- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
سورة قريش
هذه السورة سورة مكية ... اسمها سورة قريش .. ويُقال لإيلاف قريش.
وهي سورة مكيَّة، وهذا ظاهر من أسلوبها، وظاهر أيضًا من موضوعها، وهي أيضًا تخاطب قريش الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهي تذكرهم بنعمة الله عليهم التي يجب عليهم أن يشكروها فيوحدوا الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة.
محورها : فهي تُبيِّن أنه يجب أن تُقابل نِعَم الله بالشكر. وهذا في قصار المفصل نلاحظ كثيرًا أنه تذكر نعم الله على العباد ويُطلب منه أن يشكرها.
تأملوا ذلك في سورة الضحى ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 6-11]، وهذا يمر بنا في عدد من السور ذكر نعم الله على العبد وذكر ما يجب على العبد تجاه تلك النعم من الشكر والعبادة والتوحيد لله -عز وجل.
مناسبة السورة لما قبلها فهي مناسبة ظاهرة جدًّا، حتى كان بعض أهل العلم أو بعض السلف يرى أن هذه السورة هي جزء من السورة التي قبلها، فيرون أن سورة قريش والفيل سورة واحدة، وهي كذلك في مصحف أبيّ بن كعب كانت هاتان السورتان سورة واحدة.
ولكن مصاحف المسلمين المُجمَع عليها جُعلت فيها هاتان السورتان سورتين منفصلتين فسورة الفيل ثم سورة قريش، وقد فُصِلَت إحداهما عن الأخرى.
﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ عدَّة آيات هذه السورة أربع آيات، وعدَّها بعضهم خمس آيات بحيث أنه قال: ﴿الذي أطعمهم من جوع﴾ آية، و﴿وآمنهم من خوف﴾ آية أخرى، فصارت خمس آيات عند بعض العادِّين، وأربع آياتٍ عند آخرين.
قال الله -عز وجل- في مقدمتها: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾.
﴿لإِيلاَفِ﴾ تأني بمعنيين ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾، أي لاعتياد قريش. ألف الشيء أي اعتاده مرَّة بعد أخرى.
و﴿لإِيلاَفِ﴾ تأتي لاجتماع وتآلف الناس وتقاربهم واجتماع شأنهم، فيمكن أن تكون بهذا المعنى، ويمكن أن تكون بهذا المعنى، أي لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت.
﴿لإِيلاَفِ﴾ لابد أن تكون متعلقة بشيء.
فمن العلماء مَن قال: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ متعلقة بما بعدها وهو قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾، ويكون المعنى: لتعبد قريش ربَّ البيت؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- عوَّدها رحلة الشتاء والصيف، أو جمعها على رحلة الشتاء والصيف التي كانت من أعظم نِعم الله عليهم، حيث كانت تؤمِّن لهم تجارتهم وأرزاقهم وأطعمتهم.
فيكون معنى قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾: لتعبد قريش ربها لأنه آلفها، لأنه عوَّدها هاتين الرحلتين ومكَّنها منهما، ويسر لهم هذه الرحلة. هذا قول.
القول الثاني: أنها مرتبطة بسورة الفيل، ومن هنا جاء قول مَن قال أنهما سورتان في سورة، أو أنهما سورة واحدة، فكأنه يقول: فعذَّب أصحاب الفيل وجعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش، لأجل أن تبقى قريش ويحصل لها هذا الخير الذي حصل بأن تذهب إلى رحلة الشتاء ورحلة الصيف.
والقول الثالث من أقوال أهل العلم وهو الذي اختاره الإمام الطبري -رحمه الله: أنه جعل الفعل الذي تتعلق به قوله: ﴿لإِيلاَفِ﴾ فعلًا مقدرًا، أي : اعجبوا لإيلاف رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب البيت، اعجبوا لكون هؤلاء قد ألفوا أن يرحلوا في الصيف وفي الشتاء فيجلبوا التجارة ويحصلوا الأرزاق، واعجبوا لهم في تركهم عبادة الرب الذي أعطاهم هذه النعمة. وهذا رأي الإمام الطبري.
وأما ابن كثير -رحمه الله- فقد اختار أن السورتين مكملة إحداهما للأخرى، فيرى أنه قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ مرتبطة بسورة الفيل، أي عذب الله أصحاب الفيل فجعلهم كعصفٍ مأكول لإيلاف قريش. لاجتماع أهل مكة ولبقائهم.
والقول الأول هو أقرب الأقوال، وهو ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، أي لتعبد قريش رب هذا البيت لأنه آلفها على هاتين الرحلتين، فكأنه يقول: الله -سبحانه وتعالى- هو الذي عوَّدكم على هذه الرحلة وجمعكم عليها، فيجب عليكم أن تعبدوه، ويجب عليكم ألا تشركوا معه أحد سواه.
قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيِلاَفِهِمْ﴾ هذه ياء لم تكتب في الرسم، ولكنها كتبت في الضبط فتنطق ليست "إلافهم" كما يفعل بعض الناس؛ بل يُقال: "إيلافهم"، بياء.
ومعنى قوله: ﴿إِيِلاَفِهِمْ﴾ هي توكيد لقوله: ﴿لإِيلاَفِ﴾ فهو يقول: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ ماذا؟ ﴿إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ فهي بدل من ﴿لإِيلاَفِ﴾ الأولى.
ماذا آلفهم الله -عز وجل- وعوَّدهم أو جمعهم؟
﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.
كان لقريش رحلتان:
الرحلة الأولى: رحلة الشتاء وكانت إلى بلاد اليمن، وكانوا يجلبون من اليمن الأرزاق والمؤن والأقوات وكان لا يتعرضهم أحد ولا يخلفهم في بلدهم أحد من أعدائهم، بخلاف سائر القبائل .
وهذه نعمة عظيمة أن يخرج المكيُّون إلى بلاد اليمن وهم آمنون على أنفسهم في رحلتهم، وآمنون على بلادهم من ورائهم، وهذا فيه من النعمة ما لا يخفى على أحد، ولا يوجد في الأرض أحد يوازيهم في هذه النعمة، سبحان الله!
لأن الله أمَّنهم، خصوصًا بعدما حصلت قصة أبرهة، وقصة الفيل عندما جاء هؤلاء إلى مكة من أجل أن يهدموا بيت الله، جاءت الطير الأبابيل فدمَّرت هذا الجيش بأكمله، فعند ذلك أذعنت العرب، وقالت: هذا بيت الله، وهؤلاء قُطَّان بيت الله، فهم آمنون لا يقربهم أحد بسوء، ولا يخلفهم أحد على بلدهم بسوء. سبحان الله!
قال: ﴿إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾، رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف إلى الشام، وهكذا كانت عادة عند قريش، في وقت الصيف يذهبون إلى بلاد الشام، وفي وقت الشتاء يذهبون إلى بلاد اليمن ومن كل بلدٍ يأتون بما فيه من الأرزاق والمؤن والأقوات، ويتداولون التجارة، بهذا أنعشهم الله وعاشوا عيشة رغيدة، وإلا فبلدهم -كما وصف الله سبحانه وتعالى: ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: 37]، ليس فيها زرع ولا نهر ولا شيء من الأرزاق التي يمكن أن يحيى أهلها بها، ولكن الله يسر لهم هاتين الرحلتين.
ثم قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، أي جزاء هذه النعمة يجب عليهم أن يتوجهوا بالعبادة إلى الله؛ لأن الله هو الذي أمَّنهم.
إذن فمقابل هذه النعمة أن يُفرد الله بالعبادة، قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، ولم يقل: "فليعبدوا هذا البيت"، فهذا البيت مخلوق، والمطلوب أن يُعبد الخالق -سبحانه وتعالى- الذي هو رب هذا البيت.
ويذكرون في قصة يحكونها أن عالمًا كان في الحرم يقول في درسه: يا كعبة الله -يستغيث بها ويسألها من دون الله.
فجاء الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وكان يسمعه يقول ذلك ففكر في الطريقة التي يُقنعه بأن هذا لا يجوز، فقال له: إني أرغب أن أقرأ عليك آيات من القرآن الكريم وتصحح لي، فقبل الشيخ بعد تردد.
فأخذ الشيخ يقرأ عليه بعض السور القصار حتى وصل إلى سورة لإيلاف قريش، فقرأ الشيخ بهذه الطريقة "فليعبدوا هذا البيت"، فقال الشيخ: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، فأعادها الشيخ بقول: "فليعبدوا هذا البيت"، فأنكر عليه الشيخ إنكارًا عظيمًا، كيف تقول: "فليعبدوا هذا البيت"، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾.
فقال له الشيخ محمد: أنا تعلمت هذا منك، لأنك تقول في ثنايا درسك: يا كعبة الله -تناديها- إذن فليعبدوا هذا البيت، فتفطَّن الشيخ لخطئه كيف يصرف العبادة لغير الله؟! وكيف يستغيث ويستجير بالمخلوق ويترك رب البيت الله -سبحانه وتعالى- الذي يجب ألا يُستجار إلا به ولا يُستغاث إلا بجنابه العظيم؟!
قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، والبيت المقصود به الكعبة، هذا بيت الله ونسبة هذا البيت إلى الله وإضافته إليه إضافة تشريف، لأن أي مخلوق يُضاف إلى الله فالإضافة فيها إضافة تشريف، كما قيل: ناقة الله، بيت الله، ونحو ذلك.
قال: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ رب هذا البيت يذكرهم بأنه قد صنع لهم أمرين عظيمين لا تتحقق الحياة بالطمأنينة والاستقرار إلا بهما، وهما:
- أن يأمن الإنسان الأمن الداخلي بأن يُطعَم من جوع.
- والأمن الخارجي بأن يأمن من الخوف.
وبدأ بالجوع لأنه لا تتم الحياة أصلًا إلا بالسلامة من الجوع، فلو أن الإنسان جاع؛ حصل له الموت القريب، يعني خلال يومين أو ثلاثة أو أربعة يموت.
وأما الثاني: فهو الأمن من الخوف.
وهاتان نعمتان عظيمتان، أن يجد الإنسان قوتًا يقيم به جسمه، وأن يأمن على نفسه وماله وولده فيعيش مطمئنًّا، هاتان النعمتان متى تمَّتا فما وراءهما يعتبر فضلًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».
سورة الماعون.
هذه السورة تسمى بأسماء كثيرة، منها:
سورة الماعون وهذا أشهر الأسماء.
ومنها: سورة أرأيت.
ومنها: سورة التكذيب.
ومن أسمائها: سورة الدين.
ومنها: سورة اليتيم.
خمسة أسماء تقال لهذه السورة، لكن أشهر هذه الأسماء سورة الماعون.
هذه السورة مكيَّة، هذا قول الجمهور.
ومن العلماء مَن يرى أنها مدنيَّة وذلك؛ لأنه جاء فيها قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، وهذا النوع من البشر ما حصل إلا في المدينة.
ومن العلماء مَن قال: نصفها الأول نزل في مكة، ونصفها الثاني نزل في المدينة.
والذي يظهر -والله أعلم- أنها مكيَّة، ولا مانع أن يرد في السور المكيَّة ما يعالج صورًا لم تظهر ظهورًا تامًّا إلا في المدينة، ألا ترون أن سورة المدثر سورة مكيَّة بالإجماع، ومع ذلك ذُكر فيها النفاق، وذُكر فيها الذي في قلوبهم مرض، قال: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ﴾ [المدثر: 30، 31]، الذي في قلوبهم مرض
المنافقون لا شك أنهم منهم، هذا يدلنا على أن في الآيات المكية ذكر للنفاق، لكن ليس على وجه الاستيعاب، استيعاب النفاق وذكره وفضحه جاء في السور المدنية، وجاءت الإشارة إليه في بعض الآيات المكية كما في هذه السورة، والعلم في ذلك عند الله.
هذه السورة عدد آياتها سبع آيات، وفي بعض العدِّ ست آيات، لأنهم يرون أن قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾ آية واحدة، ففي العدّ الكوفي والبصري سبع آيات، وفي العد المدني والمكي يرون أنها ست آيات.
هذا الاختلاف في العدد ليس اختلافًا في ألفاظ وحروف القرآن، فليس أحدهم يزيد على الآخر في شيء، لكنهم يختلفون في موطن رأس الآية، فمنهم مَن يعدُّ هذه آية، ومنهم مَن يلغيها فيجعل قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾ آية واحدة.
محور هذه السورة في خصال الكفار التي تترتب على التكذيب بالدين.
من أعظم قواعد هذه الملة: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر أمانٌ من الشقاء، فالأمة التي لا تؤمن باليوم الآخر ستختلف تصرفاتها وأفعالها عن الأمة التي تؤمن بالله اليوم الآخر.
لأن مَن يؤمن باليوم الآخر يؤمن بالجزاء، وأنه إن أحسن جُوزيَ بالجزاء الحسن، وإن أساء جُوزيَ بالجزاء السيئ، فهو دائمًا يترقب الآخرة ويخاف أن يصل إلى العذاب فيها.
أما مَن لم يؤمن باليوم الآخر يقول: ما دامت هذه هي الدنيا؛ إذن فلأتنعَّم فيها بأيِّ صورة، لماذا فلان يتلذَّذ ويتنعَّم ويكون عنده الأموال الكثيرة وأنا ليس عندي شيء؟ فلأسرق، فلأعتدي عليه، فلأظلم، فهو يأكل مال اليتيم، ولا يصدق في الحديث، ويغش ويكذب، ويزني ويسرق، ويفعل كل ما يشاء، ولا يكلف نفسه شيئًا من الأخلاق الفاضلة، ولا يمنع نفسه عن شيء من الأخلاق السيئة والتصرفات القبيحة، إذن الحجاب بين الإنسان وبين سوء الحياة هو إيمانه باليوم الآخر.
ولذلك جاء في هذه السورة ما يدل على هذا المعنى بشكلٍ واضح، ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾.
هذه الخصال كلها تنتج عن عدم الإيمان باليوم الآخر ولذلك افتُتحت هذه السورة بقوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾، أعلمت وعرفت.
﴿الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، أي يكذب بيوم القيامة.
فالدين غالبًا يُطلق في القرآن على الجزاء والحساب، ومنه قولهم: كما تدين تدان.
وقد جاء في سورة الفاتحة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، أي مالك يوم الجزاء والحساب.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، يكذِّب بالجزاء الأخروي، والبعث والنشور والجنَّة والنار؟
قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، "ذلك" اسم إشارة، لكنه إشارة للبعيد.
لماذا إشارة للبعيد؟ لبعده عن الله، وبعده عن الأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة.
قال" ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، ودعُّ اليتيم هو دفعه.
ومن المفسرين مَن حملها على ظاهر لفظها، قال: الذي يدفع اليتيم.
ومنهم مَن فسَّرها بمعناها، وكلا التفسيرين لا تعارض بينهما، قال: الذي يظلمه ويقهره.
الدَّعُّ يصلح بهذا وبهذا، فمن دفع اليتيم دفعًا بيديه فقد ظلمه، ومَن منعه حقَّه سواءً كان الحق له أصلًا كماله الذي ورثه من أبيه فقد دعَّ اليتيم، أو كان حقًّا له أوجبه الله -سبحانه وتعالى- في أموال الناس، كأن يكون مستحقًّا للزكاة، مستحق للعطف والرحمة، ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، يدخل فيه.
وقد كان في العرب قبل الإسلام ظلم للأيتام لكونهم صغارًا لا يحسنون أن يرعوا أموالهم، ولا أن يدفعوا الشر عنها، فكان الكبير في العائلة يحرمهم من حقوقهم ويستولي على تركتهم ويقهر هؤلاء الأيتام، ويقهر الضعفاء أيضًا من النساء؛ فلا يرثون مع ذلك الكبير شيئًا.
قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، واليتيم في الشرع هو مَن مات أبوه قبل البلوغ، بخلاف مَن ماتت أمه فإنه لا يسمَّى يتيمًا.
قال العلماء: وهذا بخلاف الحيوان، فالحيوان يسمى يتيمًا إذا ماتت أمه، والإنسان يسمى يتيمًا إذا مات أبوه، ولكن ليس كل مَن مات أبوه يسمى يتيمًا؛ بل لابد أن يكون ذلك قبل البلوغ؛ لأنه إذا بلغ أصبح رجلًا مستقلًّا يدفع الضيم والشر عن نفسه وعن ماله.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، أيضًا من صفات هذا الذي يكذب بالدين أنه لا يحضُّ على طعام المسكين. لماذا؟؛ لأنه يقول إن هذا المسكين إنما صار مسكينًا بفعل الله وبقدره، أفأنا أستدرك على الله في قدره، كما قال الله عنهم في سورة يس ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس: 47]، هذا المسكين لو شاء الله أطعمه.
فهو لا يحضُّ على طعام المسكين؛ لأن مقصوده أن يأكل المال، هو يحب المال حبًّا جمًّا، ويجمعه جمعًا شديدًا ويحرص عليه، يأخذه من حلِّه ويأخذه من غير حلِّه، ويضعه في غير محلِّه.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، أي لا يحضُّ غيره على إطعام المسكين.
والمسكين هو: الذي ظهرت عليه المسكنة بسبب الفقر، لأن مسكين مأخوذ من المسكنة وهي الذِّلة التي تحصل لهذا الفقير بسبب قلَّة ذات يده.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، قال الله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، هنا قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾ هذا يدل على أنهم يصلون، إذن ليسوا تاركين للصلاة، ولكنه بيَّن أن عندهم وصفًا آخر في هذه الصلاة، قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.
ومن هنا اختلف العلماء: هل معنى قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أنهم لا يصلون بالكلية؟ أو أنهم يصلون لكن بعد أن يؤخروا الصلاة عن وقتها؟ أو أنهم يصلون لكنهم يفرطون عندما يؤدُّون هذه الصلاة؟ فهم يؤدنوها كيفما اتفق بقصدٍ لا بسهوٍ يجثم عليهم أو يصيبهم من دون اختيارهم كما يحصل لنا في صلاتنا، فنحن نصلي ونسهو في الصلاة، هل ندخل في هذه الآية؟ لا، لأنه لم يقل: "الذين هم في صلاتهم ساهون"؛ إنما قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.
وبهذا يكون المعنى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أي يؤخرنها عن وقتها، أو أنهم لا يبالون بها أصلًا، كما قال الله عن المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 142].
قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، وصفهم الله -سبحانه وتعالى- بوصف عجيب وهو أنهم يراؤون، بمعنى أنهم إذا قاموا بشيء من العمل أو من العبادة أومن الطاعة فعلوه رياءً.
ومعنى الرياء: أن يطلب الإنسان رؤية الناس، فهو لا يريد من عمله إلا نظر الناس إليه -نسأل الله العافية والسلامة.
وعندنا شيئان: الرياء والسمعة.
الرياء: أن تطلب رؤية الناس.
والسمعة: أن تطلب سماع الناس، يعني قد لا يروك ولكن تُسمِّع، تقول: أنا فعلت، وفعلت، وفعلت؛ هذا تسميع، «ومَن راءى راءى الله به، ومَن سمَّع سمَّع الله به» نعوذ بالله من الرياء والسمعة.
قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، كما وصف الله المنافقين قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 142]، يعني لا يقومون إلى الصلاة إلا من أجل أن يطلبوا رؤية الخلق لهم -والعياذ بالله.
قال: ﴿وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾، أيضًا من صفاتهم أنهم يمنعون الماعون.
وقد اختلف في الماعون ما هو، فقيل: الماعون هو المال، يمنعون المال، يعني يمنعون الزكاة ويمنعون أداء حق الله -عز وجل.
وقيل: بل الماعون هو: كل ما تملكه وله منفعة، فهم يمنعون منفعة الأشياء التي بأيديهم، مثل أن تمنع منفعة القلم، ومنفعة الطاولة، والكرسي، والإناء، والقِدْر، منفعة السيارة، كل ما يُعار ويُوهَب مما يأخذ الناس منه منفعة ويبقى أصله. وهذا هو الأظهر، فإن الماعون يُراد به ما يدل على مثل هذه الأثاثات والأشياء التي يملكها الناس -يملكون أصولها- ولها منافع، فهم يمنعون منفعتها لغيرهم.
وإذا كانوا يمنعون ذلك فهم يمنعون ما أوجب الله عليهم من باب أولى من أداء حق الله -عز وجل- كالزكاة ونحو ذلك مما أمرهم اللهم -سبحانه وتعالى- أن يؤدوه للفقراء والمساكين، فهم يمنعون المنفعة، ويمنعون ما هو أعظم وأشد، وهو الزكاة وما أمرهم الله -سبحانه وتعالى- أن يؤدُّوه.
ومن هنا قال العلماء: إنه يحرم على الإنسان أن يمنع أخاه المسلم أن ينتفع بشيء من أدواته وأشيائه إذا كان مستغنيًا عنها، كإنسان قال: لو سمحت أريد هذا الكأس لأشرب به، ما يجوز لك أن تمنعه ما دمت غير محتاج له فيجب عليك أن تمنحه لأخيك لينتفع به ثم يرده إليك.
طبعًا هذا يكون مع أمن ردِّه، فإذا لم يأمن الإنسان أن يُردّ فلا يجب عليه هذا الأمر.
إذن هذه هي الخصال التي تنتج عن التكذيب بيوم الدين، وهذا ما نشاهده من الكفار في كل مكان، فالكفار عادة تجدهم لأنهم يكذبون بالدين ويكذبون بالجزاء والحساب وباليوم الآخر؛ تحصل منهم هذه المنكرات شيئًا طبيعيًّا، لأنه لا يرجو إلا الدنيا، ويريد أن يتمتع بها، فكل ما يحصّله من متاع الدنيا يصرف على شهواته، لا يُطعم به مسكينًا ولا يدفع به حاجة محتاج، ويحرص على أن كل مالٍ يقع بيده يأخذه، مال يتيم، امرأة، مسكين، ضعيف.
سورة الكوثر
سورة الكوثر تسمى سورة الكوثر، وتسمى أيضًا سورة إنا أعطيناك الكوثر، وتسمى أيضًا سورة النحر.
وهذه السورة اختُلف فيها هل نزلت في مكة أو في المدينة لأن بعض الروايات التي جاءت تدل على أنها نزلت في المدينة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أنزلت علي آنفًا سورة ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، أتدرون ما الكوثر؟ نهر أعطانيه الله»، إلى آخر ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث يرويه أنس بن مالك.
وأكثر العلماء على أنها نزلت بمكة، وأنها عندما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأصحابه في المدينة أنه ما أراد أنها نزلت عليه ولم تنزل عليه من قبل وإنما أراد أن يُبيِّن لهم معناها.
هذه السورة ثلاث آيات بلا إشكال.
ومحورها حول ما أعطى الله رسوله، وما خصَّه به، ماذا يجب عليه أمام هذه النعمة التي أعطاه إياها، وماذا أعدَّ الله وادَّخر لأولئك الذي سبُّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشتموه، فهي في مقام رسول الله، وما يجب عليه تجاه ذلك الفضل الذي اختصَّه الله به.
مناسبتها فظاهر، لأنه في السورة التي قبلها، أولئك الذين يكذبون بالدين يدعُّون اليتيم، لا يحضون على طعام المسكين، يمنعون الماعون. هنا: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، اعبد الله -سبحانه وتعالى- وانحر له، وانفع عباده ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.
قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾.
﴿إِنَّا﴾ صيغة التعظيم جاءت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدل على أن هناك شيئًا عظيمًا سيؤتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
﴿أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾، الكوثر يقولون: على وزن فَوْعَل، أي نعم، والكوثر هو الخير الكثير عند العرب، هذا معناه عند العرب، وقد اختلف المفسرون فيه، هل هو بمعنى الخير الكثير أو نهر أعطاه الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم؟
والصحيح أنه لا تعارض بين التفسيرين، فهو في اللغة بمعنى الخير الكثير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنه قد أعطي هذا الكوثر الذي هو نهر في الدار الآخرة، فهو من الخير الكثير الذي أعطيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبهذا نحن نقول: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾، أعطيناك الخير الكثير الذي منه ذلك النهر الذي أوتيته في الجنة.
وقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الحوض من الكوثر، وأن الكوثر نهر أعطاه الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، فالحوض يُطلق عليه كوثر، والنهر الذي في الجنة يُطلق عليه كوثر، وهما من الخير الكثير الذي أعطيه محمد -صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يكون بعضهم فسَّر بالمعنى اللغوي العام الشامل، وبعضهم فسَّر بما ورد في لفظ الحديث من أن الكوثر نهرٌ أعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، نلاحظ هنا قاعدة مطردة: كلما يُذكر عطاء لرسول الله ونعمة فإنه يُطلب منه في مقابلها شكر.
ولهذا يقول العلماء: كلما فتح الله لك نعمة ينبغي لك أن تفتح باب شكر، أنت اليوم تعلمت شيئًا من العلم ينبغي لك أن تشكر الله بلونٍ من الشكر، أُعطيتَ مالًا، حصلت على هديَّة أو هبة هذا اليوم؛ اشكر الله، امنح شيئًا من هذه الهدية لفقير أو يتيم أو مسكين أو قريب أو محتاج.
قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، هنا قوله: ﴿فَصَلِّ﴾ لم يُبيِّن أيَّ صلاة.
من العلماء مَن قال أن المقصود بها صلاة عيد الأضحى، ولكن اللفظ عام يشمل عيد الأضحى ويشمل غيره من الصلوات، فالمقصود: صلِّ لربك ولا تصلِّ لأحد غيره.
﴿وَانْحَرْ﴾اختلف المفسرون:
- فجمهورهم على أن معناها: انحر، يعني اذبح، النحر يُطلق على ذبح الإبل، يسمى نحرًا، وهذا عليه جمهور المفسرين.
- ومنه مَن قال "انحر" أي اجعل يدك اليمنى على يدك اليسرى على صدرك.
- ومنهم مَن قال: "انحر" يعني ارفع يديك تجاه أو حذاء نحرك عند الصلاة.
والصحيح هو القول الأول لأنه الأقرب إلى المعنى اللغوي، وهي قريبة من قول الله في سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾[الأنعام: 162]، فجمع بين الصلاة والنسك.
اختير النحر من بين عبادات كثيرة؛ لأنه يتحقق به مظهر من مظاهر التوحيد، فالصلاة مظهر من مظاهر التوحيد، والنحر مظهر آخر من مظاهر التوحيد؛ لأن الإنسان ينحر باسم الله، فيقول: بسم الله أذبح هذه الذبيحة مبتدئًا أو قاصدًا اسم الله -سبحانه وتعالى.
قال: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أي مبغضك وكارهك وسابَّك وشاتمك هو الأبتر.
وقد قيل إن هذه الآية نزلت للرد على أولئك الذين كانوا يعيرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أبتر، يعني لا يبقى له ولد، فكانوا يعيِّرونه بالمبتور أو الأبتر، فبيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن كل مَن شتمه وآذاه وأبغضه هو الأبتر.
﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أي مبغضك.
﴿هُوَ الأَبْتَرُ﴾ المقطوع ذكره، والمقطوع عنه الخير في الدنيا وفي الآخرة.
سورة الكافرون
سميت سورة الكافرون، وسمىت سورة الإخلاص لأنها أخلصت العبادة لله -عز وجل.
وهذه السورة سورة عظيمة تُشْرَع قراءتها في الركعة الأولى من سنة الفجر، وأيضًا في سنة أو في صلاة الشفع قبل الوتر يقرأ الإنسان سبح اسم ربك العلى في الركعة الأولى وقل يا أيا الكافرون في الركعة الثانية وقل هو الله أحد في ركعة الوتر.لأنها سورة من سور الإخلاص، مَن قرأها مؤمنًا بها فكأنما أعلن لله -عز وجل- أنه لا يعبد أحدًا سواه، فهو يعلن التوحيد لله -عز وجل.
ولذلك تسمى هي مع سورة قل هو الله أحد تسمَّيان: سورتا الإخلاص هذه في الإخلاص العملي -وهي سورة الكافرون- وتلك في الإخلاص المعرفي العلمي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [سورة الصمد].
هذه السورة تُقرأ أيضًا عند النوم، وتقرأ أيضًا في ركعتي الطواف، تقرأ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، نلاحظ أنها في كل المواطن التي تُقرأ فيها كأنما يجدد الإنسان توحيده لله -عز وجل.
ولذلك يقرن الإنسان كل يوم بين هاتين السورتين، عند النوم أو في آخر يومك تصلي الوتر، فتقرأ قل يا أيها الكافرن وقل هو الله أحد، وعندما تستيقظ في الصباح وتبدأ نهارك، أول شيء تُبدأ به ركعتا الصبح تقرأ فيها قل يا أيها الكافرون وقل هو لله احد، فتعلن التوحيد في أول النهار وتختم يوم وليلتك بهاتين السورتين العظيمتين لأنك تريد أن تُـقرَّ لله -عز وجل- بأنك مخلصٌ له، لا تعبد أحد سواه، توحِّده في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته.
هذه السورة ستُّ آيات بالإجماع، وهي سورة مكية أيضًا بالإجماع .
وقد قيل إن سبب نزولها أن المشركين لما يئسوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتنازل عن دعوته قالوا له: يا محمد، اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، يعني حل وسط، وعلموا أن هذا الحل الوسط -في نظرهم- لا يمكن أن يكون حلًّا وسطًا في الإسلام، لأنه عدول عن الحق.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، وفي رواية: «فهو للذي أشرك، وليس لي منه شيء».
ومن هنا جاءت هذه السورة التي قال الله -عز وجل- فيها: قل يا محمد، وأي سورة تبدأ بـ "قل" أو آية؛ فاعلم أنها آية مهمَّة عظيمة، كما تقول عندما تُحمِّل إنسان رسالة تقول له: قل لهم كذا وكذا، لماذا تؤكِّد بكلمة "قل"؟ لتبيِّن عظمة الرسالة والمحتوى الذي تريد أن يقوله الرسول.
﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء: ﴿يَاأَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾ أي ما دمتم على كفركم، وبهذا ينحل الإشكال لدينا وهي: كيف يقول الله -عز وجل- ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وهؤلاء منهم مَن أسلم فعبد الله -سبحانه وتعالى؟ كيف يقول لهم هذا؟!
نقول: لأنهم ما داموا على كفرهم لا يمكن أن يعبدوا ما يعبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أما إن آمنوا فلا يتوجه الخطاب أصلًا إليهم، لا يُقال: ﴿يَاأَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾
فأنت أيها الكافر لا يمكن أن تعبد الله. فما دمت على كفرك لا يمكن أن تعبد الله حتى لو سجدت لله ولم تسجد للصنم، أنت كافر لأنك ما أقررت لله -عز وجل- بالتوحيد، يعني الكافر لو سجد لله سبعين سنة ولا أقر لله بالتوحيد لا يكون عابدًا لله. ولذلك: جاء هذا التكرار لتأكيد أنه لا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب، وأن المفاصلة قائمة بين الموحد المشرك، فالموحِّد هو الذي يقرّ لله بالعبودية، ولذلك نقول كهذا التأكيد الذي في هذه الآيات يدلنا على عظمة التوحيد أولًا.
ثم يأتي هنا المعنى: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أي في الحاضر والمستقبل، لا أعبد في هذا الوقت ما تعبدونه، ولا أنتم عابدون في هذا الوقت ما أعبد، ولا أنا عابد فيما مضى من الزمن أنا لستُ عابدًا لآلهتكم، ولا أنتم فيما مضى من زمنكم عابدون ما أعبد، فالأوليان في الحاضر والمستقبل، والأخريان في الماضي الذي قبل هذا الوقت، وهذا كله من أجل التأكيد، ولذلك اختلف العلماء:
- منهم مَن قال: الأوليان للماضي، والأخريان للحاضر والمستقبل.
- ومنهم مَن قال العكس. وهذا هو الذي رجَّحه شيخ الإسلام بن تيميَّة.
ثم خُتمت السورة بقوله ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، لا يمكن أن يجتمع الدينان، دين الكفر ودين الإيمان والتوحيد لا يمكن أن يجتمعا، وهذه فيها أعظم الرَّد على الذي ينادون بوحدة الأديان،
﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ دين الحق لا يجتمع مع دين الباطل أبدًا.
هذه السورة سورة مكية ... اسمها سورة قريش .. ويُقال لإيلاف قريش.
وهي سورة مكيَّة، وهذا ظاهر من أسلوبها، وظاهر أيضًا من موضوعها، وهي أيضًا تخاطب قريش الذين بعث فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهي تذكرهم بنعمة الله عليهم التي يجب عليهم أن يشكروها فيوحدوا الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة.
محورها : فهي تُبيِّن أنه يجب أن تُقابل نِعَم الله بالشكر. وهذا في قصار المفصل نلاحظ كثيرًا أنه تذكر نعم الله على العباد ويُطلب منه أن يشكرها.
تأملوا ذلك في سورة الضحى ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى * فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى: 6-11]، وهذا يمر بنا في عدد من السور ذكر نعم الله على العبد وذكر ما يجب على العبد تجاه تلك النعم من الشكر والعبادة والتوحيد لله -عز وجل.
مناسبة السورة لما قبلها فهي مناسبة ظاهرة جدًّا، حتى كان بعض أهل العلم أو بعض السلف يرى أن هذه السورة هي جزء من السورة التي قبلها، فيرون أن سورة قريش والفيل سورة واحدة، وهي كذلك في مصحف أبيّ بن كعب كانت هاتان السورتان سورة واحدة.
ولكن مصاحف المسلمين المُجمَع عليها جُعلت فيها هاتان السورتان سورتين منفصلتين فسورة الفيل ثم سورة قريش، وقد فُصِلَت إحداهما عن الأخرى.
﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ عدَّة آيات هذه السورة أربع آيات، وعدَّها بعضهم خمس آيات بحيث أنه قال: ﴿الذي أطعمهم من جوع﴾ آية، و﴿وآمنهم من خوف﴾ آية أخرى، فصارت خمس آيات عند بعض العادِّين، وأربع آياتٍ عند آخرين.
قال الله -عز وجل- في مقدمتها: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾.
﴿لإِيلاَفِ﴾ تأني بمعنيين ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾، أي لاعتياد قريش. ألف الشيء أي اعتاده مرَّة بعد أخرى.
و﴿لإِيلاَفِ﴾ تأتي لاجتماع وتآلف الناس وتقاربهم واجتماع شأنهم، فيمكن أن تكون بهذا المعنى، ويمكن أن تكون بهذا المعنى، أي لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت.
﴿لإِيلاَفِ﴾ لابد أن تكون متعلقة بشيء.
فمن العلماء مَن قال: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ متعلقة بما بعدها وهو قوله: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾، ويكون المعنى: لتعبد قريش ربَّ البيت؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- عوَّدها رحلة الشتاء والصيف، أو جمعها على رحلة الشتاء والصيف التي كانت من أعظم نِعم الله عليهم، حيث كانت تؤمِّن لهم تجارتهم وأرزاقهم وأطعمتهم.
فيكون معنى قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾: لتعبد قريش ربها لأنه آلفها، لأنه عوَّدها هاتين الرحلتين ومكَّنها منهما، ويسر لهم هذه الرحلة. هذا قول.
القول الثاني: أنها مرتبطة بسورة الفيل، ومن هنا جاء قول مَن قال أنهما سورتان في سورة، أو أنهما سورة واحدة، فكأنه يقول: فعذَّب أصحاب الفيل وجعلهم كعصف مأكول لأجل إيلاف قريش، لأجل أن تبقى قريش ويحصل لها هذا الخير الذي حصل بأن تذهب إلى رحلة الشتاء ورحلة الصيف.
والقول الثالث من أقوال أهل العلم وهو الذي اختاره الإمام الطبري -رحمه الله: أنه جعل الفعل الذي تتعلق به قوله: ﴿لإِيلاَفِ﴾ فعلًا مقدرًا، أي : اعجبوا لإيلاف رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة رب البيت، اعجبوا لكون هؤلاء قد ألفوا أن يرحلوا في الصيف وفي الشتاء فيجلبوا التجارة ويحصلوا الأرزاق، واعجبوا لهم في تركهم عبادة الرب الذي أعطاهم هذه النعمة. وهذا رأي الإمام الطبري.
وأما ابن كثير -رحمه الله- فقد اختار أن السورتين مكملة إحداهما للأخرى، فيرى أنه قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ مرتبطة بسورة الفيل، أي عذب الله أصحاب الفيل فجعلهم كعصفٍ مأكول لإيلاف قريش. لاجتماع أهل مكة ولبقائهم.
والقول الأول هو أقرب الأقوال، وهو ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، أي لتعبد قريش رب هذا البيت لأنه آلفها على هاتين الرحلتين، فكأنه يقول: الله -سبحانه وتعالى- هو الذي عوَّدكم على هذه الرحلة وجمعكم عليها، فيجب عليكم أن تعبدوه، ويجب عليكم ألا تشركوا معه أحد سواه.
قوله: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيِلاَفِهِمْ﴾ هذه ياء لم تكتب في الرسم، ولكنها كتبت في الضبط فتنطق ليست "إلافهم" كما يفعل بعض الناس؛ بل يُقال: "إيلافهم"، بياء.
ومعنى قوله: ﴿إِيِلاَفِهِمْ﴾ هي توكيد لقوله: ﴿لإِيلاَفِ﴾ فهو يقول: ﴿لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ﴾ ماذا؟ ﴿إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ فهي بدل من ﴿لإِيلاَفِ﴾ الأولى.
ماذا آلفهم الله -عز وجل- وعوَّدهم أو جمعهم؟
﴿رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾.
كان لقريش رحلتان:
الرحلة الأولى: رحلة الشتاء وكانت إلى بلاد اليمن، وكانوا يجلبون من اليمن الأرزاق والمؤن والأقوات وكان لا يتعرضهم أحد ولا يخلفهم في بلدهم أحد من أعدائهم، بخلاف سائر القبائل .
وهذه نعمة عظيمة أن يخرج المكيُّون إلى بلاد اليمن وهم آمنون على أنفسهم في رحلتهم، وآمنون على بلادهم من ورائهم، وهذا فيه من النعمة ما لا يخفى على أحد، ولا يوجد في الأرض أحد يوازيهم في هذه النعمة، سبحان الله!
لأن الله أمَّنهم، خصوصًا بعدما حصلت قصة أبرهة، وقصة الفيل عندما جاء هؤلاء إلى مكة من أجل أن يهدموا بيت الله، جاءت الطير الأبابيل فدمَّرت هذا الجيش بأكمله، فعند ذلك أذعنت العرب، وقالت: هذا بيت الله، وهؤلاء قُطَّان بيت الله، فهم آمنون لا يقربهم أحد بسوء، ولا يخلفهم أحد على بلدهم بسوء. سبحان الله!
قال: ﴿إِيِلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾، رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف إلى الشام، وهكذا كانت عادة عند قريش، في وقت الصيف يذهبون إلى بلاد الشام، وفي وقت الشتاء يذهبون إلى بلاد اليمن ومن كل بلدٍ يأتون بما فيه من الأرزاق والمؤن والأقوات، ويتداولون التجارة، بهذا أنعشهم الله وعاشوا عيشة رغيدة، وإلا فبلدهم -كما وصف الله سبحانه وتعالى: ﴿غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ [إبراهيم: 37]، ليس فيها زرع ولا نهر ولا شيء من الأرزاق التي يمكن أن يحيى أهلها بها، ولكن الله يسر لهم هاتين الرحلتين.
ثم قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، أي جزاء هذه النعمة يجب عليهم أن يتوجهوا بالعبادة إلى الله؛ لأن الله هو الذي أمَّنهم.
إذن فمقابل هذه النعمة أن يُفرد الله بالعبادة، قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، ولم يقل: "فليعبدوا هذا البيت"، فهذا البيت مخلوق، والمطلوب أن يُعبد الخالق -سبحانه وتعالى- الذي هو رب هذا البيت.
ويذكرون في قصة يحكونها أن عالمًا كان في الحرم يقول في درسه: يا كعبة الله -يستغيث بها ويسألها من دون الله.
فجاء الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- وكان يسمعه يقول ذلك ففكر في الطريقة التي يُقنعه بأن هذا لا يجوز، فقال له: إني أرغب أن أقرأ عليك آيات من القرآن الكريم وتصحح لي، فقبل الشيخ بعد تردد.
فأخذ الشيخ يقرأ عليه بعض السور القصار حتى وصل إلى سورة لإيلاف قريش، فقرأ الشيخ بهذه الطريقة "فليعبدوا هذا البيت"، فقال الشيخ: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، فأعادها الشيخ بقول: "فليعبدوا هذا البيت"، فأنكر عليه الشيخ إنكارًا عظيمًا، كيف تقول: "فليعبدوا هذا البيت"، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾.
فقال له الشيخ محمد: أنا تعلمت هذا منك، لأنك تقول في ثنايا درسك: يا كعبة الله -تناديها- إذن فليعبدوا هذا البيت، فتفطَّن الشيخ لخطئه كيف يصرف العبادة لغير الله؟! وكيف يستغيث ويستجير بالمخلوق ويترك رب البيت الله -سبحانه وتعالى- الذي يجب ألا يُستجار إلا به ولا يُستغاث إلا بجنابه العظيم؟!
قال: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ﴾، والبيت المقصود به الكعبة، هذا بيت الله ونسبة هذا البيت إلى الله وإضافته إليه إضافة تشريف، لأن أي مخلوق يُضاف إلى الله فالإضافة فيها إضافة تشريف، كما قيل: ناقة الله، بيت الله، ونحو ذلك.
قال: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ﴾ رب هذا البيت يذكرهم بأنه قد صنع لهم أمرين عظيمين لا تتحقق الحياة بالطمأنينة والاستقرار إلا بهما، وهما:
- أن يأمن الإنسان الأمن الداخلي بأن يُطعَم من جوع.
- والأمن الخارجي بأن يأمن من الخوف.
وبدأ بالجوع لأنه لا تتم الحياة أصلًا إلا بالسلامة من الجوع، فلو أن الإنسان جاع؛ حصل له الموت القريب، يعني خلال يومين أو ثلاثة أو أربعة يموت.
وأما الثاني: فهو الأمن من الخوف.
وهاتان نعمتان عظيمتان، أن يجد الإنسان قوتًا يقيم به جسمه، وأن يأمن على نفسه وماله وولده فيعيش مطمئنًّا، هاتان النعمتان متى تمَّتا فما وراءهما يعتبر فضلًا كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَن أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا».
سورة الماعون.
هذه السورة تسمى بأسماء كثيرة، منها:
سورة الماعون وهذا أشهر الأسماء.
ومنها: سورة أرأيت.
ومنها: سورة التكذيب.
ومن أسمائها: سورة الدين.
ومنها: سورة اليتيم.
خمسة أسماء تقال لهذه السورة، لكن أشهر هذه الأسماء سورة الماعون.
هذه السورة مكيَّة، هذا قول الجمهور.
ومن العلماء مَن يرى أنها مدنيَّة وذلك؛ لأنه جاء فيها قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، وهذا النوع من البشر ما حصل إلا في المدينة.
ومن العلماء مَن قال: نصفها الأول نزل في مكة، ونصفها الثاني نزل في المدينة.
والذي يظهر -والله أعلم- أنها مكيَّة، ولا مانع أن يرد في السور المكيَّة ما يعالج صورًا لم تظهر ظهورًا تامًّا إلا في المدينة، ألا ترون أن سورة المدثر سورة مكيَّة بالإجماع، ومع ذلك ذُكر فيها النفاق، وذُكر فيها الذي في قلوبهم مرض، قال: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ﴾ [المدثر: 30، 31]، الذي في قلوبهم مرض
المنافقون لا شك أنهم منهم، هذا يدلنا على أن في الآيات المكية ذكر للنفاق، لكن ليس على وجه الاستيعاب، استيعاب النفاق وذكره وفضحه جاء في السور المدنية، وجاءت الإشارة إليه في بعض الآيات المكية كما في هذه السورة، والعلم في ذلك عند الله.
هذه السورة عدد آياتها سبع آيات، وفي بعض العدِّ ست آيات، لأنهم يرون أن قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾ آية واحدة، ففي العدّ الكوفي والبصري سبع آيات، وفي العد المدني والمكي يرون أنها ست آيات.
هذا الاختلاف في العدد ليس اختلافًا في ألفاظ وحروف القرآن، فليس أحدهم يزيد على الآخر في شيء، لكنهم يختلفون في موطن رأس الآية، فمنهم مَن يعدُّ هذه آية، ومنهم مَن يلغيها فيجعل قوله: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾ آية واحدة.
محور هذه السورة في خصال الكفار التي تترتب على التكذيب بالدين.
من أعظم قواعد هذه الملة: الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر أمانٌ من الشقاء، فالأمة التي لا تؤمن باليوم الآخر ستختلف تصرفاتها وأفعالها عن الأمة التي تؤمن بالله اليوم الآخر.
لأن مَن يؤمن باليوم الآخر يؤمن بالجزاء، وأنه إن أحسن جُوزيَ بالجزاء الحسن، وإن أساء جُوزيَ بالجزاء السيئ، فهو دائمًا يترقب الآخرة ويخاف أن يصل إلى العذاب فيها.
أما مَن لم يؤمن باليوم الآخر يقول: ما دامت هذه هي الدنيا؛ إذن فلأتنعَّم فيها بأيِّ صورة، لماذا فلان يتلذَّذ ويتنعَّم ويكون عنده الأموال الكثيرة وأنا ليس عندي شيء؟ فلأسرق، فلأعتدي عليه، فلأظلم، فهو يأكل مال اليتيم، ولا يصدق في الحديث، ويغش ويكذب، ويزني ويسرق، ويفعل كل ما يشاء، ولا يكلف نفسه شيئًا من الأخلاق الفاضلة، ولا يمنع نفسه عن شيء من الأخلاق السيئة والتصرفات القبيحة، إذن الحجاب بين الإنسان وبين سوء الحياة هو إيمانه باليوم الآخر.
ولذلك جاء في هذه السورة ما يدل على هذا المعنى بشكلٍ واضح، ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ * فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾.
هذه الخصال كلها تنتج عن عدم الإيمان باليوم الآخر ولذلك افتُتحت هذه السورة بقوله: ﴿أَرَأَيْتَ﴾، أعلمت وعرفت.
﴿الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، أي يكذب بيوم القيامة.
فالدين غالبًا يُطلق في القرآن على الجزاء والحساب، ومنه قولهم: كما تدين تدان.
وقد جاء في سورة الفاتحة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، أي مالك يوم الجزاء والحساب.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾، يكذِّب بالجزاء الأخروي، والبعث والنشور والجنَّة والنار؟
قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، "ذلك" اسم إشارة، لكنه إشارة للبعيد.
لماذا إشارة للبعيد؟ لبعده عن الله، وبعده عن الأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة.
قال" ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، ودعُّ اليتيم هو دفعه.
ومن المفسرين مَن حملها على ظاهر لفظها، قال: الذي يدفع اليتيم.
ومنهم مَن فسَّرها بمعناها، وكلا التفسيرين لا تعارض بينهما، قال: الذي يظلمه ويقهره.
الدَّعُّ يصلح بهذا وبهذا، فمن دفع اليتيم دفعًا بيديه فقد ظلمه، ومَن منعه حقَّه سواءً كان الحق له أصلًا كماله الذي ورثه من أبيه فقد دعَّ اليتيم، أو كان حقًّا له أوجبه الله -سبحانه وتعالى- في أموال الناس، كأن يكون مستحقًّا للزكاة، مستحق للعطف والرحمة، ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، يدخل فيه.
وقد كان في العرب قبل الإسلام ظلم للأيتام لكونهم صغارًا لا يحسنون أن يرعوا أموالهم، ولا أن يدفعوا الشر عنها، فكان الكبير في العائلة يحرمهم من حقوقهم ويستولي على تركتهم ويقهر هؤلاء الأيتام، ويقهر الضعفاء أيضًا من النساء؛ فلا يرثون مع ذلك الكبير شيئًا.
قال: ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ﴾، واليتيم في الشرع هو مَن مات أبوه قبل البلوغ، بخلاف مَن ماتت أمه فإنه لا يسمَّى يتيمًا.
قال العلماء: وهذا بخلاف الحيوان، فالحيوان يسمى يتيمًا إذا ماتت أمه، والإنسان يسمى يتيمًا إذا مات أبوه، ولكن ليس كل مَن مات أبوه يسمى يتيمًا؛ بل لابد أن يكون ذلك قبل البلوغ؛ لأنه إذا بلغ أصبح رجلًا مستقلًّا يدفع الضيم والشر عن نفسه وعن ماله.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، أيضًا من صفات هذا الذي يكذب بالدين أنه لا يحضُّ على طعام المسكين. لماذا؟؛ لأنه يقول إن هذا المسكين إنما صار مسكينًا بفعل الله وبقدره، أفأنا أستدرك على الله في قدره، كما قال الله عنهم في سورة يس ﴿أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾ [يس: 47]، هذا المسكين لو شاء الله أطعمه.
فهو لا يحضُّ على طعام المسكين؛ لأن مقصوده أن يأكل المال، هو يحب المال حبًّا جمًّا، ويجمعه جمعًا شديدًا ويحرص عليه، يأخذه من حلِّه ويأخذه من غير حلِّه، ويضعه في غير محلِّه.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، أي لا يحضُّ غيره على إطعام المسكين.
والمسكين هو: الذي ظهرت عليه المسكنة بسبب الفقر، لأن مسكين مأخوذ من المسكنة وهي الذِّلة التي تحصل لهذا الفقير بسبب قلَّة ذات يده.
قال: ﴿وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ﴾، قال الله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾، هنا قال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ﴾ هذا يدل على أنهم يصلون، إذن ليسوا تاركين للصلاة، ولكنه بيَّن أن عندهم وصفًا آخر في هذه الصلاة، قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.
ومن هنا اختلف العلماء: هل معنى قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أنهم لا يصلون بالكلية؟ أو أنهم يصلون لكن بعد أن يؤخروا الصلاة عن وقتها؟ أو أنهم يصلون لكنهم يفرطون عندما يؤدُّون هذه الصلاة؟ فهم يؤدنوها كيفما اتفق بقصدٍ لا بسهوٍ يجثم عليهم أو يصيبهم من دون اختيارهم كما يحصل لنا في صلاتنا، فنحن نصلي ونسهو في الصلاة، هل ندخل في هذه الآية؟ لا، لأنه لم يقل: "الذين هم في صلاتهم ساهون"؛ إنما قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾.
وبهذا يكون المعنى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ أي يؤخرنها عن وقتها، أو أنهم لا يبالون بها أصلًا، كما قال الله عن المنافقين: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 142].
قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، وصفهم الله -سبحانه وتعالى- بوصف عجيب وهو أنهم يراؤون، بمعنى أنهم إذا قاموا بشيء من العمل أو من العبادة أومن الطاعة فعلوه رياءً.
ومعنى الرياء: أن يطلب الإنسان رؤية الناس، فهو لا يريد من عمله إلا نظر الناس إليه -نسأل الله العافية والسلامة.
وعندنا شيئان: الرياء والسمعة.
الرياء: أن تطلب رؤية الناس.
والسمعة: أن تطلب سماع الناس، يعني قد لا يروك ولكن تُسمِّع، تقول: أنا فعلت، وفعلت، وفعلت؛ هذا تسميع، «ومَن راءى راءى الله به، ومَن سمَّع سمَّع الله به» نعوذ بالله من الرياء والسمعة.
قال: ﴿الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ﴾، كما وصف الله المنافقين قال: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [النساء: 142]، يعني لا يقومون إلى الصلاة إلا من أجل أن يطلبوا رؤية الخلق لهم -والعياذ بالله.
قال: ﴿وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ﴾، أيضًا من صفاتهم أنهم يمنعون الماعون.
وقد اختلف في الماعون ما هو، فقيل: الماعون هو المال، يمنعون المال، يعني يمنعون الزكاة ويمنعون أداء حق الله -عز وجل.
وقيل: بل الماعون هو: كل ما تملكه وله منفعة، فهم يمنعون منفعة الأشياء التي بأيديهم، مثل أن تمنع منفعة القلم، ومنفعة الطاولة، والكرسي، والإناء، والقِدْر، منفعة السيارة، كل ما يُعار ويُوهَب مما يأخذ الناس منه منفعة ويبقى أصله. وهذا هو الأظهر، فإن الماعون يُراد به ما يدل على مثل هذه الأثاثات والأشياء التي يملكها الناس -يملكون أصولها- ولها منافع، فهم يمنعون منفعتها لغيرهم.
وإذا كانوا يمنعون ذلك فهم يمنعون ما أوجب الله عليهم من باب أولى من أداء حق الله -عز وجل- كالزكاة ونحو ذلك مما أمرهم اللهم -سبحانه وتعالى- أن يؤدوه للفقراء والمساكين، فهم يمنعون المنفعة، ويمنعون ما هو أعظم وأشد، وهو الزكاة وما أمرهم الله -سبحانه وتعالى- أن يؤدُّوه.
ومن هنا قال العلماء: إنه يحرم على الإنسان أن يمنع أخاه المسلم أن ينتفع بشيء من أدواته وأشيائه إذا كان مستغنيًا عنها، كإنسان قال: لو سمحت أريد هذا الكأس لأشرب به، ما يجوز لك أن تمنعه ما دمت غير محتاج له فيجب عليك أن تمنحه لأخيك لينتفع به ثم يرده إليك.
طبعًا هذا يكون مع أمن ردِّه، فإذا لم يأمن الإنسان أن يُردّ فلا يجب عليه هذا الأمر.
إذن هذه هي الخصال التي تنتج عن التكذيب بيوم الدين، وهذا ما نشاهده من الكفار في كل مكان، فالكفار عادة تجدهم لأنهم يكذبون بالدين ويكذبون بالجزاء والحساب وباليوم الآخر؛ تحصل منهم هذه المنكرات شيئًا طبيعيًّا، لأنه لا يرجو إلا الدنيا، ويريد أن يتمتع بها، فكل ما يحصّله من متاع الدنيا يصرف على شهواته، لا يُطعم به مسكينًا ولا يدفع به حاجة محتاج، ويحرص على أن كل مالٍ يقع بيده يأخذه، مال يتيم، امرأة، مسكين، ضعيف.
سورة الكوثر
سورة الكوثر تسمى سورة الكوثر، وتسمى أيضًا سورة إنا أعطيناك الكوثر، وتسمى أيضًا سورة النحر.
وهذه السورة اختُلف فيها هل نزلت في مكة أو في المدينة لأن بعض الروايات التي جاءت تدل على أنها نزلت في المدينة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أنزلت علي آنفًا سورة ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، أتدرون ما الكوثر؟ نهر أعطانيه الله»، إلى آخر ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذا الحديث يرويه أنس بن مالك.
وأكثر العلماء على أنها نزلت بمكة، وأنها عندما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأصحابه في المدينة أنه ما أراد أنها نزلت عليه ولم تنزل عليه من قبل وإنما أراد أن يُبيِّن لهم معناها.
هذه السورة ثلاث آيات بلا إشكال.
ومحورها حول ما أعطى الله رسوله، وما خصَّه به، ماذا يجب عليه أمام هذه النعمة التي أعطاه إياها، وماذا أعدَّ الله وادَّخر لأولئك الذي سبُّوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشتموه، فهي في مقام رسول الله، وما يجب عليه تجاه ذلك الفضل الذي اختصَّه الله به.
مناسبتها فظاهر، لأنه في السورة التي قبلها، أولئك الذين يكذبون بالدين يدعُّون اليتيم، لا يحضون على طعام المسكين، يمنعون الماعون. هنا: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، اعبد الله -سبحانه وتعالى- وانحر له، وانفع عباده ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.
قال الله -عز وجل: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾.
﴿إِنَّا﴾ صيغة التعظيم جاءت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليدل على أن هناك شيئًا عظيمًا سيؤتاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
﴿أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾، الكوثر يقولون: على وزن فَوْعَل، أي نعم، والكوثر هو الخير الكثير عند العرب، هذا معناه عند العرب، وقد اختلف المفسرون فيه، هل هو بمعنى الخير الكثير أو نهر أعطاه الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم؟
والصحيح أنه لا تعارض بين التفسيرين، فهو في اللغة بمعنى الخير الكثير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن أنه قد أعطي هذا الكوثر الذي هو نهر في الدار الآخرة، فهو من الخير الكثير الذي أعطيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وبهذا نحن نقول: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ﴾، أعطيناك الخير الكثير الذي منه ذلك النهر الذي أوتيته في الجنة.
وقد ورد في الأحاديث ما يدل على أن الحوض من الكوثر، وأن الكوثر نهر أعطاه الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في الجنة، فالحوض يُطلق عليه كوثر، والنهر الذي في الجنة يُطلق عليه كوثر، وهما من الخير الكثير الذي أعطيه محمد -صلى الله عليه وسلم.
وبهذا يكون بعضهم فسَّر بالمعنى اللغوي العام الشامل، وبعضهم فسَّر بما ورد في لفظ الحديث من أن الكوثر نهرٌ أعطيه النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، نلاحظ هنا قاعدة مطردة: كلما يُذكر عطاء لرسول الله ونعمة فإنه يُطلب منه في مقابلها شكر.
ولهذا يقول العلماء: كلما فتح الله لك نعمة ينبغي لك أن تفتح باب شكر، أنت اليوم تعلمت شيئًا من العلم ينبغي لك أن تشكر الله بلونٍ من الشكر، أُعطيتَ مالًا، حصلت على هديَّة أو هبة هذا اليوم؛ اشكر الله، امنح شيئًا من هذه الهدية لفقير أو يتيم أو مسكين أو قريب أو محتاج.
قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، هنا قوله: ﴿فَصَلِّ﴾ لم يُبيِّن أيَّ صلاة.
من العلماء مَن قال أن المقصود بها صلاة عيد الأضحى، ولكن اللفظ عام يشمل عيد الأضحى ويشمل غيره من الصلوات، فالمقصود: صلِّ لربك ولا تصلِّ لأحد غيره.
﴿وَانْحَرْ﴾اختلف المفسرون:
- فجمهورهم على أن معناها: انحر، يعني اذبح، النحر يُطلق على ذبح الإبل، يسمى نحرًا، وهذا عليه جمهور المفسرين.
- ومنه مَن قال "انحر" أي اجعل يدك اليمنى على يدك اليسرى على صدرك.
- ومنهم مَن قال: "انحر" يعني ارفع يديك تجاه أو حذاء نحرك عند الصلاة.
والصحيح هو القول الأول لأنه الأقرب إلى المعنى اللغوي، وهي قريبة من قول الله في سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾[الأنعام: 162]، فجمع بين الصلاة والنسك.
اختير النحر من بين عبادات كثيرة؛ لأنه يتحقق به مظهر من مظاهر التوحيد، فالصلاة مظهر من مظاهر التوحيد، والنحر مظهر آخر من مظاهر التوحيد؛ لأن الإنسان ينحر باسم الله، فيقول: بسم الله أذبح هذه الذبيحة مبتدئًا أو قاصدًا اسم الله -سبحانه وتعالى.
قال: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾، ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أي مبغضك وكارهك وسابَّك وشاتمك هو الأبتر.
وقد قيل إن هذه الآية نزلت للرد على أولئك الذين كانوا يعيرون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أبتر، يعني لا يبقى له ولد، فكانوا يعيِّرونه بالمبتور أو الأبتر، فبيَّن الله -سبحانه وتعالى- أن كل مَن شتمه وآذاه وأبغضه هو الأبتر.
﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾ أي مبغضك.
﴿هُوَ الأَبْتَرُ﴾ المقطوع ذكره، والمقطوع عنه الخير في الدنيا وفي الآخرة.
سورة الكافرون
سميت سورة الكافرون، وسمىت سورة الإخلاص لأنها أخلصت العبادة لله -عز وجل.
وهذه السورة سورة عظيمة تُشْرَع قراءتها في الركعة الأولى من سنة الفجر، وأيضًا في سنة أو في صلاة الشفع قبل الوتر يقرأ الإنسان سبح اسم ربك العلى في الركعة الأولى وقل يا أيا الكافرون في الركعة الثانية وقل هو الله أحد في ركعة الوتر.لأنها سورة من سور الإخلاص، مَن قرأها مؤمنًا بها فكأنما أعلن لله -عز وجل- أنه لا يعبد أحدًا سواه، فهو يعلن التوحيد لله -عز وجل.
ولذلك تسمى هي مع سورة قل هو الله أحد تسمَّيان: سورتا الإخلاص هذه في الإخلاص العملي -وهي سورة الكافرون- وتلك في الإخلاص المعرفي العلمي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ﴾ [سورة الصمد].
هذه السورة تُقرأ أيضًا عند النوم، وتقرأ أيضًا في ركعتي الطواف، تقرأ قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد، نلاحظ أنها في كل المواطن التي تُقرأ فيها كأنما يجدد الإنسان توحيده لله -عز وجل.
ولذلك يقرن الإنسان كل يوم بين هاتين السورتين، عند النوم أو في آخر يومك تصلي الوتر، فتقرأ قل يا أيها الكافرن وقل هو الله أحد، وعندما تستيقظ في الصباح وتبدأ نهارك، أول شيء تُبدأ به ركعتا الصبح تقرأ فيها قل يا أيها الكافرون وقل هو لله احد، فتعلن التوحيد في أول النهار وتختم يوم وليلتك بهاتين السورتين العظيمتين لأنك تريد أن تُـقرَّ لله -عز وجل- بأنك مخلصٌ له، لا تعبد أحد سواه، توحِّده في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته.
هذه السورة ستُّ آيات بالإجماع، وهي سورة مكية أيضًا بالإجماع .
وقد قيل إن سبب نزولها أن المشركين لما يئسوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتنازل عن دعوته قالوا له: يا محمد، اعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، يعني حل وسط، وعلموا أن هذا الحل الوسط -في نظرهم- لا يمكن أن يكون حلًّا وسطًا في الإسلام، لأنه عدول عن الحق.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عن ربه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، وفي رواية: «فهو للذي أشرك، وليس لي منه شيء».
ومن هنا جاءت هذه السورة التي قال الله -عز وجل- فيها: قل يا محمد، وأي سورة تبدأ بـ "قل" أو آية؛ فاعلم أنها آية مهمَّة عظيمة، كما تقول عندما تُحمِّل إنسان رسالة تقول له: قل لهم كذا وكذا، لماذا تؤكِّد بكلمة "قل"؟ لتبيِّن عظمة الرسالة والمحتوى الذي تريد أن يقوله الرسول.
﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء: ﴿يَاأَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾ أي ما دمتم على كفركم، وبهذا ينحل الإشكال لدينا وهي: كيف يقول الله -عز وجل- ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ وهؤلاء منهم مَن أسلم فعبد الله -سبحانه وتعالى؟ كيف يقول لهم هذا؟!
نقول: لأنهم ما داموا على كفرهم لا يمكن أن يعبدوا ما يعبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أما إن آمنوا فلا يتوجه الخطاب أصلًا إليهم، لا يُقال: ﴿يَاأَيُّهَا الكَافِرُونَ﴾
فأنت أيها الكافر لا يمكن أن تعبد الله. فما دمت على كفرك لا يمكن أن تعبد الله حتى لو سجدت لله ولم تسجد للصنم، أنت كافر لأنك ما أقررت لله -عز وجل- بالتوحيد، يعني الكافر لو سجد لله سبعين سنة ولا أقر لله بالتوحيد لا يكون عابدًا لله. ولذلك: جاء هذا التكرار لتأكيد أنه لا يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب، وأن المفاصلة قائمة بين الموحد المشرك، فالموحِّد هو الذي يقرّ لله بالعبودية، ولذلك نقول كهذا التأكيد الذي في هذه الآيات يدلنا على عظمة التوحيد أولًا.
ثم يأتي هنا المعنى: ﴿لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ أي في الحاضر والمستقبل، لا أعبد في هذا الوقت ما تعبدونه، ولا أنتم عابدون في هذا الوقت ما أعبد، ولا أنا عابد فيما مضى من الزمن أنا لستُ عابدًا لآلهتكم، ولا أنتم فيما مضى من زمنكم عابدون ما أعبد، فالأوليان في الحاضر والمستقبل، والأخريان في الماضي الذي قبل هذا الوقت، وهذا كله من أجل التأكيد، ولذلك اختلف العلماء:
- منهم مَن قال: الأوليان للماضي، والأخريان للحاضر والمستقبل.
- ومنهم مَن قال العكس. وهذا هو الذي رجَّحه شيخ الإسلام بن تيميَّة.
ثم خُتمت السورة بقوله ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾، لا يمكن أن يجتمع الدينان، دين الكفر ودين الإيمان والتوحيد لا يمكن أن يجتمعا، وهذه فيها أعظم الرَّد على الذي ينادون بوحدة الأديان،
﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ دين الحق لا يجتمع مع دين الباطل أبدًا.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع