طالب الماهر
مدير عام
- إنضم
- 15 مارس 2012
- المشاركات
- 946
- النقاط
- 16
- الإقامة
- غرف الماهر الصوتية
- الموقع الالكتروني
- www.qoranona.com
- احفظ من كتاب الله
- .
- احب القراءة برواية
- ورش عن نافع من طريق الأزرق
- القارئ المفضل
- المنشاوي - الحصري
- الجنس
- أخ
بسم الله الرحمن الرحيم
مختصر ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا )
الأستاذ / محمود محمد شاكـر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد .
روى أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
(ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه) صحيح الترغيب 2751 " .
هذا الحديث هو ما افتتح به الشيخ شاكر رسالته المباركة " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا " والتي بين فيها الشيخ الأستاذ أنه لبث عشر سنوات من شبابه في حيرة وشكوك من تلك الحياة الأدبية الفاسدة التي كان منغمساً فيها من كل وجه ، فخاف على نفسه الهلاك ، وأن يخسر دنياه وآخرته ، وكان في هذه الفترة في السابعة عشرة من عمره عام 1926 م وحتى بلغ السابعة والعشرين من عمره عام 1936 م ، وهذا الخوف أدى به إلى قراءة كل ما وقع تحت يديه من الشعر العربى بتمهلٍ ، وتدبرٍ ، ونظرٍ في طريقِ البحث عن الحق ، فأكسبته هذه المرحلة تذوقً للغة الشعر ثم همّ بقراءة كل ما وقع تحت يديه من كتب السلف من تفسير للقرآن إلى علوم القرآن إلى دواوين السنة وشروحها إلى ما تفرع منها من كتب المصطلح ، وكتب الرجال ، والجرح والتعديل إلى كتب الفقه وأصوله ، وكتب الملل والنحل ثم كُتُبْ الأدب ، والبلاغة ، والنحو ، والصرف ، وما شئت من أبواب العلم ، فمنَّ الله - عز وجل - عليه بعد هذا بابتكار منهج يسمى " منهج التذوق" ، وهو تذوق الكلام العربي وما يقصد به وما وراءه من معاني .
ولكنه خرج بكشف غريب وهو أن الأمة الإسلامية من بعد الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى القرن الحادي عشر الهجري كانت في علو وهمة وتقييدٍ لعلمها واعتزاز بتراثها ثم حدثت فجوة !
وقبل الكلام عن هذه الفجوة يجب أن تعلم أن حفظ ثقافة العرب منذ 1400 سنة إلى الآن ، هو أن الثقافة عندهم هي الدين ، وإهمال البحث عن أسباب تلك الفجوة التي حدثت في التراث العربي الذي هو الدين " جبناً عن طلب الحق " .
فنرجع إلى سنة 489 هـ الموافق 1096 م أي بعد ستة قرون من سقوط الحضارة الرومانية ، وظهور دولة الإسلام بدينه وثقافته ، وبسط ملكه على رقعة تبدأ من حدود الصين إلى الهند ومن أقصى الأندلس إلى قلب أفريقية ، وأنشأ حضارة نبيلة متماسكة بعد أن رد النصرانية وأخرجها من الأرض وحصرها في الرقعة الشمالية التي فيها هؤلاء الهمج الرعاع الذين يعرفون اليوم بإسم أوربة ، ولما طال الزمان عن هؤلاء النصارى الفارين في الشمال ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا يذكر مع جيوش المسلمين ، رأوا أن يُدخلوا السكان الأصليين لأوربة في النصرانية حتى يكونوا جنداً لجيوش جرارة تُطْبق على ثغور الإسلام وعواصمه ، وانطلق الرهبان يجوبون شمال أوروبة ليُدخلوا هؤلاء السكان السكسون الهمج في النصرانية وإعدادهم لخوض المعركة العظمى ، وكان جزءً من هذا الإعداد تشنيع الإسلام في عيونهم ، وأن أهل الإسلام وثنيون ، وأن رسول الإسلام كان وكان ، فلم يتركوا باباً من الكذبِ والتمويه إلا دخلوه ، وجاءت اللحظة وأصبح هؤلاء الرعاع من السكسون جيشاً بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع وبدأت ما تسمى بالحروب الصليبية التي استمرت قرنين كاملين ، تسفك الدماء المسلمة وتكتسح ثغور الإسلام وعواصمه الشمالية ، وكانت فرحة رائعة لهؤلاء الرهبان ، لكنها لم تستمر حتى انتهت بالإخفاق واليأس من حربِ أهل الإسلام ، وذلك كان في عام 690 هـ الموافق 1291م، لكنها تركت بصيصاً من اليقظة والتنبه لهؤلاء الهمج من المقاتلين باحتكاكهم المستمر بحضارة راقية كانت تفتنهم وتبعث في نفوسهم الشك مما كانوا يسمعوا عنها من الرهبان ، وبعد أن بَطُل عمل السلاح بالإخفاق واليأس ، خمدت الحروب بين الإسلام والصليب نحو قرن ونصف ، ثم وقعت الواقعة واكتُسحت الأراضي المسيحية في آسيا في شمال الشام ودخلت برمتها في حوزة الإسلام ، وفي يوم الثلاثاء 2 من جمادى الأولى سنة 857 هـ الموافق 29 مايو 1453 م . سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ودخلها محمد الفاتح بالتكبير والتهليل ، وارتفع الأذان في طرف أوروبة الشرقي ، وأيقنت النصرانية أن المواجهة مع الإسلام لا تفيد بعد دخول الناس في الإسلام طوعاً لا كرها، كانوا بالأمس نصارى متحمسين في قتال المسلمين الوثنين واليوم أصبحوا هم جند الإسلام ، فلجؤوا إلى سلاح آخر خفي ..... فانبعث منهم رجال يطلبون العلم والمعرفة في أرض الإسلام ما استطاعوا ، في المشرق والأندلس .
وظهر رجال من طبقة " روجر بيكين " الإنجليزي الذي جاهد في التعلم جهاداً مستميت حتى يخرج نفسه وأهله من عوامل الجهل .
وقضى الله في السابع عشر من جمادى الآخرة 690 هـ الموافق 17يونية 1291م سقوط آخر حصن كان للصليبين في الشام ، ورجعت آخر ملوك الحملات الصليبية الى أوربة بالخزى والعار ، وبدأ إعجاب المسلمين بكثرتهم وغيرتهم الحياة الدنيا ،ووقعوا في محارم الله سبحانه ، أما في الجهة الأخرى المسيحية في دأب لا يعوقه ملل لإصلاح الخلل الواقع في الحياة المسيحية منذ دخول محمد الفاتح القسطنطينية قبل صلاة العصر، حيث اتجه إلى كنيسة أيا صوفيا ، فوجدهم يصلون فأمرهم بالإتمام ، ولما جاء وقت العصر أذّنوا وصلوا وتحولت لمسجد ، ومن حينها اهتزت أوربة كلها ولم يبق عليها راهب ، ولا ملك ، ولا أمير ، ولا صعلوك إلا انتفض انتفاضة الغضب لدينه ، وهَـّم القساوسة ، والساسة لتوحيد اللغة ، وإلقاء ما تعلموه من ثقافة المسلمين على هؤلاء الرعاع الهمج لكي يتخصلوا من رعب المسلمين في نفوسهم .
وقاموا بتعلم اللسان العربي لأنه مفتاح العلوم في دار المسلمين ، فبعثوا أفواجا إلى ديار المسلمين تجمع الكتب شراء أو سرقة ، وتتعلم لكى تمُد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفسية في بلاد الإسلام ، وكان أهم ما لاحظوه هذه الغفلة المطبقة على أرض الإسلام والتي أورثهم إياها الاستنامة إلى النصر القديم على المسيحية ، والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية ، ثم سماحة أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم مع من دينه يخالف دينهم ولا سيما اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب وذمة ، ومن هذا الباب دخلوا وداهنوا العامة والعلماء ، ينافقونهم بالمكر والخداع ، وأنهم طلاب علم لا غير ، خالصة قلوبهم لحب العلم والمعرفة ، ومن يؤمئذ نشأت هذه الطبقة من الأوربيين التي عرفت فيما بعد بالمستشرقين ، ثم أمد هؤلاء المستشرقين الساسة الأوربيين بالمعلومات اللازمة لغزو بلاد المسلمين والاستيلاء على كنوزها ، وهذه الفئة من الساسة تسمى برجال الاستعمار الذين ألقوا في قلوب رجال الكنيسة الحمية مرة أخرى لكي يُنَصّروا المسلمين في بلاد الإسلام وسموا بالمبشرين ، ووقع تحت يد الاستشراق آلاف مؤلفة من مخطوطات وكتب في ديار الإسلام ، نفيسة ومنتقاه ( مشتراة أو مسروقة ) موزعة ومفرقة في جميع أرجاء أوروبا وأديرتها ومكاتبها " من كتب الدين ، واللغة ، والتاريخ ، والطب ، والرياضة ، والصناعات ، وآلالات ، كل ذلك يدرسونه بدقة ، ونظام ، وترتيب ، ولصد المسيحيين عن الإسلام وحتى لا يُفتَنوا به كما حدث من قبل ، كتبوا كتباً عن أهل الإسلام أنهم جهال جاءهم رجل إدعى أنه نبى وخلط بين النصرانية واليهودية وقام بفتح البلاد بالسيف لنشر دينه ، وثقافتهم مسروقة من اليونان وغيرهم ، وأن علماءهم من غير العرب إلى غير ذلك .... ، وسقطت الأندلس كلها بعد أربعين سنة من فتح القسطنطينية 897 هـ ، ثم فُقدت دار الخلافة في القسطنطينية بعد مرور مائتا عام على فتحها ، فأيقظت هذه الحادثة بعض رجال المسلمين الذين قاموا لإيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها ، رجال عظماء أحسوا بالخطر المحيط بأمتهم فهبوا بلا تواطؤ بينهم ، من هؤلاء الرجال خمسة: هم عبد القادر بن عمر البغدادي" صاحب خزانة الأدب وكان في منتصف القرن الحادي عشر الهجري وكان في مصر ، وظهر في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب ، الذي هبَّ لمكافحة البدع والعقائد التي تُخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد ، ولم يقنع بتأليف الكتب بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب وأحدث رجة هائلة في قلب دار الإسلام .
وظهر أيضا في مصر اثنان هما:
الجبرتي الكبير وكان فقيها حنفياً أحيا التراث وجمع كتبه من كل مكان وحرص على تعلم أسراره وألفاظه ، وقضى في ذلك عشر سنين من هذا التعلم حتى دانت له الهندسة والكيمياء والصنائع الحضارية كلها حتى النجارة والخراطة ، أما الآخر فهو المرتضى الزبيدي الذي أحيا التراث اللغوي والديني وعلوم العربية، وهبَّ أيضا في ارض اليمن الإمام الشوكاني الفقيه الذي أحيا عقيدة السلف وحرم التقليد في الدين ، وحطم الفُرقة والتنابذ الذي أدى إلى الاختلاف والعصبية ، وكان ظهور هؤلاء بداية تهديد لهذه القوة الجديدة التي ظهرت في أوروبة وأصبحت هذه اليقظة في ديار الإسلام تُخَوفهم ، وعمل جهاز الاستشراق على إخماد هذه اليقظة بأن أسرعت إنجلترا إلى سواحل الجزيرة العربية لإخماد صحوة محمد بن عبد الوهاب الذي نادى بتنقية الدين مما علق به من بدع ومحدثات ، جاءت لتسيطر على تلك الصحوة وتحتويها ولكن بزي الناصر والمعين ، أما في الجهة الأخرى فجاء التدبير من الاستشراق الفرنسي لإخماد اليقظة التي حدثت في الديار المصرية ، والتي ظهر فيها من يقظة اللغة على يد الشيخين البغدادي والزبيدي ويقظة علوم الحضارة على يد الشيخ الجبرتي الكبير وتلاميذه ، وأن هذه اليقظة متمثلة في جامعين هما الجامع العتيق ( جامع عمرو بن العاص رضى الله عنه ) والجامع الأزهر وهما اسمان يترددان في أرجاء العالم الإسلامي ، فاليقظة التي تأتي من قبيلهما سوف تؤدي إلى يقظة دار الإسلام كلها ، وقيض الله لفرنسا قائدا أوروبياً محنكا ً صار اسمه مثيرا للرعب في القلوب بأنه القائد الذي لا يُقهر وهو الفاجر نابليون ، وفي 17 من المحرم سنة 1213 هـ الموافق لأول يولية سنة 1798م ، هوى نابليون على مهد اليقظة في الديار المصرية ، فنزل الإسكندرية ثم زحف إلى القاهرة ومعه جيشه ومصطحباً معه عشرات من صغار المستشرقين وكبارهم ، وطائفة من العلماء في كل فن وعلم ، ولما دخل القاهرة بدأ في استمالة المشايخ من رجال الأزهر لكي يستجيبوا له، فلما رأى امتناعهم عليه عجل فأطلق جنوده الغزاة ليستبيحوا كل شيء ، حتى دخلوا الجامع الأزهر بالخيل ، وكسروا القناديل ، وألقوا المصاحف على الأرض وداسوها بأرجلهم ، وبالوا في المسجد ، وشربوا الخمر ، ولكن بعدما أحس هذا الفاجر بغليان في الشارع المصري جراء ما حدث ، سافر إلى فرنسا وعين على الحملة كليبر الذي ضرب القاهرة بالمدافع وأخذ في تقتيل الأبرياء ، حتى منّ الله على المسلمين بسليمان الحلبى في يوم السبت 21 من المحرم سنة 1215 هـ فقتل كليبر ، ثم جاء على الحملة بعد كليبر الكذاب المنافق مينو الذي أعلن إسلامه من باب خطة الاستشراق لتسكين المسلمين ، وتزوج من إحدى بنات مدينة رشيد ، وبقى مينو في إمارته يُنْزل بالناس المصائب والبلايا حتى إجلاء الحملة من مصر في يوم الاثنين 21 ربيع الآخر سنة 1216 هـ الموافق 31 أغسطس 1801 م ، ولكنهم أخذوا ما جاؤوا إليه من كل نفيس من الكتب والعلوم وتركوا لنا رموز حجر رشيد ، ولا تظن أنهم جاؤوا لنهب الكتب والثروات العلمية فقط ولكن لتجريد بلاد الإسلام من أسباب اليقظة التي حملها الجبرتي الكبير والبغدادي والزبيدي ، وينبغي التنبيه هنا على أن نابليون قُبيل رحيله فعل أمر هام وهو إنشاء ما يسمى بالديوان ( وهو عبارة عن صورة هزلية لحكومة دستورية ، وعين عليه بعض المشايخ الذين كانت لهم هيبة عند الناس وكانوا من أعيان البلاد الذين امتازوا بمركزهم العلمي وكفاءتهم ولكنهم في الأصل مواليين للفرنسيس ، وتم اختيارهم لتنفيذ أغراض المستشرقين وتحسين صورة هؤلاء الصليبين ، فكان عملهم إماتة روح الجهاد في قلوب المسلمين ، ولكن استنكر عليهم الناس ، والتفوا حول صغار المشايخ من الأزهر لأن معهم صريح أوامر الله سبحانه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقاموا بثورة القاهرة التي هزت هذا الغزو الفرنسي ، والذي لم يفهمه نابليون أن المشايخ بخلاف القساوسة ، فإن القسيسين يحكمون بآرائهم المطلقة ، أما المشايخ فهم تحت سلطان الكتاب والسنة ، وبعدها سافر نابليون إلى فرنسا ولكنه أرسل رسالة مهمة جداً إلى كليبر وهى التي غيرت الحياة الأدبية والإسلامية في مصر والعالم العربي والإسلامي إلى يومنا هذا ، وفيها أنه قال: " ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلس أو دمياط ( اجتهد في جمع خمسمائة أو ستمائة شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف ونسفرهم إلى فرنسا وإذا لم تجد عددا كافيا من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب ومشايخ البلدان ، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يُضم إليه غيرهم . وسأهتم اهتماماً بإرسال فرقة تمثيلية لأنها ضرورة للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد" .
ولم تذهب معاناة دار الإسلام في مصر من بلايا السنوات الثلاث من فعل الفرنسيس هدراً ، فإن ثورتها على جند الحملة الفرنسية أخرجت من غمار الناس ومن مشايخ الأزهر قادة جدد ، علمهم الصراع والقتال ما لم يكونوا يعلموا ، وأصبحوا هم حماة القاهرة ، ومضت أربع سنوات على رحيل الفرنسيس ، واستقر أمر المشايخ والقادة على إسناد أمر مصر إلى رجل كانت تركية بعثته في ثلاثمائة من الجند في أواخر أيام الحملة الفرنسية كان اسمه محمد علي باشا في سنة 1801 م ، وكان " محمد علي " هذا الذي أُسند إليه أمر ولاية مصر وهو في الخامسة والثلاثين من عمره جاهلاً لم يتعلم قط شيئاً من العلوم ، وكان لا يقرأ ولا يكتب ، وقضى أكثر عمره تاجر للدخان ثم انضم إلى الجند ، ولكن كان ذكيا داهية عريق المكر يَلبس لكل حالة لبوسها وكان مغامراً لا يتورع عن كذب ولا نفاق ولا غدر ، خالط المشايخ والقادة والمماليك وأظهر لهم المودة والنصح والسلامة حتى انخدع به المشايخ والقادة وآثروا ولايته على ولاية المماليك ، فنصبوه واليا على مصر وعلى رأس من انخدع به السيد عمر مكرم أكبر قائد للمشايخ والجماهير ، فبذل كل جهده في إسناد ولاية مصر إليه ، وكان ما أراد الله أن يكون ، ولم يكن يخفي على الاستشراق أمر هذا المغامر الجديد ، فكان مُراقباً من أول يوم جاء فيه إلى القاهرة .
فلما تمت ولايته أحاطت به قناصل المسيحية الشمالية إحاطة كاملة فبدؤوا يُغيرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه واليا على مصر ، يُخَوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير المسلمين ، وصادف ذلك استجابة طبيعية لما في قلب هذا المغامر الجريء من الدهاء ، والخبث ، وترك التورع عن الغدر وإنكار الجميل ، فكان أول من غدر به هو السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي بذل كل جهده حتى ينصبه حاكما على مصر ، فنفاه إلى دمياط ثم إلى طنطا فتوفي رحمه الله في 1822 م يعني استمر نفيه عشر سنوات ، ثم استدار بعد ذلك إلى المشايخ ليقضى عليهم ، وعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة , وبدأ الاستشراق يستخدم ذلك المسلم الجاهل الأهوج لهدم الإسلام في ديار المسلمين ، ولم يكتفِ بهذا في مصر بل أمده بالسلاح والقوة لكي يقضي على اليقظة في بلاد الحجاز التي أنشأها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، ثم بعد ذلك التحول إلى الخلافة العثمانية لتفكيك وحدتها وإسقاطها ، وتمهيد للمسيحية الشمالية في بلاد المسلمين .
هذا في مصر ، أما في فرنسا فمشروع نابليون كان يسير بانتظام ، ولكن بتعديل بسيط أحدثه المسيو جُومار الذي كان على رأس المشروع ، وهو إبدال الشيوخ والمماليك من شيوخ كبار إلى شباب صغار حتى يكونوا أشد استجابة على اعتياد لغة فرنسا وتقاليدها فإذا عادوا إلى مصر كانوا حزبا لفرنسا ، وعلى مر الأيام يكبرون ويتولون المناصب صغيرها وكبيرها ويكون أثرهم أشد تأثيرا في بناء جماهير كثيرة تبث الأفكار التي يطلقونها في صميم شعب دار الإسلام في مصر ، وكان على رأس أول بعثة أرسلت إلى فرنسا ، رجل خرج مع البعثة إماما لها يصلى بهم الصلوات الخمس ويراقب أفراد البعثة وهو رفاعة الطهطاوي ابن الثالثة والعشرين من عمره الصعيدي المنشأ الأزهري الدراسة التي لم ترَ عينه سوى الريف وضواحي الأزهر القديمة المتهالكة .
فرجع بعد ست سنوات من فتنته بباريس وتلك الأبهة والنساء الكاسيات العاريات ، وتلك الحضارة الفاجرة ، عاد ليخرج مصر من الظلمات إلى النور ومن التخلف إلى التحضر وأنشاء عند رجوعه مدرسة الألسن التي كانت تدرس الآداب الغربية والتاريخ المزور ، لكي تنافس من طرف خفي الأزهر الشريف الذي أسقط هيبة مشايخه محمد علي مؤسس مصر الحديثة ، وذهب محمد على وذهب ملكه وجاء أبناؤه على نفس الضرب وسيطر عليهم الاستشراق أيضا ، ومضت الأيام حتى جاء الاحتلال الإنجليزي في 1299 هـ الموافق 15 سبتمبر 1882 ووكل أمر التعليم في مصر إلى قسيس مُبشر خبيث هو " دنلوب" ليؤسس أصول الاحتلال الإنجليزي في مصر ويُمَكن لثقافته ، ويمسخ كل ما هو إسلامي وعربي في قلوب الطلبة حتى لا تتطلع إلى ما فيه ، ولكي يملؤوا هذا الماضي المفرغ من العربية والإسلام جاؤوا بماضي بائد غامض كالفرعونية والفينيقية لكي يزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي ، وظهرت في الصحف والمجلات ظاهرة تسمى بالإرهاب الثقافي ، وتتلخص في كلمات جوفاء " القديم والجديد والتخلف ، والتحضر ، والتجديد ، والتنوير ، وثقافة العصر ، وفقه الواقع ، والنفوس بصفة عامة تميل للجديد ، وترفض القديم .
والصحيح لكلمة التجديد ليس هو إماتة القديم وإنما هو إحياء القديم وأخذ ما يصلح منه للبقاء ...........وهذا المختصر دعوة للرجوع إلى أصل الكتاب .
مراجع للتوسع:
كتاب أباطيل وأسمار.
كتاب جمهرة المقالات
للشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى.
مختصر ( رسالة في الطريق إلى ثقافتنا )
الأستاذ / محمود محمد شاكـر
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وبعد .
روى أحمد والترمذي وابن ماجة من طريق أبى سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
(ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه) صحيح الترغيب 2751 " .
هذا الحديث هو ما افتتح به الشيخ شاكر رسالته المباركة " رسالة في الطريق إلى ثقافتنا " والتي بين فيها الشيخ الأستاذ أنه لبث عشر سنوات من شبابه في حيرة وشكوك من تلك الحياة الأدبية الفاسدة التي كان منغمساً فيها من كل وجه ، فخاف على نفسه الهلاك ، وأن يخسر دنياه وآخرته ، وكان في هذه الفترة في السابعة عشرة من عمره عام 1926 م وحتى بلغ السابعة والعشرين من عمره عام 1936 م ، وهذا الخوف أدى به إلى قراءة كل ما وقع تحت يديه من الشعر العربى بتمهلٍ ، وتدبرٍ ، ونظرٍ في طريقِ البحث عن الحق ، فأكسبته هذه المرحلة تذوقً للغة الشعر ثم همّ بقراءة كل ما وقع تحت يديه من كتب السلف من تفسير للقرآن إلى علوم القرآن إلى دواوين السنة وشروحها إلى ما تفرع منها من كتب المصطلح ، وكتب الرجال ، والجرح والتعديل إلى كتب الفقه وأصوله ، وكتب الملل والنحل ثم كُتُبْ الأدب ، والبلاغة ، والنحو ، والصرف ، وما شئت من أبواب العلم ، فمنَّ الله - عز وجل - عليه بعد هذا بابتكار منهج يسمى " منهج التذوق" ، وهو تذوق الكلام العربي وما يقصد به وما وراءه من معاني .
ولكنه خرج بكشف غريب وهو أن الأمة الإسلامية من بعد الصحابة والتابعين وتابعيهم حتى القرن الحادي عشر الهجري كانت في علو وهمة وتقييدٍ لعلمها واعتزاز بتراثها ثم حدثت فجوة !
وقبل الكلام عن هذه الفجوة يجب أن تعلم أن حفظ ثقافة العرب منذ 1400 سنة إلى الآن ، هو أن الثقافة عندهم هي الدين ، وإهمال البحث عن أسباب تلك الفجوة التي حدثت في التراث العربي الذي هو الدين " جبناً عن طلب الحق " .
فنرجع إلى سنة 489 هـ الموافق 1096 م أي بعد ستة قرون من سقوط الحضارة الرومانية ، وظهور دولة الإسلام بدينه وثقافته ، وبسط ملكه على رقعة تبدأ من حدود الصين إلى الهند ومن أقصى الأندلس إلى قلب أفريقية ، وأنشأ حضارة نبيلة متماسكة بعد أن رد النصرانية وأخرجها من الأرض وحصرها في الرقعة الشمالية التي فيها هؤلاء الهمج الرعاع الذين يعرفون اليوم بإسم أوربة ، ولما طال الزمان عن هؤلاء النصارى الفارين في الشمال ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا يذكر مع جيوش المسلمين ، رأوا أن يُدخلوا السكان الأصليين لأوربة في النصرانية حتى يكونوا جنداً لجيوش جرارة تُطْبق على ثغور الإسلام وعواصمه ، وانطلق الرهبان يجوبون شمال أوروبة ليُدخلوا هؤلاء السكان السكسون الهمج في النصرانية وإعدادهم لخوض المعركة العظمى ، وكان جزءً من هذا الإعداد تشنيع الإسلام في عيونهم ، وأن أهل الإسلام وثنيون ، وأن رسول الإسلام كان وكان ، فلم يتركوا باباً من الكذبِ والتمويه إلا دخلوه ، وجاءت اللحظة وأصبح هؤلاء الرعاع من السكسون جيشاً بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع وبدأت ما تسمى بالحروب الصليبية التي استمرت قرنين كاملين ، تسفك الدماء المسلمة وتكتسح ثغور الإسلام وعواصمه الشمالية ، وكانت فرحة رائعة لهؤلاء الرهبان ، لكنها لم تستمر حتى انتهت بالإخفاق واليأس من حربِ أهل الإسلام ، وذلك كان في عام 690 هـ الموافق 1291م، لكنها تركت بصيصاً من اليقظة والتنبه لهؤلاء الهمج من المقاتلين باحتكاكهم المستمر بحضارة راقية كانت تفتنهم وتبعث في نفوسهم الشك مما كانوا يسمعوا عنها من الرهبان ، وبعد أن بَطُل عمل السلاح بالإخفاق واليأس ، خمدت الحروب بين الإسلام والصليب نحو قرن ونصف ، ثم وقعت الواقعة واكتُسحت الأراضي المسيحية في آسيا في شمال الشام ودخلت برمتها في حوزة الإسلام ، وفي يوم الثلاثاء 2 من جمادى الأولى سنة 857 هـ الموافق 29 مايو 1453 م . سقطت القسطنطينية عاصمة المسيحية ودخلها محمد الفاتح بالتكبير والتهليل ، وارتفع الأذان في طرف أوروبة الشرقي ، وأيقنت النصرانية أن المواجهة مع الإسلام لا تفيد بعد دخول الناس في الإسلام طوعاً لا كرها، كانوا بالأمس نصارى متحمسين في قتال المسلمين الوثنين واليوم أصبحوا هم جند الإسلام ، فلجؤوا إلى سلاح آخر خفي ..... فانبعث منهم رجال يطلبون العلم والمعرفة في أرض الإسلام ما استطاعوا ، في المشرق والأندلس .
وظهر رجال من طبقة " روجر بيكين " الإنجليزي الذي جاهد في التعلم جهاداً مستميت حتى يخرج نفسه وأهله من عوامل الجهل .
وقضى الله في السابع عشر من جمادى الآخرة 690 هـ الموافق 17يونية 1291م سقوط آخر حصن كان للصليبين في الشام ، ورجعت آخر ملوك الحملات الصليبية الى أوربة بالخزى والعار ، وبدأ إعجاب المسلمين بكثرتهم وغيرتهم الحياة الدنيا ،ووقعوا في محارم الله سبحانه ، أما في الجهة الأخرى المسيحية في دأب لا يعوقه ملل لإصلاح الخلل الواقع في الحياة المسيحية منذ دخول محمد الفاتح القسطنطينية قبل صلاة العصر، حيث اتجه إلى كنيسة أيا صوفيا ، فوجدهم يصلون فأمرهم بالإتمام ، ولما جاء وقت العصر أذّنوا وصلوا وتحولت لمسجد ، ومن حينها اهتزت أوربة كلها ولم يبق عليها راهب ، ولا ملك ، ولا أمير ، ولا صعلوك إلا انتفض انتفاضة الغضب لدينه ، وهَـّم القساوسة ، والساسة لتوحيد اللغة ، وإلقاء ما تعلموه من ثقافة المسلمين على هؤلاء الرعاع الهمج لكي يتخصلوا من رعب المسلمين في نفوسهم .
وقاموا بتعلم اللسان العربي لأنه مفتاح العلوم في دار المسلمين ، فبعثوا أفواجا إلى ديار المسلمين تجمع الكتب شراء أو سرقة ، وتتعلم لكى تمُد علماء اليقظة بهذه الكنوز النفسية في بلاد الإسلام ، وكان أهم ما لاحظوه هذه الغفلة المطبقة على أرض الإسلام والتي أورثهم إياها الاستنامة إلى النصر القديم على المسيحية ، والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية ، ثم سماحة أهل الإسلام عامتهم وخاصتهم مع من دينه يخالف دينهم ولا سيما اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب وذمة ، ومن هذا الباب دخلوا وداهنوا العامة والعلماء ، ينافقونهم بالمكر والخداع ، وأنهم طلاب علم لا غير ، خالصة قلوبهم لحب العلم والمعرفة ، ومن يؤمئذ نشأت هذه الطبقة من الأوربيين التي عرفت فيما بعد بالمستشرقين ، ثم أمد هؤلاء المستشرقين الساسة الأوربيين بالمعلومات اللازمة لغزو بلاد المسلمين والاستيلاء على كنوزها ، وهذه الفئة من الساسة تسمى برجال الاستعمار الذين ألقوا في قلوب رجال الكنيسة الحمية مرة أخرى لكي يُنَصّروا المسلمين في بلاد الإسلام وسموا بالمبشرين ، ووقع تحت يد الاستشراق آلاف مؤلفة من مخطوطات وكتب في ديار الإسلام ، نفيسة ومنتقاه ( مشتراة أو مسروقة ) موزعة ومفرقة في جميع أرجاء أوروبا وأديرتها ومكاتبها " من كتب الدين ، واللغة ، والتاريخ ، والطب ، والرياضة ، والصناعات ، وآلالات ، كل ذلك يدرسونه بدقة ، ونظام ، وترتيب ، ولصد المسيحيين عن الإسلام وحتى لا يُفتَنوا به كما حدث من قبل ، كتبوا كتباً عن أهل الإسلام أنهم جهال جاءهم رجل إدعى أنه نبى وخلط بين النصرانية واليهودية وقام بفتح البلاد بالسيف لنشر دينه ، وثقافتهم مسروقة من اليونان وغيرهم ، وأن علماءهم من غير العرب إلى غير ذلك .... ، وسقطت الأندلس كلها بعد أربعين سنة من فتح القسطنطينية 897 هـ ، ثم فُقدت دار الخلافة في القسطنطينية بعد مرور مائتا عام على فتحها ، فأيقظت هذه الحادثة بعض رجال المسلمين الذين قاموا لإيقاظ الجماهير المستغرقة في غفوتها ، رجال عظماء أحسوا بالخطر المحيط بأمتهم فهبوا بلا تواطؤ بينهم ، من هؤلاء الرجال خمسة: هم عبد القادر بن عمر البغدادي" صاحب خزانة الأدب وكان في منتصف القرن الحادي عشر الهجري وكان في مصر ، وظهر في جزيرة العرب محمد بن عبد الوهاب ، الذي هبَّ لمكافحة البدع والعقائد التي تُخالف ما كان عليه سلف الأمة من صفاء عقيدة التوحيد ، ولم يقنع بتأليف الكتب بل نزل إلى عامة الناس في بلاد جزيرة العرب وأحدث رجة هائلة في قلب دار الإسلام .
وظهر أيضا في مصر اثنان هما:
الجبرتي الكبير وكان فقيها حنفياً أحيا التراث وجمع كتبه من كل مكان وحرص على تعلم أسراره وألفاظه ، وقضى في ذلك عشر سنين من هذا التعلم حتى دانت له الهندسة والكيمياء والصنائع الحضارية كلها حتى النجارة والخراطة ، أما الآخر فهو المرتضى الزبيدي الذي أحيا التراث اللغوي والديني وعلوم العربية، وهبَّ أيضا في ارض اليمن الإمام الشوكاني الفقيه الذي أحيا عقيدة السلف وحرم التقليد في الدين ، وحطم الفُرقة والتنابذ الذي أدى إلى الاختلاف والعصبية ، وكان ظهور هؤلاء بداية تهديد لهذه القوة الجديدة التي ظهرت في أوروبة وأصبحت هذه اليقظة في ديار الإسلام تُخَوفهم ، وعمل جهاز الاستشراق على إخماد هذه اليقظة بأن أسرعت إنجلترا إلى سواحل الجزيرة العربية لإخماد صحوة محمد بن عبد الوهاب الذي نادى بتنقية الدين مما علق به من بدع ومحدثات ، جاءت لتسيطر على تلك الصحوة وتحتويها ولكن بزي الناصر والمعين ، أما في الجهة الأخرى فجاء التدبير من الاستشراق الفرنسي لإخماد اليقظة التي حدثت في الديار المصرية ، والتي ظهر فيها من يقظة اللغة على يد الشيخين البغدادي والزبيدي ويقظة علوم الحضارة على يد الشيخ الجبرتي الكبير وتلاميذه ، وأن هذه اليقظة متمثلة في جامعين هما الجامع العتيق ( جامع عمرو بن العاص رضى الله عنه ) والجامع الأزهر وهما اسمان يترددان في أرجاء العالم الإسلامي ، فاليقظة التي تأتي من قبيلهما سوف تؤدي إلى يقظة دار الإسلام كلها ، وقيض الله لفرنسا قائدا أوروبياً محنكا ً صار اسمه مثيرا للرعب في القلوب بأنه القائد الذي لا يُقهر وهو الفاجر نابليون ، وفي 17 من المحرم سنة 1213 هـ الموافق لأول يولية سنة 1798م ، هوى نابليون على مهد اليقظة في الديار المصرية ، فنزل الإسكندرية ثم زحف إلى القاهرة ومعه جيشه ومصطحباً معه عشرات من صغار المستشرقين وكبارهم ، وطائفة من العلماء في كل فن وعلم ، ولما دخل القاهرة بدأ في استمالة المشايخ من رجال الأزهر لكي يستجيبوا له، فلما رأى امتناعهم عليه عجل فأطلق جنوده الغزاة ليستبيحوا كل شيء ، حتى دخلوا الجامع الأزهر بالخيل ، وكسروا القناديل ، وألقوا المصاحف على الأرض وداسوها بأرجلهم ، وبالوا في المسجد ، وشربوا الخمر ، ولكن بعدما أحس هذا الفاجر بغليان في الشارع المصري جراء ما حدث ، سافر إلى فرنسا وعين على الحملة كليبر الذي ضرب القاهرة بالمدافع وأخذ في تقتيل الأبرياء ، حتى منّ الله على المسلمين بسليمان الحلبى في يوم السبت 21 من المحرم سنة 1215 هـ فقتل كليبر ، ثم جاء على الحملة بعد كليبر الكذاب المنافق مينو الذي أعلن إسلامه من باب خطة الاستشراق لتسكين المسلمين ، وتزوج من إحدى بنات مدينة رشيد ، وبقى مينو في إمارته يُنْزل بالناس المصائب والبلايا حتى إجلاء الحملة من مصر في يوم الاثنين 21 ربيع الآخر سنة 1216 هـ الموافق 31 أغسطس 1801 م ، ولكنهم أخذوا ما جاؤوا إليه من كل نفيس من الكتب والعلوم وتركوا لنا رموز حجر رشيد ، ولا تظن أنهم جاؤوا لنهب الكتب والثروات العلمية فقط ولكن لتجريد بلاد الإسلام من أسباب اليقظة التي حملها الجبرتي الكبير والبغدادي والزبيدي ، وينبغي التنبيه هنا على أن نابليون قُبيل رحيله فعل أمر هام وهو إنشاء ما يسمى بالديوان ( وهو عبارة عن صورة هزلية لحكومة دستورية ، وعين عليه بعض المشايخ الذين كانت لهم هيبة عند الناس وكانوا من أعيان البلاد الذين امتازوا بمركزهم العلمي وكفاءتهم ولكنهم في الأصل مواليين للفرنسيس ، وتم اختيارهم لتنفيذ أغراض المستشرقين وتحسين صورة هؤلاء الصليبين ، فكان عملهم إماتة روح الجهاد في قلوب المسلمين ، ولكن استنكر عليهم الناس ، والتفوا حول صغار المشايخ من الأزهر لأن معهم صريح أوامر الله سبحانه وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم .
وقاموا بثورة القاهرة التي هزت هذا الغزو الفرنسي ، والذي لم يفهمه نابليون أن المشايخ بخلاف القساوسة ، فإن القسيسين يحكمون بآرائهم المطلقة ، أما المشايخ فهم تحت سلطان الكتاب والسنة ، وبعدها سافر نابليون إلى فرنسا ولكنه أرسل رسالة مهمة جداً إلى كليبر وهى التي غيرت الحياة الأدبية والإسلامية في مصر والعالم العربي والإسلامي إلى يومنا هذا ، وفيها أنه قال: " ستظهر السفن الحربية الفرنسية بلا ريب في هذا الشتاء أمام الإسكندرية أو البرلس أو دمياط ( اجتهد في جمع خمسمائة أو ستمائة شخص من المماليك حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف ونسفرهم إلى فرنسا وإذا لم تجد عددا كافيا من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب ومشايخ البلدان ، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا ولما يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يُضم إليه غيرهم . وسأهتم اهتماماً بإرسال فرقة تمثيلية لأنها ضرورة للجيش وللبدء في تغيير تقاليد البلاد" .
ولم تذهب معاناة دار الإسلام في مصر من بلايا السنوات الثلاث من فعل الفرنسيس هدراً ، فإن ثورتها على جند الحملة الفرنسية أخرجت من غمار الناس ومن مشايخ الأزهر قادة جدد ، علمهم الصراع والقتال ما لم يكونوا يعلموا ، وأصبحوا هم حماة القاهرة ، ومضت أربع سنوات على رحيل الفرنسيس ، واستقر أمر المشايخ والقادة على إسناد أمر مصر إلى رجل كانت تركية بعثته في ثلاثمائة من الجند في أواخر أيام الحملة الفرنسية كان اسمه محمد علي باشا في سنة 1801 م ، وكان " محمد علي " هذا الذي أُسند إليه أمر ولاية مصر وهو في الخامسة والثلاثين من عمره جاهلاً لم يتعلم قط شيئاً من العلوم ، وكان لا يقرأ ولا يكتب ، وقضى أكثر عمره تاجر للدخان ثم انضم إلى الجند ، ولكن كان ذكيا داهية عريق المكر يَلبس لكل حالة لبوسها وكان مغامراً لا يتورع عن كذب ولا نفاق ولا غدر ، خالط المشايخ والقادة والمماليك وأظهر لهم المودة والنصح والسلامة حتى انخدع به المشايخ والقادة وآثروا ولايته على ولاية المماليك ، فنصبوه واليا على مصر وعلى رأس من انخدع به السيد عمر مكرم أكبر قائد للمشايخ والجماهير ، فبذل كل جهده في إسناد ولاية مصر إليه ، وكان ما أراد الله أن يكون ، ولم يكن يخفي على الاستشراق أمر هذا المغامر الجديد ، فكان مُراقباً من أول يوم جاء فيه إلى القاهرة .
فلما تمت ولايته أحاطت به قناصل المسيحية الشمالية إحاطة كاملة فبدؤوا يُغيرون صدره على المشايخ والقادة الذين نصبوه واليا على مصر ، يُخَوفونه عاقبة سلطانهم على جماهير المسلمين ، وصادف ذلك استجابة طبيعية لما في قلب هذا المغامر الجريء من الدهاء ، والخبث ، وترك التورع عن الغدر وإنكار الجميل ، فكان أول من غدر به هو السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي بذل كل جهده حتى ينصبه حاكما على مصر ، فنفاه إلى دمياط ثم إلى طنطا فتوفي رحمه الله في 1822 م يعني استمر نفيه عشر سنوات ، ثم استدار بعد ذلك إلى المشايخ ليقضى عليهم ، وعزل الأزهر ومشايخه عن قيادة الأمة , وبدأ الاستشراق يستخدم ذلك المسلم الجاهل الأهوج لهدم الإسلام في ديار المسلمين ، ولم يكتفِ بهذا في مصر بل أمده بالسلاح والقوة لكي يقضي على اليقظة في بلاد الحجاز التي أنشأها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، ثم بعد ذلك التحول إلى الخلافة العثمانية لتفكيك وحدتها وإسقاطها ، وتمهيد للمسيحية الشمالية في بلاد المسلمين .
هذا في مصر ، أما في فرنسا فمشروع نابليون كان يسير بانتظام ، ولكن بتعديل بسيط أحدثه المسيو جُومار الذي كان على رأس المشروع ، وهو إبدال الشيوخ والمماليك من شيوخ كبار إلى شباب صغار حتى يكونوا أشد استجابة على اعتياد لغة فرنسا وتقاليدها فإذا عادوا إلى مصر كانوا حزبا لفرنسا ، وعلى مر الأيام يكبرون ويتولون المناصب صغيرها وكبيرها ويكون أثرهم أشد تأثيرا في بناء جماهير كثيرة تبث الأفكار التي يطلقونها في صميم شعب دار الإسلام في مصر ، وكان على رأس أول بعثة أرسلت إلى فرنسا ، رجل خرج مع البعثة إماما لها يصلى بهم الصلوات الخمس ويراقب أفراد البعثة وهو رفاعة الطهطاوي ابن الثالثة والعشرين من عمره الصعيدي المنشأ الأزهري الدراسة التي لم ترَ عينه سوى الريف وضواحي الأزهر القديمة المتهالكة .
فرجع بعد ست سنوات من فتنته بباريس وتلك الأبهة والنساء الكاسيات العاريات ، وتلك الحضارة الفاجرة ، عاد ليخرج مصر من الظلمات إلى النور ومن التخلف إلى التحضر وأنشاء عند رجوعه مدرسة الألسن التي كانت تدرس الآداب الغربية والتاريخ المزور ، لكي تنافس من طرف خفي الأزهر الشريف الذي أسقط هيبة مشايخه محمد علي مؤسس مصر الحديثة ، وذهب محمد على وذهب ملكه وجاء أبناؤه على نفس الضرب وسيطر عليهم الاستشراق أيضا ، ومضت الأيام حتى جاء الاحتلال الإنجليزي في 1299 هـ الموافق 15 سبتمبر 1882 ووكل أمر التعليم في مصر إلى قسيس مُبشر خبيث هو " دنلوب" ليؤسس أصول الاحتلال الإنجليزي في مصر ويُمَكن لثقافته ، ويمسخ كل ما هو إسلامي وعربي في قلوب الطلبة حتى لا تتطلع إلى ما فيه ، ولكي يملؤوا هذا الماضي المفرغ من العربية والإسلام جاؤوا بماضي بائد غامض كالفرعونية والفينيقية لكي يزاحم بقايا ذلك الماضي المتدفق الحي ، وظهرت في الصحف والمجلات ظاهرة تسمى بالإرهاب الثقافي ، وتتلخص في كلمات جوفاء " القديم والجديد والتخلف ، والتحضر ، والتجديد ، والتنوير ، وثقافة العصر ، وفقه الواقع ، والنفوس بصفة عامة تميل للجديد ، وترفض القديم .
والصحيح لكلمة التجديد ليس هو إماتة القديم وإنما هو إحياء القديم وأخذ ما يصلح منه للبقاء ...........وهذا المختصر دعوة للرجوع إلى أصل الكتاب .
مراجع للتوسع:
كتاب أباطيل وأسمار.
كتاب جمهرة المقالات
للشيخ الأستاذ محمود محمد شاكر رحمه الله تعالى.
واختصره
أبو صهيب وليد بن سعد.
أبو صهيب وليد بن سعد.
يتوجب عليك
تسجيل الدخول
او
تسجيل
لروئية الموضوع