ابن عامر الشامي
وَعَنْ غِيبَةٍ فَغِبْ
- إنضم
- 20 ديسمبر 2010
- المشاركات
- 10,237
- النقاط
- 38
- الإقامة
- المملكة المغربية
- احفظ من كتاب الله
- بين الدفتين
- احب القراءة برواية
- رواية حفص عن عاصم
- القارئ المفضل
- سعود الشريم
- الجنس
- اخ
مواقف العلماء من إبدال الألف الممالة ياء خالصة وما ثار حوله :
لعلنا إذا عدنا إلى مؤلفات الأئمة التي تعرضت للإمالة لا نعدم فيها تحذيرا للقارئ من الإمعان فيها إمعانا يتجاوز بها القدر المرسوم لها سواء كانت إمالة صغرى أم كبرى، ولكن تقويم الأخذ بها في ضوء الواقع العملي لم يكن يومئذ يطرح إشكالا لتوافر الحذق بهذه العلوم الأدائية في العصور الأولى واتساع الرحلة في هذا الشأن إلى أهل الحذق به والرسوخ فيه، فكانت المشافهة به متأتية على الوجوه المرضية التي تلقاها الخلف عن السلف.
ثم ضرب الزمان من ضربه فبدأت هذه العلوم في التراجع، وهكذا لا تطل علينا المائة العاشرة حتى نجد الميزان يضطرب وتميل الكفة ميلا يكاد يكون كليا إلى التطفيف والخسران المبين.
وكانت قضية الإمالة إحدى هذه الهنات التي برزت بروزا واضحا في التلاوة المغربية وخاصة في الجنوب المغربي في بلاد سوس وفي جهات أخرى من المغرب فتفاقم الأمر بها وازداد سواءا بالرغم مما بذل في مقاومتها ووقفها من جهود.
موقف الشيخ أبي العلاء البدراوي بفاس (ت 1257هـ)
تعرض الشيخ أبو العلاء إدريس بن عبد الله البدراوي لقضية الإمالة في كتابه "التوضيح والبيان" الذي فرغ من تأليفه كما ذكر في آخره عام 1231هـ فقال في سياق حديثه عن أحكام الألف :
"ويجب على القارئ أن لا يخفض صوته بالألف حتى تدخله الإمالة في مذهب من لا يميله، لأنه حرف خفي شديد الخفاء لا تساع مخرجه" قال :
"ويتأكد في حق القارئ أيضا أن يتحفظ في المواضع التي تثبت فيها إمالة الألف عن أن ينقلب في لفظه ياء خالصة كما يفعله جل الناس، وذلك من التحريف البين والله أعلم"([1]).
فقول الشيخ البدراوي "كما يفعله جل الناس" يدل على ما قلناه من شيوع هذا الاستعمال لهذا العهد، وأحسب أنه لو كان فيه أدنى شبهة جواز لما تردد المتسامحون في إدراجه فيما جرى به العمل.
ولكونه كذلك فقد ظل علماء الفن ينكرونه على العوام ويعتبرونه من الأوضاع الشائنة التي تسللت إلى التلاوة المغربية في جملة ما تسلل إليها بسبب التفريط في الالتزام التام بقواعد التجويد وعلومه([2]).
وهذا القارئ الصحراوي الشيخ علي بن أف الشنقيطي المعروف بـ"عال ولد أف "يذكر هذا الإستعمال المزري في جملة ما انتقده في أرجوزته الآنفة الذكر التي انتقد فيها إبدال همزة بين بين هاء خالصة فيقول :
"وقرأوا إمالة كبراها
لذاك لم يجز لأهل البلد
أن يقرأوا "طه" بقول الأزرق
صغرى وذي الصغرى بما خلاها
قبيل أخذهم لقار مهتد
إذ شيخه القارئ بالصغرى اتق([3]).
فها هو الشيخ عال ينتقد هذا التخليط في تلاوة أهل بلده بين الكبرى والصغرى ويهيب بأهل البلد أن يتركوا القراءة بالإمالة للأزرق في "طه" وهي الإمالة المحضة الوحيدة في طريقه كما سيأتي، حتى يأخذوا القراءة على وجهها من قارئ مهتد إن وجدوه.
مواقف علماء سوس وقرائها :
ولعل العراك حول قضية النطق بالإمالة ياء خالصة لم يبلغ في جهة من جهات المغرب ما بلغه في سوس في أثناء المائة الثالثة عشرة وما بعدها، حيث نجد عددا من مشاهير العلماء والقراء قد تدافعوا إلى معمعته بين منكر على أهل هذا الإستعمال يدعو إلى العودة إلى القراءة بالفتح فقط، وبين مدافع عن الإمالة ولزوم الأخذ بها لثبوتها في الرواية التي عليها الأخذ في التلاوة المغربية بقطع النظر عن التمكن من أدائها على الوجه المطلوب أو عدمه.
1- موقف الشيخ عبد الرحمن الجشتيمي :
كان للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الجشتيمي (1185-1269) شفوف كبير على أهل زمنه بسوس، وقد عده الشيخ محمد المختار السوسي في طليعة علماء "التمليين" "من الأسرة الجشتيمية البكرية، وأبرز عالم من علماء جزولة في أواسط القرن الماضي، "وذكر عددا من شيوخه وقال : "توجه إلى التدريس في مدرسة "أبي النذر" وفي مدرسة" أكشتيم" ببلده فدرس وخرج وأفتى وقضى " في تفاصيل واسعة ذكرها عنه وعن عدد من أهل بيته.
ويهمنا منه هنا أنه كان في جملة من تصدى لقراء زمنه بالإنكار في قضية الإمالة، ولعله ألف في ذلك وحاضر وبقي لنا من ذلك هذه القطعة التي نظمها وسماها" نصيحة للقراء والمقرئين" وهذا نصها:
أمغشر من يقرا القرآن ومن يقري
فديتكم راعوا الذي حق للذكر
من إجلال في تحسين ترتيله مع الخضوع له والفكر في ءاياته الغر
وإياكم قصرا لممدوده وأن
وأن تكسروا الحرف الممال بل إلزموا
فقد كان في القراء مختار فتحه
ولا تحقروا تغيير حرف تعمدا
نسال إله العرش توفيقنا وأن
تمدوا الذي قد كان أنزل بالقصر
له الفتح إذ علم الإمالة في القبر
ولم يك من يقرا بالإخلاص للكسر
فقد عده "القاضي عياض" من الكفر([4])
يمن بجبر الكسر والغفر للوزر([5]).
إنها دعوة إلى هجران الإمالة هجرانا كليا والعودة بالقراءة إلى الفتح، إذ لم يعد هناك مطمع في تصحيح اللفظ بها، فقد مات أهل الإتقان، وذخلت معهم معارفهم القبور، ثم إن الذي يقرأ بالفتح الخالص يجد له على الأقل سلفا من أئمة القراء أخذوا به وانتظمت اختياراتهم عليه، وأما القراءة بإخلاص الكسر- يعني في الألف الممال فليس للأخذ بها سند ولا سلف يتعلل به ويتبع سننه وسبيله.
2- موقف الشيخ محمد بن العربي الأدوزي الباعقيلي (1249-1323).
قاد الشيخ محمد بن العربي بن إبراهيم الأدوزري البعقيلي رحا هذه المعركة ضد عدد من مشاهير قراء زمنه، وكان-كما وصفه العلامة محمد المختار السوسي مؤرخ هذه الجهة- خلفا لوالده في "المدرسة الأدوزية بجزولة الجنوبية" وفيها مائتان من التلاميذ فيما يقوله أحدهم من المعمرين، فقام بعبئها بمنكب فحل قرم لا يقذع أنفه، كان إماما في الفنون، ونبراسا في المعضلات، وصارما في البدع، وأريحيا فكها في الآداب، وجبلا في السنة..ألف خمسة وعشرين مؤلفا في النحو والفقه والبيان والسيرة وغيرها، وذلك ما فاق به معاصريه السوسيين…
وأما ديانته وجرأته في الحق فمثل يضرب، فما نزلت حادثة خولف فيها الحق في رأيه حتى نراه يتصدى لردها بلسانه وقلمه والمناداة في الأسواق على رؤوس الناس، وكانت "ولتيتة" إلى "آيت باعمران" أذ نا لما يقول"([6]).
وذكر له في "سوس العالمة" "ثلاثة وثلاثين كتابا ما بين نظم ونثر وتأليف وشرح عليه في مختلف العلوم، وذكر من جملتها الكتاب الذي يعنينا هنا في قضية الإمالة وهو كتابه "حكم اللحن في القرءان"([7]).
وأشار السوسي في ترجمة المقرئ المشهور "الحاج علي بو الوجوه البعقيلي إلى أنه كان السبب في تأليفه لهذا الكتاب، وهذا يكشف لنا عن جانب من جوانب هذه المعركة وعن طرف من أطرافها الممثلين لطبقة القراء الذين ثارت ثائرة الشيخ ابن العربي عليهم حتى ألف في نقض مذاهبهم، ومنع من القراءة بالإمالة بالمرة سدا للذريعة كما تقدم وقطعا لدابر هذه الفتنة التي عمت منطقة سوس بكاملها.
يقول السوسي في ترجمة أبي الوجوه المذكور :
"تخرج ب"أنجار"([8])، ثم تصدى في بعقيلة وسملالة وآيت صواب لنشر القراءات…وهو الذي ثاوره ابن العربي الأدوزي في وجه إظهار الكسرة في الإمالة، فينادي به وبأمثاله في الأسواق بأنهم يمرقون في تلاوة لقرآن، وأنه لا يصلى وراءهم، وهو السبب حتى ألف الاستاذ المذكور مؤلفا في لحن القرءان، توفي عن سن عالية بعد 1340هـ، درس في "البومروانية" وفي "الأفاوزورية"([9]).
رسالة في الموضوع إلى الشيخ ابن العربي الأدوزي :
ولقد وقفت على رسالة في الموضوع ببعض الخزائن الخاصة بسوس موجهة إلى الشيخ محمد بن العربي الأدوزي من السيد عبد الرحمن من تيفر سين بسوس جاء فيها قوله :
"محبنا الأرض وخليلنا الأصفى، العلامة سيدي محمد بن العربي، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته-…فالغرض الأهم من سيدي إرسال الكتاب لحامله أولا، وثانيا جوابكم الشافي ونصكم الكافي عن مسألة "الإمالة"..لأن هذا الأمر طالما أشكل علي، وقد كان أبي- رحمه الله- ينهاني ويزجرني ويغلظ علي القول في صغري عند إبدالي الألف بالياء في سورة "سبح" في "فسوى" و"فهدى" وما أشبه ذلك.
وسبب الإشكال في ذلك أن المعنى يتغير بذلك، كقوله تعالى "مسمى" مثلا "والنار" والجار".
وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة، وأن القراءة غير جائزة بها، فإذا تعذرت وجب الرجوع إلى الأصل وهو الأصل، واحتجنا إلى دليل، فإذا وجدتم على ذلك دليلا واضحا ونصا صريحا فـأعلمنا بذلك..والسلام من قصير الباع السائل للإفادة: عبد الرحمن من([10]) تيفرسين".
إن تدبر هذه الرسالة يدلنا على أن موقف العلماء من هذه القضية وإن كان مناوئا لأصحاب الكسر الخالص، فإنه أيضا ليس موافقا لما ذهب إليه الشيخ ابن العربي من ترك الإمالة بالمرة لتعذر النطق بها على وجهها كما ذكره في هذه الرسالة. كما يدل قوله فيها "وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة" على أن السائل سبق له أن راسله في ذلك وسبق للشيخ أن أجابه بما لم يشف عنده غليلا، ولذلك أعاد الكرة يطالبه بدعم دعوته بما يشهد لها من دليل واضح ونص صريح، وهذه الرسالة على وجازتها تعطينا صورة عن المستوى الذي عولجت فيه المسألة من جهة البحث والتمحيص، وأنها تحولت إلى موضوع شاغل حاول فيه كل فريق أن يدعم موقفه بما يشهد له ويزكيه.
إلا أن الأمر لم يؤخذ فيما يبدو بعين الجد أو ينظر إليه بروح الإنصاف من لدن كبار المقرئين الذين ربما استشعروا نوعا من الأنفة من الاعتراض عليهم، الأمر الذي زاد في وقود المعركة حتى تحولت إلى ما حكاه السوسي من المناداة على المخالفين في الأسواق وإصدار الفتاوي ببطلان الصلاة خلفهم لمروقهم في تلاوة القرآن كما قدمنا.
ولعلنا لو أتيح لنا الوقوف على أكثر مما وفقنا عليه من آثار هذه الخصوصة وحصادها العلمي لوجدنا سيلا من الرسائل والمؤلفات والمناظرات، ولعل من تتبع ذلك على وجه الخصوص في خزائن مخطوطات هذه الجهة سيقف منه على جانب كبير.
وقد وفقت على إشارة في بعض التراجم في "المعسول" على ما يدل على أن القضية ظلت قائمة لم تحسم، فقد ذكر السوسي- رحمه الله- في ترجمة القاضي السيد موسى بن العربي الرسموكي ( 1361هـ) أن له جوابا عن سؤال حول جعل الإمالة بإخلاص الكسر، ولعل السوسي قد وقف عليه لأنه قال بعد ما تقدم: "يراجع فهو مفيد"([11]).
هذا وإن هذه الجهود إنما آتت أكلا محدودا في صرف الناس عما ألفوه بعد أن تمكن في ساحة الإقراء تمكنا بعيدا لا نزال نسمع بقاياه في ألفاظ السوسيين بكلمات معينة منها ما يقرأ لورش بالإمالة الصغرى كالكافرين وكافرين وما يقرأ له بالكبرى وهو الهاء من "طه"، إلا قليلا ممن راجع الصواب وأقلع عما نشأ عليه منذ أن دخل الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-التوضيح والبيان في مقرأ الإمام نافع بن عبد الرحمن 41.
[2]-نبه على بعض هذه الأوضاع الدكتور الحسن وكاك في تحقيقه لكتاب "تقييد وقف القرءان الكريم" للشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي 104 بالهامش رقم 145.
[3]-سبق ذكر قسم من أرجوزة الشيخ عال ولد أف وهي من اسهامات علماء شنقيط في علوم التجويد.
[4]- يشير إلى ما نسبه إليه أبو عبد الله الخراز في قوله في مورد الظمآن
(قال عياض أنه من غير حرفا من القرآن عمدا كفرا)
[5]- *** في خزانة خاصة.
[6]- كتاب رجالات العلم العربي في سوس لمحمد المختار السوسي 126-127.
[7]- سوس العالمة 204-205.
[8]-هو أبو العباس أحمد بن إبراهيم البوجرفاوي الباعمراني السوسي المعروف بالنجاري أو"أنجار" بالسوسية ترجمنا له في الطرق عن الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي بسوس وله ترجمة في المعسول للسوسي 18/123-124.
[9]-رجالات العلم العربي في سوس 225.
[10]-كذا في أسفل الرسالة الخطية، وما أدري أهي بالميم (من) أم هي "بن" ونسب نفسه إلى ذلك لأنه اشتهر به، ولم أقف لصاحب الرسالة لمذكورة على ترجمة.
[11]-المعسول 18/26-27 وله ترجمة أيضا في "رجالات العلم العربي بسوس" 240.
منقول من كتاب تاريخ قراءة نافع عند المعاربة للشيخ عبد الهادي حميتو الجزء الخامس
لعلنا إذا عدنا إلى مؤلفات الأئمة التي تعرضت للإمالة لا نعدم فيها تحذيرا للقارئ من الإمعان فيها إمعانا يتجاوز بها القدر المرسوم لها سواء كانت إمالة صغرى أم كبرى، ولكن تقويم الأخذ بها في ضوء الواقع العملي لم يكن يومئذ يطرح إشكالا لتوافر الحذق بهذه العلوم الأدائية في العصور الأولى واتساع الرحلة في هذا الشأن إلى أهل الحذق به والرسوخ فيه، فكانت المشافهة به متأتية على الوجوه المرضية التي تلقاها الخلف عن السلف.
ثم ضرب الزمان من ضربه فبدأت هذه العلوم في التراجع، وهكذا لا تطل علينا المائة العاشرة حتى نجد الميزان يضطرب وتميل الكفة ميلا يكاد يكون كليا إلى التطفيف والخسران المبين.
وكانت قضية الإمالة إحدى هذه الهنات التي برزت بروزا واضحا في التلاوة المغربية وخاصة في الجنوب المغربي في بلاد سوس وفي جهات أخرى من المغرب فتفاقم الأمر بها وازداد سواءا بالرغم مما بذل في مقاومتها ووقفها من جهود.
موقف الشيخ أبي العلاء البدراوي بفاس (ت 1257هـ)
تعرض الشيخ أبو العلاء إدريس بن عبد الله البدراوي لقضية الإمالة في كتابه "التوضيح والبيان" الذي فرغ من تأليفه كما ذكر في آخره عام 1231هـ فقال في سياق حديثه عن أحكام الألف :
"ويجب على القارئ أن لا يخفض صوته بالألف حتى تدخله الإمالة في مذهب من لا يميله، لأنه حرف خفي شديد الخفاء لا تساع مخرجه" قال :
"ويتأكد في حق القارئ أيضا أن يتحفظ في المواضع التي تثبت فيها إمالة الألف عن أن ينقلب في لفظه ياء خالصة كما يفعله جل الناس، وذلك من التحريف البين والله أعلم"([1]).
فقول الشيخ البدراوي "كما يفعله جل الناس" يدل على ما قلناه من شيوع هذا الاستعمال لهذا العهد، وأحسب أنه لو كان فيه أدنى شبهة جواز لما تردد المتسامحون في إدراجه فيما جرى به العمل.
ولكونه كذلك فقد ظل علماء الفن ينكرونه على العوام ويعتبرونه من الأوضاع الشائنة التي تسللت إلى التلاوة المغربية في جملة ما تسلل إليها بسبب التفريط في الالتزام التام بقواعد التجويد وعلومه([2]).
وهذا القارئ الصحراوي الشيخ علي بن أف الشنقيطي المعروف بـ"عال ولد أف "يذكر هذا الإستعمال المزري في جملة ما انتقده في أرجوزته الآنفة الذكر التي انتقد فيها إبدال همزة بين بين هاء خالصة فيقول :
"وقرأوا إمالة كبراها
لذاك لم يجز لأهل البلد
أن يقرأوا "طه" بقول الأزرق
صغرى وذي الصغرى بما خلاها
قبيل أخذهم لقار مهتد
إذ شيخه القارئ بالصغرى اتق([3]).
فها هو الشيخ عال ينتقد هذا التخليط في تلاوة أهل بلده بين الكبرى والصغرى ويهيب بأهل البلد أن يتركوا القراءة بالإمالة للأزرق في "طه" وهي الإمالة المحضة الوحيدة في طريقه كما سيأتي، حتى يأخذوا القراءة على وجهها من قارئ مهتد إن وجدوه.
مواقف علماء سوس وقرائها :
ولعل العراك حول قضية النطق بالإمالة ياء خالصة لم يبلغ في جهة من جهات المغرب ما بلغه في سوس في أثناء المائة الثالثة عشرة وما بعدها، حيث نجد عددا من مشاهير العلماء والقراء قد تدافعوا إلى معمعته بين منكر على أهل هذا الإستعمال يدعو إلى العودة إلى القراءة بالفتح فقط، وبين مدافع عن الإمالة ولزوم الأخذ بها لثبوتها في الرواية التي عليها الأخذ في التلاوة المغربية بقطع النظر عن التمكن من أدائها على الوجه المطلوب أو عدمه.
1- موقف الشيخ عبد الرحمن الجشتيمي :
كان للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الجشتيمي (1185-1269) شفوف كبير على أهل زمنه بسوس، وقد عده الشيخ محمد المختار السوسي في طليعة علماء "التمليين" "من الأسرة الجشتيمية البكرية، وأبرز عالم من علماء جزولة في أواسط القرن الماضي، "وذكر عددا من شيوخه وقال : "توجه إلى التدريس في مدرسة "أبي النذر" وفي مدرسة" أكشتيم" ببلده فدرس وخرج وأفتى وقضى " في تفاصيل واسعة ذكرها عنه وعن عدد من أهل بيته.
ويهمنا منه هنا أنه كان في جملة من تصدى لقراء زمنه بالإنكار في قضية الإمالة، ولعله ألف في ذلك وحاضر وبقي لنا من ذلك هذه القطعة التي نظمها وسماها" نصيحة للقراء والمقرئين" وهذا نصها:
أمغشر من يقرا القرآن ومن يقري
فديتكم راعوا الذي حق للذكر
من إجلال في تحسين ترتيله مع الخضوع له والفكر في ءاياته الغر
وإياكم قصرا لممدوده وأن
وأن تكسروا الحرف الممال بل إلزموا
فقد كان في القراء مختار فتحه
ولا تحقروا تغيير حرف تعمدا
نسال إله العرش توفيقنا وأن
تمدوا الذي قد كان أنزل بالقصر
له الفتح إذ علم الإمالة في القبر
ولم يك من يقرا بالإخلاص للكسر
فقد عده "القاضي عياض" من الكفر([4])
يمن بجبر الكسر والغفر للوزر([5]).
إنها دعوة إلى هجران الإمالة هجرانا كليا والعودة بالقراءة إلى الفتح، إذ لم يعد هناك مطمع في تصحيح اللفظ بها، فقد مات أهل الإتقان، وذخلت معهم معارفهم القبور، ثم إن الذي يقرأ بالفتح الخالص يجد له على الأقل سلفا من أئمة القراء أخذوا به وانتظمت اختياراتهم عليه، وأما القراءة بإخلاص الكسر- يعني في الألف الممال فليس للأخذ بها سند ولا سلف يتعلل به ويتبع سننه وسبيله.
2- موقف الشيخ محمد بن العربي الأدوزي الباعقيلي (1249-1323).
قاد الشيخ محمد بن العربي بن إبراهيم الأدوزري البعقيلي رحا هذه المعركة ضد عدد من مشاهير قراء زمنه، وكان-كما وصفه العلامة محمد المختار السوسي مؤرخ هذه الجهة- خلفا لوالده في "المدرسة الأدوزية بجزولة الجنوبية" وفيها مائتان من التلاميذ فيما يقوله أحدهم من المعمرين، فقام بعبئها بمنكب فحل قرم لا يقذع أنفه، كان إماما في الفنون، ونبراسا في المعضلات، وصارما في البدع، وأريحيا فكها في الآداب، وجبلا في السنة..ألف خمسة وعشرين مؤلفا في النحو والفقه والبيان والسيرة وغيرها، وذلك ما فاق به معاصريه السوسيين…
وأما ديانته وجرأته في الحق فمثل يضرب، فما نزلت حادثة خولف فيها الحق في رأيه حتى نراه يتصدى لردها بلسانه وقلمه والمناداة في الأسواق على رؤوس الناس، وكانت "ولتيتة" إلى "آيت باعمران" أذ نا لما يقول"([6]).
وذكر له في "سوس العالمة" "ثلاثة وثلاثين كتابا ما بين نظم ونثر وتأليف وشرح عليه في مختلف العلوم، وذكر من جملتها الكتاب الذي يعنينا هنا في قضية الإمالة وهو كتابه "حكم اللحن في القرءان"([7]).
وأشار السوسي في ترجمة المقرئ المشهور "الحاج علي بو الوجوه البعقيلي إلى أنه كان السبب في تأليفه لهذا الكتاب، وهذا يكشف لنا عن جانب من جوانب هذه المعركة وعن طرف من أطرافها الممثلين لطبقة القراء الذين ثارت ثائرة الشيخ ابن العربي عليهم حتى ألف في نقض مذاهبهم، ومنع من القراءة بالإمالة بالمرة سدا للذريعة كما تقدم وقطعا لدابر هذه الفتنة التي عمت منطقة سوس بكاملها.
يقول السوسي في ترجمة أبي الوجوه المذكور :
"تخرج ب"أنجار"([8])، ثم تصدى في بعقيلة وسملالة وآيت صواب لنشر القراءات…وهو الذي ثاوره ابن العربي الأدوزي في وجه إظهار الكسرة في الإمالة، فينادي به وبأمثاله في الأسواق بأنهم يمرقون في تلاوة لقرآن، وأنه لا يصلى وراءهم، وهو السبب حتى ألف الاستاذ المذكور مؤلفا في لحن القرءان، توفي عن سن عالية بعد 1340هـ، درس في "البومروانية" وفي "الأفاوزورية"([9]).
رسالة في الموضوع إلى الشيخ ابن العربي الأدوزي :
ولقد وقفت على رسالة في الموضوع ببعض الخزائن الخاصة بسوس موجهة إلى الشيخ محمد بن العربي الأدوزي من السيد عبد الرحمن من تيفر سين بسوس جاء فيها قوله :
"محبنا الأرض وخليلنا الأصفى، العلامة سيدي محمد بن العربي، عليكم السلام ورحمة الله وبركاته-…فالغرض الأهم من سيدي إرسال الكتاب لحامله أولا، وثانيا جوابكم الشافي ونصكم الكافي عن مسألة "الإمالة"..لأن هذا الأمر طالما أشكل علي، وقد كان أبي- رحمه الله- ينهاني ويزجرني ويغلظ علي القول في صغري عند إبدالي الألف بالياء في سورة "سبح" في "فسوى" و"فهدى" وما أشبه ذلك.
وسبب الإشكال في ذلك أن المعنى يتغير بذلك، كقوله تعالى "مسمى" مثلا "والنار" والجار".
وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة، وأن القراءة غير جائزة بها، فإذا تعذرت وجب الرجوع إلى الأصل وهو الأصل، واحتجنا إلى دليل، فإذا وجدتم على ذلك دليلا واضحا ونصا صريحا فـأعلمنا بذلك..والسلام من قصير الباع السائل للإفادة: عبد الرحمن من([10]) تيفرسين".
إن تدبر هذه الرسالة يدلنا على أن موقف العلماء من هذه القضية وإن كان مناوئا لأصحاب الكسر الخالص، فإنه أيضا ليس موافقا لما ذهب إليه الشيخ ابن العربي من ترك الإمالة بالمرة لتعذر النطق بها على وجهها كما ذكره في هذه الرسالة. كما يدل قوله فيها "وقد استفدنا من جوابكم أن الإمالة متعذرة" على أن السائل سبق له أن راسله في ذلك وسبق للشيخ أن أجابه بما لم يشف عنده غليلا، ولذلك أعاد الكرة يطالبه بدعم دعوته بما يشهد لها من دليل واضح ونص صريح، وهذه الرسالة على وجازتها تعطينا صورة عن المستوى الذي عولجت فيه المسألة من جهة البحث والتمحيص، وأنها تحولت إلى موضوع شاغل حاول فيه كل فريق أن يدعم موقفه بما يشهد له ويزكيه.
إلا أن الأمر لم يؤخذ فيما يبدو بعين الجد أو ينظر إليه بروح الإنصاف من لدن كبار المقرئين الذين ربما استشعروا نوعا من الأنفة من الاعتراض عليهم، الأمر الذي زاد في وقود المعركة حتى تحولت إلى ما حكاه السوسي من المناداة على المخالفين في الأسواق وإصدار الفتاوي ببطلان الصلاة خلفهم لمروقهم في تلاوة القرآن كما قدمنا.
ولعلنا لو أتيح لنا الوقوف على أكثر مما وفقنا عليه من آثار هذه الخصوصة وحصادها العلمي لوجدنا سيلا من الرسائل والمؤلفات والمناظرات، ولعل من تتبع ذلك على وجه الخصوص في خزائن مخطوطات هذه الجهة سيقف منه على جانب كبير.
وقد وفقت على إشارة في بعض التراجم في "المعسول" على ما يدل على أن القضية ظلت قائمة لم تحسم، فقد ذكر السوسي- رحمه الله- في ترجمة القاضي السيد موسى بن العربي الرسموكي ( 1361هـ) أن له جوابا عن سؤال حول جعل الإمالة بإخلاص الكسر، ولعل السوسي قد وقف عليه لأنه قال بعد ما تقدم: "يراجع فهو مفيد"([11]).
هذا وإن هذه الجهود إنما آتت أكلا محدودا في صرف الناس عما ألفوه بعد أن تمكن في ساحة الإقراء تمكنا بعيدا لا نزال نسمع بقاياه في ألفاظ السوسيين بكلمات معينة منها ما يقرأ لورش بالإمالة الصغرى كالكافرين وكافرين وما يقرأ له بالكبرى وهو الهاء من "طه"، إلا قليلا ممن راجع الصواب وأقلع عما نشأ عليه منذ أن دخل الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-التوضيح والبيان في مقرأ الإمام نافع بن عبد الرحمن 41.
[2]-نبه على بعض هذه الأوضاع الدكتور الحسن وكاك في تحقيقه لكتاب "تقييد وقف القرءان الكريم" للشيخ محمد بن أبي جمعة الهبطي 104 بالهامش رقم 145.
[3]-سبق ذكر قسم من أرجوزة الشيخ عال ولد أف وهي من اسهامات علماء شنقيط في علوم التجويد.
[4]- يشير إلى ما نسبه إليه أبو عبد الله الخراز في قوله في مورد الظمآن
(قال عياض أنه من غير حرفا من القرآن عمدا كفرا)
[5]- *** في خزانة خاصة.
[6]- كتاب رجالات العلم العربي في سوس لمحمد المختار السوسي 126-127.
[7]- سوس العالمة 204-205.
[8]-هو أبو العباس أحمد بن إبراهيم البوجرفاوي الباعمراني السوسي المعروف بالنجاري أو"أنجار" بالسوسية ترجمنا له في الطرق عن الشيخ محمد بن عبد السلام الفاسي بسوس وله ترجمة في المعسول للسوسي 18/123-124.
[9]-رجالات العلم العربي في سوس 225.
[10]-كذا في أسفل الرسالة الخطية، وما أدري أهي بالميم (من) أم هي "بن" ونسب نفسه إلى ذلك لأنه اشتهر به، ولم أقف لصاحب الرسالة لمذكورة على ترجمة.
[11]-المعسول 18/26-27 وله ترجمة أيضا في "رجالات العلم العربي بسوس" 240.
منقول من كتاب تاريخ قراءة نافع عند المعاربة للشيخ عبد الهادي حميتو الجزء الخامس
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع