- إنضم
- 26 أغسطس 2010
- المشاركات
- 3,675
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الامارات
- احفظ من كتاب الله
- القرءان كامل
- احب القراءة برواية
- بحميع الروايات
- القارئ المفضل
- الشيخ ابراهيم الأخضر
- الجنس
- أخت
بسم الله الرحمن الرحيم
متى نحتج بالقدر؟ القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب
اعتقاد أهل الإيمان وأهل البصيرة في نصوص القرآن أن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، فأهل الإيمان يثبتون القضاء والقدر، وينسبون وجود جميع الكائنات إلى مشيئة ربها، وإلى قدرة خالقها، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، ولم يؤمن بالله عز وجل، ولم يعرفه حق المعرفة، فالله عز وجل جعل للعبد إرادة واختيارا، وفعلا وقدرة واستطاعة، وابتلاه في الدنيا بين طريقين وهداه إلى النجدين، إما إلى نجد الكفر والعصيان، وإما إلى نجد الطاعة والإيمان.
العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب على أربعة أنواع
وموقف العبد من قدر الرب، أو العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، تأتي في كتاب الله وفي سنة رسوله على أربعة أنواع:
أولا: الطاعة، والطاعة تتم بإرادة الله الكونية، وموافقة العبد للإرادة الله الشرعية، فتتوافق الإرادات، ويظهر توفيق الرب للعبد، والفعل هنا ينسب إلى الله، فعل الطاعة ينسب الفضل فيها إلى الله، فهو الذي وفق العبد إلى طاعته، وحقق له مراده بفضله ومنته، فالفضل لله، وإن كان فعل الطاعة بإرادة العبد وكسبه، وسيجازى عند ربه على فعله، لكن الفضل في الطاعة ينبغي أن ينسب إلى الله.
1- الطاعة تمت بإرادة الله الكونية وموافقة العبد للشرعية والفضل ينسب لله
فالذين قالوا أسلمنا منة على نبيهم، رد الله الفضل في إسلامهم إلى منته، يقول تعالي: (يَمُنُّونَ عَليْكَ أَنْ أَسْلمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَل اللهُ يَمُنُّ عَليْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)
ويقول تعالي: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النساء:79) سواء كان حسنة بالإرادة الكونية أو الإرادة الشرعية، فالفضل لله في طاعة عبده، ويجب على العبد أن ينسب الفضل إلى ربه، فهو الذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، (وَاعْلمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُول اللهِ لوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِليْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:7).
وقال أهل الجنة: (وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنَهْتَدِيَ لوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:43) الباء سببية وليست للعوض والمقابلة.
روى البخاري من حديث أبي سلمةَ بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن النبيِّ قال: (سَدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنةَ عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدَني الله بمغفرة ورحمة) .
وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ قال: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلمُوا أَنَّهُ لنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلهِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ وَلاَ أَنْتَ؟ قَال: وَلاَ أَنَا. إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) .
فدخول الجنة بسبب العمل لكن العمل لا يقابل في المعادلة الجزاء، فالجنة منحة من الله لأهل التقوى منحهم أياها بفضله، كما أنه أيضا وفقهم في الدنيا إلى الإيمان والتقوى بفضله، فهم يعلمون أنه لا حول ولا قوة لهم إلا بمعونة ربهم، فالعبد لا ينتقل ولا يحول من حال إلى حال إلا بالله، ولا قوة للإنسان على فعل شيء من الطاعة إلا بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله كلمة عظيمة، وكنز من كنوز الجنة.
كما ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي موسى قال: (كنّا مع النبيِّ في سَفَر، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، اربَعوا على أنفُسِكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً) ( ) .
يقول أبو موسى : (ثمَّ أتى عليَّ وأنا أقولُ في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: يا عبد الله بن قيْس، قل لا حول ولا قوةَ إلا بالله، فإنها كنزٌ مِنْ كنوز الجنة، أو قال: ألا أدلك على كلمةٍ هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله) .
فالطاعة ينسب الله فيها الفضل إلى نفسه، ويمنح الأجر فيها لعبده، حتى لا يتعالى بقوته دون ربه: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17) (لقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَليْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَل اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَل جُنُوداً لمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا وَذَلكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ) (التوبة:26) (وَلقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123) (وَمَا جَعَلهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لكُمْ وَلتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (آل عمران:126).
(وتَرَى الظَّالمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى:22) (سَابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ للذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:21) (لئَلا يَعْلمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْل اللهِ وَأَنَّ الفَضْل بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:29) (فَانْقَلبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174) وهذا منطق الموحدين ينسبون الفضل إلى رب العالمين: (قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)
2- المعصية ينسب فيها الفعل إلى كسب العبد وإن تم الفعل بقدر الله
النوع الثاني من موقف العبد تجاه قدر الرب وفعله، أو النوع الثاني من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، المعصية، والمعصية ينسب فيها الفعل إلى كسب العبد، وإن تم الفعل بقدرة الرب ومشيئته، قال عن الطاعة: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقال عن المعصية: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79) فالمعصية لا يصح أن ينسبها العبد إلى الرب، فهذا فعل المشركين الذين قال الله فيهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَقَال الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ فَعَل الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَهَل عَلى الرُّسُل إِلا البَلاغُ المُبِينُ) (النحل:35).
وقال تعالى: (وَإِذَا قِيل لهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَال الذِينَ كَفَرُوا للذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يّس:47) (وَقَالُوا لوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الزخرف:20) .
فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، فنسب المعصية إليهم فقال: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) (النساء:62) .
(فَمَا لكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَل اللهُ وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلاً) (النساء:88) (إِنَّا أَنْزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) (وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) .
وقد قال في الطاعة: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17)، فنسب القتل إليه عند الطاعة، ونسبه إليهم عند المعصية، قال تعالي: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنَا غُلفٌ بَل طَبَعَ اللهُ عَليْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَليلاً) (النساء:155) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لعَنَّاهُمْ وَجَعَلنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (المائدة:13) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).
وهنا يأتي معنى الإضلال لأن الإضلال من الشرود وعدم الاتفاق، إرادة العبد خالفت إرادة الله الشرعية ووافقت الإرادة الكونية، فباعتبار مخالفته الشرعية نقول ضل، وننسب المعصية إليه، وباعتبار وقوع الإرادة الكونية الحتمية نقول أضله الله: (فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لكَ فَاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ) (القصص:50) (بَل اتَّبَعَ الذِينَ ظَلمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَل اللهُ وَمَا لهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم:29) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَلقَدْ أَضَل مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّس:62).
والمعصية وإن كانت بقدر الله إلا أنه لا يجوز أن يحتج فيها بالقدر، وأنه مسير في ذلك مجبور، فإن من فعل ذلك كان من أهل الزندقة، كالذي رأى لصا مر عليه وهو مقطوع اليد مقام عليه الحد، فقال: مسكين مظلوم أجبره الله على السرقة ثم قطع يده عليها، فصاحب هذا الاعتقاد الفاسد لا يكون إلا ظالما متناقضا، إذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته والمبالغة في جزائه والانتقام منه، ولم يعذره بالقدر وبحجة أنه مسير مجبور، وإذا كان هو الظالم لغيره احتج هو لنفسه بالقدر، وادعى أنه مسير مجبور.
فلا يحتج أحد بالقدر على معصيته إلا لإتباع الهوى، وحجته باطلة داحضة فاسدة، لا حق معه ولا دليل، ولذلك لما احتج المشركون بالقدر على شركهم، بين الله كذبهم وقال لهم: (قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا) (الأنعام:148) .
(سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148).
ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه وانتقموا منه ولم يقبلوا حجته، إذا قال لهم لو شاء الله ما عاديتكم بل هم دائما يعيبون من ظلمهم واعتدى عليهم ولا يقبلون احتجاجه بالقدر أبدا، فلما جاءهم الحق من ربهم أخذوا يدافعون ذلك بالقدر، ويقولون نحن مسيرون في شركنا وذنوبنا وقد رضي الله الشرك لنا، فصاروا يحتجون على ترك الشرع، بما لا يقبلونه على أنفسهم.
وهؤلاء يعلمون أنهم لو اعتدوا على محارم أمير أو وزير، لأصابهم عقابه الشديد، فامتثلوا خوفا على أنفسهم من الوعيد، الذي يتوعدهم به مخلوق، ولم يمتثلوا خوفا من ملك الملوك، فانتهكوا محارم الله وتركوا ما فرضه عليهم في هذه الحياة، فبئست العقيدة التي يكون فيها أمر المخلوق أعظم عندهم من أمر الله، ونهي المخلوق أعظم عندهم من نهي الله، وحق المخلوق أعظم عندهم من حق الله.
3- المصيبة التي وقعت بقدر الله كعلة لابتلاء العبد في موافقته للإرادة الشرعية.
النوع الثالث في موقف العبد تجاه قدر الرب، أو النوع الثالث من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، المصيبة التي وقعت بقدر الله كعلة لابتلاء العبد في موافقته للإرادة الشرعية قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلبَهُ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (التغابن:11)
قال ابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ) (غافر:55) .
والشقي يجزع عند المصائب، رجل ما ولده دون البنات، وصدمت سيارته دون السيارات، والشقي يحتج بالقدر على المعائب، طالما أصابني ذلك فلن أصلي.
(كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِليْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35) (وَكَذَلكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَليْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَليْسَ اللهُ بِأَعْلمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام:53) فالله عز وجل خلق الدنيا للامتحان والابتلاء، ولا بد لكي يقوم الابتلاء على قاعدة وأساس أن تحدث الفوارق بين الناس، ليبلو بعضهم ببعض كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام/165) (قَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلكَ وَبَلوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)
(فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ) (الزمر:49).
قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء:78).
4- المعصية التي تاب العبد منها كما حدث في احتجاج آدم وموسى
رابعا المعصية التي تاب العبد منها كما حدث في احتجاج آدم وموسى روى البخاري من حديث أبى هريرةَ أن النبيِّ قال: (احتجَ آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة قال له آدمُ: يا موسى اصطفاكَ اللهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده، أتلومني على أمر قدَّرَهُ الله عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة؟ فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى، ثلاثاً) .
وفي لفظ آخر احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله فحج آدم موسى) .
وربما يقول قائل آدم احتج بالقدر على معصيته، وموسى لامه بعد توبته، وجواب ذلك أن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، كما أن الله بعد توبته اجتباه وهداه واصطفاه، كما أن آدم عليه السلام أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء، والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة، المحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة، وفي لفظ خيبتنا، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.
ومثال ذلك من عصى ربه وتاب ثم يتذكر معصيته مع بعض أصحابه فيقول قدر الله وما شاء فعل، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلنَاكَ للنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (النساء:79) .
(قُل لوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عَليْهِمُ القَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَليَبْتَليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَليُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154) .
سُئِل أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تيمية عَنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَالقَدَرِ الكَوْنِيِّ؛ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ. فَأَجَابَ: الحَمْدُ للهِ. اعْلمْ أَنَّ اللهَ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَليكُهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ وَلا خَالقَ سِوَاهُ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنْ؛ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وَبِكُل شَيْءٍ عَليمٌ؛ وَالعَبْدُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللهِ؛ وَطَاعَةِ رَسُولهِ؛ مَنْهِيٌّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ وَمَعْصِيَةِ رَسُولهِ؛ فَإِنْ أَطَاعَ كَانَ ذَلكَ نِعْمَةً مِنْ اللهِ أَنْعَمَ بِهَا عَليْهِ؛ وَكَانَ لهُ الأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِفَضْل اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَصَى كَانَ مُسْتَحِقًّا للذَّمِّ وَالعِقَابِ؛ وَكَانَ للهِ عَليْهِ الحُجَّةُ البَالغَةُ؛ وَلا حُجَّةَ لأَحَدِ عَلى اللهِ؛ وَكُلُّ ذَلكَ كَائِنٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لكِنَّهُ يُحِبُّ الطَّاعَةَ وَيَأْمُرُ بِهَا؛ وَيُثِيبُ أَهْلهَا عَليْهَا وَيُكْرِمُهُمْ؛ وَيُبْغِضُ المَعْصِيَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا؛ وَيُعَاقِبُ أَهْلهَا عَليْهَا وَيُهِينُهُمْ. وَمَا يُصِيبُ العَبْدَ مِنْ النِّعَمِ فَإِنَّ اللهَ أَنْعَمَ بِهَا عَليْهِ؛ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ الشَّرِّ فَبِذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ. كَمَا قَال تَعَالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وَقَال تَعَالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أَيْ مَا أَصَابَكَ مِنْ خَصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللهُ أَنْعَمَ بِهَا عَليْكَ؛ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ جَدْبٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ؛ وَكُلُّ الأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلقِهِ فَلا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ العَبْدُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ وَأَنْ يُؤْمِنَ بِشَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ. فَمَنْ نَظَرَ إلى الحَقِيقَةِ القَدَرِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ كَانَ مُشَابِهًا للمُشْرِكِينَ؛ وَمَنْ نَظَرَ إلى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَّبَ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ كَانَ مُشَابِهًا للمَجُوسِيِّينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا وَهَذَا، وَإِذَا أَحْسَنَ حَمِدَ اللهَ؛ وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ اللهَ؛ وَعَلمَ أَنَّ ذَلكَ كُلهُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَهُوَ مِنْ المُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ آدَمَ - عَليْهِ السَّلامُ - لمَّا أَذْنَبَ تَابَ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ، وَإِبْليسُ أَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ وَاحْتَجَّ بِالقَدَرِ؛ فَلعَنَهُ وَأَقْصَاهُ، فَمَنْ تَابَ كَانَ آدَمِيًّا، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالقَدَرِ كَانَ إبليسيا، فَالسُّعَدَاءُ يَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ، وَالأَشْقِيَاءُ يَتَّبِعُونَ عَدُوَّهُمْ إبْليسَ. فَنَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمَ عَليْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَقَال الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ حَدِيثُ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المُخْرَجُ فِي الصَّحِيحِ لمَّا طَرَقَهُ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَفَاطِمَةَ - وَهُمَا نَائِمَانِ - فَقَال (أَلا تُصَليَانِ فَقَال عَليٌّ يَا رَسُول اللهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلهَا؛ فَوَلى النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى فَخِذِهِ وَهُوَ يَقُولُ (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) هَذَا الحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الأَمْرَ بِالقَدَرِ، فَإِنَّ قَوْلهُ: (إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) إلى آخِرِهِ. اسْتِنَادٌ إلى القَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَال الأَمْرِ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلمَةُ حَقٍّ، لكِنْ لا تَصْلُحُ لمُعَارَضَةِ الأَمْرِ بَل مُعَارَضَةُ الأَمْرِ فِيهَا مِنْ بَابِ الجَدَل المَذْمُومِ الذِي قَال اللهُ فِيهِ: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) وَهَؤُلاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ " القَدَرِيَّةِ " وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللهُ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ بِالمُجَادَلةِ البَاطِلةِ.
وقال ابن تيمية: "وَمَنْ احْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلى المَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ، وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَل هَؤُلاءِ الضَّالُّونَ. كَمَا قَال فِيهِمْ بَعْضُ العُلمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ المَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ. فَإِنَّ هَؤُلاءِ إذَا ظَلمَهُمْ ظَالمٌ، بَل لوْ فَعَل الإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُونَهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لمْ يَعْذُرُوهُ بِالقَدَرِ، بَل يُقَابِلُوهُ بِالحَقِّ وَالبَاطِل، فَإِنْ كَانَ القَدَرُ حُجَّةً لهُمْ فَهُوَ حُجَّةٌ لهَؤُلاءِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ حُجَّةً لهَؤُلاءِ لمْ يَكُنْ حُجَّةً لهُمْ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ أَحَدُهُمْ بِالقَدَرِ عِنْدَ هَوَاهُ وَمَعْصِيَةِ مَوْلاهُ، لا عِنْدَ مَا يُؤْذِيهِ النَّاسُ وَيَظْلمُونَهُ. وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَهُوَ بِالعَكْسِ فِي ذَلكَ إذَا آذَاهُ النَّاسُ نَظَرَ إلى القَدَرِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَإِذَا أَسَاءَ هُوَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ. كَمَا قَال تَعَالى: (فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ) فَالمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلى المَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالمَعَايِبِ، وَالمُنَافِقُ بِالعَكْسِ لا يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبِهِ بَل يَحْتَجُّ بِالقَدَرِ، وَلا يَصْبِرُ عَلى مَا أَصَابَهُ، فَلهَذَا يَكُونُ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَالمُؤْمِنُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَاَللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلمُ".
متى نحتج بالقدر؟ القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب
اعتقاد أهل الإيمان وأهل البصيرة في نصوص القرآن أن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعائب، فأهل الإيمان يثبتون القضاء والقدر، وينسبون وجود جميع الكائنات إلى مشيئة ربها، وإلى قدرة خالقها، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك، ولم يؤمن بالله عز وجل، ولم يعرفه حق المعرفة، فالله عز وجل جعل للعبد إرادة واختيارا، وفعلا وقدرة واستطاعة، وابتلاه في الدنيا بين طريقين وهداه إلى النجدين، إما إلى نجد الكفر والعصيان، وإما إلى نجد الطاعة والإيمان.
العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب على أربعة أنواع
وموقف العبد من قدر الرب، أو العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، تأتي في كتاب الله وفي سنة رسوله على أربعة أنواع:
أولا: الطاعة، والطاعة تتم بإرادة الله الكونية، وموافقة العبد للإرادة الله الشرعية، فتتوافق الإرادات، ويظهر توفيق الرب للعبد، والفعل هنا ينسب إلى الله، فعل الطاعة ينسب الفضل فيها إلى الله، فهو الذي وفق العبد إلى طاعته، وحقق له مراده بفضله ومنته، فالفضل لله، وإن كان فعل الطاعة بإرادة العبد وكسبه، وسيجازى عند ربه على فعله، لكن الفضل في الطاعة ينبغي أن ينسب إلى الله.
1- الطاعة تمت بإرادة الله الكونية وموافقة العبد للشرعية والفضل ينسب لله
فالذين قالوا أسلمنا منة على نبيهم، رد الله الفضل في إسلامهم إلى منته، يقول تعالي: (يَمُنُّونَ عَليْكَ أَنْ أَسْلمُوا قُل لا تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَل اللهُ يَمُنُّ عَليْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)
ويقول تعالي: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النساء:79) سواء كان حسنة بالإرادة الكونية أو الإرادة الشرعية، فالفضل لله في طاعة عبده، ويجب على العبد أن ينسب الفضل إلى ربه، فهو الذي حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه، (وَاعْلمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُول اللهِ لوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِليْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِليْكُمُ الكُفْرَ وَالفُسُوقَ وَالعِصْيَانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات:7).
وقال أهل الجنة: (وَقَالُوا الحَمْدُ للهِ الذِي هَدَانَا لهَذَا وَمَا كُنَّا لنَهْتَدِيَ لوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ لقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلكُمُ الجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف:43) الباء سببية وليست للعوض والمقابلة.
روى البخاري من حديث أبي سلمةَ بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن النبيِّ قال: (سَدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنةَ عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدَني الله بمغفرة ورحمة) .
وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ قال: (قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلمُوا أَنَّهُ لنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلهِ، قَالُوا: يَا رَسُول اللهِ وَلاَ أَنْتَ؟ قَال: وَلاَ أَنَا. إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) .
فدخول الجنة بسبب العمل لكن العمل لا يقابل في المعادلة الجزاء، فالجنة منحة من الله لأهل التقوى منحهم أياها بفضله، كما أنه أيضا وفقهم في الدنيا إلى الإيمان والتقوى بفضله، فهم يعلمون أنه لا حول ولا قوة لهم إلا بمعونة ربهم، فالعبد لا ينتقل ولا يحول من حال إلى حال إلا بالله، ولا قوة للإنسان على فعل شيء من الطاعة إلا بالله، فلا حول ولا قوة إلا بالله كلمة عظيمة، وكنز من كنوز الجنة.
كما ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي موسى قال: (كنّا مع النبيِّ في سَفَر، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، اربَعوا على أنفُسِكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً) ( ) .
يقول أبو موسى : (ثمَّ أتى عليَّ وأنا أقولُ في نفسي: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال: يا عبد الله بن قيْس، قل لا حول ولا قوةَ إلا بالله، فإنها كنزٌ مِنْ كنوز الجنة، أو قال: ألا أدلك على كلمةٍ هي كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله) .
فالطاعة ينسب الله فيها الفضل إلى نفسه، ويمنح الأجر فيها لعبده، حتى لا يتعالى بقوته دون ربه: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17) (لقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَليْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَليْتُمْ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنْزَل اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولهِ وَعَلى المُؤْمِنِينَ وَأَنْزَل جُنُوداً لمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الذِينَ كَفَرُوا وَذَلكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ) (التوبة:26) (وَلقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لعَلكُمْ تَشْكُرُونَ) (آل عمران:123) (وَمَا جَعَلهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لكُمْ وَلتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (آل عمران:126).
(وتَرَى الظَّالمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ) (الشورى:22) (سَابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ للذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلهِ ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:21) (لئَلا يَعْلمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْل اللهِ وَأَنَّ الفَضْل بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضْل العَظِيمِ) (الحديد:29) (فَانْقَلبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران:174) وهذا منطق الموحدين ينسبون الفضل إلى رب العالمين: (قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40)
2- المعصية ينسب فيها الفعل إلى كسب العبد وإن تم الفعل بقدر الله
النوع الثاني من موقف العبد تجاه قدر الرب وفعله، أو النوع الثاني من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، المعصية، والمعصية ينسب فيها الفعل إلى كسب العبد، وإن تم الفعل بقدرة الرب ومشيئته، قال عن الطاعة: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وقال عن المعصية: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء:79) فالمعصية لا يصح أن ينسبها العبد إلى الرب، فهذا فعل المشركين الذين قال الله فيهم: (سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148) (وَقَال الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ فَعَل الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ فَهَل عَلى الرُّسُل إِلا البَلاغُ المُبِينُ) (النحل:35).
وقال تعالى: (وَإِذَا قِيل لهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَال الذِينَ كَفَرُوا للذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يّس:47) (وَقَالُوا لوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لهُمْ بِذَلكَ مِنْ عِلمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ) (الزخرف:20) .
فهؤلاء المحتجون بالقدر على سقوط الأمر والنهي من جنس المشركين المكذبين للرسل، وهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، فنسب المعصية إليهم فقال: (فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً) (النساء:62) .
(فَمَا لكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَل اللهُ وَمَنْ يُضْلل اللهُ فَلنْ تَجِدَ لهُ سَبِيلاً) (النساء:88) (إِنَّا أَنْزَلنَا إِليْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ للخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) (وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالداً فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَليْهِ وَلعَنَهُ وَأَعَدَّ لهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) .
وقد قال في الطاعة: (فَلمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى وَليُبْليَ المُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَليمٌ) (لأنفال:17)، فنسب القتل إليه عند الطاعة، ونسبه إليهم عند المعصية، قال تعالي: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلهِمْ قُلُوبُنَا غُلفٌ بَل طَبَعَ اللهُ عَليْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَليلاً) (النساء:155) (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لعَنَّاهُمْ وَجَعَلنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (المائدة:13) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).
وهنا يأتي معنى الإضلال لأن الإضلال من الشرود وعدم الاتفاق، إرادة العبد خالفت إرادة الله الشرعية ووافقت الإرادة الكونية، فباعتبار مخالفته الشرعية نقول ضل، وننسب المعصية إليه، وباعتبار وقوع الإرادة الكونية الحتمية نقول أضله الله: (فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لكَ فَاعْلمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَل مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالمِينَ) (القصص:50) (بَل اتَّبَعَ الذِينَ ظَلمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَل اللهُ وَمَا لهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) (الروم:29) (قُل إِنْ ضَللتُ فَإِنَّمَا أَضِل عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِليَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ:50) (وَلقَدْ أَضَل مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يّس:62).
والمعصية وإن كانت بقدر الله إلا أنه لا يجوز أن يحتج فيها بالقدر، وأنه مسير في ذلك مجبور، فإن من فعل ذلك كان من أهل الزندقة، كالذي رأى لصا مر عليه وهو مقطوع اليد مقام عليه الحد، فقال: مسكين مظلوم أجبره الله على السرقة ثم قطع يده عليها، فصاحب هذا الاعتقاد الفاسد لا يكون إلا ظالما متناقضا، إذا آذاه غيره أو ظلمه طلب معاقبته والمبالغة في جزائه والانتقام منه، ولم يعذره بالقدر وبحجة أنه مسير مجبور، وإذا كان هو الظالم لغيره احتج هو لنفسه بالقدر، وادعى أنه مسير مجبور.
فلا يحتج أحد بالقدر على معصيته إلا لإتباع الهوى، وحجته باطلة داحضة فاسدة، لا حق معه ولا دليل، ولذلك لما احتج المشركون بالقدر على شركهم، بين الله كذبهم وقال لهم: (قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا) (الأنعام:148) .
(سَيَقُولُ الذِينَ أَشْرَكُوا لوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلكَ كَذَّبَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُل هَل عِنْدَكُمْ مِنْ عِلمٍ فَتُخْرِجُوهُ لنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148).
ولهذا كان هؤلاء المشركون المحتجون بالقدر إذا عاداهم أحد قابلوه وقاتلوه وعاقبوه وانتقموا منه ولم يقبلوا حجته، إذا قال لهم لو شاء الله ما عاديتكم بل هم دائما يعيبون من ظلمهم واعتدى عليهم ولا يقبلون احتجاجه بالقدر أبدا، فلما جاءهم الحق من ربهم أخذوا يدافعون ذلك بالقدر، ويقولون نحن مسيرون في شركنا وذنوبنا وقد رضي الله الشرك لنا، فصاروا يحتجون على ترك الشرع، بما لا يقبلونه على أنفسهم.
وهؤلاء يعلمون أنهم لو اعتدوا على محارم أمير أو وزير، لأصابهم عقابه الشديد، فامتثلوا خوفا على أنفسهم من الوعيد، الذي يتوعدهم به مخلوق، ولم يمتثلوا خوفا من ملك الملوك، فانتهكوا محارم الله وتركوا ما فرضه عليهم في هذه الحياة، فبئست العقيدة التي يكون فيها أمر المخلوق أعظم عندهم من أمر الله، ونهي المخلوق أعظم عندهم من نهي الله، وحق المخلوق أعظم عندهم من حق الله.
3- المصيبة التي وقعت بقدر الله كعلة لابتلاء العبد في موافقته للإرادة الشرعية.
النوع الثالث في موقف العبد تجاه قدر الرب، أو النوع الثالث من العلاقة بين فعل العبد وفعل الرب، المصيبة التي وقعت بقدر الله كعلة لابتلاء العبد في موافقته للإرادة الشرعية قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلبَهُ وَاللهُ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ) (التغابن:11)
قال ابن مسعود هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم، فالسعيد يستغفر من المعائب ويصبر على المصائب كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالعَشِيِّ وَالأِبْكَارِ) (غافر:55) .
والشقي يجزع عند المصائب، رجل ما ولده دون البنات، وصدمت سيارته دون السيارات، والشقي يحتج بالقدر على المعائب، طالما أصابني ذلك فلن أصلي.
(كُل نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِليْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35) (وَكَذَلكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَليْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَليْسَ اللهُ بِأَعْلمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام:53) فالله عز وجل خلق الدنيا للامتحان والابتلاء، ولا بد لكي يقوم الابتلاء على قاعدة وأساس أن تحدث الفوارق بين الناس، ليبلو بعضهم ببعض كما قال تعالى: (وَهُوَ الذِي جَعَلكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ليَبْلُوَكُمْ في مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لغَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الأنعام/165) (قَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلكَ وَبَلوْنَاهُمْ بِالحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لعَلهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف:168)
(فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ) (الزمر:49).
قال الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (النساء:78).
4- المعصية التي تاب العبد منها كما حدث في احتجاج آدم وموسى
رابعا المعصية التي تاب العبد منها كما حدث في احتجاج آدم وموسى روى البخاري من حديث أبى هريرةَ أن النبيِّ قال: (احتجَ آدمُ وموسى، فقال له موسى: يا آدمُ أنتَ أبونا، خيَّبتنا وأخرجتَنا من الجنَّة قال له آدمُ: يا موسى اصطفاكَ اللهُ بكلامه وخطَّ لكَ بيده، أتلومني على أمر قدَّرَهُ الله عليَّ قبل أن يخلُقَني بأربعين سنة؟ فحجَّ آدمُ موسى، فحجَّ آدمُ موسى، ثلاثاً) .
وفي لفظ آخر احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم هل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله على أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة قال رسول الله فحج آدم موسى) .
وربما يقول قائل آدم احتج بالقدر على معصيته، وموسى لامه بعد توبته، وجواب ذلك أن موسى أعرف بالله وأسمائه وصفاته من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه، كما أن الله بعد توبته اجتباه وهداه واصطفاه، كما أن آدم عليه السلام أعرف بربه من أن يحتج بقضائه وقدره على معصيته، بل إنما لام موسى آدم على المعصية التي نالت الذرية بخروجهم من الجنة ونزولهم إلى دار الابتلاء، والمحنة بسبب خطيئة أبيهم، فذكر الخطيئة تنبيها على سبب المصيبة، المحنة التي نالت الذرية، ولهذا قال له أخرجتنا ونفسك من الجنة، وفي لفظ خيبتنا، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال إن هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة بقدره قبل خلقي والقدر يحتج به في المصائب دون المعائب أي أتلومني على مصيبة قدرت علي وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة.
ومثال ذلك من عصى ربه وتاب ثم يتذكر معصيته مع بعض أصحابه فيقول قدر الله وما شاء فعل، (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُل كُل مِنْ عِنْدِ اللهِ فَمَال هَؤُلاءِ القَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلنَاكَ للنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (النساء:79) .
(قُل لوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الذِينَ كُتِبَ عَليْهِمُ القَتْلُ إِلى مَضَاجِعِهِمْ وَليَبْتَليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَليُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) (آل عمران:154) .
سُئِل أَبُو العَبَّاسِ ابْنُ تيمية عَنْ الخَيْرِ وَالشَّرِّ؛ وَالقَدَرِ الكَوْنِيِّ؛ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ الشَّرْعِيِّ. فَأَجَابَ: الحَمْدُ للهِ. اعْلمْ أَنَّ اللهَ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَليكُهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ وَلا خَالقَ سِوَاهُ؛ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لمْ يَشَأْ لمْ يَكُنْ؛ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ وَبِكُل شَيْءٍ عَليمٌ؛ وَالعَبْدُ مَأْمُورٌ بِطَاعَةِ اللهِ؛ وَطَاعَةِ رَسُولهِ؛ مَنْهِيٌّ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ وَمَعْصِيَةِ رَسُولهِ؛ فَإِنْ أَطَاعَ كَانَ ذَلكَ نِعْمَةً مِنْ اللهِ أَنْعَمَ بِهَا عَليْهِ؛ وَكَانَ لهُ الأَجْرُ وَالثَّوَابُ بِفَضْل اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنْ عَصَى كَانَ مُسْتَحِقًّا للذَّمِّ وَالعِقَابِ؛ وَكَانَ للهِ عَليْهِ الحُجَّةُ البَالغَةُ؛ وَلا حُجَّةَ لأَحَدِ عَلى اللهِ؛ وَكُلُّ ذَلكَ كَائِنٌ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ؛ لكِنَّهُ يُحِبُّ الطَّاعَةَ وَيَأْمُرُ بِهَا؛ وَيُثِيبُ أَهْلهَا عَليْهَا وَيُكْرِمُهُمْ؛ وَيُبْغِضُ المَعْصِيَةَ وَيَنْهَى عَنْهَا؛ وَيُعَاقِبُ أَهْلهَا عَليْهَا وَيُهِينُهُمْ. وَمَا يُصِيبُ العَبْدَ مِنْ النِّعَمِ فَإِنَّ اللهَ أَنْعَمَ بِهَا عَليْهِ؛ وَمَا يُصِيبُهُ مِنْ الشَّرِّ فَبِذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ. كَمَا قَال تَعَالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) وَقَال تَعَالى: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) أَيْ مَا أَصَابَكَ مِنْ خَصْبٍ وَنَصْرٍ وَهُدًى فَاَللهُ أَنْعَمَ بِهَا عَليْكَ؛ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ جَدْبٍ وَذُلٍّ وَشَرٍّ فَبِذُنُوبِكَ وَخَطَايَاكَ؛ وَكُلُّ الأَشْيَاءِ كَائِنَةٌ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَخَلقِهِ فَلا بُدَّ أَنْ يُؤْمِنَ العَبْدُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ؛ وَأَنْ يُؤْمِنَ بِشَرْعِ اللهِ وَأَمْرِهِ. فَمَنْ نَظَرَ إلى الحَقِيقَةِ القَدَرِيَّةِ وَأَعْرَضَ عَنْ الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالوَعْدِ وَالوَعِيدِ كَانَ مُشَابِهًا للمُشْرِكِينَ؛ وَمَنْ نَظَرَ إلى الأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَكَذَّبَ بِالقَضَاءِ وَالقَدَرِ كَانَ مُشَابِهًا للمَجُوسِيِّينَ، وَمَنْ آمَنَ بِهَذَا وَهَذَا، وَإِذَا أَحْسَنَ حَمِدَ اللهَ؛ وَإِذَا أَسَاءَ اسْتَغْفَرَ اللهَ؛ وَعَلمَ أَنَّ ذَلكَ كُلهُ بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ فَهُوَ مِنْ المُؤْمِنِينَ. فَإِنَّ آدَمَ - عَليْهِ السَّلامُ - لمَّا أَذْنَبَ تَابَ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ وَهَدَاهُ، وَإِبْليسُ أَصَرَّ وَاسْتَكْبَرَ وَاحْتَجَّ بِالقَدَرِ؛ فَلعَنَهُ وَأَقْصَاهُ، فَمَنْ تَابَ كَانَ آدَمِيًّا، وَمَنْ أَصَرَّ وَاحْتَجَّ بِالقَدَرِ كَانَ إبليسيا، فَالسُّعَدَاءُ يَتَّبِعُونَ أَبَاهُمْ آدَمَ، وَالأَشْقِيَاءُ يَتَّبِعُونَ عَدُوَّهُمْ إبْليسَ. فَنَسْأَلُ اللهَ العَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الذِينَ أَنْعَمَ عَليْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ. وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالحِينَ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَقَال الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ حَدِيثُ عَليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المُخْرَجُ فِي الصَّحِيحِ لمَّا طَرَقَهُ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَفَاطِمَةَ - وَهُمَا نَائِمَانِ - فَقَال (أَلا تُصَليَانِ فَقَال عَليٌّ يَا رَسُول اللهِ إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ إنْ شَاءَ أَنْ يُمْسِكَهَا وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُرْسِلهَا؛ فَوَلى النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ وَهُوَ يَضْرِبُ بِيَدِهِ عَلى فَخِذِهِ وَهُوَ يَقُولُ (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلا) هَذَا الحَدِيثُ نَصٌّ فِي ذَمِّ مَنْ عَارَضَ الأَمْرَ بِالقَدَرِ، فَإِنَّ قَوْلهُ: (إنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ) إلى آخِرِهِ. اسْتِنَادٌ إلى القَدَرِ فِي تَرْكِ امْتِثَال الأَمْرِ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا كَلمَةُ حَقٍّ، لكِنْ لا تَصْلُحُ لمُعَارَضَةِ الأَمْرِ بَل مُعَارَضَةُ الأَمْرِ فِيهَا مِنْ بَابِ الجَدَل المَذْمُومِ الذِي قَال اللهُ فِيهِ: (وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا) وَهَؤُلاءِ أَحَدُ أَقْسَامِ " القَدَرِيَّةِ " وَقَدْ وَصَفَهُمْ اللهُ فِي غَيْرِ هَذَا المَوْضِعِ بِالمُجَادَلةِ البَاطِلةِ.
وقال ابن تيمية: "وَمَنْ احْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلى المَعَاصِي فَحُجَّتُهُ دَاحِضَةٌ، وَمَنْ اعْتَذَرَ بِهِ فَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ، بَل هَؤُلاءِ الضَّالُّونَ. كَمَا قَال فِيهِمْ بَعْضُ العُلمَاءِ: أَنْتَ عِنْدَ الطَّاعَةِ قَدَرِيٌّ وَعِنْدَ المَعْصِيَةِ جَبْرِيٌّ، أَيُّ مَذْهَبٍ وَافَقَ هَوَاكَ تَمَذْهَبْتَ بِهِ. فَإِنَّ هَؤُلاءِ إذَا ظَلمَهُمْ ظَالمٌ، بَل لوْ فَعَل الإِنْسَانُ مَا يَكْرَهُونَهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لمْ يَعْذُرُوهُ بِالقَدَرِ، بَل يُقَابِلُوهُ بِالحَقِّ وَالبَاطِل، فَإِنْ كَانَ القَدَرُ حُجَّةً لهُمْ فَهُوَ حُجَّةٌ لهَؤُلاءِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ حُجَّةً لهَؤُلاءِ لمْ يَكُنْ حُجَّةً لهُمْ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَجُّ أَحَدُهُمْ بِالقَدَرِ عِنْدَ هَوَاهُ وَمَعْصِيَةِ مَوْلاهُ، لا عِنْدَ مَا يُؤْذِيهِ النَّاسُ وَيَظْلمُونَهُ. وَأَمَّا المُؤْمِنُ فَهُوَ بِالعَكْسِ فِي ذَلكَ إذَا آذَاهُ النَّاسُ نَظَرَ إلى القَدَرِ، فَصَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَإِذَا أَسَاءَ هُوَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ. كَمَا قَال تَعَالى: (فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لذَنْبِكَ) فَالمُؤْمِنُ يَصْبِرُ عَلى المَصَائِبِ وَيَسْتَغْفِرُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالمَعَايِبِ، وَالمُنَافِقُ بِالعَكْسِ لا يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبِهِ بَل يَحْتَجُّ بِالقَدَرِ، وَلا يَصْبِرُ عَلى مَا أَصَابَهُ، فَلهَذَا يَكُونُ شَقِيًّا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ وَالمُؤْمِنُ سَعِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. وَاَللهُ سُبْحَانَهُ أَعْلمُ".
</b>
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع