهو جحود، لأن الكنود هو المبالغ في الجحود وفي الكفران لنعمة الله -عز وجل.
فالظاهر أن قوله ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ أنها في الإنسان الكافر.
وهذا يبيِّن لنا أن كلمة الإنسان تخضع للسياق، فتارة تُفسَّر بعموم الناس، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً﴾ [الإنسان: 1]، الإنسان: عموم لناس.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾: عموم الناس.
لكن ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ [العلق: 6]، أي الإنسان الكافر.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات: 6] : الإنسان الكافر.
﴿لَفِي خُسْرٍ﴾، أي في خسارٍ وهلاك.
مَن الذي ينجو يا رب؟
قال: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، تحققوا بالإيمان.
والإيمان كما يعرفه أهل السنة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
هذا الاعتقاد لابد أن يكون مبنيًّا على علم، ليس المقصود أن تعتقد أن الجدر قائم، وأن الليل قد حضر، وأن النهار سيأتي، وأن أمس يوم كذا وغدًا يوم كذا، إنما على شيء تعتقده يصح فيه البلاء، وهو الشيء الغائب عنك.
ولذلك أول ما وُصف به المؤمنون في القرآن في قوله -عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة 1، 2]، ماذا قال من أوصاف المتقين؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3 ]، لأن أركان الإيمان كلها مبنية على الغيب، الإيمان بالله غيب، الإيمان بالملائكة غيب، الإيمان بالرسل بالنسبة لنا غيب، لولا أن رسول الله حدثنا عن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء ما عرفناهم، فنحن مؤمنون بالغيب.
الإيمان باليوم الآخر غيب، الإيمان بالقدر غيب، الإيمان بالكتب أيضًا غيب، نحن نعلم أن الله أنزل كتبًا كثيرة على رسله، لكننا نؤمن بها بناءً على خبر الصادق عنها، وبهذا يحصل البلاء، لأنه لو كان شيئًا مشاهدًا ما أنكره الناس، إنما يُنكر الناس شيءٌ غاب عن أعينهم، جاء الصادق فأخبرهم عنه، منهم مَن يُكذِّب بهذا الصادق، ومنهم مَن يؤمن به.
إذن الإيمان مبناه هو العلم، ولذلك نقول: العلم مدلول عليه بقوله: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، فلا يمكن للإنسان أن يؤمن إيمانًا صحيحًا، ولا أن يعتقد اعتقادًا صالحًا إلا أن يكون عنده علم نافع، وهو العلم الذي جاء به الوحي وأنزله الله -سبحانه وتعالى- على الرسل في الكتب أو عبر الوحي إليهم.
﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، إيمانًا صحيحًا.
﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، لم يكتفوا بمجرد الاعتقاد؛ بل قرنوا الاعتقاد بالعمل، ووصف العمل بأنه ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ لأنه ليس كل عمل ينفع الإنسان لينجو من الخسران؛ بل الذي ينجي الإنسان من الخسران هو العمل الصالح، والعمل لا يكون صالحًا حتى يتوفر فيه أمران:
- أن يكون خالصًا لله -عز وجل.
- وأن يكن على هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان خالًا ولم يكن على هدي رسول اله فليس بصالح، وإذا كان على هدي رسول الله ولم يكن خالصًا فليس بصالح، ولذلك يوصف العمل دائمًا في القرآن بقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، يعني عملوا الأعمال الصالحات التي يقبلها الله وهي ما توفر فيها هذا الشرطان الرئيسان.
ثم جاء بالوصف الثالث قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ﴾.
تواصوا صيغة تفاعل، صيغة التفاعل تدل على أن كل واحد منهم يقوم بما يجب عليه في إيصاء الآخرين بالحق، فأنا أوصيك بالحق وأنت توصيني بالحق، تركًا أو فعلًا، أوصيك بالحق في فعل الصلاة، وأوصيك بالحق في أمر الربا، الربا تنتهي عنه، والصلاة تأتيها وتمتثلها، فنحن نتواصى بالحق، ولذلك لا ينجو الإنسان إلا بالتواصي.
﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] الفائزون الذي ظفروا بالمطلوب، فلا بد أن يوصي كل واحد منا صاحبه بالحق، الحق يعني الهدى والخير والإيمان والطاعة.
قال: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، هذه المسألة الرابعة، ﴿وَتَوَاصَوْا﴾ أي وصَّى بعضهم بعضًا بالصبر. الصبر على أي شيء؟ جاء مطلقة، فيشمل الصبر على الحق، أوصيك بالصبر على الصلاة، ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى﴾ [طه: 132].
نصبر على التواصي بالحق أيضًا، الصبر على الحق، والصبر على التواصي بالحق، لأن التواصي بالحق أمر صعب، ولذلك جاء في وصايا لقمان: ﴿يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان: 17]، لماذا قال: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ بعد قوله ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ﴾؟
لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لابد أن يناله من الخلق شيء من المكروه، هذه قاعدة.
فليصبر الأنبياء خير منك، الرسل والصالحون قبلك قد سلكوا هذا المسلك وأوذوا، ما سلم أحد منهم من الأذى، فأنت لست بخير منهم، بل إنك إذا أوذيت علمت أنك على الجادة، فأنا أحثك على الصبر.
ويدخل فيها أيضًا الصبر على أقدار الله المؤلمة، تصبر على ما يأتيك من مُرِّ القضاء ومن حرِّ البلاء، موت عزيز، ذهاب مال، فأوصيك بالصبر. ثم سورة الهمزة.
سورة الهمزة سورة مكيَّة، وهي مكوَّنة من تسع آيات بغير خلاف.
هذه السورة محورها حول لونٍ من ألوان الخسار، ألم يقل: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ ما هي صور هذه الخسارة؟
منها: همز الناس ولمزهم، والاعتداد بالمال، والسخرية بالخلق. هذا من ألوان الخسار.
فهو يصور لنا جملة من الخاسرين، الخاسرون هم خلق كثيرون جدًا، منهم أولئك الذين يلمزون الناس ويهمزونهم، ويسخرون منهم ويجمعون المال جمعًا شديدًا ويعددونه، ولا ينفقونه في سبيله، فهي سورة تعد لنا شيئًا من ألوان الخسار المذكور في قوله: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾.
قال: ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾.
﴿وَيْلٌ﴾: ذكر فيها قولان:
- أنه وادٍ في جهنم.
- أنها كلمة تهديد وعذاب ووعيد، وهذا أظهر وأقرب إلى الدلالة اللغوية خصوصًا وأن المعنى الآخر لم يرد فيه أحاديث صحيحة.
فنقول: تهديد شديد. لمن؟ قال: ﴿لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ﴾، يعني همَّاز لمَّاز.
مَن هم الهزة ومَن هم اللمزة؟
اختلف المفسرون فيهم:
فقيل:
- الهمزة: المغتاب الذي يغتاب الناس.
- واللمزة: الطعَّان الذي يطعن فيهم، فلان كذا، طويل، قصير، غبي، بخيل، هذه الأوصاف التي يذكرها هؤلاء، إرهابي، أصولي، وكلمات كثيرة، متزمِّت، مجرد أنه يُلقي الكلام على عواهنه ويطعن الناس، هذا يسمى الطعَّان. هذا قول.
ومن المفسرين مَن قَلَب، قال:
- الهمزة: هو الطعَّان.
- واللمزة: هو المغتاب.
ومنهم من قال:
- الهمزة: الذي يهمز الناس بيده.
- واللمزة: الذي يسخر منه بلسانه.
السخرية باليد تسمى همزة .
واللمزة باللسان، كما قال الله -عز وجل: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ [التوبة: 79].
وعلى كلٍ على أيِّ الأقوال الهمزة واللمزة تُطلق على العيَّاب الطعَّان المغتاب الذي يسخر من الناس بلسانه ويده، طيب، ما الذي يحمل هؤلاء على أن يهمزوا الناس ويلمزوهم ويسخروا منهم؟
كِبرٌ في قلوبهم يحملهم على احتقار الخلق وذمِّهم والطعن فيهم، فليس له همٌّ إلا أن يطعن، وليس له شغل إلا أن يعيب، ويؤذي الناس بلسانه وبحركاته، وإشارات يده وعينه وخده ووجهه.
وهذه سورة متخصصة في بيان عقوبة هؤلاء الخاسرين الذين يسخرون من الناس ويتكبرون عليهم.
الكبر «الكبر هو بطر الحق غمط -وفي رواية أخرى: غمص- الناس».
معنى «غمص الناس»؟ استصغارهم احتقارهم،يحتقرهم بما لا يكن احتقارًا في الحقيقة، لكن هو يراه احتقار.
قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ﴾ هذا هو سبب الغمص، وسبب الهمز واللمز، لأن عنده مال، ماله كثير جدًا، أرقام خيالية، أرقام فلكية، وتحمله على أن يفخر على فلان وفلان وأن يتعالى على هؤلاء الخلق .
قال: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن أن هذا المال هو مصدر القوة العظمى، وأنه سيمنع عنه الموت، وأن سيجلب له الخير والسعادة، وأنه سيجعله أعلى من بقية الخلق.
ولذلك يرى أن هذا المال هو سبب أو سر هذا الوجود، وهو سبب العلو في الأرض، فهو يتعالى على الناس كلهم، مثل ما ضرب الله لنا المثل بالرجلين في سورة الكهف لما قال: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً﴾ [الكهف: 34- 36] كثرة المال والاغترار به جعله يغيِّر حتى التصورات والاعتقادات إلى أنه لو بعث في الآخرة سيكون مآله الجنة، انظر إلى أي درجة من درجات الانشغال العظيم بهذا المال، والتغيُّر الداخلي للقلب بسبب أن الإنسان ركن إلى هذا المال الذي بيده.
قال: ﴿يَحْسَبُ﴾ أي يظن. ﴿أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾.
قال الله منكرًا عليه: ﴿كَلاَّ﴾، ليس الأمر كما تعتقد و ردع وزجر عن الهمز واللمز، وجمع المال وتعداده والركون إليه والظن أنه سبب للخلود، كلا، بل الذي سيحصل ما يلي: ﴿لَيُنْبَذَنَّ﴾، أي ليُطرحنَّ طرحًا من غير مبالاة، النبذ هو: الإلقاء من غير مبالاة.
﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ﴾، أي ليُلقينَّ في النار التي تحطم مَن يُلقَى فيها.
سميت "حطمة" هذا هو الاسم الذي ورد مفردًا في القرآن ولم يتكرر في سورة أخرى، سمت لنار حُطمة لأنها تحطم مَن يُلقى فيها، لا تبقي فيه شيئًا من شدة حطبها له، يعني تكسر عظامه وتحطِّم لحمه وتحرق جلده، وتدخل جوفه -نسأل الله العافية والسلامة- ولا تبقي فيه ولا تذر، ما تدع فيه شيئًا إلا أوصلت إليه العذاب.
قال: ﴿لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾، أي شيء هذه الحطمة؟ إنها شيء مهول عظيم، وهذا أسلب من أساليب التهويل والتفخيم والتعظيم للشيء، وقد مرَّ بنا كثيرًا في هذا الجزء، هو من أكثر ما يدور في القرآن يدور في هذا الجزء، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ﴾.
قال: ﴿نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ﴾، يبيِّن ما هي الحطمة، أنها نار الله، ونسبة النار إلى الله أو إضافة النار إلى الله من باب التفخيم والتهويل؛ لأن الشيء يُنسَب إلى الله -سبحانه وتعالى- إما أن يكون من صفاته كما يُقال: يد الله، وجه الله. وإما أن يكون من مخلوقاته، كما يُقال: بيت الله، وناقة الله، نار الله. فما تُنسب إلى الله إلا لفخامتها وهولها وعظمها، وإلا فكل شيء في الكون هو لله -عز وجل- لكن ما نسبت إليه إلا لتفخيمها.
لاحظ: ما قال: "نار الرب الموقدة" لأن الرب يقتضي لتربية والإنعام والعطف والرحمة. قال: ﴿نَارُ اللَّهِ﴾، ذو الهيبة والجلال الذي ينتقم من هؤلاء الذي يحتقرون الناس ويعتدون بالأموال.
﴿المُوقَدَةُ﴾، التي أوقدت، أوقد عليه ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى أصبحت كما هي عليه سوداء مظلمة -نسأل الله العافية.
ثم قال: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾، النار تطلع على الأفئدة.يعني تنفذ إلى داخل أجوافهم حتى تصل إلى قلوبهم، ما تكتفي بـ ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: 56]، لا تكتفي بالجلود؛ بل ينفذ عذابها وحرَّها إلى الأفئدة.
لماذا خصَّ الأفئدة في هذه السورة؟ لماذا لم يقل: "يعذبهم الله بها، يحرق أجسادهم بها"، إلى غيره من الأساليب الدالة على العذاب فقط؟
{لأن الأفئدة هي السبب في كثرة ما يشتغل به في الذنوب والمعاصي}.
{ولأن الاعتقاد يكون في القلب في الجحود والنكران فيكون في القلب، فالإيمان قلبيًّا}.
و الهمزة واللمزة مشكلة قلبية أم لسانية؟ هي أصلها قلبية، يعني السخرية بالناس والاستصغار لهم يحمل الإنسان على أن يعيبهم ويحتقرهم ويؤذيهم بلسانه.
﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾، يظن ظنًّا قلبيًّا أن ماله سيُخلده، إذن هذه ذنوب قلبية تستحق عذابًا يصل إلى أفئدتهم، وهذا من عدل الله -عز وجل- أن العذاب يذهب إلى المكان الذي صدر منه الكفران والجحود والبلاء.
ولذلك قال: ﴿إِنَّهَا﴾ أي النار.
﴿عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾، أي مطبقة، لا يستطيعون الخروج منها ولا الانفكاك عنها.
ثم قال: ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾، ﴿فِي عَمَدٍ﴾ هل هي متعلقة بمقدر مأخوذ من اللام السابق أي يُعذبون في عمد؟ فأهل النار يوضعون في عمد تخترق أجسادهم وأجوافهم حتى يشتد عليهم العذاب، فهم يُصلون بالنار صليًا؟ أو أن هذه الأبواب أو هذه النار مؤصدة، والإيصاد في عمد؟ يعني كأنه قال: "مؤصدة بعد ممددة"، أي مطبقة عليهم إطباقًا بعمدٍ ممددة بحيث لا يستطيعون الخروج من أبوابها.
إما أن يقال هذا، وإما أن يقال هذا، وكلا المعنيين محتمل أو تحتمله الآية، والعلم عند الله -سبحانه وتعالى.
سورة الفيل
هي سورة مكيَّة، و تشير إلى حادثة وقعت في العام الذي ولد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أراد أبرهة أن يصرف الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام وإلى الكعبة المشرفة ليذهبوا إلى البيت الذي بناه وسمَّاه القُلَّيس، وغار من هذه الكعبة فجاء يريد هدمها فانتقم الله -سبحانه وتعالى- منه.
صلتها بسورة الهمزة {سبب نزول سورة الهمزة، كان كفار قريش يكذبون -صلى الله عليه وسلم- مثل أبي بن خلف وغيرهم، ونزلت سورة الفيل جاء تصديقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الواقعة في زمن ولادته ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- موجودًا في زمنه تصديقاً له}.
هذا ممكن يكون من الأسباب أومن المناسبات، لكن أظهر منه -والله أعلم- أن يُقال: إن هؤلاء الذين وعدوا بالعذاب في الآخرة بسبب خسارهم وفعلهم لأسباب الخسار يمكن أن يعجل لهم العقوبة كما عجلها لأصحاب الفيل، وأن اعتدادك بالمال واعتدادك بالقوة لن ينفعك، ولا تظن أن الله يجعل عقوبتك مُدَّخرة في الآخرة فقط؛ بل قد تكون العقوبة معجلة كما حصل لأبرهة الذي اعتمد على قوته وغرَّه ماله، وغرَّه الفيل الذي يملكه وليس معروفًا عند العرب، جاء بهذا الفيل يُخيف العرب به، وظن أنه بهذا يستطيع يفعل ما لا يفعله أحد سواه.
فقيل لهم: انتبهوا، العقوبة قد تكون معجلة، وهذه القوة التي تركنون إليها وتفخرون بها، وتسخرون من سواكم لأجلها قد يجعلها الله -عز وجل- حطامًا بين أيديكم مثلما فعل بأبرهة وقوته التي كان يفخر بها.
هذه السورة تسمى سورة الفيل، وهي مكية بالإجماع، وعدد آياتها خمس آيات أيضًا بلا خلاف بين العادِّين.
قال الله -عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾، هذا استفهام تقريري، أي قد رأيت.
لكن هل الرؤية هنا رؤية بصرية أو علمية؟
علمية، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وُلِد في ذلك العام، فهو لم يرَ لكنه علم؛ لأن الناس قد نقلوا هذا الخبر إليه بالاستفاضة، وهو مشاع عند العرب ويعرفه الناس جميعًا ولا يختلفون فيه.
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾، ولاحظ هنا اختار قوله ﴿رَبُّكَ﴾، لماذا؟ لأنه فيه لون من ألوان التربية للناس، فهو لما فعل ذلك بهم كان ذلك رحمة بأهل مكة، وكان ذلك حماية لبيته المعظم، وكان ذلك آية ودلالة على أن الله -سبحانه وتعالى- يحمي بيته وعبده وجنده من أن يعتديَ عليهم أحد، وينتصر لهم بأسباب ليست بأيديهم، فهذا المتكبر المتجبر الذي جاء يريد أن يحطم بيت الله؛ الله وحده قادر على أن ينتقم منه، وأن يخلص عباده من شره.
قال: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾ الكفار ينسبون للبهائم، "أصحاب الفيل"، لكن في سورة الكهف ماذا قال الله -عز وجل؟ ﴿سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ [الكهف: 22]، نسب الكلب إليهم، ولم ينسبهم إلى الكلب، ما قال: "أصحاب الكلب".
وهنا يقول: ﴿بِأَصْحَابِ الفِيلِ﴾. لأن الفيل خير منهم، فهم أصحاب له، وليس هو صاحب لهم الفيل خير منهم، الفيل مطيع لله -عز وجل-، قائم بما خلقه الله له، أما هم فلم يقوموا بما خلقهم الله من أجله، ولذلك نسبهم إليه ولم ينسبه إليهم.
قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، ذاك الكيد العظيم الذي كادوا به بيت الله -عز وجل- والتخطيط الضخم الذي فعله أبرهة كدولة عظمى من دول المنطقة، وجاء يريد أن يرعب العرب وأن يبسط هيمنته على الجزيرة العربية.
قال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾، وهو أن الله -سبحانه وتعالى- يُحبط مكائد أعدائنا، ويجعل كيدهم الذي خططوا له من خمسين ومئة سنة في تضليل أي في خسارٍ وهلاك.
﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾، أرسل على أبرهة وجنده طيرًا من السماء، من أين جاءت؟ لا أحد يعلم.
﴿أَبَابِيلَ﴾، أي فِرَق مجتمعة ومتتابعة يتبع بعضها بعضًا، تحمل في أيديها حجارة ترمي بها هؤلاء، سبحان الله ! عجيبة هذه، وهذه تدل على أن أفضل أنواع المقاتلة للآخرين عبر الرمي وعبر الطيران.
قال: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾، أي من طين.
قال: ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾، أي جعل هؤلاء المستكبرين الذين يريدون ببيت الله سوءً.
﴿كَعَصْفٍ﴾، أي كورق شجر قد يبس.
﴿مَّأْكُولٍ﴾، أي قد أُكِلَ وديس، داسته البهائم.
والعادة أن العصف من التبن والورق، ورق الشجر وورق الحنطة وغيرها، إذا داسته البهائم يصبح متهشِّم ومتكسِّر تكسرًا شديدًا، فتجده ذرات متفرقة، فهذا وصف الله لهم ماذا حصل لهم بعد هذه العقوبة الإلهية.
نسأل لله -سبحانه وتعالى- أن ينفعنا بكتابه
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع